مايو 1 2015
المــرأة أداة سينمائية في الصراع العربي الإسرائيلي .. محمود قاسم
المــرأة أداة سينمائية
في الصراع العربي الإسرائيلي
——-
محمود قاسم (*)
قليلة هي الأفلام العربية المصنوعة عن عالم الجاسوسية ، ورغم ذلك فإن أغلب هذه الأفلام يعتمد في حكايته علي المرأة ، فالجاسوسية هي محور قصص هذه الأفلام والمرأة الجاسوسية موجودة بشكل رئيسي ، بينما يؤدي الرجل دور ضابط الاستخبارات الذي يحاولا تجنيدها ، أو الذي يسعي للقبض عليها .
والجاسوسة امرأة تجد نفسها بين طرفين متصارعين عليها بكل وضوح أن تعمل لصالح أحدهما ، وذلك في مواجهة الآخر ، والصراع هنا في الغالب عسكري وعقائدي، ومصيري مما يعني شكل المواجهة وشراستها والإغراءات التي يقدمهخا طرف من أجل تجنيد جاسوسة ، في مقابل بذل أقصي درجات الجهات من الطرف الآخر للقبض علي هذه الجاسوسة .
ولذا فإن عمل هذه المرأة هو في المقام الأول سري ، يتم في أجواء بالغة الغموض والإثارة ، لذا فإن الجاسوسة لاتسعي للكشف عن نفسها ، ولا عن نشاطها مثلما تفعل امرأة في مهن أخري ، أو في عمليات مختلفة ، فلو تم كشف امرها ،فإن نهاية سيئة تنتظرها بلا شك ، خاصة أنها في أغلب الأحوال تعمل في أرض من تعمل ضده ،ولا نقول العدو ، لأنها في بعض الأفلام المصرية تعمل في بلادها ، أو خارجها لكن وطنها هو ساحة العمل الرئيسي بالنسبة لها .
لذا فهذه المرأة يجب أن تتسم بذكاء حاد مصحوب بحذر ، وسرعة بديهة ، وهي في ذلك يجب أن تكسب الأنصار ، وتقلل من الخصوم من حولها ، وأن تسعي لتجنيد من يقفون إلي جانبها ، ومساعدتها في مهامها ، كما أنها في بعض الأحيان تتكتم أمورها فلا تحتاج إلي ذلك الحشد من الاتباع ، خوفاً مناكتشاف امررها أو إدخالها في نطاق الخطر .
———–
(*) كاتب مصري .
وللمرأة الجاسوسة سمات خاصة ، تتسم بها خاصة في السينما ، فبالإضافة إلي الذكاء ، فأنها يجب أن تكون جميلة ، بالغة الحسن ، والجاذبية ، مما يؤهلها أن تفتك بألباب ، ومشاعر الرجال الذين تتعامل معهم ، ويجعلها تحقق ما تريد بسهولة شديدة ، ويقلل من المخاطر التي تقابلها ،وحسب السينما المصرية ، فإن كافة النساء اللاتي لعبن دور الجاسوسة ، أو حاولت أطراف أخري تجنيدها كن من الحسناوات ، مثل آن سمرنر في فيلم الجاسوس لنيازي مصطفي 1964 ، وشمس البارودي في موسيقيس وجاسوسية وحب لنور الدمرداش 1972 ، ومديحة كامل في الصعود إلي الهاوية لكمال الشيخ 1977 ، وأريد حباً وحناناً لنجدي حافظ 1978 ، ونادية الجندي في ” مهمة في تل أبيب ” لنادر جلال 1990 ، وهالة صدقي في ” فخ الجواسيس ” لأشرف فهمي 1992م ، بالإضافة إلي نساء أخريات رأيناهن في أفلام مثل ،وطني وحبي ، لحسين صدقي 1961 ، و إعدام ميت لعلي عبدالخالق 1985م ، و ” بئر الخيانة ” لعلي عبدالخالق أيضاً عام 1989 وغيرها من الأفلام .
ويبدو الجمال هنا متوحشاً ، بالغ الأنوثة ، بالإضافة إلي اقترانه بالذكاء ، مما يعني تشكيل مثلث لا تنفذ منه المسائل المتعلقة بعملية الجاسوسية مهما كان الأمر ، ولذا فإنه يصعب علي الاستخبارات كشف أمرها .
والجاسوسات اللاتي نحن بصدد الحديث حولهن ، يمارسن العمل ضد الوطن ، ولذا فإنهن خائنات ، ما يسمي بالخيانة العظمي ، رغم ذلك فإنهن الشخصيات الرئيسية فيالفيلم ، والأفلام التي نحن بصددها ،ومطلوب منهم ، من خلال القصة ، ألا يكن بغيضات علي الأقل أمام المتفرج ، لذا فإنهن يمارسن أعمال الخيانة من ناحية ،وعلي الجانب الآخر فإن ذلك لميفقدهن جاذبيتهن ، لذا فإن الجاسوسة ، خاصة حين تكون امرأة ، وحين تصير الشخصية الرئيسية لا بد أن تمتلك سمة أهم من كل السمات السابقة ، وهي أن تصير جذابة ،ومقبولة ، حتي يحتمل المشاهد أفعالها طيلة الفيلم ، ويهمنا هنا أن تعطي مثلاً من أفلام الجاسوسية الأمريكية ، فالجاسوسة التي تعمل إلي جانب جيمس بوند في فيلم ( تحيات من روسيا ) لتيرنس يونج 1962 ، وتساعده في الحصول علي الشفرة ، هي امراة بالغة الحسن ،والجمال والجاذبية ، وتبدو كأنها إلي جانب الحق ،وهو صدره مطاطئ ، أما الجاسوسة التي تعمل ضد العميل البريطاني فهي دميمة ومتزمتة ولا تبتسم ، كما أنها لا تخلع ملابسها للإغراء وتتفتن في أعمال القتال ، وتدبير المؤامرات .
وفي السينما المصرية ، كانت الجاسوسات من الفرع الأول ، ولم نر جاسوسة قط من النوع الثاني ، وقد تكون هناك جاسوسة تعمل إلي جانب الاستخبارات الإسرائيلية في فيلم ” إعدام ميت ” جسدتها سهيلة فرحات لكنها لم تتكلم في الفيلم أكثر من أربع جمل ، وبدت شخصية ثانوية قياساً إلي بقية الشخصيات ، أي أنها كانت بمثابة ديكو شكل خارجي لا أكثر .
