يناير 25 2010
الاتجاه النقدي في الفكر العربي خلال القرن التاسع عشر ..د. عاطف العراقي
الاتجاه النقدي في الفكر العربي خلال القرن التاسع عشر
( نماذج وشخصيات )
د. عاطف العراقي
قد لا أكون مبالغاً في القول إذا ذهبت إلي أن الحديث عن رموز الفكر الإصلاحي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ، يعد حديثاً بالغ الأهمية ، إذ أن أكثر القضايا التي أثارها هؤلاء المفكرون في تلك الفترة الزمنية إنما كانت تمثل الأساس والمحور بالنسبة للمشكلات التي أثيرت في القرن العشرين ، القرن الذي نعيش فيه ، وقد قاربنا الانتهاء منه .
ولا يمكن أن نفهم أبعاد قضية من القضايا التي أثريت في القرن العشرين عند العرب ، إلا إذا رجعنا إلي القرن التاسع عشر ، وبحيث تزدا أحاطتنا بكل مشكلة أو كل قضية من تلك القضايا ، سياسية كانت أو اجتماعية ، أو فكرية بوجه عام .
ولابد أن نشير في البداية إلي أن النقد بوجه عام يمثل ظاهرة صحية وهامة للفكر الجاد ، الفكر البناء ، الفكر الذي يريد له أصحابه أن يتخطي حود الزمان والمكان ، فالنقد يمثل الحركة السكون يعبر عن الثقة والاعتزاز بالنفس إنه يعني ألا يكون الشخص متابعاً للآخرين ، وقديماً فرق الفيلسوف البونينا أفلاطون بين الفضيلة العادية فضيلة النمل والنحل ، والتي يكون صاحبها مجرد متابع للآخرين في أفكارهم وسلوكهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وبين الفضيلة الفلسفية والتي لا تعد تعبيراً عن المتابعة والتقليد .
لقد ارتبط النقد إذن بالعديد من القضايا قديماً وحديثاً ، ومن بين هذه القضايا، قضية التنوير ، وما يقالعن الغزو اثقافي ، أي موقفنا من العلوم والأفكار غير العربية ، وقضية الأصالة والمعاصرة ، وهكذا إلي آخر القضايا والمشكلات.
والتي إن دلتنا علي شئ ، فإنما تدلنا علي الوقفة النقدية من جانب العديد من الأدباء والمفكرين والعلماء ، والفلاسفة ، وصلة هذه الوقفة بالاتجاه الإصلاحي.
ولسنا في حاجة إلي القول بأن المفكرين والأدباء الذين نجد لديهم اتجاهاً نقدياً بارزاً ، إنما يحتلون في تاريخ الفكر الإنساني مكانة كبيرة ، مكانة أعلي من المفكرين الذين لا نجد لديهم تلك الوقفة النقدية ، فصاحب العقلية الناقدة لابد وأن يكون شخصاً ممتازاً لأنه يتجاوز الواقع بنقده لهذا الواقع فكرياً كان أو اجتماعياً.
إننا نجد اتجاهاً نقدياً يرتبط بالإصلاح في فكرنا العربي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهذا الاتجاه النقدي تتعدد صورة ومجالاته ومبادئه ويرتبط ارتباطاً ضرورياً بالنقد الفلسفي ، هذا النقد الذي يعد قديماً قدم الفلسفة ، بمعني أنه مصاحب للفلسفة ، بعد من خصائص الفكر الفلسفي والأدبي الممتاز ، ومن هنا يكون للفكر النقدي دلالته الفلسفية والأدبية ولادلته الإصلاحية أيضاً.
إننا إذا قلنا بأن وظيفة المفكر ليست مجرد تفسير الواقع أو تبريره ، بل تغيير الواقع فإن هذا المفكر لا يتسني له القيام بوظيفته إلا من خلال اتجاه نقدي ، وإلا كيف نفرق بين تبرير الواقع والدفاع عنه ، وبين تغيير الواقع بحثاً نحو الأفضل .
ونجد هذا البعد النقدي حين نفرق بين المقلد من جهة والمجدد من جهة أخري فالمقلد لا أثر له في المجتمع ، بل قد يحاول من جانبه الدفاع عن طريق الظم وتبرير العادات والتقاليد الخاطئة ، أما المجدد فإنه نظراً لالتزامه بالاتجاه النقدي ، فإننا نراه باستمرار ساعياً نحو تقديم تصور يتبلور حول النظرة إلي المام وليس إلي الخلف فالتجديد إعادة بناء Reconstruction وليس مجرد ترسيخ البناء الآيل للسقوط ، ومن حكمة الله تعالي أنه خلق عبوتنا في مقدمة أدمغتنا وليس مؤخرتها ، حتي ندرك تماماً أن المطلوب منا ان نسعي بكل جهدنا نحو التجديد والتقدم وبحيث لا يكون الفرد منا مجرد متابع للآخرين وعالة عليهم ، وفرق كبير بين من يحصل علي ثمرة من البرتقال يراها ساقطة تحت الشجرة وبين من يستعد بنفسه إلي الشجرة حيث يحصل علي الثمرة .
فالفرد الأول قد اعتمد علي جهد الآخرين ، أما الشخص الثاني فلم يكن عالة علي من سبقوه ، بل اعتمد علي نفسه للحصول علي ما يريد ، الأول ليس صاحب فكر نقدي ، والثاني علي العكس تماماً من الاول : إنه يتميز بفكر أو اتجاه نقدي .
وإذا كنا لا نجد بصمة من البصمات تطابق تمام المطابقة بصمة أخري ولا نجد ورقة من أوراق الشجر تكون صورة طبق الأصل من ورقة أخري من أوراق الشجر ، فأولي بنا إذن وقد وهبنا الله العقول التي تفكر ، ألا يكون الفرد منا مجرد متابع للآخرين ، بل إنه بما يملك من عقل وظيفته التفكير ، يعد واجباً عليه الإلتزام بالوجه النقدي .
قلنا إننا نجد أتجاهاً نقدياً في فكرنا العربي حديثاً ، ويقيني بأننا إذا أردنا البحث في قضايا مثل الأصالة والمعاصرة والتنوير ، وإحياء التراث فإننا لابد أن نعول بالدرجة الأولي علي النماذج التي تتمسك أساساً بالاتجاه النقدي .
من الضروري إذن أن نتوقف عند بعض النماذج الممتازة والتي نجد لديها فكراً نقدياً خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر صحيح أننا لا نجد في عالمنا العربي فلاسفة منذ ثمانية قرون وعلي وجه التحديد منذ وفاة الفيلسوف العربي ابن رشد ، ولا نجد أدباء من طراز الجاحظ وابن الرومي والمتنبي وأبي العلاء المعري ، إلا أننا لا نعدم وجود بعض الأفكار والاتجاهات الأدبية والفلسفية في تلك الفترة الزمنية فترة القرن التاسع عشر الميلادي .
لقد ثار في العصر الحديث جدال طويل حول قضايا التنوير والتراث وإذا قلنا بأن رفاعة الطهطاوي يمثل علامة بارزة تفصل بين عهدين عهد الوقوف عند التراث القديم لمجرد أنه تراث ، وعهد يدعو إلي الاستفادة من الحضارة الأوربية، وكيف نخرج بين خصائص كل عهد منهماً ، أو بين معالم كل ثقافة منهما ، فإن ما أثير من قضايا حول هذا المجال ، يمكن أن يمثل لنا بعداً نقدياً في فكرنا العربي بما يشمله من آداب وعلوم وفنون .
فإذا كان نجد عادة ثلاث تيارات ، يمثل أولها الوقوف عند التراث وبحيث نجد فيه حلاً لكل قضايانا في العصر الحديث ، فإن أصحاب هذا الاتجاه إنما يركزون علي نقد الحضارة الغربية بوجه عام ويمثل التيار الثاني الاستفادة التامة من الحضارة الغربية الأوروبية ، وبحيث يدعو إلي أن يكون عالمنا العربي في حضارته وثقافته معبراً أو مستفيداً إلي أكبر درجة من الحضارة الأوروبية وهذا التاير والذي يعد عكس التيار الأول إنما نجد فيه أيضاً بعداً نقدياً ، إذ يبين لنا أوجه القصور التي نجدها عند أصحاب التيار الأول ، وينقد جوانب كثيرة من مجالات التراث حتي يضع أيدينا علي الخطر الذي يتهددنا عندما نظن أن التراث فيه الحل لكل مشاكلنا وقضايانا الحديثة والمعاصرة .
أما التيار الثالث والذي يمثل نوعاً من المزج بين التيار الأول (التراث) والتيار الثاني (الحضارة الغربية أساساً ) فإننا نجد عند أصحابه أيضاً اتجاهاً نقدياً واضحاً غاية الوضوح .
ونود أن نشير إلي بعض الأفكار النقدية التي نجدها في فكرنا العربي الحديث من خلال القائلين بها ، وبحيث نربط بينها ، وبين الدعوة الإصلاحية .
ونظراً لأنه ليس بالإمكان – وفي حدود نطاق هذه الدراسة – تحليل أبعاد الفكر النقدي الذي نجده عند كل مفكري العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، فإننا سنشير إلي مجرد نماذج عند بعض هؤلاء المفكرين وبصرف النظر عن اتفاقنا معهم ، أو اختلافنا حول رأي أو أكثر من الآراء التي قالوا بها فقد نجد مجموعة من الافكار عند مفكرمنهم ، وقد لا تكون مؤدية إلي الإصلاح ، ولكن من الضروري الإشارة إليها ، حتي يتسني لنا تبرير وجهة نظر المفكر الذي يختلف معه ، مثال ذلك جمال الدين الأفغاني وما قد نجد لديه من أفكار لا تخول من نوع من التطرف .
ولكن لا يمكن أن يتسني لنا تبرير وجهة نظر الشيخ محمد عبده إلا إذا أبرزنا فكرة أو أكثر من أفكار الأفغاني .
والمفكرون الذين سنشير إلي نماذج من فكرهم النقدي الإصلاحي هم رفاعة الطهطاوي (1801 – 1873) ، خير الدين التونسي (1810- 1887) حسب أرجح الأقوال وجمال الدين الأفغاني (1838 – 1897) ، وعبدالرحمن الكاوكبي (1848 – 1902)حسب أرجح الأقوال ،والشيخ محمد عبده (1849 – 1905).
وإذا كنا نجد بعض هؤلاء المفكرين من كانت وفاته في السنوات الأولي من القرن العشرين ، إلا أن أفكارهم قد قالوا بها خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
ونود أن نشير ايضاً إلي أننا إذا كنا سنختلف مع واحد منهم أو أكثر إلا أن هذا الاختلاف أو هذه الوجهة النقدية لا تنفي أنه كانت لهم بعض الآراء الإصلاحية.
لقد ولد الطهطاوي في نفس العام الذي عادت فيه الحملة الفرنسية (1801) ودرس بالأزهر علي يد مجموعة من الشيوخ وتأثر بالشيخ حسن العطار وترك لنا مجموعة من الكتب والرسائل الملفة والمترجمة وسافر إلي فرنسا واعظاً لطلاب البعثة وتعلم اللغة الفرنسية وعاد إلي مصر حيث تم تعيينه مترجماً للغة الفرنسية بمدرسة الطب ، وقام بإدارة مدرسة المترجمين أي مدرسة الألسن ، وأشرف علي القسم العربي بجريدة الوقائع المصرية .
ومن الكتب التي تركها لنا ، سواء منها المؤلف أو المترجم أو الذي قام بمراجعته :
– تخليص الإبريز في تلخيص باريز .
– مبادئ الهندسة .
– تعريب الأمثال في تأديب الأطفال .
– بداية القدماء وهداية الحكماء .
– منظومة وطنية مصرية .
– القانون المدني الفرنسي .
– التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية .
– القول السديد من الاجتهاد والتقليد .
– المرشد الأمين للبنات والبنين .
لقد دعانا الطهطاوي من خلال فكره النقدي إلي ضرورة الإنتاج علي الفكر الغربي الاوروبي لقد قرأ مونتسكيو وروسو وغيرهما من مفكرين أوروبيين ، بين لنا فساد النظر الاستبدادية وذلك حين تحدث عن الميثاق الدستوري والفرق بين فكرة التفويض الإلهي ، وفكرة العقد الاجتماعي ، وكيف أن الأمة مصدر السلطات، وضرورة مبدأ سيادة القانون ، والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيدية والقضائية ، ومسولية الملك أمام الرأي العام ، والحقوق المدنية كالمساواة والحرية ، وحق المواطن في حرية الرأي والملكية وحرية التنقل ، واختيار محل الإقامة .
