يوليو 9 2010
ما بعد الخروج …………………….. أشرف العوضى
ما بعد الخروج
أشرف العوضى *
كان تعنته غريباً وغصراره لا مبر له اللهم إلا استخدم سلطة محدودة وعاجزة. لم يقبلالاستجداء ولم ينفع معه اللين ومعسول القول فقط قالها ولم يتزحزح عنها قيد أنملة :
– لابد أن يأتى بنفسه ياسيد وأرجوك ( متعطلنيش ورانا ناس غيرك ) .
ولم يكن هناك بد سوى الخضوع وتنفيذ ما قاله ذلك الرجل .
كان جدى محبا للحياة إلى أقصى حد فقد كان حريصاً على الأستيقاظ مبكراً، وغيقاظ كل من فى المنزل كان له طقسه الخاص الذى أعرفه عنه منذ أبصرت عينى الدنيا ، فبعد تناوله لإفطاره يرتدى ملابس الخروج رغم أنه يعرف جيداً أنه ليس ثمة مكان يذهب إليه سوى تلك المصطبة الكائنة أمام منزلنا منذ سنوات بعيدة والتى كان حريصاً على ترميمها كلما نال منها الزمن. كان يفرح بجلسته تلك وكان يسعد عندما يبدؤه الناس فى إلقاء السلام عليه وتحيته . كان يرد عليهم بصوت مملوء بالحب ومعجون بحكمة السبعين عاما التى يحملها على كاهلة وبالرغم من أن الرجل لا يبصرهم منذ اطفئت تلك المياه الععينة التى يحملها فى مقليته نور الحياة ،إلا أنه كان خبيراً فى تييز الأصوات، بل إنه يستطيع أن يعرفحالتك المزاجية بمجرد سماعة للكلمة الأولى منك .
كان جدى يصغى إلى باهتمام لم أعهده فيه منقبل ، وتهلل وجه وانشرح فؤاده لدرجة أنستنى مالقيته فى يومى من أجله بسبب تلك النقود القليلة التى تمنحها له الدولة كمعاش للطاعنين فى السن ومع أنى أعدت عليه ما قال له الموظف ازدادت سعادته عندما علم أنه سيخرج من أول أيام الشهر لتذهب سويا إلى المدينة التى لا تبعد عن قريتنا سوى بضعة دقائق بالسيارة . وعلى الرغم من حنقى على قرار موظف التأمينات والمعاشات الظالم الذى لم يقتنع أبداً عندما أخبرته أن جدى رجل كفيف، وكبير فى السن، ولا يقوى على الإتيان بنفسه إلا أنى كنت سعيداً لسعادة جدى التى لم أكن فى حينهاأعرف مصدرها ، المهم أنه سعيد وهذا يكفينى .
كان يوم الخروج الذى توافق مع ثانى أيام الشهر يوم سبت . حيث كان أول أيام ذلك الشهر يوم الجمعة مما ضايق جدى كثيراً وقالهاوقد قتل على وجهه إبتسامة قبل أن تولك .
– لسه هستنى يوم تانى :
استيقظ مبكراً كعادته ، وحملنى حملاً على الاستيقاظ ارتدى جلبابه الصوف الذى لا يرتديه إلا فى المناسبات الجليلة ، ا, الأحداث الهامة، عدل من وضع عباءته الصوف على كتفيه مع أن الجو كان غير بارد حيث لم يحل الشتاء بعد على الرغم من تجاوزنا لشهر ديسمبر منذ أيام .
انفرجت أساريره عندماسمع نفير السيارة التى كنت قد استأجرتها خصيصاً لهذا المشوار خوفاً على الرجل العجوز من زحام المواصلات العادية .
كان جمعة سائق السيارة سعيداً بجدى الذى لم يعره انتباهاً ، إذ أنه منذ أن وضع قدميه فى السيارة أخذ فى مراقبة الطريق بإمعان شديد وكأنه عاد إليه بصره، كانت تعبيرات وجهه توحى بأنه فى دنيا غيرالدنيا .