لكن ما الذي دفع بهؤلاء النساء إلي احتراف الجاسوسية ؟
أولاً : – هؤلاء الجاسوسات ظهرن في أفلام عن الصراع العربي الإسرائيلي وخاصة بعد حرب 1967 ، وهناك سبب شخصي وعائلي دفع بكل منهن إلي ممارسة هذا العمل، وإن قد بدت البعض منهن قد خدعت في البداية ، حتي سقطت في الشبكة .
وإذا بدأنا بفيلم ” الجاسوس ” فإن سارة التي جاءت من الخارج لمساعدة إحدي العصابات في الحصول علي معلومات سرية ، وأحبت ضابط البحرية الذي يحاول القبض علي رجال هذه العصابة ، والفيلم يصور ضابطاً بحرياً ضد عصابة ، أسوة بأفلام الحركة ، هذه الفتاة الجميلة ، جاءت في الأصل للانتقام لمصرع والديها اليهوديين راشل ، كوهين اللذين يعيشان بمصر ، وماتا مقتولين علي أيدي عصابة أخري ، إذن فقد جاءت سارة لسببين المساعدة في عملية ، ومحاولة إغواء الضابط ، ثم للانتقام لوالديهما ، وتعتبر الممثلة أن سرنر ، وهي الوحيدة التي قامت بدور جاسوسة أجنبية ، وهي بالفعل أمريكية ، وقد تمت الاستعانة بها بعد نجاحها في مهرجان التليفزيون في مصر عام 1963 م ، وفي الفيلم دفعت سارة حياتها في مقابل العمليات التي تقوم بها ، رغم أن حبها للضابط قد شهد تحولاً ملحوظاً في نشاطها ، مما جعل المتفرج يشعر بالأسف علي ما حدث لها عندما أصابتها العصابة برصاصة ، وهذه الفتاة الشخصية الرئيسية في الفيلم ، بمعني أنه لم يكن هناك المعادل المصري لامرأة يحبها الضابط ويدافع عن الوطن من أجلها .
إذن فنحن أمام سبب شخصي في المقام الأول ، ولممارسة امرأة أعمال التجسس، أما النموذج الثاني ، والأكثر وضوحاً ، فموجود في فيلم ” اعتبر أهم أفلام التجسس علي الإطلاق ، فهذه الفتاة مديحة كامل ، الطالبة في الجامعة ، سبق لها أن فشلت في تجربة حب أفقدتها عذريتها ، وأحست كأي فتاة شريفة بأن طريق الزواج مسدود أمامها ،وهي تعيش بين أبوين منفصلين ، الأب لم يحقق في حياته شيئاً ، وهو مدرس بسيط لا يمكن لدخله أن يفي باحتياجات ابنته ، التي يلتفت الرجال حول جمالها ، وبالتالي فإنها أمام أي إغراء لابد أن تقبل المعروض عليها .
وهذا السبب الشخصي سوف يلعب دوراً رئيسياً في القبض عليها ، فهو الخيط الذي يلتقطه رجل الاستخبارات من أجل الإيقاع بها ، وإحضارها إلي تونس ، حيث ستصلها رسالة من الأب، بأن الأب مريض في تونس وعليها التوجه إلي مكانه ، ورغم إحساس الموساد بالخطر الذي يحوط المرأة ، فإنها تذهب ، وتبدو التحذيرات بالغة الحساسية من حولها بعدم الذهاب ، بل أن رجلاً من الموساد يتتبعها في الطائرة من أجل حمايتها ، لكنها تصر علي الذهاب لرؤية أبيها .
إذن ، ففي هذا الفيلم ، كانت أسباب التجديد ، وأيضاً أسباب القبض عليها شخصية ، وعائلية وقد تكرر هذا الأمر في أفلام أخري منها علي سبيل المثال ” فخ الجواسيس ” فالفتاة أيضاً ” داليا ” لديها أسبابها لكراهية بلدها ، حيث أحبطت بإحباط تلو الإحباط ، وقد تم تجنيدها ، مثلما تم تجنيد مديحة ، خارج حدود مصر ، وبدت لقمة سائغة لأن تكون عملية لاستخبارات إسرائيل ، ويكون الدافع الشخصي هو المدخل الأساسي لهذه الأم ، كما أن سبب القبض عليها ، يتعلق بأخيها ، حيث عرفت أنه قد مات علي جبهة القتال ، وأن هذا بدافع إحدي العمليات التي نجحت العسكرية الإسرائيلية في تنفيذها ، وكان الأخ من بين ضحاياها ، وشعرت داليا بعقدة ذنب خاصة ، جعلتها تسلم نفسها إلي الاستخبارات ، وقد عرفنا فيما بعد أن مسألة استشهاد الأخ هذا ، كانت خدعة من الطرف المصري من أجل إلقاء القبض عليها ، أو إحداث التأثير السلبي في أعماقها تجاه ما فعلته .
وقد ظل هذا الدافع الشخصي هو أساس للتجنيد ، والقبض علي الجاسوس في كافة أعمال التجسس في السينما المصرية ، حتي بالنسبة للرجال من الجواسيس مثلما حدث في فيلم ” إعدام ميت ” ولكننا هنا نركز في المقام الاول علي المرأة الجاسوسة ، وقد بدت نفس الأسباب والنتائج بشكل واضح ورئيسي في فيلم مهمة في تل أبيب ، حيث كان السبب هو ابن الجاسوسة التي ذهبت إلي السفارة المصرية في مدينة أوروبية للاعتراف بأنها تعمل جاسوسة ، وأن عليها أنقاذ ابنها ، ومقابل ذلك سوف تكون عملية مزدوجة شكلياً ، ثم تحول الفيلم بعد ذلك إلي مغامرات ، وتغير إيقاعه ، وذهبت المرأة إلي إسرائيل للقيام بعملية أخيرة لصالح الجبهة المصرية .
والجانب العائلي ، والأسري ، هو المركز في أنشطة المرأة التي شهدتها ، والغريب أن الجانب العاطفي يبدو أضعف ، فالنساء في هذه الأفلام أكثر جموداً ، وأقل عاطفية ، حيث لا يمكن أن تلتقي في دواخلهن الحسية العالية التي تتمنع في كل منهن، مع الرومانسية ، ولذا فإنه ليست هناك علاقة عاطفية من جانب المرأة تجاه رجل بعينه ، وعليه فإن قضية المرأة ، أو المشرورع الذي تخدمه يبدو كأنه المحور الرئيسي في حياتها ، ويتحول الرجل إلي أداة في خدمة هذه المرأة ، ومهمتها ، ويبدو هذا واضحاً في علاقة عبلة بالضابط الشاب الذي يحبها والذي يعمل في مواقع الصواريخ علي الجبهة ، فهي تستقي منه الأخبار ، ويصير أداة طيعة في يدها ، ومقابل أن تمنحه الأمل بالتقارب أو ما شابه ذلك .
