مايو 2 2015
جماليات المكان في المقامة العربية(حديث عيسى بن هشام نموذجا)… د.أحمد الهواري
جماليات المكان في المقامة العربية
(حديث عيسى بن هشام نموذجا)
ـــــــــــ
د.أحمد الهواري
يعد المكان من عناصرالبناء القصصي الذي تدور فيه الأحداث،وتتحرك الشخصيات ،فكل حادثة لابد أن تقع في مكان معين،وترتبط بظروف وعادات ومبادىء خاصة بالمكان الذي وقعت فيه”عزيزه مرين”القصة والرواية، دمشق،.دار الفكر العربي،(30،1979)وهذا يضفي على جو القصة حيوية،لأنه يمثل البطانة النفسية للقصة ،المكان هو بمثابة الجلسة Sttiug حيث يجسد أو يحتوي الأحداث ويقوم بالدور الذي تقوم به المناظر أو الديكور على المسرح بوصفها بعداً مرآويا،أو مرئياً يساعد خيال القارىء تجسيد الصورة الروائية.
ويلعب المكان أو البيئة بصورتها القائمة وتقاليدها، وعادات الناس فيها،وعلاقاتهم بعضهم ببعض دوراً أساسيا في العمل القصصي لإظهار المضمون الاجتماعي أو السياسي للقصة.كما يمثل أو يجسد المكان إيقاع المجتمع وهو في مرحلة الانتقال،وتكتسب الشخصيات في العمل القصصي، بوصفها أمثلة للسلوك الإنساني مصداقيتها بمقدار تمثيلها للواقع.
وقد يعطي الكاتب أولوية للبيئه الخارجية أو المفتوحة على نحو مانرى في فصل “المحكمة الشرعية”أو البنية الداخلية أو المغلقة على نحو مانرى في فصل الدفترخانة الشرعية”في حديث عيسى بن هشام وهنا يعكس الانطواء الجسدي للشخصية وقد غاصت في أضابير الدفترخانة تنزوي ،إلى الداخل علاقة السلبية والاحتماء في هذا”الركن”المنعزل حيث تنزوي الشخصية،وقد تطامنت مع واقعها.
وللتأمل في هندسة العزلة يدرك أن الشخصية حيت تأوي إلى الركن المنعزل في محاولة أن تخلو بذاتها،وتتأمل مصيرها، إنما تطل على فجر هويتها أو على حد تعبير “رللكية”أنا المكان الذي أوجد فيه”باشلار ،جماليات المكان:135)أن تحد هويتها بعيدا عن زحام “الكتل”أن تشعر بفرديتها في موجهة المجموع.فالمكان ليس مجرد حائط مادي بل احتواء معنوي للشخصية.
فالمكان يشكل الحلقة التي تربط بين الفارغ والممتلىء.إن الكائن الحي يملاً المكان الفارغ، فتقطنه الصور، والأركان، إن لم تكن مقطونه،فهي على الأقل مسكونة بالأشباح (جماليات المكان:137)
ويلعب المكان دوراً كبيراً في الحياة الاجتماعية فمن المسلم به أنه لا يوجد في نطاق المكان حرية بدون حد أدنى من التنظيم ولكن هذا التنظيم هو تهديد لكل شخص فحيث يوجد التنظيم تنشأ “السلطة” التي تقوم على دعم هذا “التنظيم”. ومن هنا فقد يكون التنظيم الذي تنهض به السلطة في “المكان” هو بمثابة دعم للحياة وللنشاط في “المكان” وقد يكون حلجزاً أمام حياة التواصل.
وبالنسبة لمن لا يهتم بالأشكال الملموسة للحياة الاجتماعية ، للرابط المكاني للمجموعات، للروابط التي توحدها والحدود التي تفصل بينها .والمناطق التي تنتشر فيها تبدو هذه الثغرات أنها غير هامة :ألا يكفي القول بأن جماعة ما، طبقة،فرداً، هم قادرون أن يفرضوا إرادتهم على الآخرين لتفسير كل شيء؟يبدو الأمر هكذا،ولكن الحقيقة هي عكس ذلك ،مما يعني تجاهل أثر المسافة والامتداد:وفقا لتصرفالإنسان تجاه الآخرين ،كان يفرض إرادته بالقوة ويجعلها مقبولة بفعل السلطة التي يملكها. باستخدام مواهبه وجاذبيته التي يعرف كيف يكتسبها، مستفيدا من مركزه الاقتصادي ووضعه الجغرافي،أو من قدراته على إيجاد الحلول الجديدة وجعلهم يتبنونها فالحدود المكانية للتأثير الإنساني تختلف. ففي بعض الحالات، لاشيء يقف أمام اندفاعاته.
وتتطلب ممارسة السلطة تنظيما خاصا للمكان. وهذا غير ممكن إلا في حدود “الأمكنة” المسورة حيث كل الأجزاء يمكن أن يصلها الذي يقوم بالمراقبة أو التفتيش،والتي تكون مخارجها ومداخلها محروسة بحيث تكون كل حركات الدخول والخروج مراقبة ،وعند الضرورة ممنوعة.
فالمكان هو أحد الدعائم المفضلة للنشاط الإنساني. ينظر إليه من يسكنونه أو من يعطونه قيمة وذلك بطرق مختلفة. يضاف إلى الامتداد الذي يشغلونه، يتجولون فيه ويستعملونه،في فكرهم، امتداد يعرفونه ويحبونه والذي هو بالنسبة إليهم رمز أمان، باعث عزة أو مصدر قلق. يعيش المكان وكذلك في شكل صورة عقلية هي كذلك هامة من أجل فهم أشكال المجموعات والقوى التي صنعتها أكثر من الخصائص الحقيقية للأرض التى يقيمون عليها ،(بول كلا فال)،المكان السلطة 1990،24).
ويلامس “المكان”نكانة في القلب كما عبر الشاعر:
لك يامنازل في القلوب منازل
اقفرت أنت وهن منك أواهل
وكما يقال في المثل “الدارعامرة بأهلها”،”والبيت عامر بأهله”فكيف –بعد هذه الإضاءة لجماليات المكان-صور “المويلحي” إحساسه بالمكان.؟
يحاول محمد المويلحي (1858-1930)أن يوظف “المكان”فنيا في محاولة أن يجسد نقده للعيوب التي تعتور البناء الاجتماعي ونلتقط “فصل المحكمة الشرعية”لنفحص “سرديات” النص، فهؤلاء القوم الذين يغشون “المحكمة الشرعية” تحسبهم جمعيعا وقلوبهم شتى .والمكان – المحكمة – يمثل الثابت بينما المتغير من يغشى المكان .وعين “المويلحي عين راصدة تجتهد أن توزع اهتمامها بجوانب المكان في محاولة لتعميق اللحظات العابرة والمؤلمة التي نحياها أو يحياها أصحاب المصالح الذين ينشدون العدالة.
الصورة الأولى من المشهد يطالعنا “المويلحي”بالمحكمة قد ازدحمت ساحتها بالبغال والحمير وهي خاصة بكتاب المحكمة فيعلق “فقلنا سبحان الملك الوهاب، ومن يرزق بغير حساب”.
والصورة الثانية يغشانا الدوار من الزحام البشري حيث لا نجد وجها بشريا مميزا،بل أمواج من البشر اجتمعت على المكان وتشعبت بهم السبل وتفرقت.المويحلي بلمسات الورائي السريعة يجمد هذا”الاختناق المكاني”معتمدا على صورسريعة متلاحقة.بحيث انه دفع القارىء أن يحرك لسانه ويعجل بالقول “وتركنا بعضهم يموج في بعض”ولنسمتع إلى جانب من المشهد وحاولنا ان نخطو خطوة إلى الأمام”فلم نستطع من شدة الزحام، وكيف بالتقدم في عباب موج ملتطم ، ومنحدر سيل مرتطم من نساء مولولات،ونائحات ممولات ونادبات باكيات.. وفيهن المسفرة والمتقنعة” والمضطجعة والمتريعة، والحاسرة عن الذراع والرأس، وأختها تغليها في وهج الشمس ومنهن الكاشفة عن ثدييها، ترضع طفلا على يديها وغيرها ترضع طفلين في حذاء وزوجها يضرب رأسها بالحذاء، وأخرى آخذة بضفيرة ضرتها وضريعها يتلهف على ضرتها ومن بينهن من يتقدمها طليقها ،ويتبعها عشيقها، تشيع الأول باللعين والسباب وتغمز الثاني بكف مزدانة بالخضاب.. وصعدنا السلم الثاني، فاذا هو كالأول يتموج بالناس كبيوت النمل،أو خلايا النحل، وانتهينا منه إلى قاعة، ممتلئة بصنوف الباعة، هذا يصيح الخيز والجبن”،وذلك ينادي”الدخان والبن” وآخر يقول “الزبدة والعسل” . وبعضهم يردد “الفول والبصل”وبائع الضأن يفتت بسكينه جماجم الرؤوس،والثلاج يصفق بأكواز”العرقسوس” (حديث عيسى بن هشام ،ص93).
الصورة الثالثة يتراءى أمام أعيننا على بعد من “المحكمة” قهوة يدب فيها الشهود بالعشرات، كدبيب الحشرات،فيعرضون أنفسهم على الخصوم للشهادة أو التزكية بأجر معلوم، وغلمان المحامين يروحون بين الجموع ويغدون فيمكرون بهم ويكيدون،وياقلبون فيخدعون ويغتالون”(المصدر نفسه،ص95).