كانت السيارة تقطع تلك الدقائق المعدودة التى تفصلنا عن المدينة ببطء شديد بناء على رغبة جدى فقد كان يريد استيعاب كل شئ كان حدثا عظيماً بالنسبة له ، فهو على حد علمى لم يغادر منزلنا منذ سنوات طويلة حيث تأتيه بناته لزيارته ويأتيه الطبيب وقت الحاجة إليه. ولم يطلب منا يوما أو يعلن عن رغبته فى الخروج أبداً . كان جدى صامتا علىغير عادته. كان يحاول أن يتبين الأشياء من حوله قدر المستطاع.لم يكترث بالمبلغ الذى نفحه إياه موظف التأمينات والمعاشات ،ولم يحفل بكلام الموظف الذى تأسف عندما رأى الرجل متهالكاً لايقوى على الوقوف ولا يرى أمام خطوة واحدة ،ولم يأبه به عندماقال: اعذرنا ياعم الحاج أنت معفى من القدوم فى المرات القادمة يستطيع حفيدك أن ينوب عنك
كان جدى فى واد ونحن جميعاً فى واد آخر . لذا لم أندهش عندما طلب من جمعة السائق ونحن فى مشوار العودة أن يتوقف فى منتصف الطريق وبالتحديد أمام هويس الرى الكبير . استندنى جدى وضع قدميه الواهنتين على رأس جسم الهويس خفت عليه من الانزلاق فالنهر هنا جبار قوى كم من مرة نسمع عن غرقى فى ذلك المكان .
قـال جـدى :
– من هنا يتفرع النهر إلى ثلاثة مجار مائية اصغر حجماً ،كل مجرى يروى عشر قرى كاملة وفى كل قرية كان لى فيهاأيام عظيمة. وفى هذا المكان كان يوجد سوق القطن الكبير حيث يأتى أبناء هذه القرى الكثيرة لبيع ماجادت به عليهم الأرض . كنت ترى سمايرة أرمن وأجريج وأولاد بلد ويهود كان عالما ثريا وكانت أياما حافلة فىهذه البقعة بالتحديد اجتمع بنا طلعت باشا حرب نحن معشر تجار القطن الكبار لينبهنا من خطر اليهود على تجارتنا.
ثم انحدرت دمعة صغيرة مخترقة تجاعيد الأيام وفعال الزمن على وجه الرجل الوضاء الجبين . كانت عيناه صافيتين صفاء ذلك النهر تحت أقدامنا كان يشع منهما غشراق ولمعان لم أرهما فيهما من قبل .لم يبال بكلام السائق الذى يحب أن نذهب حتى يكمل عمله ومع إصرار جدى على البقاء أمرت جمعه بالصمت وسأعطيه مايريد . كان جدى كمن يودع الدنيا فى هذا المكان الذى شهد مجده الغابر، تمشى قليلا فى المكان الذى تحول إلى جرن يلعب فيه الأولاد الكره . قال:
– كان هنا رجال لن ينجب الزمان مثلهم من هنا خرجت المظاهرات يوم نفى سعد باشا ومنهنا كنا نهتف للثورة ورجالها وهنا مات رفيق عمرى بين يدى عندما قتل لثأر قديم . ثم تمتم ببعض أيات القران وقال :
– ياولدى إنها لاتدوم لأحد .
منذ ذلك اليوم لم يعد جدى كما كان فلم يعد يخرج للجلوس أمام المنزل كما يحب ولم يعد يتحدث إلا نادرآ , ولم يعد يقبل على طعام إلا بعد إلحاح ومعناة , حتى بعد أن تجمعنا جميعا حوله . أبناؤه الثلاثة وأحفادهم وبناته وأزواجهم كل منا يحال معرفة ماذا جرى له . أحضرنا له الطبيب ولكنه لم يفدنا كثيرآ . أعتقدت أنى وجدت الحل عندكا عرضت عليه أن أحضر جمهة السائق ونذهب إلى حيث يريد . لم يهتم بكل ذلك ولم يتبدل حاله ومن يومها لم نعد نسمع منه سوى سبوح قدوس يغير ولا يتغير .
يوليو 9 2010
الفيتورى فـى أول حوار فى الألفية الجديدة ……. أشرف عبدالقادر
الفيتورى فـى أول*
حوار فى الألفية الجديدة
أشرف عبدالقادر**
الفيتورى فى أول حوار فى الألفية الجديدة حين تتلكأ قليلآ أمام مكتبة , تخال الأسوار العالية البيضاء للمبنى الدبلوماسى قلعة صماء , يسكنها ملوك الذهب الأسود , وقوافل الجن والقيان … وما إن تدخل متجها إلى حجرته , تدهشك لحظة الكشف , فها أنت وسط رذاذ النهر , تدلف صوب حكيم القبيلة , الجالس أسفل شجرة الكافور العتيقة , معبقآ بالبخور والصندل ومبتسمآ كعراف قديم .. إنه محمد الفيتورى , بعد أن رسم العمر, عل قسمات وجهه , خطوط الذبول , توهج الروح , فها نحن ندخل حثيثآ إلى عالمه السرى .