ويهمنا أن نعطي نموذجاً واضحاً في فيلم الجاسوسة حكمت فهمي لحسام الدين مصطفي 1994 ، فهناك علاقة بين حكمت فهمي وجاسوس ألماني جاء إلي مصر للتخابر علي البريطانيين ، وهي تعيش معه قصة حب بالغة القوة ولكنها حين تعرف بأنه يعمل ضد مصلحة بلدها ،فإنها تقاومه بشدة ، وتعمل علي إسقاطه والإيقاع به ، وقد صور الفيلم الراقصة المصرية ، كامرأة وطنية ، كانت تعمل دون أن تدري في خدمة الجاسوس ، وبالتالي صارت مثله ، ولكنها عندما تكشف الأجهزة الاستخباراتية في غرفته ،فإنها تسعي بكل ما لديها إلي كشفه ، والوقوف إلي جانب الحركة الوطنية المصرية بزعامة عزيز المصري ، وقد تم القبض علي المرأة بتهمة التجسس ، وواجهت الإعدام ، لكنها كانت في المقام الأول قد تخلصت من الجاسوس وساعدت في القبض عليه .
ولسنا هنا بصدد المقارنة بين قصة الفيلم ، وواقع التاريخ ، لكن الجاسوسة هنا شهدت تحولاً في حياتها ، كما أن مشاعرها الوطنية قد تنامت عندما عرفت بحقيقة ما يدور من حولها ، وفي قصص الأفلام الأخري ، فإن المرأة الجاسوسة لم تقع في قصة حب عميقة ، وحقيقية ، وقد صورت الأفلام الجاسوسة كأمراة خالية من أجمل إحساس وهو الحب ، وكأنه بذلك يعطيها التبرير لما تفعله ، ويعني الإحساس بأنها تستحق العقاب الذي ستؤول إليه ، إذا كانت النساء في الأفلام السابقة الإشارة إليها قد اعتبرن أن الأسرة هي نقاط الضعف ، تمتلك غرائز إنسانية ، لا يمكن التخلص منها ، لكن نساءنا هؤلاء لا يعشن قصص حب حقيقية ، مثل داليا المصرية في ” فخ الجواسيس ” حيث أن قضيتها الرئيسية هي العمل الذي يوكل إليها ، وبالتالي فإن الحب أداة بين صدور هؤلاء النسوة ، وهذه السمة كما سبقت الإشارة موجودة لدي كل جاسوسات السينما وإذا كانت السينما الأمريكية قد صورت حالة التحول لدي الجاسوسة لصالح القضية ، مثلما حدث في بعض أفلام عن ماتا هاري ، فإن مثل هذه المنظور لم يحدث في السينما المصرية ، نوع من العمل ومن أساسيات الوظيفية ، ولم تكن لعبلة كامل في الفيلم علاقة شخصية ، حتي ولو جنسية ، مع الرجال من الموساد أو من في المقابل ، فإن هناك علاقات ذات رؤية معاكسة ، حيث صورت لنا بعض هذه الأفلام أن هناك علاقة شاذة بين الجاسوسة ونساء أخريات وفي فيلم ” الصعود إلي الهاوية ” فإن الجنس الرجال محور أساسي للحصول علي الوثائق ، ومشاغلة الدبلوماسيين والعسكريين الجنس هنا نوع من العمل ومن أساسيات الوظيفة ، ولم تكن لعبلة كامل في الفيلم علاقة شخصية حتي ولو جنسية ، مع الرجال من الموساد أو من الرجال العاديين ، إذن فقد انتفت السمة الإنسانية للمرأة فهي لا تحت رومانسياً ، وتدس الجنس بلا روح ، أو إحساس ، ولكنها من جانب آخر تتمتع بممارسة هذا الجنس مع امرأة مثلها ، هي التي صارت صديقة لها في باريس ، وبدن رفيقتها في كل مشاوريها ، وهي التي تقودها بعد ذلك إلي رجل الموساد الإسرائيلي ، والذي يجندها بشكل تدريجي .
وقد ركز فيلم كمال الشيخ علي هذه العلاقة بكل وضوح ، رغم أن الرقابة قد قصت تفاصيل ما بين المشاهد التي جمعت المرأتين فوق الفراش ، وأيضاً من بعض الحوار المباشر الذي يعكس قوتها كما ركز الفيلم في مرحلة ما علي هذه المشاهد ، لكن ما أن تم تجنيد عبلة ، حتي تقلصت العلاقة ، علي الأقل أمامنا ، وذلك بمجرد دخول عبلة إلي دائرة العمل ، إذن فقد كان هذا الجنس الشاذ بين المرأتين بمثابة عمل من ناحية المرأة الموسادية ، وبمثابة متعة من جانب عبلة .
ولا يمكن أن نبعد جانب الإحساس بالمتعة من قبل العاشقين ، أو حتي من قبل الجاسوسة مع الرجال ، لكن المتعة هنا لا تعني قوة العلاقة ، حيث أننا لم نر ما يجمع بين المرأتين بعد ذلك ، ولعل ما فعلته الجاسوسة التي تجند النساء قد سبق تكراره مع نساء أخريات ، وسوف يتكرر فيما مع العميلات الجديدات .
وفي كل الأحوال بدت العلاقات التي تقوم بها النساء ، خاصة عبلة كامل توصية، ومثل هذه العلامات الشاذة لم نشاهدها في أفلام الجاسوسية الأخري ، وإن كان إغراء المال قد سيطر علي النساء في أفلام عديدة ، حيث سرعان ما يرتفع المستوي الاجتماعي الذي تعيش فيه المرأة ، وذلك بالمقارنة مع ظروفها السابقة ، فعبلة كامل تعاني أسرتها من أزمة مالية حادة ، ورغم ذلك فإن أباها أرسلها إلي باريس لاستكمال الدراسة ، وحسب القصة القصيرة التي كتبها صالح مرسي ، فإنه قد تم تجنيد الفتاة بواسطة أستاذ جامعي في القاهرة وأنه اضطر إلي ذلك بعد أن ورطته الموساد في علاقة ما ، وليست هنا إشارة إلي ذلك في الفيلم ، لكن الفتاة لم تكن في بحبوحة عادية حين وصلت إلي باريس ، أو حين صارت واحدة من بنات السوريون ، وقد رأيناها بعد ذلك تعيش في شقة واسعة بالغة الفخامة ، وتصير واحدة من شهيرات المجتمع ، وتفتح محلاً للملابس ، وكل هذا التغيير بالطبع قد دفعت مخابرات العدو ثمنه ، وقد ساعد ذلك علي أن تدعو عبلة إلي منزلها رجال الامجتمع البارز ، خاصة رجال السياسة والخبراء العسكريين السوفييت الذي يمولون مصر بالأسلحة .