إننا خلال فكره السياسي نجد اتجاهاً نقدياً بارزاً ، لقد كان حريصاً علي التمييز بين نظرة قديمة خاطئة ،ونظرة حديثة صائبة ونجد بعض أبعادها في الواقع الفرنسي الأوروبي ، لقد فتح النوافذ حتي لا تصاب بالاختناق وضيق التنفس ، وذلك حين نظل مجرد مرددين للأفكار القديمة المظلمة .
وما يقال عن فكرة النقدي في مجال السياسة يقال أيضاً عن فكره الاقتصادي وذلك حين تحدث عن أهمية العمل ، وأنه سر التقدم وقضية العلاقة بين العمل ورأس المال ، وأن الثروة لأجل الإنتاج وليس لمجرد الجمع دون الإنتاج ، وكيف يرتبط الإنتاج بالتقدم ، وفساد النظام الإقطاعي وتشجيع العلاقات التجارية حتي يتحقق الإزدهار الاقتصادي .
واهتم أيضاً بالفكر الاجتماعي والتربوي والعلمي أيضاً وذلك من خلال نظرة نقدية واضحة المعالم ، إننا نجد ذلك في كتب له كتخليص الأبريز ، ومناهج الألباب والمرشد الامين ، أنه ببحث في الفرق بين التقدم المادي والتقدم المعنوي ، وكيف أن الدين له وظيفة تربوية وللحضارة جانب مادي وجانب معنوي ، وبحيث لا يمكن إحداث تقدم إلا بالجانبين ، وضرورة التحول من الجانب السلبي إلي المشاركة والإنتاج والفن وأهميته ، وخروج المرأة إلي الحياة العامة والتربية وأهميتها وحق الإنسان في ممارسة عقيدية ، وكيف أن الوضع القانوني لأهل الذمة في المجتمع الإسلامي يقوم علي أساس حقهم في حرية العقيدة ، وعلي أساس تمتعهم بالحقوق المدنية .
قلنا إن رفاعة الطهطاوي ، كان مهتماً بالفكر التربوي والفكر العلمي أننا نجده بالإضافة إلي الاتجاه النقدي في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يبحث في موضوعات تربوية وعلمية ومن الموضوعات التي أثارها في المجالين التربوي والعلمي :
– التربية كطريق للتقدم .
– التربية طريق الديمقراطية .
– التعليم لكل فرد .
– فائدة تعليم البنات .
– أهمية التربية الدينية .
– الأجتهاد في الدين والتقليد من العرف لا الدين .
– أهمية التربية السياسية .
– وفاء الرجل يعرف من حنينه لأوطانه .
– الإنتماء الوطني إنتماء ، محلي والإنتماء القومي يتجاوز الحدود السياسية .
– العلم لا يقتصر علي ما كان موجوداً بالأزهر وضرورة تطوير الأزهر.
– حركة الترجمة وأهميتها .
– رفض مقولة لا جديد تحت الشمس وأن السابقين لم يتركوا للاحقين شيئاً.
– أهمية العلم في بناء الحضارة .
– واجب الدولة رعاية العلم وتقدير العلماء .
– أهمية المؤسسات العلمية .
هذه نماذج من فكر الطهطاوي . ومن الواضح أننا نجد له لديه حساً نقدياً يرتبط ارتباطاً ضرورياً بضرورة الإصلاح والتجديد والبحث عن النور والقضاء علي الظلام .
وإذا انتقلنا إلي مفكر إصلاحي آخر ، هو خير الدين التونسي ،وجدنا لديه حساً نقدياً يتضح لنا تمام الوضوح ، من خلال كتابه ” أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك ” إنه كتاب يهتم بالفكر السياسي والإصلاحي ، بالإضافة إلي الفكر التاريخي والحضاري إنه يدعونا إلي الإنفتاح علي كل فكر لا يتعارض مع الدين الإسلامي ، فالمسلمون يحتاجون إلي الإصلاح ، وينعي عليهم كراهيتهم الاستفادة من المدنية الغريبة في الإصلاح واعتقادهم أن ما يجئ عن أوروبا إنما يعد حراماً ومكروهاً ، عن طريق القول بمخالفته للشريعة الإسلامية ، وأن تقاليد الشرق غير تقاليد الغرب .
إن خبر الدين التونسي يبين لنا أن التمسك بالدين وشعائره لا يتعارض مع الإطلاع علي أفكار الأمم الاخري ، والاستفادة منها ، فالحكمة ضآلة الممن يأخذها حيث يجدها ، وكم استفاد المسلمون الأولون في العصر العباسي من علوم اليونان، وأخذوا في ترجمة التراث اليوناني إلي لغتهم العربية .
ويري خير الدين التونسي في معرض اتجاهه النقدي ، إن الأمم الإسلامية لا تصلح إلا بنظام الشوري الذي يقيد الحاكم وبأن نستفيد من النظم الغريبة والمدنية الحديثة بوجه عام ، وبحيث يمكن القول بأن الذين يقفون أمام الأنفتاح علي النظم الغريبة ، أما جهله لا يدركون كيف تقدم العالم ، أو أنهم يخشون علي منافعهم الشخصية والتي لا تتحقق لهم إلا في ظل الفوضي والجهل .
العدل والحرية هما إذن ركنا الدولة ولابد لتحقيقهما من توافر المجالس النباتية ونجد خير الدين التونسي داعياً إلي أهمية معرفة رجال الدين بالدنيا ، وأهمية معرفة رجال السياسة بالدين وأحكامه . فلا خير في رجال دين يعلمون الشريعة ولا يعلمون الدنيا ، ولا خير في رجال سياسة ، يعلمون الدنيا ولكنهم لا يعرفون الدين .
والوقع أننا نجد عند خير الدين التونسي إتجاهاً نقدياً بارزاً يتبلور حول التنبيه إلي أهمية الثقافات الوافدة وبحيث توضع جنباً إلي جنب مع الثقافة الداخلة إن هذا يُعد من جانبه دعوة إلي التجديد . وخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن التجديد أي إعادة البناء ، لا يقوم علي هدم القديم كله ولا يقوم أيضاً علي التمسك بكل ما هو غربي أوروبي .
قلنا إننا نجد إتجاهاً نقدياً عند مجموعة من المفكرين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي ولا يقتصر الاتجاه علي مفكري العرب ، بل نجد أناساً من أركان أخري ، لديهم هذا الاتجاه النقدي ، وبحيث يربطون بينه وبين الجانب أو المجال الإصلاحي .
ونود أن نشير الآنن غلي جمال الدين الأفغاني وذلك رغم اختلافنا في أكثر الآراء التي قال بها ، لقد كان الافغاني جريئاً وصريحاً ، كانت العلاقة وثيقة بينه وبين مفكر آخر معاصر له ، وهو الشيخ محمد عبده ، وإن كنا نجد – كما سنري- خلافات كبيرة وجذرية بين الإثنين فكراً ومنهجاً ، إن الحس النقدي يظهر عند الأفغاني في حملته ضد الاستعمار الإنجليزي وفي نقده لمذاهب الفلسفة قديماً وحديثاً .
ولكن ما نود أن نشير إليه هو أن الأفغاني له العديد من السلبيات والأخطاء لقد كانت بعض أفكاره لا تخلو من تهور ، ومن بينها فكرة الاغتيال السياسي ونسبة آراء لمجموعة من المفركين لم يقولوا بها أننا إذا حللنا من جانبنا سيرة جمال الدين الأفغاني وتأملنا بدقة نشاطه الفكري وقمنا بالموازنة بين الجانب الأول سيرة وأوجه نشاطه السياسي والجانب الثاني الذي يتبلور حول ما ترك لنا من كتابات ومؤلفات .
فإننا ندرك أول ما ندرك وجود نوع من عدم التوازن إن لم يكن التناقض بين كل جانب منها والجانب الىخر بين الجوانب العملية والسياسية والإصلاحية من جهة وآرائه الفكرية النظرية بوجه عام من جهة أخري .
صحيح أنه توجد صلة بين كل جانب منهما والآخر ولكن ما نقصده هو القول بأن الأفغاني بقدر ما كان منطلقاً وجريئاً من الناحية السياسية فإنه علي العكس من ذلك بالنسبة للجانب أو البعد أو المجال الفكري ، إنه لم يكن متحرراً في فهمه وتقبله للمذاهب الفلسفية والآراء العلمية في الغرب بوجه عام ، بل كانيسود فهمه لتلك المذاهب والآراء ، نوع من التحفظ وصل إلي حد الجمود والانغلاق في أحيان كثيرة .
أننا إذا كنا قد اشرنا في البداية إلي نوع من النقد الذي يمكن توجيهه إلي التراث الذي تركه لنا الأفغاني إلا أن ذلك لا يقلل من الجهد الكبير الذي قام به هذا الرجل ، ولا من دوره في مجال الفكر والعمل في آن واحد ، إن النقد سواء كان من جانبنا أو من جانب الآخرين إن دلنا علي شئ ” فإنما يدلنا علي أهمية الرجل وأهمية أفكاري سواء اتفقنا معها أو اختلفنا ، وأهمية مساهماته في دنيا السياحة والإصلاح إن المؤرخ لتاريخ الفكر الإسلامي المعاصر لن يكون بإمكانه أن يتخطي جمال الدين الأفغاني ولن يكون بمقدوره أن يتغافل عن الدور الذي قام به جمال الدين الافغاني ، لابد أن يسلم بأثر جمال الدين الأفغاني في الحركة السياسية وأثره علي أكثرمن مفكر جاء بعده .
ولد جمال الدين الأفغاني عام 1254 هـ- 1838 م ، وقد تثقف بثقافة شاملة نسبياً ، لقد تعلم الفارسية والعربية ودرس الفلسفة الإسلامية والمنطق والتصوف وألم ببعض آراء المفكرين الغربيين كما درس الرياضة بالهند وألم أيضا اللغة الفرنسية إلمامة يسيرة وخاصة أثناء إقامته بباريس .
وقد طاف الأفغاني بكثير من البلدان شرقاً وغرباً واستفاد الكثير من لخبرات من زياراته العديدة لتلك البلدان ، إذ أنه كان شعلة نشاط .
لقد طاف وأقام بكثير من البلدان ومن بينها مكة وفارس وتركيا والهند … ومن أهم البلاد التي أقام بها واستفاد منها وجوده بها كما أفاد تلاميذه ، مصر إذ أنه أقام بمصر حوالي ثمان سنوات .
ويمكن أن نقول إن نشاط جمال الدين الأفغاني بمصر كان يجمع بين جانبين الجانب العملي والجانب العلمي النظري ، لقد كان يلقي بعض الدروس علي كثير من تلاميذه ومن بينهم محمد عبده وإبراهيم اللقاني ، كان يجري الكثير من المناقشات السياسية التي تدخل إلي حد كبير في إطار الجانب العملي ، أي الجانب الإصلاحي والاجتماعي ، وكان يناقش العامة والخاصة ، كان يتكلم في أكثر المجالات إن لم يكن كلها لهذا كان يجتمع حوله الشاعر والطيب والمشتغل بالجغرافيا بالطبيعة والهندسة أنه سرعان ما كان ينتقل من مناقشة قضية علمية إلي التدخل في السياسة .
وهذا إن دلنا علي شئ ، فإنما يدلنا علي أن جمال الدين الأفغاني كان أساساً شغوفاً بالجانب السياسي ، أو الصحيح أن نقول أنه كان يحاول صبغ الأشياء بصفغة سياسية أو حشر السياسة في مناقشاته حول موضوعات أخري ليس من الضروري أن تكون لها صلة بالسياسة .