والمقهى يمثل في هذا الجانب من المشهد وظيفة فنية، فهي موضع لقاء “شهود الزور” كما أنها – مكان – يمثل الوجه الآخر من “المحكمة” فليس ثمة فارق إذ يجمع بينهما جمهور فاقد الهدف … ضائع كما أنها قنار اتصال أو نقطة انطلاق منها يتحرك غلمان المحامين، ويدب فيها الشهود.فالذمم تباع وتشترك في “المقهى” والحق ضائع في “المحكمة”
إن (المكان) هنا يجسد “الهجاء الاجتماعي” اللاذع من المويلحي لنظام القضاء حيث تختفي (العدالة) بوصفها قيمة أقرتها الشرائع السماوية وجاهدت الإنسانية لإقرارها وسيادتها،لكن ثمة مفارقو بين الفكر والواقع، ومن جانب آخر فإن المكان على هذه الصورة ، يمهد في خلفية المشهد الروائي لمن يشغله، فتنزلق عين القارىء لمواجهة الشخصية الإنسانية – أو قل اللا انسانية – في موقع الفعل اللا إنساني فـ “حارس بيت القضاء” شيخ “حنت ظهره السنون” فتخطته رسل المنون ، قد اجتمع عليه العمش والصمم، وبج به الخرف والسقم ” وبقية جوانب الصورة تكتمل أبعادها في الصورتين التاليتين.
الصورة الرابعة .حيث يصحبنا “عيسى بن هشام” فـ “دخلنا حجرة صغيرة من حجرات الكتاب، فثار في وجهنا ما على أطباق الباعة من جيش الذباب .. وجاء رسول القاضي يطلب أحد الكتبة الرؤساء، فوجده راقدا كالنفساء،فبعضهم أشار بتنبيهه من غفلته ، وقال بعضهم: لا بل اتركوه في رقدته ، أنسيتهم حكم عادته ، بأنه لا يفيق من غفوته ، قبل أن يسيل الأفيون من الدم في دورته ، ثم اتفق معهم الرسول على أن يرجع يقول”إنني لم أجد الشيخ مكانه، وعلمت أنه نزل إلى الدفتر خانة ” ثم استيقظ الراقد بعد مدة فتثاءب وتمطى، ثم تدثر وتغطى.ثم عاد إلى مكان فيه من السبات”ثم جاءه بائع كتب فصاح به حتى أفاق من غفوته.وعرض عليه بعض الكتب القديمة منها “قلائد اللؤلؤ والمرجان،في استحضار الجان”، والآخر “خير المواقيت، لرؤية العفاريت؛ ثم خرج الكاتب مع الباي ليصحبه إلى بيته ليقابل نسخة لديه محرفة من الكتاب الأخير ليقابلها ويصححها. ويعلق المويلحي – على لسان “عيسى بن هشام “-بقوله :”وأقمت أسخط على هذا الجهل الشائع والعمل الضائع ” وليس أبلغ من هذا التعليق.
الصورة الخامسة :يكثف “المويلحي” في بؤرة الصورة اهتزاز “العدالة” “وأشار علينا غلام المحامي بالقيام ، فقد آن نظر قضيتنا ، فخرجنا عند باب الحجرة التي تنعقد فيها الجلسة ، فرأينا الزحام خارجها وداخلها على أشد خالاته، وسمعنا لحاجب ينادي بصوت عال، وتارة بصوت منخفض ، فسألت الغرم عن ذلك فقال إنه بخفض الصوت حتى لا يسمع أرباب الدعاوي النداء، فتسقط القضية ،هو من باب الشفقة والحنو بالمدعي عليه، وفوق ذلك فان للحجاب أن بدخلوا الجلسة من أرادوا، ويحجبوا عنها من أرادوا ، ثم نودي علينا ، فدخلنا مع شهود المعرفة الذين استحضرهم الغلام لنا، فةجدنا الجلسة مؤلف من ثلاثة أعضاء برئيسهم، وهم جلوس كل واحد منهم بمعزل عن الآخر ، وقد تعسر علي أن أفهم كلام الباشا وهو بجانبي يخاطبني ، لشدة الضوضاء ، وعلو الأصوات ،ثم دخل كاتب الجلسة يرقص في مشيته ،كأنه الطاووس في هيئته ،فجلس ، وقفت عنده بحيث أبصر ما يسطره فوجدته قد تناول القلم بأطراف بنانه ، يضعه في الدواة تارة ، ويصعه في أدنه أخرى، ثم يلهو بتفقد ثيابه، ويشتغل بلمس الابر التي تتشبك بها العمامة ،ثم ابتدؤوا في سماع القضية، وتقدم الباشا مع الشهود ،قلم أسمع شيئا مما قالوه لهم، لكثرة الجلبة والصياح ، إبما رأيت الكاتب بكتب في دفتر الضبط – وكأنما يكتب من عنده. (المصدر نفسه،ص97).
المويلحي يعتمد هنا على السمع والصوت، والبصر ،والحركة لتجسيد الصورة ويحرك فبنا –كقراء للعمل الأدبي –مشاعر السخط والثورة على نظام القضاء الفاسد”رأينا الزحام خارجها وداخلها”وهو يحرص هنا على أن يجسد الإحساس بمدى المسافة بين المكان والأشخاص … ثم يصور – من خلال الاعتماد على الصوت – الحاجب وهو يعلو بصوته تارة،ثم يخفضه أخرى كما أنه يضفي بلمساته الشعور بمشاكلة الصورة الروائية للواقع عندما يصارحنا بأنه لم يسمع كلام الباشا وهو يخاطبه، لشدة الضوضاء وعلو الأصوات. ويتهكم – في سخرية لاذعة مريرة – بأعضاء المحكمة فكل منهم في عالمه منعزل عن الآخر. يصور كاتب الجلسة وقد انتفخت أوداجه وتأنق في مظهره، والإفراط في الشكل أو المظهر آية على فقر المضمون وشحالته.
لقد عاد ” عيسى بن هشام، من رحلته في “مجتمع القضاء”أكثر حكمه بأنك لا تسمع الصم الدعاء، فلابد من تغيير هذا النظام الذي يبعث على “الهموم والأكدار”.
فنية اللغة
لاريب أن تاريخ الحضارة قصة تحكي دور اللغة في السلوك الاجتماعي فهي وسيلة لصبغ الفرد بالصبغة الاجتماعية، وكلما ازداد توغلا في عضويته للمجتمع اللغوي،لعبت اللغة وظيفة أساسية،لا في حياته الاجتماعية فحسب ،بل في سلوكه وإحساسه، وتفكيره الشخصي.
وعلماء اللغة يرون أنها تقوم بوظيفتين: تعاملية، وتنفيسية أو هامشية .والوظيفة التعاملية تهدف إلى تحقيق التفاهم الإنساني ونقل الخبرة البشرية.. بينما تقوم الوظيفة الهامشية بتصوير رؤية الأديب أو الفنان للخبرة والسلوك الإنساني في شكل فني.
وتقترب لغة المقامة – أساسا – من الوظيفة التعاملية من حيث احتفالها بتلقين النشء صيغ التعبير. فقد حرص كتابها أن يضعوا أمام النشء “مجاميع من أساليب اللغة العربية المنمقة، كي يقتدروا على صناعتها، وحتى تتيح لهم أن يتفوقوا في كتاباتهم الأدبية” (د.شوقي ضيف، المقامة (الطبعة الرابعة،القاهرة ،دار المعارف 1976)ص9.
وقد حاول “المويلحي” أن يتجاوز باللغة الوظيفة الأساسية للغة المقامة وهي تعليم الناشئة من القواعد ليقترب من وظيفتها الهامشية حيث يطرح من خلال رؤيته الخاصة لما طرأ على طبقات المجتمع من تغيير ليرسم بالكلمات مظاهر الحياة الاجتماعية لشرائح المجتمع المصري وطبقاته، فاللغة عند “المويلحي” ليست غاية تقصد لذاتها، كما هي الحال عند الشاعر، أو غاية لهدف تعليمي، كما هي الحال في لغة المقامة، بل انه يستخدم اللغة كوسيلة لتصوير ايقاع الحياة ونبضها لدى شرائح متباينة من المجتمع، وهذا مظهر من مظاهر التغيير في لغة الشكل الأدبي استجابة وتناغما مع ما طرأ على البناء الاجتماعي من تغيير.
ويلمس القارىء لـ(حديث عيسى بن هشام) تحسس”المويلحي” نبض الطبقات الاجتماعية وإيقاع حياتها وملابساته .. وطبيعي أن يجتهد “المويلحي” لكي تستوعب اللغة تصوير هذه الرؤى للانسان في المجتمع فهو – عكس صنيع كتاب المقامات لم ينظر إلى اللغة بوصفها غاية في ذاتها لتقصد سوى أن تكون معرضاً لمقدرة الكاتب على الإنشاء والزركشة اللغوية.
على أننا نحترز هنا – كي لا نظلم كتاب المقامات – فالعصر تفنن لغوي، والزركشة اللغوية لا تنفصل عن عطاء الفنان التشكيلي المسلم القائم على المنمنمات العربية “الأرابيسك”، وعلى هذا فقد كانت هذه الغاية التي تنفق مع حاجة المجتمع خطوة نحو عتبة القصة والرواية بل والمسرحية.
انتقل “المويلحي” بوظيفة للغة من التقريرية إلى التصويرية فكانت محاولته وثبة تصويرية تجاوزت المهمة أو الوظيفة الأساسية للمقامة ، كانت نقطة البدء في “الموضوع”..(الآخر) …(المجتمع) وما يشع من إسقاطات على (الذات)المدركة أو العارفة. ومن هنا جاء التنوع والثراء وطواعية اللغة، وتناغم مستويات التعبير اللغوي.