نهنئك أولآ على صدور الأعمال الشعرية الكاملة , والتى أتاحت لمريديك أخيرآ فرصة الإطلاع على عالمك الكامل , ولطنها أثارت أيضآ العديد من التساؤلات , منها على سبيل المثال … رغم كون الموروث الشعبى ( ممثلآ فى سيرة بن هلال , عنتر بن شداد , سيف بن ذى يزن – ألف ليلة وليلة ) من أكثر الجوانب المشكلة لثقافة الفيتورى إلا أن هذا الموروث لم ينعكس بوضوح ( خلال مسيرتكم الشعرية ) فى صورة إستدعاء شعرى أو حتى على مستوى التضمين ؟
لا أعتقد أنك تريدنى أن أعيد صياغة ماسبق لى ان أغمست فى قراءته , لقد عايشت بالفعل وبالخيال , بالشعور وبالفكر , طوال طفولتى الأولى الكثيرين : أبطال وشخصيات وأحداث تلك السير الشعبية التى ذكرتها . وهى بكل تأكيد تتخلل عظامى وتنبض فى خلاياى , وتشكل أحد أهم العناصر الفكرية والعاطفية التى جعلت منى شاعرآ هذا إلى جانب المصادر التأسيسية الأخرى , التى كونت شخصيتى … ودعنى أومئ إلى مصدر مهم هو حفظ القرأن الكريم , وقراءة أمهات الكتب العربية والكثير من الترجمات عن مختلف اللغات ومختلف الكتاب والشعراء … واستكمالا للإجابة عن جوهر سؤالك أكتفى بذكر تلك المقولة لشاعر نسيت أسمه الآن :
– إن الأسد مجموعة خراف مهضومة . بإختصار إن الشاعر , أى شاعر , لم يكن ليوجد لولا مجموعة الثقافات والتجارب الحياتية التى تعرض له , وتصنع مسيرة حياته .
– يظل التأثر الشعرى لكم بإفريقيا تأثركم بأى شاعر أفريقى , باستثناء السودانى : التجيجانى يوسف البشير … ألم تملك أفريقيا ذلك الشاعر القادرعلى تشكيل جذزور الرؤية الشعرية للفيثورى ؟
* ليس صحيحا ما ترمز إليه فى سؤالك حول اقتصار تجربتى الشعرية الأفرقية على مؤثرات أسطورية أو ميثولوجية . انحدرت إلى ذهنى من هنا وهناك. الصحيح أنه ثمة تيارات عديدة ومصادر تارخية عديدة بعضها مادى عايشته . كما فى تأثيرى بجدتى (الأميرة الزنجية المختطفة ) والتى طالما ألمحت إليها فى كتاباتى … والبعض الآخر ربما يرجع إلى تلك التركية النفسية والفسيولوجية المعقدة التى تمثلت فى كيانى وشخصيتى , ومن ثم فى أحاسيسى وانعكاسات الأشياء الخارجية على وجدانى ووعى الذاتى .. ويجب الإشارة إلى حقيقة لا يمكن نكرانها وهى فراغ شعرنا العربى كله , منذ بداياته الجاهلية , وحتى نهايات هذا القرن فيما عدا دواوينى وكتاباتى من التراجيديا الإفريقية , وأقول : هذا الفراغ كان يقف موحشآ من ورائى , ويمتد إلى الافاق المرسومة أمامى , وهكذا وجدتنى وحدى , فى تنازل لقضايا الإنسان الأسود , قد تذكرنى الشعراء العرب السود , مثل السليك بن السلكة , وعنترة بن شداد وسحيم عبدبنى الحسحاس وربما واحد أو اثنان أو آخرون . لكبى أستطرد وأؤكد لك أن التاريخ لم يحفظ أية كتابة شعرية لهؤلاء تحس من بعيد أو من قريب جانبآ من المعناة الحقيقية للإنسان الأسود , فى هذه القارة الزنجية العربية … وفى الوقت نفسه ثمة أبيات ساخرة تعبر عن مواقف متعالية , وردت عرضآ فى بعض المأثورات , بعضها منسوب إلى عنترة بن شداد , أو أبى الطيب المتنبى أو عبدبنى الحسحاس, وربما حلالى أن أذكر شاعرآ مصريآ تناول هذا الجانب فى صورة شعرية مضحكة وهو الشاعر إمام العبد..