وقد رأينا الجاسوسة آمال في فيلم ” مهمة في تل أبيب ” ترتدي الأزياء الفاخرة ، وتعيش في منزل فخم ، وإن كنا نعرف المستوي الاجتماعي الذي كانت تعيش عليه فيما قبل ، وحين ذهبت إلي بيت السفير المصري ، بدت وهي تضع الفراء الثمين علي كتفها وتتكلم بطريقة امرأة ذات حظوة في المجتمع وذلك بالطبع يختلف عن صورة بدايات الشاب الذي ضاقت به السبل في فيلم ” بئر الخيانة ” فدخل السفارة الإسرائيلية ، وطلب منهم مساعدته ، وإخراجه من حنته .
وفي فيلم ” فخ الجواسيس ” كانت داليا فتاة فقيرة ، دفعتها ظروفها الاجتماعية إلي السفر بعيداً عن بلادها ، وهناك كانت لقمة سائعة لاستخبارات إسرائيل ورغم أن أغلب أحداث الفيلم لا تدور في اليونان ، فإن شقة الجاسوسة في القاهرة ، تبدو اقل فخامة مقارنة بالحياة التي عاشتها جاسوسات أخريات في افلام سبقت الإشارة إليها ، وقد جرت أغلب أحداث الفيلم في الشوارع ، حيث يقوم رجال الاستخبارات المصريين بتتبع أنشطتها ، وهي تستعمل الهاتف العربي في عملياتها .
ومن هذه الأفلام ، لم نر الجاسوسة تقبض بشكل مباشر ، ولكن التغيرات التي عاشتها كل منهن ، توحي بأنها قد أخذت كافة استحقاقاتها ، سواء في شكل عيني ، أو في رفع مكانتها داخل المجتمع ، وليست هناك جاسوسة فقيرة في افلامنا هذه ، ولم نر أيا منهن تعيش في مجتمعات شعبية أو فقيرة .
إذن فخيانة الوطن في كل هذه الأفلام ، تتم مقابل مبالغ مالية كبيرة ، وتحول اجتماعي ملحوظ ، ولعل هذا التحول المفاجئ ، يجعل تردد النساء قليلاً للغاية عندما يعرض عليهن العمل في هذا الميدان المبهر ، وتبدو أغلب النساء جامدات المشاعر بشأن مصائرهن المنتظرة فيقدمته بذكاء حتي لا يتم اكتشاف أمرهن .
ورغم ذلك فإن نهاية كل جاسوسة في هذه الافلام تبدو شديدة المأساوية بالنسبة للنساء اللاتي لم يرجعن عن خيانتهن ، وتبدو طبيعية بالنسبة لهؤلاء اللاتي قررن القيام بعمليات لصالح بلادهن ، في مقابل العمليات التي قامت بها كل منهن فيما قبل .
ومصير المرأة في فيلم ” مهمة في تل أبيب ” أشبه ما فعلته الجاسوسة حكمت فهمي ، فهذه الأخيرةر أحست بالخوف الشديد علي مستقبل وطنها ، وأحست بالخطر وشاركت المناضل عزيز المصري في القيام بعمليات فدائية ضد المصريين ، وساعدت الضباط الأحرار في تحقيق بعض أهدافهم ، وقد تم القبض علي المرأة من قبل قوات الاحتلال البريطاني ، وصدر الحكم بإعدامها رمياً بالرصاص لكن الضباط الأحرار يقومون بانقاذها في اللحظة الأخيرة .
إذن ، فنحن امام امرأة مناضلة ، أكثر منها جاسوسة ، والتجسس هنا لصالح الوطن ، أما في ” مهمة في تل أبيب ” فقد كان علي المرأة أن تعود مرة أخري إلي إسرائيل من أجل تبليغ معلومات غير صحيحة ، وهي تتعرض لمواقف يتعاطف معها المتفرج حين يتم التعرف علي درجة صدقها ، بواسطة أجهزة كشف الكذب ، وهي تعذب ببشاعة ملحوظة ، ويتم مبادلة جسدها بعد موتها بجاسوس آخر يعمل صالح إسرائيل ، ونكتشف أنها علي قيد الحياة وأن الأمر كله لا يعدو وأن يكون خدعه من الاستخبارات المصرية .
وقد بدا هذا المصير مشابهاً بالنسبة لداليا حيث صارت بطلة قومية في منظور الاستخبارات المصرية بعد أن عملت لمصلحتهم ومن بين تظاهر مكاناتها أن اكتشفت من أخاها الذي تصورتها قد مات علي الجبهة حي يرزق ، لكن الأمر اختلف بالنسبة لكافة الجاسوسات الأخريات ، فسارة في فيلم ” الجاسوس ” قد ماتت بطلقات رصاص أثناء مطاردات بين عصابتين دوليتين تسعيان للحصول علي سر عسكري بالغ الخطورة، حين أطلق عليها زعيم عصابة الرصاص فأرادوها قتيلة ، وقد رأيناها بعد أن أصيبت بالرصاصة وقد تمددت فوق الأرض تتأوه ، بينما بقية الأفراد يطاردون بعضهم في أروقة دار كبري ، مزدحمة بالأشخاص الذين جاؤا بحثاً عن السر .