حاول “المويلحي” أن يقيم علاقة جدلية بين اللغة والشرائح أو الزمر الاجتماعية، وأقصد بجدلية العلاقة اللغوية، قدرة اللغة على التناغم أو الانسجام في التعبير اللغوي للوفاء بحاجات جماعة محددة واستجاباتها للمتغيرات الذاتية والاجتماعية بحيث تكون للجماعة “هوية لغوية” تسمها.
وهذه العلاقة الجدنية تغير من اللغة ذاتها وأنماط التعبير الحضارية أو المستحدثة فالانسان يغير نفسه خلال عملية التغيير الذي يطرأ على الطبيعة والمجتمع وخلق قوى اقتصادية جديدة اللغة هنا تكون بمثابة الوعاء الحضاري الذي يستوعب مظاهر التغيير الاجتماعي ويوجهها أيضا،ويرتفع فوقها ويتجاوزها، كما يشارك في إبداعها وتحققها.
وهذه الرؤية جعلت للمويلحي فضل الريادة في تحديد ما يسمى بـ “لغة الفن”أي استخدام اللغة للوفاء بحاجة الفن وضروراته.
إن اللغة في حديث عيسى بن هشام “تدور في إطارين أو محورين:
1- الإطار الأول : يستند إلى معطيات تراثية. ونلمح تملل الفنان في داخل “المويلحي” ونزوعه نحو التحر من أسار اللفظية الشكلية، وحاولته الاهتداء إلى أسلوب تصويري يجسد من خلاله رؤيته الفنية، وتتأرجح – في هذا الإطار – اللغة بين تعبيرها عن خصوصية الموقف الإنساني وما يتميز به من تفرد ، وبين تسطيح الرؤية وتعميمها على نحو ما يصف الصباح وكأنه كل صباح، أضف إلى ذلك أنه لم يستطع أن يفلت – أحيانا – من تأثير لغة التراث المسجوعة فما أكثر اللوحات الفنية التي زركشها “المويلحي” بالسجع والتأملات الحكمية، على نحو ما نرى وهو يصور مشهدا من مشاهد “المحكمة الأهلية”.
على أن “المويلحي” لا يقف عند حدود “إيقاع” السجع فقط ، وإنما يهدف أن يسمع من في ااذانهم وقد بضرورة الاصلاح الاجتماعي وفي رأيي أن فضل “المويلحي” يكمن في أنه استطاع أن “يصور” داخل اللغة التقليدية المسجوعة فكره الاجتماعي وهذه خطوة هامة للأمام فاستخدام المحسنات اللفظية والمعنوية انما يأتي هنا بهدف غاية اجتماعية نبيلة يصور من خلالها المويلحي لقده الاجتماعي للواقع القائم.
ومن جانب آخر،فهو – أحيانا – يكثف رؤيته التي تولدت بفعل خبرته البشرية بالناس، يكثف الرؤية في أسجاع جيدة تقطر حكما فمن الأسجاع الجيدة قوله في التبرم بالناس.”وإن سالمتهم حاربوك، وإن وادعتهم ناصبوك وإن صادقتهم خانوك، وإن واثقتهم كادوك، وإذا طالبتهم بحق فإنك لا تسمع الصم الدعاء”.
والمتأمل في لغة الكتاب يلمس وضوح نبرة السجع وإيقاعة متناغما مع الدفقة الشعورية للفنان وذلك عندما يصور رؤيته ويجسد شعوره تجاه “المثير الاجتماعي”بينما يفلت من قيود السجع عندما يخاطب السجع .آية ذلك اللوحة التصويرية الرائعة التي تشعرنا وكأننا نحيا “كابوسا” ينوء كلكله على كاهلنا ويجلم على صدورنا.
الاطار أو المحور الثاني للغة عند “المويلحي” وفيه يحاول أن يقوم بعملية تطويع للغة بحيث تتلاءم مع ما طرأ على المجتمع من تغيير والتحدي الذي واجه “المويلحي” في هذا المحور، تمثل في قضايا أساسية:
أولا : أنه كان يسعى أن يصور الشخصية الانسانية ، وهي تصطرع بين التكيف والاختيار الاجتماعي.
ثانيا: تصوير “الهوية اللغوية” التي تسم كل طبقة من طبقات المجتمع.
ثالثا: تصوير مدى “التكيف اللغوي” و”التكيف الاجتماعي”.
وقبل أن نقوم بعملية تحليل لشخصية “الباشا” و”العمدة” ومدى ما طرأعليها من تغير في الفكر والسلوك نتعرف على مدى تباين مستويات اللغة تبعا لاختلاف الطبقات الاجتماعية .وذلك في ضوء علم اللغة الاجتماعي.
ويوضح مالينوفسكي (Malinovski ) هذه الوظيفة بقوله: “إن اللغة في جوهرها متأصلة في حقيقة الثقافة ونظم الحياة والعادات عند كل جماعة، ولايمكن إيضاح اللغة إلا بالرجوع الدائم إلى المحيط الأوسع وهو الظروف التي يتم فيها النطق، “ويلق أ.م.لويس بقوله: “ومادام الاهتمام العملي يختلف من جماعة إلى جماعة، ومن عصر إلى عصر، فلابد أن تختلف صبغ اللغة ووظائفها، وتختلف مع هاتين الفروض الأساسية التي ينبني عليها الفكر، بل حتى الاجراءات المنطقية التي تستعمل في التفكير.. ثم إن الطرق الخاصة للتفكير إنما تشيع في المجتمع بوساطة الاتصال …. ولا نقصد الاتصال اللغوي فحسب، فالرموز التصويرية، وأعمال الطقوس تلعب دورها، ولكن بينما يميل الشكلان الأخيران من الرمزية إلى أن يعبرا عن الوجدان والنزوع ويشكلاهما، تظل اللغة الوسيلة الرئيسية للاتصال، ومن ثم اللتأثير في الإدراك بنحو تذكر الماضي عند الفرد والجماعة، ووعيهما بالحاضر. وتوقعهما . وتنبؤهما بالمستقبل”.
ولعل الاعتماد على الفئات الاجتماعية والمواقف الاجتماعية، وما يسمى بـ “سياق الموقف” يساعدنا على التعرف على دور “المويلحي” فى تطويع اللغة. ومعلوم أنه “حين يتصدى علم اللغة الاجتماعي لدراسة أثر المواقف الاجتماعية في اللغة ، أي مدى تكيف الإنسان مع مختلف المواقف واستعماله أشكالا وأنماطا لغوية متناسبة معها، يفترض أن لمختلف المواقف الاجتماعية معطياتها وشكلياتها التي تنعكس في نوعية الموضوعات المطروحة فيها،وكذلك في نوعية ومعاني الأشكال اللغوية”.
في ضوء ماسبق نحاول أن نتعرف على “شخصية الباشا” من خلال “سياق الموقف” والقارىء للكتاب يلمس أن الشخصية بدأت متصلبة جامدة، وكان من الطبيعي أن تصطدم مع الواقع المتجدد نتيجة جهلها به. على أنه بدأ يغير من سلوكه. يقول “عيسى بن هشام”. “فسرني من الباشا مطاوعته إياي .وقبوله لنصيحتى “و”عكفت مع الباشا في عزلتنا، أذهب به كل مذهب ، وأنتقل به من مطلب إلى مطلب ، في مطالعة الأسفار والكتب من تاريخ وأدب، ومن حكم متينة قويمة وشتى علوم حديثة وقديمة أهديه من كل طرف بطرفه، وأتحفه من كل باب بتحفة،.. وهكذا قضيت مع الباشا زمنا ليس بقصير. استخرج له نفائس الأعلاق من بطون الأوراق، وأقتطف معه زهر الأدب العاطر،من حدائق الكتب والدفاتر،إلى أن قال لي ذات يوم، بين ندم ولوم: الباشا.