نأتى إلى مسألة تأثرى بشاعر السودان العظيم : التيجانى يوسف بشير , فالحق إننى تأثرت بأسلوبه العميق والصادق فى اللغة وفى الصورة وفى المناخ الذى عاشه فى مدينة (أم درمان ) .
– تحدثت فى مقدمة الجزء الأول من الأعمال الكاملة عن الإلهام الشعرى , والوحى , ودورهما فى تأجج جمرة الشعر والروح , ثم فاجأتنا فى مقدمة الجزء الثالث بأنك صرت تكتب ” بعد أن تكون قد خططت وأعددت قائمة نفسية بما تريد أن تقوله وأنك تكتب حين تريد ولاتخضع لما يسمونه بالإلهام الشعرى ” , فما هى الدوافع وراء هذا التناقض الرؤيوى للشعر والقصيدة ؟
* إنك على حق فيما لمسته من تناقض واضح فى تفسيرى الخاص – وأقول الخاص – لحالة الإبداع الشعرى لحظة استغراق الشاعر فى كتابة القصيدة :
وكما سبق أن ألمحت , فالحالة الأولى تنطلق من الإيمان المطلق بنظرية الكشف الإلهامى أو الألهام الروحى . بينما ترى الثانية أن قدرة الشاعر أو الفنان بوجه عام عند بلوغها درجة عليا من درجات نضجه وتراكم خبراته تتيح له بالضرورة قدرآ من السيطرة على مدركات الحواس ودقائق العالم الخارجى المحيط به . وهكذا يصبح فى إمكانيه استدعاء شيطان الإلهام والتحاور معه فى صياغة وإثراء عمله الشعرى متى يشاء …
وليست بخافية عليك تلك الاجتهادات الفكرية والآراء النقدية العديدة التى فاضت وتفيض بها المكتبة العربية قديما وحديثا عن علاقة الشاعر بشياطين الشعر ومنازل الوحى ومواقع الإلهام .
ولاريب أن ثمة فارقاً ضخماً بين الحالتين اللتين ذكرتهما . ولعل الهماكى الطويل فى تأمل الأشياء والوقائع والكائنات بداخلى ومن حولى مضافاً إلى ذلك مكابداتى الروحية والنفسية الدائبة بقصد استكشاف طاقة الإبداع الكامنة فى الروح الإنسانى وعوامل تخليقها وعناصر تفجيرها عند الحاجة ،لعل هذه بعض الأسباب التى جعلتى أرواح بين هاتين الحالتين .
تداخل : ( فى إحدى جلساتنا الخاصة أخبرنى الفيتورى ، أنه أحس لحظة ، أن بإمكانه بما لديه من رصيد ضخم على مستوى الفكر والإيقاع، أن يخبز الغة والصورة ليخرج ما يشاء من الشعر، ولكنه وبالتجربة لم يستطع أن يفعل ذلك ليس بدافع القصور التكوينى ، وإنما لإحساسه الدفين بعدم صدق التجربة الانفعالية لما يكتبه تحت وطأة هذه الرؤية ، ومالبثت جمرة الوحى والالهام، أن سكنت جوانحه مرة أخرى ) .
– تتحدث كثيراً عن أزمة الشعر العربى المعاصر فماهى مظاخهر هذه الأزمة, كما يراها الفيتورى ، وما هى الآليات التى ترونها أكثر فاعلية للخروج منهذه الأزمة ؟
* سؤالك يكاد يفوح برائحة الاستنكار ، وكأنك راض تماماً عن هذا الواقع الإنسانى والشعرى الذى يتحرك فيك وتتحرك من خلاله وسأفترض براءة لسؤال وحياد السائل ، وأمضى معك فى إطلالة سريعة لرصد ثلاثة عناصر أساسية تساهم فى تكوين الصورة الشاملة لهذه الأزمة كما اراها :
العنصر الأول : تكاثر طوائف وفئات الشعراء ولا أقول مدارس واتجاهات الشعراء – وضألة مردود الناتئج أو المحصول الشعرى .