لقد حاول أن يبث أفكاره عن طريق المحفل الماسوني الأسكتلندي الذي انضم إليه ولكنه هاجسه بعد ذلك لأنه وجد أعضاء لا يحبون أن يتكلموا كثيراً في السياسة ، وهذا يدلنا كما قلنا – علي أن المجال الرئيسي لاهتمامات الأفغاني ، إنما هو المجال السياسي ، بل إن هذا المجال بعد الباعث والدافع لكل أفكاره ،ومجالات نشاطه ، إن هذا المجال يمثل بؤرة الشعور ، يمثل مركز الدائرة عند الأفغاني ، إنه يعد رجل عمل أساساً أكثر من كونه رجل نظر وفكر فلسفي قائم علي التأمل والتفكير الطويل العميق ، لقد كانت السياسة في دمه وفي أعماقه وفي خلجات شعوره ووجدانه ، ولعل هذا يفسر لنا سبباً من أسباب الخلاف بين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده .
وفي الفترة التي أقام فيها بباريس بعد أن صدر ضده حكم بالنفي لمدة ثلاث سنوات بعد فشل ثورة عرابي نجده يفكر في إصدار مجلة العروة الوثقي ، وقد صدر العدد الأول منها في اليوم الثاني عشر من شهر مارس عام ألف وثمانمائة وأربعة وثمانين وكانت الأفكار الموجودة في تلك المجلة للأفغاني ، وإن كان الأسلوب والصياغة للشيخ محمد عبده .
كما نجد الأفغاني بعد ذلك ينتقل بين إنجلترا وتركيا حتي مات بعد أن ظهرت عليه أعراض مرض السرطان وإن قيل أنه مات مسموماً وذلك في عام 1897 م ، وعلي الرغم من تنقلاته في كثير من البلدان شرقاً وغرباً ، فإنه كان يحن دوماً إلي مصر ويقول إن مصر هي أحب بلاد الله إلي . وقد تركت لها الشيخ محمد عبده .طوداً من العلم الراسخ ، قلنا إن النشاط السياسي كان هو الغالب والمسيطرة والموجه وتنقلاته ومناقشاته .. ونعتقد من جانبنا إذا إلتزمنا بالصراحة والدقة والموضوعية أنه من الصعب أن ننظر إلي الأفغاني كمفكر ممتاز ، أو كمفكر له وزنه في جوانب أخري غير سياسية ، إن له مجموعة من الخواطر في مجالات عديدة متنوعة ولكنها لا تعبر عن مذهب أو نسق فكري دقيق أو متكامل ولا تكشف عن منهج واضح محدد ، إن حصيلته الفلسفية والعلمية تعد ضئيلة في الواقع ، إن بضاعته في هذا المجال تعد أضعف من خيط العنكبوت ودعونا نتكلم بصراحة إن أي فرد من الباحثين إذا حاول العثور علي مذهب متكامل ودقيق ، أو حاول التعرف علي خيط يربط بين أفكاره ، تلك العلمية منها والفلسفية فإنه وقته ضائع عبثاً ، إن البحث عن فكر متناسق له ، بعد من قبيل الوقت الضائع عبثاً إننا كثيراً ما نجد عند الأفغاني خلطاً بين مجال الدين ومجال العلم كثيراً ما نجده يهتدي لمناقشات علمية وهو غير مزود بالادوات التي تلزم الباحثين في هذه المجالات العلمية والفكرية والفلسفية ومن بينها إتقان اللغات التي كتب بها الباحثون في هذه المجالات ، إنه كثيراً ما يتعرض لقضايا علمية وفلسفية وهو غير مزود بمنهج العالم المتخصص مما يجعل مناقشاته في المجالات الفكرية الدقيقة ، مناقشات يغلب عليها أحياناً طابع السطحية وعدم الإلمام إلماماً دقيقاً بكل جوانب الموضوع الذي يتصدي لمناقشته والبحث فيه وإصدار الأحكام حوله ، فإذا قيل أن الأفغاني كان نباغاً في نشاطه السياسي ومناقشاته السياسية العميقة سواء اتفقنا معه أم لم نتفق ، فإن هذا القول يعد صحيحاً ، أما إذا قيل بأنه كان نابغاً فى المجالات الفكرية والعلمية الدقيقة ، فإنني أقول اليوم من جانبي لا ثم لا أن شهرة الأفغاني في مجال النشاط السياسي قد حجبت عن الكثيرين أخطاءه في مجالات أخرى . هل أتيحت للأفغاني الدراسات العلمية والاطلاع على المناهج العلمية وإجراء التجارب العلمية حتى يقوم بالتعرض للمذاهب المادية التي كان أصحابها لهم ثقافتهم وأساسهم العلمي . الاجابة بالنفي بطبيعة الحال . إنني لا أنا قش الآن صحة المذاهب المادية أو عدم صحتها ولكن أليس من واجب من يناقش أمراً ما أن يكون مؤهلاً بحكم ثقافته العلمية للحكم على هذه الجوانب .
إن التاريخ يعطينا الكثير من الأمثلة على ضرورة إطلاع الخصم على الثقافات التي يريد أن يناقشها ويحكم عليها . إن المعتزلة والفلاسفة بوجه عام في تاريخ الفكر الفاسفي العربي حين أرادوا الرد على حجج المفكرين للألوهية وأقوال الذين يذهبون إلى القول بوجود إلهين ، إله للخير وإله للشر قاموا بدراسة وتحليل آراء هؤلاء أولاً وذلك حتى يتسنى لهم مناقشة وتفنيد هذه الحجج .
وإذا انتقلنا من جمال الدين الأفغاني إلى مكر آخر هو عبد الرحمن الكواكبي ، فإننا نجد عنده فكراً نقدياً هوالآخر . وإن كان واضح المعالم وذلك على عكس ما وجدناه عند الأفعاني .
لقد اهتم عبد الرحمن الكواكبي بالفكر السياسي النقدي اهتماماً كبيراً .. أننا إذاكنا نجده من خلال كتاباته التي تركها لنا قد اهتم بكثير من القضايا ، فإن من بين القضايا التي اهتم بها القضايا السياسية وذلك من خلال ربطها بقضايا أخرى ترتبط بها من قريب أو من بعيد ,
ونعتمد في إبراز الجانب السياسي عند الكواكبي على الكتابين اللذين تركهما لنا وهما كتابه : ” أم القرى ” وكتابه ” طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ” .
لقد اهتم الكواكبي وخاصة في كتابه ” طبائع الاستبداد ” بتعريف الاستبداد ويبان علاقة الاستبداد بالدين والعلم والمجد المال والأخلاق والتربية ، كما بين لنا كيفية التخلص من الاستبداد . إنه يعقد فصلاً لبيان الصلة بين الاستبداد وجانب من تلك الجوانب ثم ينتقل في فصل آخر لكي يبين لنا صلة الاستبداد بجانب آخر وهكذا حتى يكشف عن علاقة الاستبداد ، بتلك الجوانب التي أشرنا إليها منذ قليل وذلك في مجموعة من الفصول، يرتبط كل فصل منها بالآخر . وكل ذلك بلغة واضحة سهلة محددة .
ويمكن القول بأن كتاب ” طبائع الاستبداد ” وأيضاً كتاب ” أم القرى ” ، كانا في الأصل مجموعة من المقالات كتبت في كثير من المجلات وأيضاً الجرائد اليومية .
وإذا تساءلنا عن الفرق بين هدف المؤلف من تأليفه للكتاب الأول طبائع الاستبداد ،وهدفه من تأليفه لكتاب ” أم القرى ” ،فإن يمكن القول بان الهدف كان منصباً أساساً في كتابه ” طبائع الاستبداد ” على نقد الحكومات الإسلامية ، أما
بالنسبة للكتاب الثاني ، كتاب أم القرى ، فإن الهدف قد تبلور حول نقد الشعوب الإسلامية .
قلنا إن الكواكبي قد اهتم اهتماماُ كبيراً بالبحث في الاستبداد . أنه في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد يبين لنا أن المتكلم في الاستبداد عليه أن يلاحظ تعرض وتشخيص ما هو الاستبداد ؟ ما سببه ؟ ما أعراضه ؟ ماإنذاره ؟ ما وراءه ؟ ولماذا يكون المستبد شديد الخوف ؟ لماذا يستولى على رعية المستبد ؟ كيف يكون التخلص من الاستبداد ؟ لماذا استبدال الاستبداد ؟ وهكذا إلى آخر الأسئلة التي يثيرها الكواكبي في مقدمة كتابه طبائع الاستبداد .
ونجد الكواكبي يبحث في الصلة بين الاستبداد والدين . ونبادر فنقول إن الكواكبي كان حريصاً على أن يبين لنا أن الاستبداد لايجيء في الدين . بل من سوء فهم واستغلال من جانب البعض للدين . ولا يخفى علينا أن هذا الرأي من جانب الكواكبي يتضمن رؤية نقدية .
لقد بين لنا الكواكبي أن الدين الإسلامي قد جاء مؤسساً على الحكمة والعزم هادماً لكل صور الشرك ومحكماً لقواعد الحرية السياسية التي تتوسط بين الديمقراطية والارستقراطية لقد نزع كل سلطة دينية أو تغلبية تتحكم في النفوس أو في الأجسام ووضع شريعة حكمه إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان وأوجد مدنية فطرية سامية وأظهر للوجود حكومة كحكومة الخلفا الراشدين التي لم يسمح الزمان بمثال لها بين البشر . إن هولاء الخلفاء الاشدين قد فهموا معنى ومغزى القرآن الكريم النازل بلغتهم وعملوا به واتخذوه إماماً فأنشأوا حكومة قضت بالتساوي حتى بينهم أنفسهم وبين فقراء الأمة في نعيم الحياة وشظفها وأحدثوا بين المسلمين عواطف إخوة وروابط هيئة اجتماعية اشتراكية لاتوجد بين أشقاء يعيشون بإعالة أب واحد وفي حضانة أم واحدة، لكل منهم وظيفة شخصية ووظيفة عائلية ووظيفة قومية .
وينقد الكواكبي في الفصل الذي عقده بعنوان ” الاستبداد والدين ” مسلك بعض رجال الصوفية . والواقع أننا نجد المجددين والمصلحين السياسيين لا يتعاطفون مع التصوف بصفة عامة نجد هذا عند محمد عبده ومحمد إقيال وعبد الحمن الكواكبي.
والدعوة الإسلامية فيما يؤكد الكواكبي – سواء في كتابه ” طبائع الاستبداد أو في كتابه ” أم القرى ” – تقوم أساساً على أصول الحرية وذلك برفعها كل سيطرة ، وتحكم بأمرها بالعدل والمساواة والقسط والأخاء وذلك حين تحض باستمرار على الإحسان والتحاب بين أفراد البشر، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ، ومعنى التقوى لغة – فيما يقول الكواكبي- ليس كثرة العبادة كما صار ذلك حقيقة عرفية انهم يفسرون قوله تعالى : ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” تفسيراً خاطئاً . انهم يفسروة ” عند اللة ” أي في الآخرة دون الدنيا ، إن التقوى لغة هي الاتقاء أي الابتعاد عن رذائل الأعمال احترازاً من عقوبة الله . فقوله : ” إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” كقوله : ” إن أفضل الناس أكثرهم ابتعادأً عن الآثام وسوء عواقبها” .
ويلاحظ أن الكواكبي يركز باستمرار على البعد الاجتماعي وذلك حين يشرح معاني الآيات القرآنية . وقد كان هذا متوقعاً من جانبه ، فهو كمصلح مجدد يهتم أساساًبالابتعاد عن التفسيرات اللفظية التي يقوم بها البعض ، متجاوزين بذلك عن القيم السلوكية الخلاقة المبدعة التي يحاول الكواكبي أن يستخرجها من تفسيره للآيات القرآنية الكريمة .
لقد كان الكواكبي في فكره السياسي حريصاً أيضاً على أن يبين أصول الحكومة الإسلامية ، وفي نفس الوقت كان حريصاً على أن يكشف لنا عن المقارنة بين الماضي والحاضر . إنه ينعي على الشعوب الإسلامية بعدها عن مبادىء الإسلام .
لقد جعلت الدعوة الإسلامية – فيما يرى الكواكبي أصول حكومتها ، الشورى الارستقراطية أي شورى أهل الحل والعقد في الأمة بعقولهم لابسيوفهم . كما أن أصول إدارة الأمة التشيُع الديمقراطي أي الاشتراكي . لقد مضى عهد النبي () وعهد الخلفاء الراشدين علي هذه الأصول بأتم وأكمل صورها ، ومن المعلوم – فيما يقول الكواكبي – أنه لا يوجد في الإسلامية نفوذ ديني مطلقاً في غير مسائل إقامة شعائر الدين ومنها القواعد العامة التشريعية التي لا تبلغ مائة قاعدة وحكم ، كلها من أجل وأحسن ما أقتدي إليه المشرعون من قبل وما بعد .