أما مصير عبلة كامل فإننا لم نعرفه إلا من خلال جملة أشار إليها الفيلم في آخر مشاهدة ، وهو أنه تم إعدام الجاسوسة ، بعد فترة قصيرة من القبض عليها ، مما يوحي سرعة المصير الذي تؤول إليه أي خائنة لوطنها ، وقد تلقت المرأة مصيرها بأعصاب باردة ، حين تم القبض عليها في مطار تونس ، فلم تبد أي مقاومة ، ولم يكتسي وجهها بمشاعر الندم أو الخوف وفي مقابل هذا نظر ضابط الاستخبارات من كوة الطائرات ، واشار إليها ليردد الجملة التي صارت قولاً مأثوراً هي دي مصر باعبلة ، ولم نر انعكاس هذه الجملة علي وجهها ولكن ، كافة مشاهد الطائرات التي أعادتها إلي وطنها لم تنطق المرأة بكلمة واحدة ، وبدت ملامحها بالغة الجمود ، مما عكس تماسكها الداخلي ، وهو يتسق مع ما سبق أن قامت به ، حيث تموت روحها من أي إحساس بالمراجعة أو الندم ، وكأن كل الداخل قد مات في أعماق هذه المرأة .
كان دور الجاسوسة بمثابة تحول حقيقي في حياة الممثلة التي جسدت هذا الدور فقد كان علي مديحة كامل أن تنتظر عشر سنوات ، منذ دخولها إلي عالم السينما عام 1967 ، كي تقوم بدور البطولة في الصعود إلي الهاوية ، وهو دور رفضته الكثير من الممثلات ، حيث تؤديه عادة ممثلة تبحث عن شهرة ، باعتبار أن الجاسوسة قد تفسد العلاقة بين النجمة ، وجمهورها ، وقد كان هذا الدور بمثابة فاتحة خير لدخول مديحة كامل عالم البطولات المطلقة والنجومية ، واعتبر النقاد أنها لم تكرر نفس الأدوار في فيلم آخر ، وقد عكست الكاميرا مديحة كامرأة فائقة الأنوثة والجاذبية ، بالغة خفة الظل.
أما بالنسبة لهالة صدقي ،فإن الدور الذي نقلها أيضاًُ من الأدوار المساعدة إلي البطولات المطلقة ، ورغم أن هالة قد تعثرت في تحقيق النجومية المنشودة فيما بعد ، فإن دوررها هنا لم يترك أثره باعتبار أن الفيلم لم يركز علي فتنة المرأة ، وجاذبيتها حيث أنها امرأة ذات شقين ، رأيناها في الجانب الخائن ، ثم الجانب الوطني ، ولم يشأ الفيلم أن يقدم داليا المصرية كامرأة سيئة السلوك ، ولا شك إن إضافة أنوثة طاغية علي الشخصية يجعلها أكثر جاذبية وقبولاً .
ولعل نادية الجندي وأدوارها في أكثر من فيلم ، كان بمثابة تحصيل أمر حادث فعلاًَ باعتبار أنه لا جديد في أي أداء تؤديه في الأفلام العديدة ، وأنها تكسر الشخصيات التي تجسدها بشخصيتها هي ، أما أنه لا فرق بين تعبيرات الوجه التي تبدو عليها وهي تلعب دور الجاسوسية ، أو زوجة البواب ، ولا شك أن دور الجاسوسة يأتي مناسباً علي نسق الممثلة لعرض أكبر قدر من الأزياء الفخمة ، والقيام باستعراضات غنائية راقصة.
وقد جسدت دور الجاسوسة أيضاً الممثلة الأمريكية أن سمرنر ، وشمس البارودي في موسيقي وجاسوسية وحب ، أما في فيلم وطني وحبي ، فلم نر جواسيس من الرجال ، وقد خلت بقية أفلام الجاسوسية الأخري من وجود جاسوسات ، حيث اعتمدت في المقام الأول علي الرجال الذين يمارسون التجسس وقد عددنا هذه الأفلام في بداية حديثنا عن شكل الجاسوسة في السينما مثل ” بئر الخيانة ” و ” إعدام ميت ” و غيرها من أفلام .
مايو 1 2015
السينما العجــوز والمخاض الجديد ……… د. نبيل سليم
السينما العجــوز
والمخاض الجديد
—–
د. نبيل سليم (*)
بعد مرور أكثر من مائة عام علي اختراع السينما ما زلنا نغرق في أسيجة العبث التنظيري حول الأسس النظرية الواحدة الكامنة أصلاً في طبيعة هذه السينما العجوز التي تحتاج إلي مخاض جديد يجعلها تلد إيداعاً رفيع المستوي يعبر بصدق عن جماليات الفن السابع .
رغم الأزمة التي تمر بالسينما العربية هذه الأيام ، ورغم الضوء الأحمر الذي يحمل إشارة الإنذار والذي يشتعل في أكثر من منعطف ، ورغم الصرخات المتوالية ذات الأصداء العالية التي يرددها الكثير من العاملين في الوسط ، منتجين وموزعين ، وأبطال ، فإن هناك مخاضاً يتم في صمت بجنبات هذه السينما العجوز التي لا زالت قادرة علي العطاء مخاض يتمثل في أشياء جديدة تحدث في أسلوب خاص يحاول أن يفرض نفسه .. في طريقة مميزة لرسم الشخصيات والأحداث ، وأخيراً في جو عبق ، ورائحة ذكية يتسلل من بين العشرات من الأفلام التي تشبه بعضها البعض حتي ليخيل للمرء أحياناً أنه يشهد مسلسلاً ( سينمائياً ) واحداً ، يراه رغماً عنه من خلال أفلام تتناثر في أكثر من مكان .
لذلك يقف المشاهد وقفة المتأمل أمام النماذج والوجوه والشخصيات الجديدة التي تطل علينا بملامحها الصاخبة الصادقة ضمن غابة من الأقنعة التي فقدت بريقها وتأثيرها وغموضهاً .. والطريف أن هذا الجديد في التعبير – لا يأتينا دائماً – كما هو متوقع من مخرجين جدد ، وإنما من مخرجين كبار وقدامي وصلوا إلي آخر الشوط ، ولم يعد يهمهم التجديد والإبهار ، بقدر ما يهمهم الاحتفاظ بمكانتهم الفنية وسمعتهم لدي جماهيرهم .
———-
(*) طبيب وناقد فني مصري .
فهل يمكن صنع فيلم ذو سوية فكرية وفنية رفيعة محققاً في الوقت ذاته حضوراً جماهيرياً قوياً علي الشاشاات الكبيرة والصغيرة ؟ .. ألا يبدو مثل هذا السؤال بعد مرور أكثر من قرن علي اختراع السينما ، نوعاً من العبث التنظيري فقط لا غير ؟ .. ربما لكننا لا نستطيع – رغم ذلك – نفي ظاهرتين أفرزهما هذا التاريخ القصير العجوز، ويبدو من خلالهما أن الإجابة عن هذا السؤال لم تزل إشكالية ، وما زالت تنتظر مزيداً من البحث والفحص والجدل والتحليل .