إن أعظم ما آسف عليه اليوم تلك الأيام التي أضعتها من سالف عمري ،فيما لا يجدي ولا يفيد من مشاغل الدهر وملاهي العيش، وياليتني كنت قصرت همي منذ صباي على مثل هذه المعيشة” وتمكن من الباشا حب الاستكشاف والاستطلاع لدرس الأخلاق وسبر الطباع، وتبدلت الوحشة عنده بالإئتناس ،في مخالطة الناس فصار يلح على ويلج في الطلب”،
هذه المرونة المكتسبة أتاحت للباشا أن ينظر بعين ناقده للمفارقات الاجتماعية ،بين ما (كان) عليه المجتمع وما هو (كائن) بالفعل. على نحو ما يمثل سياق الموقف التالي:
“” … وفقنا عند أحد القصور الكبيرة ،من الفنادق الشهيرة، فهال الباشا مارآه من ضخامة البناء، وفخامة المنظر والرواء، وما لقيه من أدب الخدم والأعوان . ورشاقة الوصفاء، فتخيل أننا أخطأنا الأبواب والمداخل . فدخلنا بيتا من بيوت الوكلاء أو القناصل، وتقدمت للسؤال والاستخبار، وقد خلفنا البيطار في الانتظار، فدلنا أحد الخدم على رقم المكان الذي يسكنه الأمير، بعد طول التردد والتفكير، فما وصلناه حتى دفع الباشا بيديه دفتي الباب ،لم يلتفت لطلب إذن ولا لرجوع جواب ، فوجدنا أمامنا جماعة من أولاد الأمراء،وأعقاب الكبراء، مختلفين في الجلوس، حاسرين عن الرؤوس،ففريق منهم عاكفون على لعب القمار، وفريق ينظرون في صور خيل المضمار ومنهم جماعة قد استداروا بامرأة نصف لا عجوز شوهاء، ولا فتاة حسناء تجتلب الحسن بإفراط التأنق والتفنين في وجود التصنع والتزين، فيكاد يضيء وجهها بسنا العقود والقلائد، ويتلألأ جبينها بلألاء الجواهر والفرائد. وفي وسط المكان مائدة عليها صفوف الراح، في الأباريق والأقدام. وبجانبها منضدة عليها آنية منضدة، وفوقها الدواة والقرطاس، ويراعة مرصعة بالماس وكتب أعجمية موشاة بالذهب، لا أدري إن كانت في اللهو أم في الأدب ،وعلى الأرض أوراق أحكام منشورة ، وجرائد تحت الأقدام منثورة ،لم يفضض عنها “ظرف” ولم يقرأ منها حرف وسمعناهم يتراطنون جمعيعا بلغات أجنبية، دون اللغة التركية أو العربية إلا ما كان من أسماء الخيول العربية، بعد أن يبدلوا الكاف بالقاف، وينطقوا بالحاء كالهاء ، ولما رأونا ظهر منهم العبوس والقطوب، بدا عليهم انقباض الصدور والقلوب. وانبرى من جانب المرأة شاب فأسرع نحو الباب، فخاطبنا بعبارة فرنسية ولثغة باريسية”.
في هذا المشهد السابق يصور “المويلحي” أجواء حياة الطبقة المترفة . ويمهد من خلال الوحة الروائية انطباع الباشا عن هذا المجتمع الذي تغيرت صورته وبدت على غير ما اعتاد.
ومن خلال المفارقة الاجتماعية ينفذ إلى نقد الواقع، ومظاهر الحياة القشرية لتلك الطبقة.
وقد اجتهد “المويلحي” أن يفجر الطاقة الفنية للمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية، كالسجع حيث تتفق فواصل الفقرات ، أو الطباق حيث يجمع بين الشيء وضده . وما يثير ذلك مجتمعا في الأذن من إيقاع موسيقي ، يتماوج في حركات متتالية تشغل فضاء الصورة الروائية.
بهدف تصوير حالة الفراغ والضياع النفسي والخواء الروحي والوجداني الذي ران على تلك الطبقة. فالثقافة عند أبناء تلك الطبقة لا تعدو كونها حيلة أو زخرفة تزخر بها قصورهم بحيث دفعت الباشا للدهشة والانبهار.
فالمويلحي يستخدم السجع، والجناس، والطباق والتورية بوصفها أدوات فنية يصور بها رؤيته الجمالية للواقع بحيث يحقق مطلبه في النقد الاجتماعي، وهذا التعامل الراقي من المحسنات البديعية بوصفها وعاء للتجربة الجمالية للفنان تدفع النظرة النقدية التي تدين استخدام الفنان للمحسنات البديعية دون أن تضع في الاعتبار طبيعة العصر ومزاجه ،وأسلوبه، ووضع الفنان داخل إطار تلك الصورة ، كما يرى “العقاد” – بحق- “لانريدأن نظلم السجع أو نغلو في إنكاره كأنه مكروه لذاته أو كأنما لا موضع له من الكتابة يحلو فيه ويستساغ مذاقه، فحكم السجع في المنثور كحكم القافية والوزن في المنظوم ، وجماله هنا كجماله هناك بلا خلاف، وإنما يقبح السجع حين يلتزم التزاما يذهب بصدق المعنى ويثقل الكلام بقيود التكلف وزخارف التلفيق ، فإذا سلم من هذا فهو حلية مستحبة قد تتفق للكاتب اتفاقا وقد يقصد إليها قصدا وهي على الحالين ليست مما يعاب إن لم تكن من الزينة المرضية والذوق المقبول..
إن المويلحي هذب المقانات فأصاب إليها شيئا من روح العصر وقصد بها إلى غرض من الأغراض الفكرية… (وقد) احتذى فيها مثالين: مثال البلاغة المنثورة كما بدت للناس في أول بعث الكتابة العربية منصرم في القرن الماضي، ومثال الأغراض الأوروبية كما يعرفها المطلع على روايات الغرب وأساليبه الفكاهية في الوصف والانتقاد .. إلا أن أمراً لا ريب فيه هو أن مثال المقامة كان حاضرا في ذهن الأديب حين كتب فصوله وأسند حديثها إلى عيسى بن هشام .. وأمرا آخر لا ريب فيه كذلك هو أن كتاب المويلحي لم يكن ليكتب على هذا المثال لو لم يكن صاحبه من المطلعين على الأدب الأوروبي والمستعدين للنقد والملاحظة على الأسلوب الجديد. “(البلاغ الأسبوعي،24ديسمبر1928)
ويسعى “المويلحي” أن يقترب في الصورة الروائية ، من تصوير الشخصية الروائية في مواقف، وان كانت أقرب إلى اللوحات المنفصلة في البناء الروائي إلا أنها لا تخلو من استجابات لا تغيب عن العين الفاحصة ، وهي استجابات تكشف عن ردود الفعل الإنساني مما يساعد على تطوير الشخصية بحيث تصل إلى عتبة “الاختيار الاجتماعي” الذي يسلمها إلى “البقاء الاجتماعي ” الآمن . ويتراءي لنا هذا التطور في منحنى الشخصية في المشهد التالي:
“قال عيسى بن هشام: ولما فرغنا من زيارة تلك المحافل المشهودة والمجالس المعدودة ، قلت للباشا: قد آن أن نعود إلى ما كنا فيه من الانفراد والاعتزال ، ونبتعد عن مثل هذا الاختلاط والابتذال، فأجابني وهو يظهر التوقف ، ويبدي التأفف”، “ما بالك تقطع علي الطريق في البحث والتحقيق؟ ومالك تحرمنس السعي والاجتماع ، للاطلاع على العادات والطباع، ولم تختار أن تقتصر على ما في الكتب والأوراق، لمعرفة الآداب والأخلاق؟ فنترك النظر للخبر، واللمس للبس، والممارسة للمقايسة ،وأي الطبيبين أدق صنعا ، وأكثر نفعا : الطبيب الذي يقتصر على الكتب في درس الأعضاء والأحشاء. أم الطبيب الذي يدرسها في تشريح الجثث وهي تسيل بالدماء؟ على أنه قد زال عني في هذه المدة ، ما كان يعترضني من الغضب والحدة . وانقلب العسر من أمري يسرا ، وغدا التقطيب بحمد لله بشرا، صرت لا أقابل عيوب الخلق، بغير أتحلم والرفق ، وتعلمت أن أتحلم ولا أتالم ، ونتصر ولا أتحسر ، وأتدبرولا أتفجر ، فأنا اليوم أتفكه بمخالطتهم ، وأتروح بمباسطتهم ، فلم يبق لك من عذر وجيه ، ترتضيه بعد ذلك وترتجيه ” . ومزال الباشا يجري على هذا النمط في الشرح والبيان ، ويأخذني بالبرهان في أثر البرهان، حتى مكني سلطان حجته ، وأنزلني على حكم رغبته”.
ويكشف سباق الموقف الاجتماعي عن دور اللغة في رسم صورة كاريكاتورية ساخرة لشخصيته العمدة . تتحول من خلالها ، على يد “المويلحي” الفنان ، إلى رمز أو قناع ينقد الواقع وما فيه من مفرقات ، على نحو ما يصور ذلك المشهد الثاني من فصل “العمدة في المطعم”: قال عيسى بن هشام : فيذهب الخادم ويجيء للخليع بفاتحة الطعام من زيتون ومخلل وسمك وملح وزيدة ، فيتأمل العمدة فيها، ثم يميل على قطعة الزبدة فيشعها وهو يقول : أزبدة وسمك؟ فيطلب الخليع مواها ، ثم يأتي الخادم بصحن المرق للعمدة فيجده قد أكل ما كان وضعه أمامه من الخبز ، وعطف على خبز الخليع يأكل منه، فيأتيه الخادم بنصيب آخر، فيتناوله العمدة ويفته في صحن المرق حتى يمتلىء ويفيض على المائدة وثم أنه نحنى عليه ، وصفق يطلب صحناً آخر وخبزا آخر، وهو يميل في هذه الأثناء على طعام الخليع ، فيأخذ قطعة من الدجاجة ويضعها أمامه ويحاول قطعها بالشوكة والسكين قتفلت منه إلى الأرض فيقوم فيلتقطها ويأكلها باليد ثم يأخذ جزءا من عش الغراب فيقطم منه فلا يألفه ثم يرده إلي صحن الخليع ثانية ، ويقول ما هذه القشور التي يطبخونها هنا ، وهي عندنا شافعة علي الجسور تفحص عنها الخنازير في الأرض بأرجلها ،فتستخرجها ولا تأكلها ، فتبقي ملقاه علي ظهر الطريق لا يسمها إنسان ولا حيوان ، ثم يأتي الخادم بالمرق فيطلب منه خبزاً آخر فلا يكفي لامتلاء الصحن ، فيعاود الطلب ، فيمل الخادم ويقول له إنما أنت هنا يا سيدي في مطعم لا في مخبز ونلمح ردود الفعل علي لسان صاحب المحل وهو يخاطب الخليع :
– عهدي بك لا تصاحب إلا الكبراء والظرفاء ، فما هذا الشيخ الذي جئتنا به هذه الليلة ، وقد شاهدته من مكاني يفعل أفاعيل أنتقدها جميع الحاضرين ، فإنه كان يبلغ الزيدة ويطوي الخبز ، ويمد يده إلي صحن سواه ، ويعيد إليه فضلة مايأكله ، ويتناول قطعة الدجاج من الأرض فيلتهمها ، ويلوث المائدة بالمرفق والنبيذ ، ويمسح يده في الغطاء ، ويكسر الكأس ويختلس الفاكهة فيضعها في جيبه ويهم بشرب ماء الغسل وينكش أذنه بريشة الخلال ، ولم يكتف بهذا كله حتي أخذ يغازل السيدات ويغامزهن ، فقمن مستقبحات مستنكرات ، وقام كثير من المترددين علي المحل اشمئزاز من هذه الأفاعيل ، ولاشك في أنه إذا حضر عندنا شيخ آخر مثل هذا أن يبتعد الناس ويتعطل المحل .