ولكن ماذا حدث الآن ؟ يقول الكواكبي مقارناً بين الماضي والحاضر كما سبق أن أشرنا ، ” ولكن وأسفاه علي هذا الدين الحكيم السهل السمع الظاهرة فيه أثار الرقي علي غيره من سوابقه .
الدين الذي رفع الأغلال وأبي الاستبداد ، الدين الذي ظلمه الجاهلون فهجروا حكمة القرآن ودفنوها في قبور الهوان ، الدين الذي فقد الأنصار الأبرار والحكماء الأخبار قسطاً عليه المستبدون والمترشحون للاستبداد واتخذوه وسيلة لتفريق الكلمة وتقسيم الأمة شيعاً وجعلوه آلة لأهوائهم السياسية فضيعوا مزاياه وحيروا أهله بالتفريع التوسيع والتشديد والتشويش وإدخال ما ليس منه فيه .
هذا إن دلنا علي شئ .. فإنما يدلنا علي أن الكواكبي في فكره السياسي كان حريصاً علي الكشف عن سوء الأحوال في البلاد الإسلامية وذلك بالتفرقة بين مجدها وتحللها بعد ذلك ، أنه يكشف عن الداء ثم سرعان ما يكشف لنا عن أوجه وسبل العلاج أنه يحاول تخطيط برنامج عملي لتفادي الضعف في الأمم الإسلامية والعربية ، بحيث تمضي شعوب الإسلام قدما نحو التقدم والرقي وذلك علي هدي كتاب الله وسنة رسوله.
ولابد لنا من الإشارة إلي أن دعوة الكواكبي إلي الإصلاح لا تقتصر علي دولة دون دولة أخري من الدول الإسلامية والعربية ، بل أنه يدعو إلي إصلاح الأمة العربية بأسرها .
ثم يختلف مع الكواكبي في رأي أن أكثر من الآراء التي يقول بها سواء في مجال فكرة السياسي أو في مجالات غير سياسية كقضية العلاقة بين الدين والعلم ، ولكن هذا الأختلاف يًعد تعبيراً عن قيمة الآراء التي تركها لنا الكواكبي ونضجها .
إن ما يدلنا علي أن فكرة لا يُعد مجرد تعبير عن الأحداث التي عاصرها ، بل أننا ما زلنا نحتاج إلي كثير من أفكاره النقدية إن الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد يطرح علينا الكثير من المباحث والقضايا التي تعد في غاية الأهمية وهذه المباحث هي :
1- مبحث ما هي الأمة أي الشعب .
2- مبحث ما هي الحكومة .
3- مبحث ما هي الحقوق العمومية .
4- بحث التساوي في الحقوق .
5- مبحث الحقوق الشخصية .
6- مبحث نوعية الحكومة .
7- مبحث ما هي وظائف الحكومة .
8- مبحث طاعة الأمة للحكومة .
9- مبحث توزيع التكليفات .
10- مبحث إعادة المنفعة .
11- مبحث المراقبة علي الحكومة .
12- مبحث حفظ الامن العام .
13- مبحث حفظ السلطة في القانون .
14- مبحث تأمين العدالة القضائية
15- مبحث حفظ الدين والآداب .
16- مبحث تعيين الأعمال بقوانين .
17- مبحث كيف توضح القوانين .
18- مبحث ما هو القانون وقوته .
19- مبحث توزيع الأعمال والوظائف .
20- مبحث التفريق بين السلطات السياسية والدينية والتعليم .
21- مبحث الترقي في العلوم والمعارف .
22- مبحث الترقي في الزراعة والضائع والتجارة .
23- مبحث السعي في العمران .
24- مبحث السعي في رفع الاستبداد .
والدارس لمناقشة الكواكبي لهذه المباحث ، يجد أن مناقشته تقوم اساساً علي رفض الاستبداد بأية صورة من الصور إنه يناقشها علي هدي المبادئ التي يقول بها والتي سبق أن اشرنا إليها يضاف إلي ذلك أن الكواكبي يقدم لنا الكثير من الوصايا السياسية وذلك في كتابه ” طبائع الاستبداد ” .
كما نجد قاعدة يؤمن بها الكواكبي في فكره السياسي وهي أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة وإنما يقاوم بالحكمة والتدريج ، إنه يقول في هذا المعني : الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف ، كي لا تكون فتنة تحصد الناس حصداً ، نعم الاستبداد قد يبلغ من الشدة درجة تنفجر عندها الفتنة إنفجاراً طبيعياً ، فإذا كان في الأمة عقلاً يتباعدون عنها ابتداء ، حتي إذا سكنت ثورتها نوعاً وقضت وظيفتها في حصد المنافقين ، حينئذ يستعملون الحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة ، وخير ما تؤسس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة .
الواقع أن عبدالرحمن الكواكبي قد بذل جهداً كبيراً في صياغة فكره السياسي النقدي والتعبير عنه بوضوح إن الفكر النقدي عند الكواكبي يعد ثرياً لا حد له وهذا الفكر النقدي يعد من أبرز الجوانب التي نجدها عند الكواكبي ، نظراً لأنه يصبغ الكثير من المجالات الأخري التي يبحث فيها بصبغة نقدية وخاصة حين يبحث في بعض الأبعاد والمجالات الاجتماعية إن الكواكبي يعد واحداً من الأعلام والرواد الذين تركوا لنا آثاراً تدل علي مدي الجهد الذي قام به ، وهذه الآثار تدلنا أيضاً علي أن المؤرخ للفكر النقدي العربي المعاصر لن يكون بإمكانه تخطي فكر الكواكبي وآراء الكواكبي وتراث الكواكبي .
ننتقل من الفكر النقدي عند الكواكبي إلي الإشارة إلي مفكر آخر من خلال فكره النقدي وهو الشيخ الإمام محمد عبده .
ولقد دافع عن الإسلام دفاعاً مجيداً من خلال فكره النقدي ، وأدرك أن المشكلة ليست في الدين ، ولكن في الفهم الخاطئ للدين ، نجد هذا حين نبهنا من خلال العديد من كتاباته وفي الفتاوي التي قال بها ، إلي أهمية تأويل النص الديني وربط مبادئ الدين بقضايا العصر والحضارة .
كان إذن مجدداً ولم يكن مقلداً متزمتاً ، كان يري أن الحال في المستقبل ينبغي أن يكون غير الحال في الحضار وفي الماضي أيضاً ، وكم حورب الرجل في حياته وبعد مماته ، كان صاحب نزعة تنويرية ، ولم يكن من رعاة الظلام والإرهاب الفكري.
أدرك محمد عبده بثاقب نظره أنه من الضروري الحيوي والجوهري فهم الدين فهماً صحيحاً وذلك حتي نتقدم إلي الأمام ، وكأنه كان يدرك أن ذلك إنما يعد تعبيراً عن سنة الله في خلقه ، لقد خلق الله عيوننا في مقدمة رؤوسنا ولم يخلقها في مؤخرة رؤوسنا، والله تعالي كما بقوا ابن سينا في مناجاته ، فالق ظلمة العدم بنور الوجود ، إن هذا إن دلنا علي شئ فإنما يدلنا علي ارتباط الحياة بالضياء ، وفي نفس الوقت ، ارتباط العدم والفناء بالظلام إننا إذا أردنا لأنفسنا الوجود ، فلا مفر من السعي بكل قوتنا نحو النور والضياء والتنوير ، أما إذا أردنا لأنفسنا الفناء والعدم ، والهلاك ، فإننا سوف لا نسعي إلا إلي الظلام فمرحباً إذن بالنور ، ولعنة الله علي الظلام ودعاة الظلام كان محمد عبده خلال حياته حريصاً علي أن يقدم لنا المثل والقدوة والريادة .
نشاطه الصحفي داخل مصر وخارجها كان يدعو إلي الإعجاب ، ملفاته نجد فيها مئات الأفكار الناضجة المثمرة والبالغة الأهمية نجد في هذا كله اتجاهاً بارزاً .
لم يكن محمد عبده من خلال الوظائف التي تولاها ومن بينها عمله في القضاء بالمحاكم الشرعية ومستشار في محكمة الاستئناف ، وتوليه لافتاً ، وعضويته في مجلس شوري القوانين ،وغيرها من أعمال ووظائف ، لم يكن مجرد مقلد للآخرين ، بل كان ساعياً بكل قوته نحو التجديد وتحويل الأرض الخراب إلي حديقة فياضة بالزهور والثمار .
صحيح أن الرجل لا يُعد فيلسوفا هذا ما قلنا به وما زلنا نقول به تصحيحاً لمفاهيم خاطئة انتشرت عند اصحاب الفهم البليد ومن متخلفي العقول ، نعم لم يكن محمد عبده فيلسوفاً ، ودوره في الحاضر كان أقل بكثير من دور العملاق الفيلسوف ابن رشد في الماضي ، ولكن هذا لا يقلل من شأن محمد عبده ، خاصة أننا لا نجد فلاسفة في عالمنا العربي من مشرقه إلي مغريه وطوال ثمانية قرون ، لقد انقطع وجود الفلاسفة كما سبق أن أشرنا منذ العاشر من ديسمبر عام 1198م أي منذ وفاة الرائد والمعلم والعملاق ابن رشد ، ولكن الشيخ محمد عبده يعد علي الأقل مفكراً ومصلحاً ترك بصماته الواضحة والبارزة علي مسار فكرنا العربي الحديث منه و المعاصر ، ومن يحاول إنكار ذلك فوقته ضائع عبثاً .
صحيح أن الرجل لم يدافع عن الفكر الغربي الأوروبي بمثل ما نجده عن مفكرين كبار ورواد عظام آمنوا بربهم وآمنوا بوطنهم ومن بينهم أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسي وتوفيق الحكيم وزكي نيجب محمود والأب جورج قنواتي ، ولكن للشيخ محمد عبده العديد من الإيجابيات ، له آراؤه الإصلاحية الدقيقة لم يكتب عن التراث إلا بعد دراسة متأنية للتراث – لقد وضع يده علي المفيد من تراثنا بحيث فرق بينه وبين الخاطئ والسلبي من التراث ، لم يقف شيخنا عند سكون وظلام التقليد والنظر إلي أسفل بل آثر لنفسه وللأمة العربية ، حركة وحيوية النور والتنوير ونظر إلي أعلي مثله في ذكل مثل المجدد الذي يصعد بنفسه إي أعلي الشجرة ليلتقط ثمارها وبحيث لا يلتقطها من اسفل الشجرة وبحث يكون عاله علي جهد الآخرين وترديد أفكار السابقين مجرد ترديد .
لقد قال محمد عبده بالعديد من الأفكار لكي تبقي وتظل بيننا علي امتداد العصور والزمان ، أنها أفكار حية وليست أفكاراً ميتة ، أفكار لا يصح أن توضع في زوايا النسيان والإهمال إلا يكفيه فخراً الجرأة التي تميز بها ، والمعارك التي خاضها ! ألا يكفيه أنه كان مدركاً للدور الحقيقي للمثقف والدور الاجتماعي للثقافة ، لقد كانت أعماله تدلنا علي إدراكه أن المثقف لا يكون مقتصراً علي الدرس الأكاديمي بل لابد وأن يضيف إلي ذلك اهتماماً بالمشكلات الاجتماعية والفكرية والجوانب العلمية الإصلاحية والتي تهم بلده من جهة وسائر البلدان الأخري من جهة ثانية .
تميز الشيخ محمد عبده كما قلنا بالحس النقيد ولم يكن مجرد عارض لأفكار من سبقوه كعارض الأزياء بل إنه كان يلجأ إلي التحليل والمقارنة والموازنة تعبيراً عن إيمانه بالنقد ودوره الخلاق في صياغة وتشكيل العقل والوجدان نجد هذا في أكثر الكتب التي تركها لنا والرسائل التي قام بتأليفها ، والحكم والأمثال التي تُعد معبرة عن خلاصة تأملاته ، ومن بين كتبه ورسائله ” رسالة التوحيد ” ” والإسلام والرد علي منتقديه ” و ” الإسلام دين العلم والمدنية ” والعدد من الفتاوي التي قال بها والتي كانت تعد فتحاً جديداً وجريئاً وطريقاً للتقدم إلي الأمام وما يرتبط بالتقدم إلي الأمام ، من تمسك بالقوة والاعتزاز بطريق العقل الذي خلقه الله فينا ، هذه سنة الله ف يخلقه ، ولن تجد سنة الله تبديلاً .