الظاهرة الأولي :
تتمثل في وجود عدد كبير من الأفلام التي تنتمي إلي كنوز السينما العالمية ، والتي لم تحظ بأية جماهيرية لا وقت ظهورها ولا فيما بعد ، كالعديد من الإنتاج الجاد في بلدان العالم الثالث ، والأخري استطاعت تجذب الجماهير في مرحلة ما ومن ثم فقدت بريقها مع مرور الزمن ، مثل أفلام الواقعية الإيطالية التي من المستبعد أن تحظي اليوم بجمهور كالذي رافقها في نهاية الأربعينات والخمسينات ، وبقي يدافع عن ملامحها حتي بداية السبعينات أو أفلام استطاعت الوصول إلي الجمهور في بلدان ، أو مناطق محددة دون غيرها ، كالكثير من الأفلام السوفيتية التي غالباً لم تلق الرواج في الخارج كما في الداخل فنجوم الكوميديا السوفيتية من مخرجين وممثلين علي سبيل المثال ، ما زالوا مجهولين في جميع أنحاء العالم ، في الوقت الذي استطاع أقرانهم في أوروبا والولايات المتحدة أن يصنعوا لأنفسهم أسماء لامعة ومعروفة في كل مكان ، ولعل سينما الحرب السوفيتية كانت الأوفر حظاً في الانتشار والجماهيرية ، إلي درجة ساد معها الاعتقاد بأنها السينما الوحيدة التي أنتجها الإتحاد السوفيتي .
أما الظاهرة الثانية :
فيمكن أن نطلق عليها ظاهرة السينما الأمريكية الجادة ، وهي كفاعدة عامة وجدت طريقها إلي الجماهير لا في بلدها فحسب بل وفي معظم بلدان العالم . وقد يعود سبب ذلك إلي ارتباط السينما الامريكية منذ البداية بصورة متجذرة بآليات السوق ، وبما أفرزته من احتكارات ضخمة علي الإنتاج السينمائي ، إذ وصل نصيب هوليود وحدها في الثلاثينيات إلي نحو 90 % من مجمل الإنتاج ، مقابل 10 % فقط للإنتاج السينمائي المستقل ، مما أدي إلي تبلور تقاليد إنتاجية راسخة لم تحد عنها حتي السينما الأمريكية الجادة ، محافظة منذ بدايتها وحتي اليوم علي علاقة حميمة مع شباك التذاكر ، وذلك من خلال أربعة عناصر هيكلية نوجزها فيما يلي :
1- فنون الدعاية والإعلان .
2- صناعة النجوم .
3- المضمون الفيليم .
4- أساليب التناول الفني .
إذا نحن إزاء ظاهرتين متناقضتين تماماً تطرحان أمامنا عشرات الأسئلة التي تصب جميعها في سؤال جوهري واحد : ما هو سر جماهيرية الفيلم السينمائي ؟ الحقيقة بصدد مجموعة كبيرة من الأسرار الكامة في ثنائيا علاقة الجمهور بالسينما ، وبالتالي نحن نناقش طبيعتين مختلفتين من الأشياء الأولي تكمن في آليات تفاعل وعي الجمهور مع ما يشاهده والثانية في مضامين واساليب التشويق السينمائي في الفيلم ، ونحن نستخدم مفهوم التشويق هنا بمعني جميع الأدوات الفيلمية التي تسعي لأعلي مستوي من تفاعل الجمهور مع الفيلم ، وضمن نقاط تقاطع هاتين الطبيعتين سنحاول التماس الأجوبة.
من المعروف أن وعي الجمهور يبني علاقته مع الفيلم علي مستويين أساسيين البطل من جهة ، والحديث بكل ما يحمله من مدلولات معرفية وبصرية وسمعية من جهة ثانية .
علاقة الجمهور بالبطل :
إذا وسعنا نموذج ” هانز روبرت باوس ” لأنماط تفاعل الجمهور مع البطل سنستخلص ستة أنماط : التقمص ، الإعجاب ، المقارنة ، التعاطف ، النفور ، الحياد .. ولنتناول كل نمط من هذه الأنماط بشئ من التفصيل :
1- التقمص : وفيه يضع المشاهد نفسه مكان للبطل ، وهو قد يكون كلياً بمعني أن يرافق المشاهد بطله طيلة الفيلم ويعيش معه معاناته وأفكاره ومشاعره وصراعاته ونزواته وانتصاراته .. إلخ ، وقد يكون جزئياً ، عندما يتخلي المشاهد عن بطله في أحد مشاهد الفيلم نتيجة تمرد الأخير علي مرجعية الأول سواء كانت أخلاقية أو سياسية أو أيدلوجية ، ونحن نتكلم هنا عن مرجعية كامنة في الوعي الباطني للمشاهد ، وهي ليست بالضرورة تلك السائدة في المجتمع ، وإلا بماذا نفسر إقبال إعداد كبيرة من المشاهدين – في بلادنا – علي الأفلام الجنسية ؟ … ثم أليس البطل الثوري نموذجاً محبباً للتقمص لدي جمهور خنقته الأنظمة الديكتاتورية ؟ … أما التقمص الجزئي فيظهر عندما يلتقي المشاهد مع بطل لم يتقمصه في الأساس ، وإنما وجد نفسه يحتل مكانه في مشهد أو أكثر من الفيلم .
2- الإعجــاب : التقمص يتطلب شخصيات في متناول الجمهور سواء من حيث الانتماء الطبقي أو التركيبة النفسية والأخلاقية أو الإمكانيات الجسدية أو الوضع الاجتماعي أو القدرة الذهنية والموهبة أو المكانة التاريخية .. إلخ مما يجعله عاجزاً عن فعل التقمص أمام أبطال يتفوقون عليه في كل ذلك أو في بعض منه فلا يبقي أمامه سوي الإعجاب بشخصيات محددة كالعصامي أو المسيح أو ابن رشد أو صلاح الدين … إلخ .
3- المقارنــة : يقع هذا النمط غالباً بين النمطين السابقين ، فالإعجاب يولد في بعض الحالات عند الجمهور محاولة لتقمص ما لا يمكن ، مما يدفع به إلي مقارنة ذاته مع بعض جوانب شخصية البطل ( كالوضع المادي أو السلوك ) ، كما أن النفور من البطل يولد مشابهة يشعر الجمهور فيها بنوع من التفوق عليه.