ويشي الحوار التالي عن مدي تورط ” العمدة ” في مواقف يكشف في سياقها عن لب نقد المويلحي للسلوك الاجتماعي لهذه الشريحة من المجتمع وما تمثل من تمسح بأسلوب حياة الطبقة التي تعلوها .
– العمدة – لا تهزأ بي ولا تمزح ، فأين نحن من البرنسات ؟
الخليع – كيف لا أعرفه ولي معه جلسة في كل ولي معه جلسة في كل ليلة ؟ وكثيراً ما أوصلته آخر الليل إلي قصره .
العمدة – إنك لتبالغ !
الخليع – لا مبالغة ودونك البرهان .
قال عيسي بن هشام : ويقوم الخليع واقفاً عند عودة البرنس إلي مجلسه، فيومئ البرنس إليه بالسلام فيتبعه إلي مائدة عليها صنوف وألوان من الخمر والنقل فيجلس بجانبه مع الجالسين حوله ويخطابه بصوت يسمعه ” العمدة من مكانه .
الخليع – لا زال أفندينا في أسعد حال وأنعم بال .
البرنس – وأين أنت ؟ فقد سألت عنك مراراً الخليع –أنا في الخدمة تحت أمر أفندينا وعند طلبه ، وما منعني عن المبادرة إلي مجلسكم العالي إلا إصطحابي بصاحبين أحد مما من عمد الأرياف والآخر من تجار الثغور ، لصقابي للبقاء معهما وألحا علي أن أصحبهما .
أحد الجلساء ( ممازحاً ) – بل تسحبهما ، البرنس ( منكتاً ) – وهل هنا زريبة ، يابك ، فالمويلحي يستثمر طاقة اللغة في تفجير الشحنة الانفعالية التي تمور في وجدانه، ويرسم من خلالها صورة نقدية ساخرة لتلك الفئة الاجتماعية كما يرسم صورة للطبقة التي تتمسح بأهدابها ونظرة تلك – بالمقال – لها .
وهكذا فالحراك الاجتماعي – علي حد تعبير لابوف ( Labov ) يتواكب مع مقاييس الوضع الاجتماعي الراهن ، ويكشف عن مدي قدرة الشخصية علي اكتساب الخبرة الاجتماعية وذلك من خلال سلوكها اللغوي .
***********
علي أن الإضافة الرائدة للمويلحي تتمثل في اقترابه من لغة الفن هنا يتحرر بعض الشئ من قيود الزخرفة اللغوية ، ويتميز أسلوبه بالتدقيق والحيوية ، فهو لم يتحرج من التقاط الكلمات ذات الدلالة الموحية بالموقف ، وإن كانت غير عربية مثال (ركبداري ) و ( جنتمكان ) ، وهي كلمات دالة علي واقع تاريخي وأن اندثرت الآن ، أو يستخدم كلمات فصيحة انحدرت إلي العامية وظلت في رحاب الحس الشعبي المضياف أو كلمات استحدثت بفعل التطور الحضاري .
وهذا التغيير في اللغة الذي حرص عليه المويلحي للوفاء بحاجة الفن القصصي ، يمثل تغيبراً جذرياً في لغة الرواية ، وهو بهذا مهد الطريق لمن جاء بعده من الروائيين المصريين وينبئ بذلك جهوده في الدفاع عن اللغة العربية فقد رفض فكرة ثنائية اللغة العربية ، وهي فكرة تقوم علي تقسيم اللغة العربية إلي غة فصحي ولغة عامية ، ولا توسط بينهما ، فكثرة من الألفاظ التي تبدو أنها عامية وإنما هي في أساسها ، فصيحة مثل ” وش ” و ” حتك ” و ” مناخير ” و ” ودن ” ونحن إنما نكتب : ” وجه ” و” فم ” و ” أنف ” و ” أذن ” وتتألق السليقة اللغوية لدي ” المويلحي ” في تعليقه التالي : أما ” وش ” فهو في النطق الوجه بذاته تعطيش الجيم إلي الشين والوقوف علي الهاء وأما ” حنك ” فهو لفظ عربي فصيح مرادف للفم هو علي ما في القاموس ” باطن ” أعلي الفم من داخل أو الأسفل من طرف مقدم اللحيين أو ما تحت الذقن من الإنسان وغيره قال عنترة : إلا المدرع بين النحرين والحنك ، وأما المنحر فهو علي ما في القاموس أيضاً ” الأنف وقيل ثقبه وجمعه مناخر ومناخير ، قال تأبط شراً : إذا سد منه منخرجاش منخر ، أما ” الودن ” فهي الأذن بقلب الهمزة واواً واستثقال النطق بالذال فأبدلوها دالاً والذي يمعن في ألفاظ العامة يجد أنه لا فرق بينها وبين ألفاظ اللغة العربية الصحيحة إلا في تحريف النطق ببعض الحروف التي تثقل علي اللسان مخارجها ، ولا يسيل علي العامة ضبطها علي أصلها في سرعة تخاطبهم مثل إبدال الذال دالاً والطاء ضاءاً والقفا ألفاً والثاء تاء وفي تسكين أواخر الكلم الذي دعت إليه سرعة المحاورة أيضاً ، ومثل هذا نجده كثيراً في تلك اللغات اللاتينية مثل الفرنسية والطليانية التي يدعوننا إلي العمل علي شاكلتها والخروج من ضيق العربية الفصحي إلي العامية الفاسدة .
فتري الفرق عظيماً في اللغتين كتابة وفي نطقها لهجة بين العامة في بعض البلاد الفرنسوية والطليانية وهو ما يعبرون عنهبلهجة ” الأرجو ” ..
من كل هذا يتضح أن اللغة العامية المصرية هي محرفة من اللغة العربية الفصيحة لا أنها من أصل آخر ولغة أخري متصلة بها لا يعسر فهمها علي أحد من العامة كما تراه في كثير من مجالس العامة الذين يقضون ليلهم في استماع الأقاصيص والروايات مكتوبة باللغة العربية الفصحي .
وهذا الموقف يعكس إرهاصات القضية النقدية التي لم يهدأ أوارها بعد ، أعني قضية ” لغة الحوار في العمل الفني ” والمويلحي يتقدم بدافع دفين ، بلغة الفن ، نحو إثراء الصورة الروائية بكلمات تضفي طابعاً خاصاً ومذاقاً متميزاً ، علي نحو ما يمثل ذلك المشاهد التالية : ” الباشا – وما الغرض بصاحب العرس من هذا كله ؟
الصديق – الغرض من أنه يذاعبين الناس تشريف هؤلاء الكبراء والعلماء لبيته ، وأكثر الذين نراهم يقيمون ، ولائم الأعواس ينفقون عليها جانباً عظيماً من ثروتهم لأغراض لهم منها سوي ذلك وحده، وفيهم من وصل به حب الشهوة والفخفخة أن أنفق في إقامة العرس جميع ماله ” .
وهذا جانب من مشهد فيفصل العرس : ” .. ومن خلفك ثلة من الأحداث لم تهذبهم الأحداث ، وشبان لم يريهم الزمان ، مرمي الغاية عندهم أن تكون ملابسهم علي الزي الجديد ، وأن تفرغ أجسادهم منها في قالب من حديد ، فهم لا يتحركون حركة إلا بألف حساب خشية أن ينفرط نظام الثياب .
ويتمثل الجهد الإنساني النبيل في محاولة “المويلحي ” تصوير الشخصية الإنسانية في معاناتها – علي نحو ما مر بنا من مشاهد روائية – في سعيها أن تقترب من الإنسان ، بكل ما فيه من خصوصية وتفرد .
وتتراءي إيجابية المحاولة التي طرحها المويلحي في النظرة المتغيرة إلي الشخصية الإنسانية بحيث أنه نظر إليها وهي تصطرع في محاولة التكيف الاجتماعي اكتساب الخبرة الاجتماعية ، وهي في محاولته تغيير واقعها إنما تغير من شخصيتها ذاتها ، وتأتي اللغة لتصور العلاقة الجدلية بينها وما يطرأ علي المجتمع من تغيير ومدي استجاباتها للمتغيرات من حولها .
وقد أشاد النقاد المعاصرون بمقدرة المويلحي علي استخدام الحوار الذي يعكس محاورات الناس في الحياة العادية بدون أن يتخذها بوقا للتعبير عن أفكاره ، كما أنه استطاع في مواضع كثيرة من كتابه ، أن يأتي بحوار رشيق يحكي الواقع إلي درجة التسامح في استعمال كلمات إفرنجية ككلمة مونشير في حديث نائب شاب ، وكلمة مانيفستو والبوفيه والاوتيل ، وهذا قدر من المرونة اللغوية لا غني للقصة الحديثة عنه ، وقد كان للمويلحي فضل كبير في تيسيره لمن جاء بعده من كتابها .