العنصر الثانى :
تخلخل منظومة القيم والصيغ الشعرية الشعرية المتوارثة أمام هذا الطوفان الهائل من الادعاءات القائمة على الجهل باللغة وبالتاريخ ، والمستندة كذبا إلى تحقير منجزات الحضارة العربية .
العنصر الثالث :
ضعف الوجدان القومى وانطفاء الرؤية التنبؤية فىأرواح البقية الباقية من الشعراء …
وحول بعض ما أقترحه للروج من ذهه الأزمة الخانقة أوقل لك باختصار:
أولاً :–
ضررة العمل على استعادة المكانة القدسية التى كانت للشعر فيما مضى..
والطريق إلى تحقيق ذلك يتطلب تكريسالروح الرسولية التى كانت للشارعر وبلغة أبسط إعادة النظر إلى القصيدة بإعتيارها عملاً فنياً مخلصاً وفكراً إنسانياً وقومياً فاعلاً .
ثانياً :-
ضرورة مساهمة الشاعر المعاصر فى تطوير مجموعة الأساليب والصيغ الجمالية الحديثة فى ضوء ما هو متاح له إمكانات واكتشافات العصر ، عبر سلسلة التحولات الاقتصادية والمفاهيم الاجتماعية المتمثلة فى حركة الوطن ودوران العالم من حولنا .
ثالثاً :-
تجتوز حالة النفور والتصادم القائمة ما بين القصيدة العربية التاريخية من ناحية وحفيدتها قصيدة النثر ، أى عقد ميثاق صلح ، بين الشاعر المعاصر وتاريخه العريق ، وأنا لا أرى استحالة تحقيق ذلك عند بلوغنا مستوى معيناً من الصدق الفنى والرؤية الإنسانية والإبداع الجمالى .
ونفياً لهذا وذلك ، أنا أرى أنهار أزمة أمة قبل أن تكون أزمة شعر 0وشعراء ، أعنى أزمة حضارة قبل أن تكون أزمة إبداع ومبدعين … وهذا ما يجعل الخروج مما نحن فيه ليس بالأمر الهين أو اليسير .
– بمناسبة الحديث عن القصيدة الجديدة ، ترى لماذا يتم إنكار الدور الريادى للشاعر محمد الفيتورى فى تطور القصيدة العربية ، رغم كونك من أقدم الشعراء الذين كتبوا هذه القصيدة الجديدة ، فنياً وتاريخياً ؟
* هو الفساد الذى تغلغل فى أنسجة الوسط الثقافى ، هى الشللية والمصالح .. فأدونيس مثلاً ، يملك الجوقة التى تنشد له ، وكذلك كثيرون ممن أجادا الحيل واللآعيب والذين ليست موهبتهم الشعرية فقط هى المؤسسس لمكانتهم الشعرية … أما عن الريادة الشعرية ، فهى رغم أخطاء ومغالطات النقاد ، تعود إلى أقدم مما يتصورون فهى تعود إلى محمود حسن إسماعيل الذى أعتبره جوجول الشعر العربى فقد وضع الأسس والعناصر المميزة للقصيدة الجديدة وكذلك فعل شعراء المهجر ، فقد ترجموا الشعر الأمريكى والأوربى والذى انعكس على المشهد الشعرى العربى فى صورة تغيرات على مستوى الشكل والمضمون وزاوية التناول الشعرى .. ثم جاءتنازك الملائكة بقصيدة ” الكوليرا ” وأعقبها السباب .. وهنا يتم تجاهل شاعرمصرى جميل : هو الشاعر كمال عبد الحليم الذى أثار ديوانه إصرار غضب حكومة إسماعيل صدقى باشا ، لما يحمله من هجوم عنيف على الملك فاروق … وأعود وأكرر أن القصيدة التفعلية ولدت فى مصر ، ولم تولد فى العراق أو لبنان أو فلسطين .