4- التعاطف : يرفض الجمهور وبصورة قاطعة التمادي مع البطل الضعيف مهما يكن نوع هذا الضعف ( جسدياً أو نفسياً أو اجتماعياً ) لكنه لا يرفض وجوده ، إذ أنه مع هذا النوع بالذات من الأبطال يمارس لذة التفوق عندما يحقق في ذهنه خيارات ويتخذ قرارات ويقدم علي أفعال تتجاوز قدرة البطل ، وقد يدفعه ذلك إما إلي الاشفاق عليه والتعاطف معه ، أو إلي النفور منه ، ومن الجدير بالذكر أنه في بعض الحالات يدفع البطل غير المتكامل الجمهور إلي الإعجاب به كما هي الحال مع الأبطال المصابين بعاهة ما لم تمنعهم من اجترار الأعمال العظيمة .
5- النفــور : غالباً ما ينشأ هذا النمط من التفاعل عندما يتعلق الأمر بالبطل السلبي كالمجرم أو المستعمر أو الديكتاتور أو الخائن إلخ .. أي مع بطل يرفضه الجمهور ويوجه نيران كراهيته نحوه ، لهذا السبب أو ذاك ، دون أن ننسي أننا نتكلم عن مفهوم سينمائي للطبل السلبي ، وليس عن مفاهيم سلبية لهذه الشخصيات ، فالمجرم علي سبيل المثال يقدم في كثير من الأفلام السينمائية علي أنه بطل إيجابي .
6- الحيــاد : في الحقيقة هو نمط من اللاتفاعل بين الجمهور والبطل ، ناجم عن عدم فهم الجمهور لنموذج البطل المقدم في الفيلم ، لما يحمله من دلالات غربية في مضمونها ومجهولة تماماً بالنسبة إليه ، وهو ما يؤدي إلي ابتعاد الأخير عن الفيلم بأكمله – أو لضعف ملامح هذه الشخصية – مما يجعل علاقة الجمهور بها واهية وضعيفة لدرجة الحياد ، أو أنها قدمت بأسلوب لا يدع أي مجال للتمادي معها .
نلاحظ من خلال ما تقدم أن علاقة الجمهور بالبطل لا يمكن دائماً حصرها وفق نمط من أنماط التفاعل ، فكثير ما ينتقل الجمهور بين أكثر من نمط ، كأن يتحول في علاقته من التعاطف إلي الإعجاب ، أو من الإعجاب إلي المقارنة أو من التقمص إلي النفور .. وهكذا .
لكن لا شك في أن لهذه الأنماط مستويات مختلفة من الفاعلية الجماهيرية وجعل الجمهور ينتقل بين هذه المستويات ، قد يصب في جماهيرية الفيلم أو العكس ، قد يصب في جماهيرية الفيلم أو العكس ، إذ يعتمد ذلك علي اتجاهات التنقل من جهة ، وعلاقة الجمهور بالحدث ومفهوم التشويق السينمائي من جهة ثانية .
علاقة الجمهور بالحدث :
ومن الواضح أن نمط تفاعل الجمهور مع البطل يخضع – بهذا الشكل أو ذاك – لتفاعل البطل نفسه مع الأحداث التي تحيط به وتحركه ، مما يخلق بدوره أنماطاً متعددة لتفاعل الجمهور مع هذه الأحداث ، وهي تنقسم إلي خمسة أنماط : التأمل ، التخيل ، التذكر ، الإثارة ، اللامبالاة ، ولتناول أيضاً كل نمط من هذه الأنماط بشئ من التفصيل.
1- التأمل : وينشأ هذا النمط عندما يقيم الجمهور علاقة واعية (غالباً تكون غير إرادية) مع ما يشاهده ، فيبدأ بالتحلل والمقارنة والاستنتاج وينتهي برفض أو قبول الخطاب الذي يقدمه الفيلم ، أو بعض مشاهده ( سواء كان هذا الخطاب مباشراً أو يصل من خلال السياق العام للفيلم ) وكثيراً ما يتسم هذا النمط بنوع من القدرية السينمائية ، التي تخضع وعي الجمهور بصورة مطلقة للخطاب الفيلمي وتجعله يسلم تماما بهذا الخطاب ،كما أنه في حالات أقل يتسم بـ
( فاعلية سينمائية )تحرض وعي الجمهور وتدفعه إلي إعادة التفكير في مسلمات وبديهيات فرضت عليه وفي الحالتين يتحول الجمهور من المشاهدة السلبية إلي الفعل والتأثير في الواقع المحيط به .
2- التخيل : لعل هذا النمط من تفاعل الجمهور مع الحدث هو الأكثر انتشاراً ، إذ يشكل لهذا الجمهور كنزاً لا يفني من الأحلام المصورة التي يجد فيها نظيراً لأحلامه وآماله الخاصة التي يقمعها الواقع بقسوة شديدة ، بل إن السينما تقدم له هذه الأحلام بصورة أكثر تكاملاً وإبهاراً وجمالاً وأشد إقناعاً وتأثيراً ، ويتم التخيل عبر آليتين : إما أن يقحم الجمهور نفسه داخل الفيلم متقمصاً أحد أبطاله ، أو يجد لنفسه مكاناً وهمياً بين جميع الشخصيات المشاركة في الأحداث ، وذلك عندما يدرك في وعيه استحالة نقل الواقع الفيليم إلي واقعه الحياني ( رغم أن مثل هذا النقل قد يتم في مستوي متدن من الوعي كما هو الحال عند القاصرين مع الجمهور ) .. أما الآلية الثانية فتتم عبر استخراج الجمهور لبعض عناصر الواقع الفيليم ومع واقعه الحياتي ، مما يخلق لديه عملية تخيل
( أحلام يقظة ) تسير بصورة متناظرة وأحياناً متقطعة مع عملية المشاهدة ، وقد تستمر إلي ما بعد انتهاء الفيلم ، مرتبطة أحياناً بأحلام مستقبلية .
3- التذكر ، كما تحرك السينما في وعي الجمهور تخيلات مستقبلية ، تقوم كذلك بتحريض ذاكرته عندما تعرض له أحداثاً تتقاطع مع ماضيه ، وقد تكون هذه الذاكرة ” مشتركة ” عندما يتعلق الأمر بأحداث تاريخية ، إما بعيدة حيث يكتسب الماضي بعداً تجريدياً ، يستعيده الجمهور علي أساس خبرته المعرفية ، التي غالباً ما يكون متيقناً منها لدرجة توجسه ورفضه لأي نقد يمسها ، أو قريبة علي أساس مشاركته الفعلية في ماض واقعي تماماً ، وقد تكون هذه الذاكرة ، خاصة بكل فرد علي حده من الجمهور ، عندما يحفزها حدث أو حالة أو موقف لاستنباط نظير مشابه عايشه في الماضي .