فهو قد واجه مشكلة الثنائية في اللغة العربية الفصحي والعامية واهتدي ببصيرته الفنية وباضرته الاجتماعية إلي تطويعها وفق ضرورة الفن ، فحرص علي أن يكون السرد بالتراكيب اللغوية البسيطة القريبة من لغة الشعب في تلك الفترة وفي الوقت نفسه : ” … عمد عند إدارة الحوار بين شخصيات روائية في كثير من الأحيان يستعمل الكلمات الشائعة في مجتمعه والتي لا تعترف بها اللغة الفصحي ، وذلك حتي يطعم المواقف بدسم الواقع ، ويوضح المشهد التالي من فصل ” النيابة ” مدي مرونة “المويلحي” وكيفية مواجهته لمسألة مشاكلة اللغة للواقع :
الزائر الأول ( مقتضباً ) – من أين اشتريت هذه الكرافات ( رباط الرقبة ) ؟ النائب : ما اشترتيه يا مونشير (عزيزي) وإنماجاءني مع ملابسي من عند الخياط في باريس وهو من آخر طر .
الزائر الثاني : هل أبلغك زواج فلان بمعشوقته ؟
الزائر الأول : هل ركبت مع فلان في ” الأوتومبيل ” ؟
علي أنه ينسج التعبير المألوف لدي القارئ داخل الحوار الفني موحياً بأبعاد الشخصية كما نري في قوله علي لسان ” الزائر الثاني ” :
– ما علينا ، ولكن لقل لي : هل أنت لا تزال علي وعدك معنا في التوجه إلي صاحبنا لمشاهدة الرقص البلدي مع فلانة المشهورة ؟
فالتعبير ” علينا ” مألوف لأذن القارئ ، وفي الوقت نفسه لا يتجافي مع البناء اللغوي الفصيح والمويلحي هنا يتيح لنا الفرصة كي تتعدد مستويات توجيه المعني حسب نبرة الكلام أو الحديث .
لقد أحدث المويلحي في اللغة تغييراً لا يقل إبهاراً عن عطائه الفني بتصويره لجوانب الحياة المصرية ، ومظاهرها مهما يكن من شئ ، فـ ” حديث عيسي بن هشام، عمل باق في الأدب العربي الحديث ، وهو ىية علي أن الروائي ينبغي أن يكون شاهداً علي عصره .
نحو تحليل لغوي للنص القصصي
د. طارق سعد شلبي *
أولاً:- المستوي الإفرادي المعجمي :
(1)
المتأمل في حياتنا النقدية المعيشة نستوقفه العناية المتزايدة بالتحليل اللغوي الأسلوبي ، ويمكن للراصد لطبيعة الواقع النقدي الراهن أن يميز بين مرحلتين في هذا الصدد الأولي : صاحبت جهود المعرفين بهذا التيار النقدي ، وفي هذه الرحلة حدث ما كان متوقعاً من وقوع النقد الأسلوبي في نفوس المثقفين موقع الارتياب في جدواه ، والنفور من أصوله الغربية التي عرضها بعض أهل التنظير بوصفها بديلاً شرعياً لمنجزات تراثنا اللغوي والبلاغي . (وهذا كما لا يخفي علي القارئي غير صحيح ) .
أما المرحلة الأخري ، فمن معالمها خفوت أصوات المهاجمين للنقد الأسلوبي إلي درجة تكاد تصل إلي حد التلاشي ، إذ قد استحال الجدال حول “جدوي” النقد الأسلوبي إلي تفاعل خصيب بين جهود أهل التطبيق المعنيين بالتحليل الصابر للمعالم اللغوية للنص ، وأصبحت سمة مألوفة أن تجد كثيراً من الأدوات الأسلوبية وإجراءاتها المنهجية تنبث في تطبيقات نقدية أمسك أصحابها عن النقد الأسلوب مفضلين عنه مناهج أخري في دراسة النحو !
ولا ينكر المرء أن رسوخ دعائم هذا المنهج النقدي المرهف كان ثمرة طبيعية لجهودمخلصة حرض باذلوها علي التماس أصول هذا المنهج المنبثة هنا وهناك في تراثنا اللغوي والبلاغي وتقديمها إلي القراء بوصفها أدوات نقدية ذات قدرة علي مواجهة النص هذا من ناحية ، ومن ناحية أخري تصادفنا جهود أخري بذلك أصحابها جهداً شاقاً وهم يطوعون أدوات قارة في هذا المنهج في أصوله الغربية الوافدة ، بحيث يلائمون بينها وبين معطيات الإبداع في بيئتنا لتصحب هذه الأدوات – هي الأخري – مألوفة للناقد فيأخذ بها ، وهو بصدد مواجهة النص .
ويضيق المقام عن حصر أعمال كثيرة في ميدان النقد الأسلوبي انصبت علي نص القرآن الكريم ونص الحديث الشريف وكان ظهور دراستا تطبيقية في هذين النصين خاصة دليلاً واضحاً علي جدارة هذا المنهج وعلي مبلغ إفادته لحياتنا الثقافية ، وكذا تصادف أعمالاً كثيرة في التحليل الأسلوبي للنص الشعري قديمة وحديثه ونلحظ أن هذه الميادين : القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر قد استقطبت كثرة جهود المشتغلين في الجانب التطبيقي في درس الأسلوب وقل أن تجد دراسات موازية في النص القصصي من حيث الكم والتنوع .
(2)
ولعلنا لا نجاوز الصواب إذا ذهبنا إلي أن الواقع النقدي يفتقر إلي هذا اللون من الدرس الذي تدرس فيه النصوص القصصية من زاوية اللغة ، فلهذا الدرس ميزات كثيرة لعل علي رأسها ما يتسم به هذا الدرس من موضوعية ، إذ ترتكز إجراءات الدرس وأدواته المنهجية علي أسس محددة واضحة يمكن أن تكون محكاً أساسياً في معاودة النظر في الرؤية النقدية أو تلك بحيث لا تكون إجراءات الدرس كلها تحت وطأة الجانب الذاتي لدي النافذ الذي لا يكاد يضبطه ضابط وهذا الجانب لا يهمله النقد الأسلوبي بل يشرع في تنظيمه وإكسابه دقة منهجية يتطلبها أي درس نقدي جاد للنص .
وإذا كان الهدف الجوهري لدرس النص القصصي يتمثل في الكشف عن العناصر الفنية لهذا النص وما يحمله من رؤي وقضايا فالملاحظ أن التحليل اللغوي الأسلوبي لا يقصر في شئ من ذلك ، بل لعله – إن امتلك الناقد أدواته جيداً – يحققها علي خير وجه .
وثمة فائدة أخري يجنيها قراء هذا النقد ، وهي أننا نتيح لهم فرصة تأمل نشاط اللغة ، بأن يقفوا علي جانب من طرق أداء مكونات اللغة دلالتها ، وما يكتنف هذا الأداء من جماليات ، وتأمل اللغة من هذه الرواية يفتح أبواباً كثيرة للخير فكم من أمراض وىفات ثقافية يعاني منها المجتمع العربي من إهماله وتقصيره في حق لغته !
وحسبنا هذه الإشارات ، إذ يصرفنا تفصيل القول فيها عن الغاية الاساسية وراء هذه السطور وهي عرض بعض الادوات لمنهجية في التحليل اللغوي للنص القصصي ، حتي تضيق هوة التفاوت الحاد بين ما أنجز من دراسات في هذا الباب وما أنجز من دراسات في مجال الشعر علي سبيل المثال.
(3)
وتعليل هذا التفاوت راجع إلي طبيعة البناء اللغوي للنص القصصي كما تلوح للناقد إذ تستوقفه المناوشة بين مستويات الأسلوب للغة القصة من ناحية وما يجده فيها من أحداث وشخصيات من ناحية أخري ،والحدث مدلول غير مرتبط بدال بعينه يمكن أن يحدده الناقد ولكنه وليد توالي الدوال – عبر مختلف مستويات الأسلوب –علي نحو ير خاضع لنسق محدد وأصعب سؤال توجهه للناقد آنذ :كيف استطاعت وحدات اللغة أن ” نكون ” الحدث ؟ وكيف استطاعت أن ” تحركه ” ؟ وما هي ” الأدوات ” اللغوية في رسم الشخصيات ؟
وتهدف هذه السطور إلي محاولة تقديم أدوات منهجية يمكن أن تكون ذات إفادة ما في الإجابة عن مثل هذه التساؤلات ، وذلك علي نحو نظري نسأل الله أن نعقبه فيما بعد بدرس تطبيقي يفيد من هذه الأدوات .
(4)
وغني عن البيان أن التحليل اللغوي للنص القصصي ينبغي أن يكون تالياً للتواصل عميق بين الناقد من ناحية والنص من ناحية أخري ، بحيث يفضي النص إلي قارئه بملامحبنائه ، ومعالم أحداثه ، وأبرز سمات شخوصه ، وكلها مكونات جوهرية لخلفية أساسية يهيب بها الناقد في مواجهة لغة النص .
إن القراءة الكاشفة للنص من حيث هو عالم قصصي تهب الناقد فرصة تكوين الانطباع العام علي لغة النص بما يمكن أن نعبر عنه بـ ” روح الأسلوب ” إن جاز التعبير ، واستكشاف الناقد لعالم القصة علي هذا النحو يمكنه من التماس منطلقات التفسير الدلالي للظواهراللغوية .