لقد تحدث محمد عبده في الكثير من كتبه من مجالات كثيرة نجد من خلالها اتجاهاً نقدياً لديه إنه في كتابه ” الإسلام دين العلم والمدنية ” ببحث فيما يلي :
– طبيعة الإسلام مع العلم بمقتضي أصوله .
– الإسلام اليوم .
– في العلم والدين ومستقبل الإسلام والمسلمين .
– أصول الإسلام .
– اشتغال المسلمين بالعلوم الأدبية والعقلية .
– الإسلام في أوائل القرن العشرين .
– الإسلام ومدينة أوروبا .
– ابن رشد وفلسفته .
يكفي الشيخ محمد عبده فخراً أنه كان من خلال كتبه ورسائله مدافعاً عن العقل إلي حد كبير ، العقل الذي بعد أشرف ما في الإنسان والذي عن طريقه استطاع مفكرنا محمد عبده تأويل النصوص الدينية تأويلاً معبراً عن الاجتهاد وسعة الاطلاع والرغبة في اكتشاف الحقيقة وخدمة أمور مجتمعنا العربي .
لهذا كله لم يكن غريباً أن يهتم كثير من المفكرين والملفين سواء كانوا من العرب أو كانوا من الاوروبيين بالكتابة عن مفكرنا الكبير محمد عبده ودراسة أفكاره وخاصة تلك الأفكار التي تجدها في كتابة ” الغسلام دين العلم والمدنية ” ومن بين من اهتموا بالكتابة عنه ، محمد رشيد رضا ومصطفي عبدالرازق وعثمان أمين وأحمد لطفي السيد وعباس العقاد ومحمد بخيت ومنصور فهمي وحافظ إبراهيم وأحمد أمين ومحمد مصطفي المراغي وماكس هورتن وشارل آدمز وشاخت ، وجب وجولدزيهر وجومبيه .
قلنا أن الشيخ محمد عبده قد بحث في كتابه العديد من الموضوعات البالغة الاهمية من خلال فكره النقدي ونود أن نقف قليلاً عند بعض هذه الموضوعات .
يؤكد محمد عبده في حديثه عن الدين والمتدينيين علي أهمية الفعل الإنساني أن الإنسان يعد حراً ولا يعد مجبراً لا حول له ولا قوة ، أنه لا يصح للإنسان أن يذهب إلي القول بأن الطبيعة هي التي أجبرته ، بل أن الإنسان لديه القدرة أو الفاعلية .
نحن في عالمنا العربي في أمس الحاجة إلي التأكيد علي أهمية هذا الرأي الذي يقول به محمد عبده والذي يقترب إلي حد كبير من رأي المعتزلة في موضوع حرية الإرادة ، والبحث في مشكلة القضاء والقدر ، لقد شاع بيننا الاتجاه الجبري اتجاه التواكل والاستسلام وهذا الاتجاه لا يؤدي إلي تقدم الأمم .
لقد اثار محمد عبده من خلال كتابه العديد من الأسئلة والتي يحاول عن طريقها معرفة أسباب تخلف المسلمين الآن في حين أننا في الماضي كنا نتمتع بالقوة والمجد والأزدهار ولا تخلو عبارات محمد عبده من نغمة حزن وأسف علي ما وصلنا إليه الآن إنه يتساءل قائلاً : هل استبدت الأبدان وسيطرت علي الأرواح؟ هل انقطعت الصلة بين الأسباب ومسبباتها لقد كان للمسلمين في الحروب الصليبية آلات نارية كان لهم العديد من الأعمال التي بهرت الأبصار وأدهشت الألباب .
ويحاول محمد عبده تحديد الاسباب التي أدت إلي ضعف المسلمين ، لقد ظهر بين المسلمين رجال ارتدوا الزي الدين ولكنهم قالوا بالكثير من البدع التي لا صلة لها بالدين لقد انتشر بين المسلمين الإيمان بالجبر وأدي هذا إلي سخريتهم من العمل والكفاح.
وفي قسم آخر من اقسام كتابه يتحدث محمد عبده عن أصول الإسلام ، وهذه الأصول التي بحث فيها هي علي النحو التالي :
1- النظر العقلي لتحصيل الإيمان .
2- تقديم العقل علي ظاهر الشرع عند التعارض .
3- البعد عن التكفير .
4- الاعتبار بسنن الله في الخلق .
5- قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها .
6- حماية الدعوة لمنع الفتنة .
7- مودة المخالفين في العقيدة .
8- الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة .
والواقع أن الإنسان حينما يقرأ آراء محمد عبده أثناء حريته عن هذه الأصول يدرك تمام الإدراك أننا في الآن في أمس الحاجة إل يمثل تلك الآراء في حياتنا الفكرية او حياتنا الاجتماعية السياسية .
لقد ذهب محمد عبده في دراسته لأصول الإسلام إي أن الإسلام قد أطلق للعقل البشري أن يجري في سبيله الذي سنته له الفطرة بدون تقييد .
ويؤكد محمد عبده أن القتل ليس من طبيعة الإسلام بل من طبيعته العفو والتسامح ، ولم تقع حرب إسلامية بقصد الإبادة ، بل كان يكتفي بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطان الإسلام ، ثم ترك الناس وما كانوا عليه من الدين ، يدفعون جزية لتكون عوناً علي صيانتهم والمحافظة علي أمنهم وديارهم وهم في عقائدهم ومعابدهم وعاداتهم أحرار ، وقد جاء في السنة المتواترة ما يفيد ذلك ومنها : ولهم مالنا وعليهم ما علينا ، وأيضاً : من آذي ذمياً فليس منا ، أما إذا كنا نجد أنحرافاً من جانب بعض المسلمين عن هذه الأحكام فإن ذلك قد ظهر – فيما يقول محمد عبده – عندما بدأ الضعف في الإسلام ، وضيق الصدر من طبع الضعيف .
هذه كلها مبادئ يكشف عنها ويقوم بتحليلها مفكرنا محمد عبده من خلال دراسته لأكثر من أصل من أصول الإسلام .
وتأكيداً علي الدفاع عن الإسلام والاعتقاد بأن الدين يجب ألا يكون معزولاً عن المجتمع فإننا نجد الشيخ محمد عبده أثناء دراسته لآخر الأصول التي سبق أن أشرنا إليها ، وهو الأصل الذي يتمثل في المجتمع بين الدنيا والآخرة يعطينا العديد من الأمثلة التي تدلنا علي كيفية النظر إلي الآخرة من خلال الدنيا ، والنظر إلي الدنيا بعيون الآخرة . إن أوامر الدين إذا كانت تطلب من العبد الاتجاه إلي ربه وتملأ قلبه بارهبة وتعطيه الأمل في الرغبة ، فإنها لا تحرمه من التمتع بالدنيا ، بل تطلب منه الوقوف موقفاً معتدلاً ، ومعني هذا أنه لا يوجد غلو في الدين بل يوجد الاعتدال والمواقف الوسط ، وقد ذكر محمد عبده الكثير من الآيات القرآنية مستدلاً بها علي أن السلام يدعونا إلي الموقف الوسط في مجال الأخلاق بصفة خاصة .
ويدعونا محمد عبده إلي الانفتاح علي العلوم الأخري حتي ولو كانت علوماً غير دينية ، أي غير المرتبطة ارتباطاً مباشراً بالعلوم الدينية الشرعية ، كما يحارب التقليد والجمود محاربة شديدة ، ويري أن الجمود عند النص الديني هو الذي أدي بالمسلمين إلي التأخر وعدم اللحاق بالأمم الأخري .
والواقع أننا نجد العديد من الآراء التي تُعد ثرية ثراء كبيراً وعميقاً غاية العمق داخل كتاب الإسلام دين العلم والمدنية والذي يمكن أن نقول عنه بحق أنه كتاب لا يمكن أن يستغني عنه مثقف من قريب أو من بعيد ، وخاصة بالنسبة للمهتمين بالفكر التجديدي بوجه عام ، وفكر محمد عبده علي وجه الخصوص ، إذ أن أفكاره واضحة ومشرقة وتجعلنا نقول إذا درسنا آراءه الموجودة في هذا الكتاب أننا أمام مفكر عملاق بذل أقصي جهده في الدفاع عن الحقيقة ومن حقنا أننفخر بمفكرنا محمد عبده ومن واجبنا أن ندرس آراءه حتي نستفيد من أكثرها في إضاءة الطريق أمامنا وبحيث نجعل مستقبلنا أفضل من حاضرنا .
ونجد واجباً علينا ضرورة الإشارة إلي أننا نختلف مع الأستاذ الأمام في العديد من الآراء النقدية التي قال بها ، أننا لا نجده في بعض فصول الكتاب يعتمد اعتماداً رئيسياً علي التحقيق العلمي الأكاديمي الجاد ، وبحيث يعول بالدرجة الأولي علي كتب هذا المفكر أو ذاك من المفكرين الذين يتحدث عنهم وليرجع القارئ العزيز وعلي سبيل المثال لا الحصر إلي الفصل الذي كتبه عن ابن رشد آخر فلاسفة العرب وأحكامه حول نظرية أو أكثر من النظريات التي يحث فيها ابن رشد عميد الفلسفة العقلية في بلداننا العربية من مشرقها إلي مغربها ، إن أحكام محمد عبده علي فكر ابن رشد كانت تحتاج منه إلي العديد من المراجعات العلمية وبحيث يرجع إلي شروح ابن رشد علي أرسطو ، ولكنه للأسف لم يفعل ذلك ، بل أننا نراه يعتمد أساساً علي الأحكام الخطابية البلاغية الإنشائية .
لكن هذا لا يقلل كثيراً من أهمية الجهد الذي قام به وخاصة إذا وضعنا في اعتبارنا أن الإمام محمد عبده قد ترك لنا مدرسة فكرية ليس في مصر وحدها بل في العديد من البلدان العربية الإسلامية ، وكم نجد آراءه تتردد بلا انقطاع وحتي أيامنا الحالية عند كثير من مفكرينا شرقاً وغرباً وبصورة مباشرة وغير مباشرة ، وهذا إن دلنا علي شئ فإنما يدلنا علي بصماته القوية علي خريطة فكرنا العربي الإسلامي المعاصر ومن يحاول إهمال أوتغافل دوره الخلاق المبدع فإنه وقته ضائعاً عبثاً .
وآراء الشيخ محمد عبده سواء في هذا الكتاب أو في كتبه ورسائله الأخري ومقالاته أيضاً ، تدلنا بوضوح علي أن مفكرنا كان صاحب نظرة تجديدة والنظرة التجديدية تعد معبرة عن الثورة من داخل التراث نفسه إنها إعادة بناء التراث وبحيث يكون متفقاً مع العصر الذي نعيش فيه .
فالتجديد إذن هو إعادة بناء RECCONSTRUCTION ولايعد لتجديد تمسكاً بالبناء القديم كما هو وبصورته التقليدية ، كما لا يحمل في طياته هدماً أو رفضاً مطلقاً للتراث .
إننا نجد الدعوة إلي إعادة البناء كما سبق أن أشرنا واضحة تمام الوضوح عند كثير من المفكرين من ابناء أمتنا العربية ومن بينهم مفكرنا الشيخ محمد عبده . وهذا يدلنا علي أن الأمام محمد عبده إنما كان يدرك تمام الإدراك أن العيب ليس في التراث ولكن العيب في النظرة إلي التراث من خلال منظور تقليدي رجعي لا يتمشي مع العصر صحيح أن محمد عبده كان يلجأ أحياناً – وكما سيتضح لنا – إلي الدفاع عن بعض جوانب من التراث بأدلة خطابية بلاغية بعيدة كل البعد عن الأدلة العلمية المنطقية .