4- الإثــارة : وهو نمط من التفاعل يرتكز بصورة أساسية علي أحاسيس وغرائز الجمهور ، وعلي قاعدة هذا النمط بالذات ظهرت وتبلورت أجناس سينمائية كاملة ذات رصيد عال في بورصة الجماهير ، اعتمد كل منها إحساساً أو غزيرة بعينها لدي الجمهور .. فالميلودراما سعت نحو الحزن ، والكوميديا نحو البهجة ، وأفلام الرعب نحو الخوف ، وافلام الجنس نحو التهييج ، وافلام الويسترن نحو العنف .. إلخ دون أن ننسي إمكانية توظيف عناصر من هذه الاجناس كلها في أفلام سينمائية تختلف عنها من حيث تركيبتها الدارمية والفنية لتشكل عامل جذب ، يفقد الفيلم من دون كل إمكانية للتواصل مع الجمهور .
5- اللامبــالاة : إذا كانت الأنماط السابقة تشكل تفاعلات متفاوتة بين الجمهور والفيلم وتؤدي في المحصلة النهائية إلي الجماهيرية بهذا الحجم أو ذاك ، فإننا عند هذا النمط نتعامل مع تفاعل في منتهي السلبية أو مع انتفاء لكل تفاعل بين الجمهور والفيلم ، ونستطيع إرجاع ذلك إلي عاملين أساسيين :
الأول : ناجم عن طبيعة موضوع الحدث (التيمة) وكثيراً ما حدث في تاريخ السينما أن أبدي الجمهور في هذا البلد أو ذاك قابلية لاستقبال موضوعات محددة دون غيرها في مرحلة زمنية معينة وهو ما جعل من ” التطرق إلي موضوعات جديدة تخرج عن السائد” ، مغامرة إنتاجية قلما خاضها المخرجون ، ورغم ذلك استطاع الكثيرون منهم الوصول إلي الجمهور ، لكن هذه الإمكانية من التواصل تنتفي تماماً عندما لا يعي الجمهور علي الإطلاق طبيعة الموضوع ، وبالتالي مجمل الخطاب الذي يقدمه الفيلم .
الثاني : يعود طبيعة المعالجة الفنية أو الفكرية أو الاثنين معاً للحدث ، فطبيعة المعالجة الفنية قد تفضي إلي عدم فهم الموضوع ، ولعل أكثر ما يعاني هذه المشكلة ، الأفلام ذات التوجهات الحداثية والتجريبية ، التي قد ينتفي الموضوع في بعضها فعلاً ، كما أنها – أي طبيعة المعالجة – قد لا تمكن الجمهور من التواصل مع مجريات الحدث رغم إدراكه لماهية الموضوع ، أما علي مستوي المعالجة الفكرية فمن الواضح أن الجمهور سيرفض وبصورة مبدئية وقاطعة أي خطاب فيلمي ” فج ” يقع في تناقض صارخ مع مسلماته التاريخية والدينية والسياسية .. إلخ .
ومن الجدير بالذكر أيضاً أن المبالات قد تصبح نمطاً من التفاعل حتي قبل مشاهدة الجمهخور للفيلم ، علي أساس خبرته تجاه أفلام تنتمي إلي جهة معينة مثلاً ( بلد أو مؤسسة ) .
من كل ذلك نستنتج أنه علي أساس تحريض الفيلم لأكثر الأنماط فاعلية في علاقة الجمهور مع البطل والحدث ، ستتحدد جماهيرية هذا الفيلم ، وبالتالي كان لابد للفيلم أن يخلق خلال تايخ السينما القصير بالنسبة للمسرح مثلاً – مستفيداً من تاريخ المسرح والأدب الطويلين – عناصر متعددة للتحريض تنتدمج جميعاً فيما أطلقنا عليه في البداية مصطلح ” التشويق السينمائي ” .
والحقيقة إن كل ما يدخل في نسيج الفيلم السينمالئي – ابتداء من القصة بكل ما تقتضيه من أحداث وشخصيات وطبيعة معالجة ،وانتهاء بمختلف الوسائل التعبيرية للسينما ، من تصوير وإضاءة ومونتاج وإيقاع وميزانسيين وديكور وتمثيل وموسيقي ومؤثرات صوتية .. إلخ – يمكن له أن يصبح أداة تشويق للجمهور ، بنفس القدر الذي قد يتحول فيه إلي ذريعة للإحجام عن الفيلم ، وطالما نحن أمام إمكانيات دائمة ومفتوحة لمعالجات جديدة وأساليب مبتكرة في ، تناول مختلف الموضوعات التي تطق إليها الفن عبر تاريخه الطويل ، وبصورة أعقد أمام أبجدية سينمائية ذات قدرة تعبيرية لا متناهية، قادرة باستمرار علي إيداع تراكيب بصرية سمعية ، متحركة ومتداخلة ، تخلق بدورها مؤثرات خاصة وجديدة في كل مرة علي الجمهور .
وطالما نحن أمام كل هذا . فهل نستطيع حصر أدوات التشويق السينمائي ، من أجل صنع إكسير جديد يمنح هذه السينما العجوز بعض الحيوية لتستعيد فتوتها وشبابها؟.. من الواضح أنه حتي لو توافرت إمكانية كهذه فهي تحتاج إلي الكثير من الجهد والدراسة والتقصي .. وستبقي نسبية علي مستوي الزمان والمكان .
المراجـــع :
1- د. رفيق الصبان ، ملامح جديدة في السينما العربية ، القاهرة ، 1999م .
2- نوار جلا حج – كيف نصنع فيلماً جماهيرياً ، أم كيف نصنع جمهوراً لفيلم جاد – دراسة – الفن السابع – 1/ 2000 م .
3- د. نبيل سليم – الفن السابع .. أين الخلل ؟ دار الانتشار العربي ، ط1 ، القاهرة – 1999م .
4- د. نبيل سليم – السينما العربية بين الزهد والتواجد ؟ – دار الجامعية للنشر – الإسكندرية ، 2000م .
بواسطة admin • 02-ملف العدد • 0 • الوسوم : العدد السادس عشر, د. نبيل سليم