– بالعودة إلى الأعمال الكاملة لم نر أولاُ أنه بعد خروجك من حالة التمرد الأفريقى فى ديوانيك ” أغلنى أفريقيا-عاشق من إفريقيا “دخلت الصوفية لتصير مشكلاًوأطاراً مرجعياً اساسياً فى قصيدتك رغم أنك كنت تعيش بدايات العمل السياسى القائم بالطبع على الواقعية الشديدة وحسابات المصالح ، فكيف كان ذلك؟
* لعلك تعلم، أولاً أن والدى كان من كبار رجالات الصوفية ، وقد عاينتها طفلاً صببياً ولذلك ،فإن لجوئى إليها ليس لجوءاً ثقافياً،أو فلسفياً أو فنياً ، لمجرد البحث عن أفق جديد ، إن صوفية الشاعر ، أوشاعرية الصوفى الذى أتكلم عنه ، موقف إنسانى إيجابى واع مدرك وليس موقف الدرويش المنجذب إلى مجموعة من الأفكار المشوشة والأحاسيس التجريدية العمياء، إنه الصوفى الثورى ، وليس أبدأ ذلك الصوفى التقليدى المتهالك المهزوم .
– وكذلك يمكننا بنظرة سريعة إلى الأعمال الكاملة رصد الكم الكبير من المراثى الشعرية التى تعتبر من اكثر القصائد توهجاً لديك … فهل تعكس هذه المراثى رؤية خاصة تجاه الإنسان بصفة خاصة والوجود بصورة عامة ؟
* لايمكن ولا ينبغى إطلاق صفة المراثى أو البكائيات على أى من قصائدى ، التى كتبتها انفعالاً بحدث مأساوى أو استجابة لموقف إنسانى فاجع .
إنما هى انعكاس لحالاتى النفسية والاجتماعية ، لحظة التفاعل مع الحدث ، وهى بمعنى أدق ترجمة شعورية لرؤاى المختلفة تجاه بعض من أتحاور معهم شعراً وهم يواجهون قدر الموت والغياب . اقرأ فى هذا الضوء قصائدىعن الراحل العظيم عبد الوهاب البياتى وأبى القاسم الشابى والشرنوبى .
تداخل: ( حين سألته أخيراً عن رأيه فيما يحدث الآن – فى مصر – من سيطرة لبعض الشعراء على وسائل الإعلام ، رغم الإفلاس الشعرى الذى يعانون منذ فترة طويلة …
أجاب بطريقته الدبلوماسية ، بأن الزمن هو الفيصل الوحيد فى إشكالية التواصل البقاء ولكنه مالبث أن ثار . واستشاط غضباً ، عندما سألته – معتمداًُ – عن رأيه فيما سمع من اشعار ، فى ندوة شعرية عقدت باتحاد الكتاب المصرى وحضرها الشعراء محمد إبراهيم أبو سنه، عبد المنعم عواد يوسف على عبد الكريم ، أخرون حيث رايته يسحبنى من يدى ، متجهين إلى سيارته وبداخلها الفاجعة فى أنهم لا يدركون ولايقارنون مستعينين بقراءاتهم الشعرية المفترضة للشعراء الجيجين الأخرين . بين هذا الهذيان الشعرى والمباشرة الفجة التى يكتبونها وبين ما يكتبه الآخرون ودعك من كل ذلك ألم يملك هؤلاء الشعراء ، بعد كلهذه الخبرة الكتابية الكبيرةالمعيار النقدى الذى يتيح لهم القدرة على نقد الذات ، أم أن تضخم الذات وصل إلى درجة العمى ….. فيا أخى ! … ماهذا الغثاء الذى يكتبون ورغم ذها البوح السابق ، إلا أن الفيتورى لم يفتح بعد صندوق أسراره كاملاً ولم يبح بالكثير تجاه حركة الشعر الحديث، والكثير من وراده، وبخاصة عبد الوهاب البياتى ، الذى لم يدع صفحة أدبية أو صدار شعرى إلا وهاجم فيه محمد الفيتورى وحين أطلعنى الفيتورى على كل ما فى جعبته من أوراق منشورة تدين البياتى نصحته بضرورة البوح والرد على اتهامات البياتى ، التى تدور فىمعظمها حول شكل ولون الفيتورى ، ولكنه اكتفى بقول :إن الزمن لم يحن بعد لذلك، وبخاصة ، بعد وفاة البياتى ، فلا أحب أن يتقول على الآخرون ويتهموننى بانتهاز موقف وفاته والهجوم عليه ، فى حين أنه لايملك القدرة على الرد .
بواسطة admin • 05-حوار العدد • 0 • الوسوم : أشرف عبدالقادر, العدد الرابع, الفيتورى