وصحيح أيضاً أنه كان يلجأ إلي نوع من التعسف في الفهم التعسف الذي لا يخلو من مبالغة تارة وسطحية تارة أخري ، ولكن ذلك كله يجب ألا ينسينا أن الهدف الذي كان يسعي إليه محمد عبده إنما كان هدفاً سامياً ونبيلاً ، بالإضافة إلي أن محاولات التجديد من داخل التراث ، أي النظرة التجديدية والتي يُعد داخلاً في إطارها مفكرنا محمد عبده ، قد تفرض علينا المفكرأحياناً نوعاً من التعسف لابد وأن يلجأ إليه أنه يجدد ولكن من داخل البناء .. البناء التراثي ولا يقف موقف المتقبل المستسلم ، ولا موقف الرافض ولا يخفي علينا أن المعبرين عن موقف القبول والتسليم لا يحتاجون إلي اللجوء إلي أي نوع من أنواع التعسف أو سوء التأويل ، لأنهم يسلمون بالتراث كما هو ويقفون عند ظاهره ، ونجد هذا أيضاً أصحاب موقف الرافضين للتراث أنهم إذا رفضوا التراث فهم إذن ليسوا في حاجة إلي اللجوء إلي أن نوع من أنواع التعسف .
يجب إذن أن نضع هذا في اعتبارنا حتي نستطيع إدراك الجهد الكبير الذي قام به الشيخ محمد عبده ويكفي الشيخ محمد عبده فخراً أنه كان من خلال كتبه ورسائله مدافعاً عن العقل إلي حد كبير العقل الذي يُعد أشرف ما في الإنسان والذي عن طريقه استطاع مفكرنا تأويل النصوص الدينية تأويلاً معبراً عن الاجتهاد وسعة الإطلاع والرغبة في اكتشاف الحقيقة كل هذا يكشف عن حسه النقدي .
نجد هذا واضحاً غاية الوضوح في العديد من الكتب والرسائل التي تركها لنا محمد عبده والتي سبق أن أشرنا إليها ، ومن بينها مقالاته في العروة الوثقي ،وحاشيته علي شرح الروائي لكتاب العقائد العضدية للأيجي ، ورسالة التوحيد وتقرير في إصلاح المحاكم الشرعية والإسلام والرد علي منتقديه ، والإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية وحديثه الفلسفي مع الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر ، وتفسيره لسورة العصر وسورة الفاتحة وتفسير جزء عم وتفسير المنار والذي أكمله رشيد رضا ، ودروس دار الإفتاء .
ويبين لنا الشيخ محمد عبده كيف اهتم المسلمون والعرب اهتماماً لا حد له بالعلوم الادبية وبعد مرور عشرين عاماً علي وفاة الرسول () كما اهتموا بالعلوم الكونية وخاصة أيام الدولة العباسية عند أمثال المنصور وهارون الرشيد والمأمون كما اهتم المسلمون بإنشاء دور الكتب سواء في بلدان المشرق العربي أو في بلدان المغرب العربي ، بالإضافة إلي إنشاء المدارس للعلوم والتي انتشرت في كل الأقطار في المغول وفي التتار من جهة المشرق ، وفي مراكش وفاس من جهة المغرب .
كما يشير محمد عبده إلي أهمية العلوم العربية وكيف كان علم العرب في أول الأمر يونانياً ثم أصبح عربياً ، وأن أول شئ تميز به فلاسفة العرب عن سواهم من فلاسفة الأمم هو بناء معارفهم علي المشاهدات والتجربة ، وألا يكتفوا بمجرد المقدمات العقلية في العلوم ما لم تؤيدها التجربة .
يجب علينا إذن الوقوف عند أفكاره النقدية ولنأخذ منها ما نأخذ ولنرفض منها ما ترفض أما أن ننظر إليها من خلال منظور العبث والإهمال والنسيان فإن هذه النظرة تُعد مرفوضة تماماً قلباً وقالباً لأننا أمام مفكر عملاق بذل أقصي ما يملك من جهد للدفاع عن الحقيقة في كل زمان وكل مكان إن دوره التنويري النقدي يُعد غاية في الوضوح ، ولكننا يجب أن ننظر إليه كفرد من أفراد البشر، وليس كقديس فكم نجد لديه من الأفكار التي قد تكون بعيدة عن التنوير كما نفهم التنوير الذي يتخطي البكاء علي أطلال الماضي ، وبحيث يكون متجهاً نحو دنيا المستقبل دنيا العلم ، دنيا العقل .
خاتمـــة :
نقول ونكرر القول بأننا في أمس الحاجة إلي البحث في الجانب النقدي وصلته بالتنوير ، إننا في عصر لا يمكننا أن نتصور فيه الفكر بمعزل عن النقد والتنوير ، كما أن البحث في قضية الثقافة العربية لن يؤدي بنا إلي مجموعة من التصورات والنتائج الفكرية الدقيقة إلا إذا نظرنا إليها من خلال التنوير نظرة تتخطي الطابع المحلي الضيق وتجاوز الحدود الجغرافية لبلدة أو أخري من بلدان العالم العربي ،وبحيث تقييم الجسور والقنوات المشتركة بين الثقافة العربية في سائر بلداننا من مشرقها إلي مغربها مع بلدان العالم كله وإذا لم نفعل ذلك فسنظل في مكاننا ودون أدني تقدم ، بل سنرجع إلي الوراء ونكون نحن أبناء الأمة العربية من أكثر أفراد العالم جهلاً وضياعاً وتخلفاً إذا لم نفعل ذلك فسيظل فكرنا ميتاً ولا أثر له .
إننا الآن في عصر نتصارع فيه القوي المختلفة وإذا لم نبادر بتحديد هويتنا الثقافية العربية ونبادر أيضاً بأخذ المواقف من جانبنا ، فلن يكون لنا وجود في المستقبل لن تكون لنا حياة ، كما ينبغي أن تكون الحياة سنصبح في خبر كان ، إن صح هذا التعبير وسيأتي يوم علينا يتحدث فيه العالم عنا ، كما يتحدث عن الهنود الحمر أو كما يتحدث عن شعوب أصبحت منقرضة وزالت عن الوجود .
وغير خاف علينا أننا في حالة فقدان الوعي ، فقدان الاتزان ، أو مرحلة انعدام الوزن ، إننا الآن في حالة غريبة من الغيبوبة والعالم يتحرك من حولنا حركة سريعة ، حركة بغير حدود ، إننا في الوقت الذي نصعد فيه إلي الهاوية ويكون الحوار أقرب إلي إثارة الخلافات اللفظية الشكلية بل أقرب إلي ثرثرة النساء ، نجد الدول المتقدمة وخاصة الدول الغربية تبادر إلي اتخاذ المواقف الفكرية البناءة المواقف التي تعبر عن نتائج علمية وبصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع تلك المواقف التي تصدر عن الدول الغربية المتقدمة ، إلا أننا يجب أن نتعلم منهم القدرة علي اتخاذ المواقف ولن يكون ذلك بإمكاننا ، إلا إذا اقمنا الجسور – كما قلت – بين أبناء الدول العربية كلها ، واقمنا الحوار الفكري بين مثقفي الأمة العربية ومثقفي بقية بلدان العالم من مشرق الأرض إلي مغربها وهذا هوالنقد هذا هو التنوير إن المثقف كما ينبغي أن يكون هو الذي يهتم اهتماماً بالغاً بكل قضايا النقد والتنوير ولا يمكن أن ننتظر حلولاً إيجابية لكل القضايا التي نحبث فيها ، وسواء كانت قضايا فكرية ، أو كانت قضايا سياسية أو كانت قضايا اجتماعية إلا من خلال التنوير .
إن الفرد النقدي التنويري هو الذي تؤرثه هموم الأمة العربية وبحيث تصبح حياته الفكرية هي القضايا المصيرية لعالمنا العربي فلا يحيا إلا بهذه القضايا ولا يعيش إلا من أجل هذه القضايا ولا يتنفس إلا هواء هذه القضايا .
هذا هو المثقف النقدي التنويري في رؤيته المستقلبية واقول بالرؤية المستقبلية لأننا للأسف الشديد سواء في الماضي الماضي القريب علي الأقل وفي الحاضر ايضاً بكل تأكيد لا نجد رؤية واضحة رؤؤية محددة المعالم ، بل رؤية كلها ظلام في ظلام رؤية سودها الضباب الكثيف ودعونا نتكلم بصراحة وموضوعية لأننا أمام قضية مصير ، قضية تحديد لهويتنا ، قضية أن تكون أو لا تكون ولنبتعد تماماً عن التفاؤل الساذج والقول بأن كل شئ تماما لقد أسرفنا في التفاؤل وما فيه من سذاجة وسطحية وأدي هذا كله إلي أن أصبحنا في وضع لا نحسد عليه وأصبح أكثر مثقفينا في واد وقضايا الامة العربية في واد آخر ، أصبح حديثهم عن قضايا الأمة العربية حديثاً يثير التقزز والغثيان حديثاً ، سطحياً ، تماما كما يتحدث السائح عن بلدة من البلدان التي زاهرا وبقي فيها ساعة من الزمان ، إنه حديث سطحي لأنه لا يقوم علي رؤية تحليلية دقيقة .
لقد أدت بنا الرؤية الظلامية ، الرؤية الضبابية التي يسعي إليها أنصار الاتجاهات التقليدية إلي العديد من التصورات الخاطئة والتي تقوم علي المبالغة ، والمناداة بأن الحل إنما يتمثل في الرجوع إلي الماضي السعيد ، ماضي التراث وما فيه من أخطاء ومغالطات .
كما نجد فكراً نقدياً تنويرياً في بعض بلدان عالمنا العربي في منتصف القرن التاسع عشر وحتي منتصف القرن العشرين وعلي النحو الذي سبق أن أشرنا إليه ، ولكن ماذا حدث بعد ذلك ، نجد نوعاً من الردة أو التراجع عن المكاسب التنويرية في العديد من المجالات سواء كانت سياسية أو فكرية أو اجتماعية ، نجد نوعاً من التراجع عن هذا الفكر النقدي التنويري .
هل من المعقول أن ننتظر حلاً لمشكلاتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية في الوقت الذي نضيع فيه وقتنا وجهدنا في محاولة الإجابة عن أسئلة عفا عليها الزمن أسئلة فردية شخصية جزئية لماذا لا يتعاون المثقفون العرب من خلال رؤية تنويرية في البحث عن أفضل حل فكري لنا نحن أبناء الوطن العربي ؟ رؤية تتخطي الخلافات الزائلة الطارئة وبحيث تضع المستقبل أمامها دائماً ، إن أكثر المثقفين العرب وللأسف الشديد يدورون في حلقات مفرغة ويلجأون إلي منطق التبرير وهو منطق زائف لأنه يؤدي إلي الدفاع عن سلبيات الماضي وسلبيات الحاضر وما أكثرها من سلبيات علينا أن نعتقد بأن الفكر النقدي التنويري هو الذي يؤدي إلي بث الثقة في نفوس المثقفين العرب ، ودولة بغير فكر نقدي تنويري هي تماماً كجسد بلا دماغ وإذا خلا الجسد من الدماغ فإنه سيكون أقل مرتبة من الحيوانات الضالة نعم ينبغي علينا أن نستوعب هذا الدرس أو هذا المبدأ جيداً وإلا ستلحقنا اللعنة في كل زمان وكل مكان ، فالعروبة ثقافة قبل أن تكون سياسة .
الرؤية المستقبلية كما نراها من جانبنا تقوم علي الانفتاح علي كل الأفكار والتيارات وبعد ذلك فلنأخذ منها ما تأخذ ولنرفض منها ما ترفض ، أما أن تظل في حالة تقوقع حول أنفسنا بحجة التراث تارة وبحجة أن الغرب سيقوم بابتلاعنا تارة أخري ، فإنها تعد من الحجيج الزائفة وسنظل جامدين عندها دون أمل في أدني تقدم، إن التراث الماضي قد صنعه مفكرون مثلنا ، صنعه أفراد بشر كانوا معرضين للوقوع في الأخطاء فلماذا إذن نقف عند محاولاتهم وبحيث نبكي علي الأطلال ؟ إن كتب التراث إذا كنا نجد فيها بعض الأفكار البناءة الممتازة والتي تفيدنا في حياتنا المعاصرة إلا أننا نجد في بعضها الآخر مجموعة من الأخطاء . فلنأخذ إذن من التراث ما تأخذ ولكن ما تأخذه ينبغي ألا يكون عقبة في طريق تقدمنا وإزدهارنا نحن أبناء الأمة العربية الحديثة ، لماذ لا تنفتح علي الغرب في رؤيتنا المستقبلية ؟ لماذا نصر علي رفض كل غربي وشن الهجوم علي الغرب ؟ هل ننتظر من الغرب أن يتأخر مثلنا ؟ أن واجبنا أن نسعي إلي أن نتقدم مثله لا أن ندعو إلي أن يتأخر هو مثلنا إنها سنة لله في خلقه ، ولن نجد لسنة الله تبديلاً .