وتصون القراءة الاستكشافية للنص علي هذا النحو التحليل اللغوي للنص من جفاف وشكلية مبعثهما العناية المنحصرة في البناء اللغوي للنص ، وتصون هذه القراءة كذلك ما قد يزل فيه الناقد من شطط في تحديد الدور الدلالي للظواهر اللغوية وهو شطط مبعثه افتقاد النظر الكلي إلي النص في مجموعه .
(5)
تعد مراعاة الصورة الغالبة علي تلقي النص الأدبي من الركائز الأساسية في تحديد الادوات المأخوذ بها في التحليل اللغوي لهذا النص ، وفيما يتعلق بالنص القصصي فإن القراءة تمثل قناة الاتصال الأساسية بين المتلقي والنص وهو ما يفرض علينا ألا نسرف في التعويل علي المستوي الصوتي المسموع لهذا النص ، وإلا استحال الدرس إلي درس لغوي خالص أكثر منه درس للقصة نفسها من خلال اللغة .
وربما كانت الكلمة المفردة ، هي نقطة البدء في التحليل اللغوي للنص القصصي فمن زاوية المنزلة اللغوية ، تدرس هذه المفردات من زاوية انتمائها إلي الفصحي أو العامية .
والحق أن ثمة دلالات يمكن أن تنكشف للناقد من خلال رصده ما تضمنه النص القصصي من مفردات عامية ، إذ تشي خصائص اللغة المستخدمة عند رصدها من هذه الزاوية بطبيعة المستوي الثقافي والاجتماعي للشخصية الواردة علي لسانهاهذه المفردات وهو ما يمكن أن يبلور قطاعاً ممتداً من بناء القصة ، حين يكون تحديد المستوي الثقافي والاجتماعي للشخصية تحديداً للبيئة التيتنتمي إليها وهو ما يجعل من استخدام العامية علي هذا النحو إشارات يلتقطها الناقد ذو الفطنة المرهفة – إلي ما لم يتضمنه النص القصصي من تفصيل صريح لهذه الجوانب الثقافية والاجتماعية المشار إليها .
ولا تفوتنا الإشارة في هذا الصدد إلي أن للعامية درجات تتباين فيما بينها ويمكن للناقد حين يرصد الدرجات المختلفة لهذه المفردات أن يرصد التباين الموازي في طبيعة الشخصيات بما يزيد من قدرته علي التواصل الإيجابي الحميم مع هذه الشخصيات بما يصدرعنها من إحداث تؤسس مسار القص .
وحين يضطرد استخدام اللغة الفصيحة في النص القصصي ثم ينقطع هذ الاضطراد فجأة بمفردات عامية ، فإن هذا الانقطاع يعد منبهاً أسلوبياً قوياً قادراً علي لفت انتباه المتلقي ، وهو ما يصلح مجالاً للبحث عن علة تفسر هذا الانقطاع كأن يكون ثمة ارتباط بشخصيبة بعينها أو بانتقال خاص لحركة الاحداث وهو ما يمكن أن يعد إشارة إلي قضية بعينها يراد لها أن تستأثرر بحظ أوفر من انتباه المتلقي .
وعلي الجانب الآخر يمكن أن يتصل مجئ عبارات فصيحة في نص مكتوب بالعامية بحركة التلقي لهذا النص ، إذ يرتبط هذا الانتقال عادة بالتوقف عن تحريك الأحداث وذلك للبدء في ظهور صوت المؤلف داخلي النص سارداً أو معقباً علي هذه الاحداث .
ولا يتضمن حديثنا عن المجالات الدلالية التي يبلورها المستوي اللغوي إشارة ضمنية إلي استحسان العامية في النصص القصصي ، فهذه قضية الحديث عنها غير مندرج ضمن أهداف هذه السطور كل ما هنالك أننا نقدم تصوراً لطبيعة رصد هذا الجانب حال تضمنه في النص القصصي دون أن يكون لنا موقف مؤيد أو معارض لهذا الجانب نريد أن نثبته هنا ، فهذا أمر أدخل في عملية الإبداع منه في النقد المحلل لهذا الإبداع !
(6)
ومن المعايير التي يمكن أن ترصد المفردات وفقاً لهذا الدلالة المعجمية ولا يقصد بالطبع التوقف إزاء دلالة المفردات جميعاً بل إزاء ما يري الناقد أنه يمثل منابع إنتاج الدلالة القصصية إن جاز التعبير وذلك برصد المفردات ذات الأثر الأكر في رسم ملامح الشخصيات وتحديد البعد الزماني والبعد المكاني للقصة ، وتحريك الاحداث التي تقوم بها هذه الشخصاي تفي رحاب هذين البعدين : الزماني والمكاني .
والحق أن تأمل الدلالة المعجمية للمفردات يهدي إلي رصد الاستخدام المجازي الذي ترد عليه بعض هذه المفردات وذلك حيث تغاير دلالة المفردة داخل القصة دلالتها في أصل المعجم ، وهو ما يجعل من فهم المفردة علي المجاز السبيل الأوحد لفهمها والتواصل مع تأثيراتها داخل النص .
وهكذا يطلعنا رصد البعد المعجمي في المفردات علي طبيعة أسلوب الكاتب من حيث إيثاره للغة المباشرة ذات الدلالة المتعارف عليها ، أو ميله إلي الطابع الشعري الذي يهدف إلي خطاب مخيلة الملتقي ووجدانه وغني عن البيان أن رصدنا لهذا الجانب من الأسلوب لا يعد هدفاً مقصوداً في ذاته ، بل إن المزية الكبري في هذا الصدد تتمثل في رصد العلاقة بين طبيعة الأسلوب والسمة الغالبة علي القص ، إذ تتخذ هذه العلاقة أشكالاً متعددة يمكن أن تتمثل في التلاؤم حيث تناسب طبيعة الأسلوب من حيث شعريته وخياله سمة القص من حيث رومانسية ووجدانية أو تتمثل في المناوشة والتباين حيث ترد لغة القص الواقعي مغرقة في شعرية حالمة وهو ما يحدث مفارقة كبري تستلزم تأملاً وتفكيراً من الناقد والمتلقي وهو ما يمكن أن يشي بكثير من الأبعاد الدلالية الثرية.
ولعله مما يؤكد هذا الثراء – حتي في إطار الادوات الممنهجية للتحليل – أن رصد الدلالة المعجمية يتضمن نقلة ينقلها المحلل من المستوي الدلالي المعجمي إلي المستوي الصرفي ، إذ يهيمن البناء الصرفي للمفردة علي مدلوها المعجمي وحسبنا أن نحيل القارئ في هذا الصدد إلي المباحث القيمة التي التمس فيها القدماء أنماط العلاقة بين المبني والمعني ، وما يعتور الدلالة المعجمية للمادة الواحدة من تغييرات بسبب تباين صورها الصرفية .
ويندرج تحت الدلالة المعجمية ، ثلاثة جوانب للدرس ، وهي : الترادف المعجمي ” الدقة الدلالية ” الغرابة اللغوية ، وهو ما سنفصل القول فيه في السطور التالية .
(7)
يرصد المحلل – فيما يتعلق بالترادف المعجمي – الألفاظ ذوات المعني الواحد أو المعاني المتشابهة وذلك داخل السياق الجزئي من النص ، إذ تتناسب قدرة هذا الجانب من الدلالة المعجمية علي جذب انتباه المتلقي تناسباً عكسياً مع المسافة الفاصلة بين هذه الألفاظ ، فكلما زادت هذه المسافة بين الالفاظ المترادفة داخل النص قلت قدرتها علي التأثير علي المتلقي .
والحق أن رصد خاصة الترادف المعجمي يؤول إلي رصد موار لدرجة التواصل والنص القصصي إذ يعتمد إدراك الترادف علي النظر الموازن الذي يتأمل في دلالة اللفظ مقارناً بلفظ آخر مع مراعاة قرائن السياق الجزئي الجامع بين اللفظين .
وقد يكون في الترادف المعجمي حفز علي تتبع التشابه الدلالي بين اللفظين ، إذ يستحيل أن تتطابق الدلالة في كلا اللفظين تطابقاً تاماً شاملاً ، إذ سيبقي قدر ما من الاختلاف والتحديد الدقيق لهذه الامور يبلور ما أشرنا إليه من تواصل مرهف مع النص وهو ذلك التواصل الذي يقوم علي التأمل الدقيق وأعمال الذهن .
ولا يعني ذلك أن الترادف يعد أمراً ممتدحاً علي الدوام ، إذ قد يؤدي الإسراف في الترادف إلي خلخلة معايشة المتلقي للأحداث إذ يظهر الترادف في بعض النصوص القصصية بوصفه تكراراً له تأثيره السلبي المؤدي إلي قطع توالي الاحداث وتعويق نمو البناء القصصي .
وإذا تجاوزنا سنجد أن الترادف يهبنا مؤشراً يصح أن نقيس به اهتماماً خاصاً يظفر به مكون من مكونات البناء القصصي من قبل القاص فيرغب في الإلحاح علهي والمبالغة في إبرازه من خلال الترادف .
(8)
والحديث عن الدقة الدلالية متصل هو الآخر بجماليات التلقي اتصالاً وثيقاً ، إذ يستشعرالمتلقي أن ثمة مفردات قد أوتيت درجة مرهفة من الدقة الدلالية ، حتي لكأن المعني الذي يتضمنه السياق لا يمكن أن يؤدي إلا بهذه الطائفة من المفردات التي أوردها القاص !