هذه معالم رؤية مستقبلية نقدية تنويرية تقدمها من جانبنا ، معالم عامة وكبري تجعل الهدف من التنوير دك أرض التقليد دكاً ،وتقيم اساس البناءعلي أشرف ما خلقه الله فينا نحن بني الإنسان ينبغي علينا أن نضع ذلك ف ياعتبارنا ونحن نتحدث عن الفكر النقدي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي .
إن قضية النقد وصلتها بالتنوير تعد قضية مصيرية أنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالبحث عن غيديولوجية عربية ولا بقاء لشعب من الشعوب إلا عن طريق السعي نحو النقد والنور والتنوير عن طريق السير نحو البحث عن أيديولوجية تحد هويته الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية .
*********
بعض مراجع الدراسة :
– رفاعة الطهطاوي : تخليص الإبريز في تلخيص باريز .
– رفاعة الطهطاوي : مناهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية.
– د. جمال الدين الشيال : رفاعة الطهطاوي زعيم النهضة الفكرية في عصر محمد علي .
– أحمد بدوي : رفاعة الطهطاوي .
– لويس عوض : تاريخ الفكر المصري الحديث .
– الزركلي : الأعلام .
– جورجي زيدان : آداب اللغة العربية .
– أحمد أمين : زعماء الإصلاح في العصر الحديث ز
– خير الدين التونسي : أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك .
– د. توفيق الطويل : العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي .
– عاطف العراقي : العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر .
– الشيخ محمد عبده : رسالة التوحيد .
– الشيخ محمد عبده : الإسلام دين العلم والمدنية ، تحقيق وتصدير : عاطف العراقي .
– عاطف العراقي : ثورة العقل في الفلسفة العربية .
– جمال الدين الأفغاني : خاطرات .
– جمال الدين الأفغاني : الرد علي الدهريين .
– عثمان أمين : محمد عبده : رائد الفكر المصري .
– عباس محمود العقاد : الشيخ محمد عبده .
– عبدالرحمن الكواكبي : أم القري .
– HORANI (A) : ARABIC THOUGHT IN THE LIBERAL .OXFORD , 1962 .
يناير 25 2010
الأدب المقارن من منظور التأصيل ………. د. عبدالحميد إبراهيم
الأدب المقارن من منظور التأصيل
د. عبدالحميد إبراهيم
نشأ الأدب المقارن في جامعات فرنسا نشأة طبيعية داخل الأدب القومي (الفرنسي) وتطويراً للموازنات الأدبية في اللغة القومية (الفرنسية) فقد أحس علماء الأدب والبلاغة في الجامعات الفرنسية ، أن الموازنات الأدبية التي تجري داخل لغتهم القومية ، يمكن أن تتسع وأن تتم مع الظواهر المتشابهة في آدب الأمم الأوروبية المجاورة ، خاصة بعد تلك الروح التي عمت القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر ، وجعلت كل أمة تتطلع إلي ثقافة الأمة المجاورة ، وتبحث عن عوامل التأثير والتأثر بين اللغات المختلفة .
وكانت النتيجة لهذه النشأة الطبيعية أن الأدب المقارن جاء لخدمة الأدب القومي وتطوير ظواهره الأدبية ، وامتحان اصالته ووضعه في مجال عالمي فهو في نشأته الاولي قد انبثق من فرع من فروع الادب القومي وهو فرع الموازنات الادبية التي طورها إلي المقارنات الادبية في صورتها العالمية .
ولم يكن الحال كذلك داخل اللغة العربية ، فلم يأت الأدب المقارن تطويراً للموازنات الأدبية عند الآمدي أو غيره ولا امتداداً لما يسميه البلاغيون بالسرقات الشعرية ولم يأت استجابة لحاجة عند النقاد والبلاغيين تفدعهم إلي خدمة الادب القومي وتوسيع ظواهره والبحث عنخ نظائر تعمق رؤيته وتكشف عن أصالته .
نشأ الأدب المقارن في الجامعات العربية نشأة غير طبيعية ، فقد جاء مفروضاً وجاهزاً يلبس قبعة فرنسية ويرطن بلغة أعجمية ويردد أعلاماً غير عربية وأخيراً يتعالي علي الأدب القومي ( العربي ) .
جاء الدكتور غنيمي هلال – وهو الرائد الحقيقي للأدب المقارن – من فرنسا يحمل كتابه ( الأدب المقارن ) وهو الكتاب الذي وضع الأسس الاولي للأدب المقارن في الجامعات العربية ، وأصبح منذ ذلك الحين المصدر الأول للأدب المقارن يؤلف الأساتذة علي غراره ويشيدون بغزارته ويتابعون مسائلة وينصحون طلابهم بإقتنائه.
إن كتاب الدكتور غنيمي هو أقرب إلي الترجمة منه إلي التأليف فهو ملئ بالأعلام الأجنبية ، والاستشهادات الاجنبية ، والهوامش الاجنبية ، أو بتعبير آخر : هو تجميع لآراء المدرسة الفرنسية في الأدب المقارن ، وكل جهد الدكتور غنيمي يظهر في الوصل بين هذه الآراء ، خلال حرف استدراك أو اضراب أو مشاركة أو أداة وصل أو علي أحسن الفروض خلال تعليق يسير أو إشارة قصيرة إلي ظاهرة مماثة في الأدب العربي .
جاء الأدب المقارن إذن بلبس قبعة الخواجة ويتعالي علي الأدب القومي ، وأصبح هذا الفرع من الدراسات الأدبية أسمي مكانة من تاريخ الأدب ، ومن النقد الأدبي ، وأصبح من الوجاهة بمكان أن يسعي كل من هب ودب ، إلي التأليف في الأدب المقارن ،حتي لو كان هذا التأليف لا يحمل قصداً علمياً ، أو كان تلخيصاً لكتاب الدكتور غنيمي ، إذ يكفيه أن يتصدر أسمه كتاباً تحت عنوان ” الأدب المقارن” وأن يدرج في قائمة من يرطنون اللغة الأجنبية ويرددون المصطلحات الأجنبية .
وكانت النتيجة إزدراء لفكرة الموازنات الأدبية داخل اللغة العربية لأنها فكرة تتحدث عن ظاهرة داخل الأدب القومي (العربي) في مقابل فكرة الادب المقارن وهي فكرة تتحدث عن ظاهرة عالمية خارج الادب القومي مع أن الفكرتين (الموازنات والمقارنات ) ترتدان إلي جذر نقدي مشترك يتلخص في دراسة علاقة التأثير والتأثر بين الادباء ، سواء كانت هذه العلاقة داخل لغة واحدة أو بين لغات متعددة .
إن ما تهدف إليه هذه الدراسة توجيه الأنظار نحو تأصيل الأدب المقارن لينمو داخل الأدب العربي ويخدم ظواهر النقد العربي ، ويتطور بالموازنات الأدبية إلي مفهوم عالمي ، وبهذا يتخلص الأدب المقارن من تضخمه ، ويصبح قسيماً لتاريخ الأدب وللنقد الأدبي علي حد سواء .
ومن هنا لن ننطلق من كتاب الدكتور غنيمي هلال بل سننظر إليه كخطوة أولي في تاريخ الأدب المقارن ، قدمت المنهج ، ووجهت الانظار إلي أهمية مثل هذه الدراسات المقارنة واستنفرت العقول نحو دراسة عوامل التأثير والتأثر بالمفهوم العالمي الذي يتخطي حدود اللغة القومية ويعد ذلك تأتي الخطوة الثانية التي توصل لعلم الادب المقارن في البيئة العربية .
ومن أجل هذه الغاية يمكن أن تطرح تصوراً لتأسيس علم أدب مقارن في اللغة العربية يقوم علي المبادئ الآتية :
أ – البحث عن جذور الأدب المقارن داخل الأدب العربي .
ب- دراسة الأجناس الأدبية من واقع تاريخ الادب العربي .
ج- الاهتمام بتأثير الأدب العربي علي غير من آداب الشعوب الأخري .
وسنقف وقفة خاصة عند كل موضوع من هذه الموضوعات الثلاثة ، جاء الفصل الأول من كتاب الدكتور غنيمي هلال تحت عنوان ” تاريخ نشأة الأدب المقارن في أوروبا ” وقد خصصه للنقاط الآتية :
فكرة الأدب المقارن قبل القرن التاسع عشر – نظرية المحاكاة في الأدب اللاتيني وفي عصر النهضة والعصر الكلاسيكي – في القرن السابع عشر – في القرن الثامن عشر – في القرن التاسع عشر – الحركة الرومانتيكية – مبادئ الرومانتيكية ومقارنتها بمبادئ الكلاسيكية – مدام دي ستال – سانت بوف – النهضة العلمية في القرن التاسع عشر – إرنست رينان – هيبوليت تين – جاستون باري – برونيتير إكمال لنشأة الادب المقارن علي يد جوزيف تكست والباحثين المحدثين .
إن هذه النقاط تتابع جذور الأدب المقارن في التاريخ الغربي قبل عصر النهضة وبعده خلال مذاهب وحركات غريبة مثل الرومانتيكية والكلاسكية وعلي يد أعلام في الغرب مثل مدام دي ستال وسانت بوف وإرنست رينان وحتي جوزيف تكست ، وترصد هذه الجذور بالعودة إلي مصادر أوروبية وفرنسية بنوع خاص .
ونحن بصدد البحث عن جذور للأدب المقارن ممتدة في التاريخ العربي ، سنغير الفصل إلي ” تاريخ نشأة الأدب المقارن عند العرب ” وخصصه للنقاط الآتية: رحلات العرب قبل الإسلام – رحلة الشتاء ورحلة الصيف – المناذرة – الغساسنة اليهودية والنصرانية في الجزيرة العربية – القيان والمغنيات – الهجرات اليمنية – الفتوحات الإسلامية – الهجرات العربية بعد الإسلام – الصراع مع الحضارات المجاورة – التعريب – الزواج والنسب – تعريب الدواوين – كتاب الدواوين مع أصول غير عربية – الترجمة عن الونانية والفارسية والهندية والسوريانية وغير ذلك – المنافذ الحضارية خلال الأندلس وجنوب فرنسا وصقلية ومالطة وأوروبا الشرقية – رحلات ابن بطوطة وغيره – مجالس الخلفاء والوزراء والقادرة – الفلاسفة – المتصوفة السير الشعبية – العادات والتقاليد – الأعياد والمواسم – الكتب المقدسة – قصص الأنبياء – مجنون ليلي – الشعوبية – الجاحظ – ابن المقفع – الموشحات والازجال – النفوذ التركي – الحروب الصليبية – الحملة الفرنسية علي مصر – محمد علي – الاستعمار – الترجمة في العصر الحديث – البعثات الخارجية – الجامعات – الصحافة – الإعلام – جهود الدكتور غنيمي هلال – كتابه في الأدب المقارن – توجه الدراسات المقارنة بعد الدكتور غنيمي – البحث عن الجذور التراثية في الروايةوالمسرح وغيرهما – ظهور فكرة الأصالة – اقتراح دراسة الأدب المقارن من منظور الأدب العربي .
وغير ذلك من نقاط تستوحي التاريخ العربي ، وتحاول أن تؤصل للأدب المقارن داخل هذا التاريخ وتردد أعلاماً عربية وأحداثاًعربية حتي حينما نتعرض للتأثيرات الأوروبية فإن منطلقها يكون من الواقع العربي ، ولا تمس الأحداث الأوروبية إلا من خلال تأثيرها علي هذا الواقع .
إن الذي حدث عند الدكتور غنيمي ومن سار في اتجاهه أنهم اطلعوا علي بعض المؤلفات الأوروبية وقاموا بترجمتها وعرضوا وجهة نظر أصحابها ، وهذا أمر سهل يتطلب معرفة صاحبه بلغة أوروبية فحسب أما بقية الجهد فقد قام به أصحابه من المفكرين الاوروبيين وكل ما هو مطلوب من الدكتور غنيمي أو من يسير في اتجاهه هو عرض هذا الجهد أو التعليق عليه ، أو ضرب أمثلة تستوحيه وتسير علي منواله .
أما الخطوة الأخري المطلوبة والخاصة بتأصيل الأدب المقارن في البيئة العربية فهي أشد صعوبة لأن الطريق غير ممهدة لأن المطلوب من الباحث أن يتاب النقاط السابقة في المؤلفات التاريخية والجغرافية والأدبية والفلسفية والصوفية – ثم يقدم نسقاً يضاهي النسق الذي قدمه الباحثون الأوروبيون والفرنسيون واستوحاه الدكتور غنيمي ومن سار علي دربه .
استعرض الدكتور غنيمي في الباب الثاني ، ميادين البحوث في الأدب المقارن التي تدور حول المواقف الادبية والنماذج البشرية ، والاجناس الأدبية وغير ذك مما غطي به الفصول السبعة التي تشكل هذا الباب .
ويمكن لمن يريد أن يؤصل الأدب المقارن في البيئة العربية أن ينطلق من هذه الميادين وتلك الفصول ولكن يشرط له أهميته ، وهو أن تكون طريقة معالجته لهذه الفصول ،مختلفة عن الطريقة التي الجها بها الدكتور غنيمي .
فالدكتور غنيمي قد نقل معلوماته من الكتب الاوروبية والفرنسية فجاءت تخدم الأدب القومي الفرنسي أكثر مما هو تخدم الأدب القومي العربي ، الذي ضاع خلال السياق وجاء من باب الاستطراد وفي حالات كثيرة منقولاً عن مصادر أوروبية .
لنضرب مثلاً علي ذلك بما ذكره الدكتور غنيمي في فصل ” الاجناس الأدبية ” فقد استعرض الأجناس الأدبية الشائعة في العالم الغربي من مثل الملحة ، والخرافة والقصة والمسرحية وتجاهل الأجناس الشائعة في الادب العربي من مثل الشعر والخطابة وفن الحكمة .
ومن هنا جاء استعراضه مليئاً بالأعلام والأمثلة والإحالات الغربية ، وعرج علي الأدب العربي من باب الاستطراد السريع فهو مثلاً في حديثه عن الملحمة يتابع تاريخها عبر الأدب اليوناني واللاتيني وفي العصور الوسطي ، وحتي العصر الحديث ويضرب أمثلته من الألياذة ، والأوديسا ، والأنبادة والكوميديا الإلهية ، والفردوس المفقود ، ومغامرات تليماك ، ويشير إلي هوميروس وفرجيل ” دانتي،وميلتون وفينلون .
أنه يشرق ويغرب ولا يعرج إلي الأدب العربي إلا في النهاية وفي فقرة أخيرة لا تتجاوز ستة أسطر ، يذكر فيها أن الأدب العربي القديم لم يعرف فن الملاحم وكل ما عرفه العرب مما يمت إلي ذلك بصلة ، هو فن السير الشعبية وهو فن فيما يري ليس له من المكانة الأدبية ما يسمح له بأن يدرسه في هذا الكتاب ومن هنا يكتفي بهذه الإشارة ويتوقف عن دراسته .
لقد كان أسهل علي الدكتور غنيمي أن ينقل ويترجم من أن يتابع بنفسه تاريخ الأجناس الأدبية التي شاعت في الأدب العربي ، وأن يكون رؤيته الخاصة .
أما الباحث عن تأصيل الأدب المقارن في البيئة العربية فإن مهمته أصعب من ذلك بكثير إذا عليه أن يتابع بنفسه رحلة الشعر ، والخطابة والحكمة وغير ذلك من أجناس أدبية عرفها العرب ورددوها في كتبهم .
وهو في تلك المتابعة لن يرددها ما قاله النقاد ، القدامي أو المحدثون ، عن تاريخ الشعر العربي أو عن الخطابة ، أو الحكمة أو المديح أو الغزل لأن ما قالوه يندرج في تاريخ الأدب القومي ، ولكن الباحث عن تأصيل الأدب المقارن ، يتصدي لدراسة هذه الأجانس والانواع ، من منطلق علاقة التأثير والتأثر مع آداب اللغات الأخري .
لنضرب مثلاً يجسد هذه المهمة من تتبع تاريخ الشعر العربي من منظور هذه الرؤية المقارنة فالمطلوب من الباحث أن يكشف قبل كل شئ عن نظرية الشعر عند العرب كما تتمثل في عمود الشعر نظرياً وفي المعلقات كنماذج ، ثم يتحدث عن نظرية الشعر عند اليونان ، كما يمثلها كتاب “فن الشعر ” لأرسطو ثم يتابع الصراع الحضاري بين النظريتين ، ومردود هذا الصراع علي الشعر العربي ويرصد قوة الحضارة العربية في تلك الفترة والتي تمثلت مصطلحات أرسطو وحولتها عن مجراها وجعلتها أقرب إلي مصطلحات الشعر الغنائي منها إلي مصطلحات الشعر التمثيلي ثم يتابع رحلة الشعر في علاقته مع الثقافة الفارسية وأثر تلك العلاقة علي اللغة والموضوعات ، ورحلته في بلاد الأندلس والتغيير الذي طرأ علي شكل القصيدة واستجابة القصيدة العمودية لهذا التغيير ثم متابعة التغيير الذي طرأ علي شكل القصيدة في العصر الحديث بعد الاحتكاك مع الحضارة الأوروبية ورصد درجة الانحراف عن تقاليد القصيدة العربية ، والمقارنة بين موقف الحضارة العربية القديمة التي تمتلك الفكر الأغريقي وحولته إلي جزء بنيتها الفكرية ومواقفها في العصر الحديث بعد أن ذابت في الفكر الأوروبي ،وخضعت لمصطلحاتها الخاصة وغير ذلك من متابعة لكل جنس من الاجناس الأدبية الشائعة وهي متابعة لا تنقل من تاريخ الأدب العربي في صورته القومية ولا تترجم من المصادر الغربية ولكنها تؤصل للأدب المقارن ، من واقع النصوص العربية وعلاقتها بالنصوص الاجنبية بحثاً عن الأصالة واستنتاجاً من تاريخ عربي وترديداً لأعلام عربية واستشهاداً بنماذج عربية .
مالت الدراسات المقارنة في مصر والعالم العربي ، بفضل كتاب الدكتور غنيمي إلي التركيز علي تأثر العرب بغيرهم وخاصة بالكتاب الأوروبيين ، ولم تعط مثل هذا الاهتمام بالجانب الآخر ، الذي يركز علي تأثير العرب علي غيرهم من كتاب الشعوب الأخري .
وانطلقوا يبحثون عن مصدر لكل أديب عربي ، فطه حسين هو فولتير الشرق، والعقاد هو كلويردج ، والحكيم هو أفلاطون ومحمود تيمور هو ماباسان ونجيب محفوظ هو زولا وإحسان عبدالقدوس وهو لورانس وصلاح عبدالصبور هو إليوت .
وقد كانت هذه المصادر الأجنبية تطلق بنية سليمة سواء من الأدب أو من ناقده ودون أدني إحساس بأن التركيز علي المصدر إنما يحيل الكاتب إلي صدي ولدرجة أن بعضاً ممن يكتبون بدافع من أنفسهم ومن منطلق الأصالة قد تواروا في الظل لأنهم لا يجدون ” سيداً ” أجنبياً يتكئون عليه .
وقد توالي الضغط الأوروبي علي الواقع العربي وأصبحت المذاهب الأدبية التي تنشأ في أوروبا تفرض علي الواقع الأدبي في مصر والعالم العربي .
من المعروف ان المذهب الأدبي لا يفرض من فوق أو بقوة القانون والقهر ولكنه يختمر في بيئة ويتحرك بين جمهور ، ويعكس فلسفة معينة ويخضع لتأويلات النقاد والدارسين وكل هذا يعني أنه يحمل خصوصية معينة لا تتيح له أن يترعرع في تربة أخري .
ولكن الدارسين يتجالون ذلك ويتعرضون لتفسير التاريخ العربي ولتحليل الإبداع الأدبي من منطلق الكلاسيكية أو الرومانتيكية ، أو الواقعية أو الماركسية أو الوجودية وينثرون المصطلحات الوافدة ، التي نشأت في ظروف خاصة علي التاريخ العربي وظهر هذا الضغط بصورة واضحة علي أقسام اللغة الإنجليزية ، واللغة الفرنسية واللغة الألمانية ، وغير ذلك من أقسام الجامعات المصرية والعربية التي تتخصص في اللغات الأوروبية وتتحول إلي نسخة من أقسام الجامعات الإنجليزية والفرنسية وتقوم بدراسة الأدب المقارن من منظور هذه الجامعات وتركز علي الموضوعات التي تبرز تأثير الآداب الأوروبية علي الأدب العربي الحديث ، من مثل شكسبير في الأدب العربي – أليوت في الأدب العربي – تأثير تيار الشعور علي الرواية – العبثية في المسرح المصري – صورة الغرب في الرواية العربية الحديثة- بين رواية زينب وغادة الكاميليا – المصادر الفرنسية في أدب طه حسين – يخيل موليير في الأدب العربي – الرومانتيكية الغربية في الشعر العربي الحديث – بين نجيب محفوظ وتشارلز ديكنز .
إن تأصيل الأدب المقارن في الواقع العربي يتطلب قدراً مماثلاً من الاهتمام بالصورة الأخري ، التي تحاول أن تبرز تأثير الأدب العربي علي غيره من آداب الأمم الأخري ، أن الباحث بذلك يصحح الوضع ويستكمل الصورة ، ويحقق الموضوعية التي تستغرق كافة الجوانب .
ومن ناحية أخري فإن هذا الاهتمام يحقق هدفاً قومياً ويجعل الإنسان العربي يحس بأنه ممتد تاريخياً خلال أدب عريق أثر قديماً علي الحضارات المجاورة مثل حضارة الفرس والترك والحضارة القبطية وامتد بتأثيره إلي قارات إفريقيا وآسيا وعبر البحر إلي قعر الحضارات الغربية .
إن موضوعات مثل المقامات وألف ليلة وليلة وحي بن يقظان ، والمعراج والمرشحات وبخلا الجاحظ والحب العذري ، والفروسية والوقوف علي الأطلال والعروض والقافية وصورة الشرق وقصة يوسف ومجنون ليلي والادب العربي في إفريقيا ، أو في الصين أو عند الشعوب الإسلامية أو في أمريكا اللاتينية ، أو في أوروبا الشرقية أن موضوعات كهذه يمكن أن تكون منطلقاً للكشف عن تأثير الأدب العربي علي الآداب الأخري ، وأن يوظف الأدب المقارن من أجل هدف قومي .
منذ أن تشكلت الحضارة العربية الإسلامية دخلت حوار حي مع مختلف الحضارات الإنسانية ولأنها حضارة عريقة تستند علي أرضية فكرية ، وليس علي مظهر عسكري فحسب لم يفقدها ذلك الحوار خصوصيتها ، بل خرجت منه بأفق أوسع ودماء جديدة .
وقد انعكس هذا الحوار علي الأدب العربي ، فتفاعل مع الآداب الاخري وأخذ منها وأعطاها وكانت حصيلة ذلك تجدداً في الشعر وفي النثر وفي سائر الأجناس الأدبية .
إن كل هذا يعني أن فكرة التأثير والتأثر موجودة منذ أن بزغ الأدب العربي إلي الوجود وتشكل في لغة لها رؤيتها الفكرية والفنية وهي حقيقة لا تحتاج إلي بيان تدل عليها الترجمات واقوال الأدباء ، من أمثال الجاحظ وابن المقفع .
فالأدب المقارن هو حقيقة قائمة منذ القديم وكل ما أضافه العلم الحديث هو ذلك المنهج العلمي ، الذي يخضع علاقة التأثير والتأثر للبراهين العلمية والأدلة المادية .
وقد كان للدكتور غنيمي فضل التعريف بهذا المنهج في الأوساط الأدبية والجامعية في العالم العربي ، وإذا كان الدكتور غنيمي قد اعتمد في تعريفه وفي شرحه علي أمثلة أوروبية ، وعلي مصادر فرنسية فإن الخطوة التالية والمتمثلة في المشروع الذي اقترحته ، تنتظر رائداً آخر يكون له فضل تشكيل علم أدب مقارن من منظور التأصيل .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الاول, عبدالحميد إبراهيم