وغني عن البيان أن بلوغ هذه المرحلة من رصد البعد المعجمي للمفردات لا يتأتي إلا بمعايشة كاملة لعالم النص القصصي ويعد تحقق الدقة الدلالية ركيزة أساسية يعول عليها الناقد في تحديد دور المستوي المعجمي في ملاحظة البعد الشعري الذي يغلف به المبدع عالم القص من ناحية ، وما يقم به من تحديد دقيق لسمات العالم النفسي للشخصيات من خلال أغوارها وما إلي ذلك من سياقات تستلزم درجة خاصة من النشاط اللغوي فثمة خصوصية تلوح في مثل هذه السياقات ، وهي خصوصية تستلزم خصوصية موازية في طبيعة اللغة .
ويمكن أن تعتبر ” الدقة الدلالية ” أمراً مقابلاً للترادف المعجمي من بعض الوجوه فإذا كنا نشفق من تأثير الترادف السلبي علي حركة نمو البناء القصصي فإننا نرصد ” الدقة الدلالية ” باعتبارها سبباً من الأسباب المؤدية إلي تحقيق التكليف في لغة بناء القص .
(9)
وقد يستغرب أن تكون الغرابة الدلالية وجهاً يستقطب عناية المحلل اللغوي للنص القصصي وقد يكون في تتبع إفادة هذا الجانب في التحليل ما يزيل هذه الغرابة .
إن النظر إلي لغة النص القصصي بوصفها قناة اتصال بين القص والمتلقي يدفع إلي الاهتمام بسمة الغرابة اللغوية إذ قد يعد درس هذا الجانب وسيلة يحكم بها علي امتلاك القاص أدوات اللغة القصصية ، لأن الاغراب يقطع حركة تتابع الأحداث محدثاً فجوة بين المتلقي والنص ، إذ تستحيل اللغة من وسيلة لبناء العالم القصصي إلي غاية تستقطب عناية المتلقي لفك مغاليقها فتقد بذلك دورها المنوط بها .
ومع هذا فقد تؤدي هذه السمة بعض الوظائف الدلالية المهمة ، إذ قد تضفي الغرابة اللغوية – في حدودها المعقولة – مسحة تراثية تاريخية تغلف الجو العام لأحداث القص ، بما يلائم نوعيتا خاصة من النصوص القصصية .
وقد يعول علي الغريب في إحداث مفارقة مقصودة بين عصرية القضية التي يصدر النص القصصي عنها وما تؤديه لغته من إحالات مستمرة إلي القديم .
(10)
رأينا فيما سبق المجالات التي تمثل مناط اهتمام المحلل اللغوي للنص القصصي علي مستوي الأفراد ، وقد يكون للقارئ الكريم وجهة نظر مغايرة حول جدوي هذا المجال أو ذاك في الدرس ، وقد لا يري في درسه تلك الأوجه الدلالية التي التمسناها .
ونؤكد لنا عرضنا هذه المجالات علي جهة العرض والاقتراح ولم نفصل القول في جوانبها علي جهة القطع واليقين ، وعرض هذه المجالات علي هذا النحو يتطلع إلي وجهات النظر المغايرة ليثري بها ، ولا تفوتنا الإشارة إلي أن قيام المحلل اللغوي بتحليل هذا المستوي الإفرادي لا يتجاوز كونه مرحلة تستلزم مرحلة تالية بتوجه خلالها الناقد صوب المستوي التركيبي .
ثانياً:- المستوي التركيبي :
(1)
رأينا – فيما سبق – ما يمكن أن يهبه تحليل المستوي المعجمي للنص القصصي من دلالات تتعلق بمكونات هذا النص ، ويهمنا التأكيد أن المحلل لا ينحصر جهده في نطاق هذه المفردات ، بل إن متابعته للنص تدفعه دفعاً غلي التأمل في آفاق مستوي أشمل ، يتعلق فيه من الإفراد إلي التركيب .
ويشمل درس التركيب هنا أمرين ، الأول : تحديد نوع الجمل وسمات التركيب فيها ، أي دراسة المستوي التركيبي من مستوياته لغة النص ، والآخر : درس قطاع ممتد من قطاعات النص القصصي درساً معنياً أظهر السمات اللغوية المضطردة فيه ، علي اختلاف المستويات اللغوية التي تنتمي إليها هذه السمات .
ولعل درس النص القصصي علي هذا النحو يمثل محكاً أساسياً تستبين معه جدارة التحليل اللغوي في دراسة هذا الجنس الأدبي ، إذ تصبج ظواهر اللغة – كما يجلوها الناقد – أدوات كشف عن أبعاد النص القصصي .
وتدور هذه السطور حول تفضيل هذين الأمرين – اللذين يشملهما درس التركيب – على نحو ما توضحه الجزيئات التالية:
(2)
تبدأ أولى مراحل درس سمات المستوى التركيبي من مستويات لغة النص بتحديد طبيعة المكونات التي يؤول إليها هذا المستوى، وذلك بتحديد”قوالب التركيب والمصاحبات التركيبية” والمراد بالقالب التركيبي :”نوع التركيب”، والمراد بالمصاحب التركيبي ما يرد مع القالب التركيبي ليمثل “إضافة تركيبية” يكون لها بعدها الدلالي المصاحب.
ويهيب الناقد في هذه المرحلة بالأطر المنهجية المستقاة من مجالين معرفيين، أو لهما: قواعد العربية التي تحصر الجملة في نوعين، الاسمية والفعلية، وتحاول أن تحدد الوحدات التركيبية الصغرى المكونة لكل نوع منهما من ناحية، وكذا تحدد المكملات أو الإضافات التي تصاحب كل نوع منهما من ناحية أخية أخرى، وذلك بيان دقيق للخصائص التي يتسم بها كل مكون من هذه المكونات وكذا ببيان الفوارق الدلالية التي توازي الفوارق التركيبية ، على نحو ما يتضح في كتابات الإمام عبد القاهر الجرجاني،خاصة في كتابه “دلائل الإعجاز”.
أما المجال المعرفي الآخر فهو “البلاغة”التي تحدد نوع التراكيب على نحو أشد حفاوة بالدلالة المصاحبة، فتلتمس قسمين كبيرين يضمان العبارات، وهما : الخبر والإنشاء، وتحاول البلاغة في هذا الصدد أن تلتمس مجالات كبري تلازم هذين القسمين فيما يعرف بالأغراض .
(3)
والبحث في “نوع” الجمل الغالب على النص القصصي ـ رغم بساطته الظاهرة ـ إنما يهب الناقد نتائج لها خطرها، ذلك أن ثمة دلالة مجردة يرتبط بها كل نوع، ولا تلبث هذه الدلالة المجردة أن تنفاعل مع مضمون السياق الجزئي الوارد فيه التركيب تفاعلاً ثرياً، ويؤول ذلك إلى أن تكون جملة تراكيب النص ـ في مجموعهاـ سيل كشف عن سمات الشخصيات، وعن أبعاد الشرد.
الجملة الفعلية تعتمد في بنائها على “فعل”، وللفعل مدى زمني يرتبط به، ومن هنا تكتنف دلالة الجملة الفعلية “صيرورة وتحول” ، فالمعني الذي تفيد الجملة حدوثه في الماضي لا يمتد ـ بالضرورة إلى الحاضر والمستقبل ، والفعل الذي يفيد تحقق المعنى في المستقبل لا يدل على تحققه في الحاضر والماضي. وكأن ثمة دلالة ترد إلى الذهن ـ بالتداعي ـ تلازم البعد الزمني المصاحب للفعل.
وينضاف إلى ذلك بعد معنوي آخر ـ يرد في ذهن المتلقي بالتداعي ـ في رحاب هذه الجملة، وهو ما يرتبط “بإيجابية الحدث” الذي يتحقق عبر دلالة الفعل خاصة حين ينضمن التركيب “المفعول به” ، الذي يبلور هذه الإيجابية المشار إليها، وهو ما يجعل من الجملة الفعلية ركيزة جوهرية يعول عليها الفاص في تحريك الأحداث وتحقيق تواليها وتلاحقها.
والأمر على خلاف ذلك في الجمل الاسمية، إذ لا يعد الفعل مكوناً جوهرياً في تركيبها ، مما يؤدي إلى تحرر المعنى المستقى منها من هذه الدلالة المستدعاة، وهو ما يؤهل هذا النوع أن يرتبط بدلالة ذاتية مغايرة، وهي إلباس المعنى ثوب البدهية الحتمية، نظراً لتحرره من الصيرورة التي أشرنا إليها.
وكذا فإن الجملة الاسمية تخلو من تلك الإيجابية المرتبطة بالفعل ـ التي أشرنا إليها ـ ؛إذ تعرض المعنى من حيث هو ، لا من حيث حدوثه، وهو ما يجعل من الجملة الاسمية وسيلة باللغة الإفادة في “الوصف” سواء كان للشخصية أم لأبعاد السرد أم لما يمكن أن يتضمنه النص القصصي من تعليفات يوردها المؤلف بوصفه سارداً.
ويطلعنا الواقع اللغوي ـ كما يتمثل في النص الأدبي ـ على تفاعل خصيب بين كلا النوعين؛ إذ ثمة نمط من الجمل تمتزج فيه بداهة الجملة الأسمية بصيروة الجملة الفعلية وذلك حين يرد الخبر في الجملة الاسمية جملة فعلية، وبذلك تكسب الجملة الاسمية قدراً ما من الإيجابية التي تنطوي عليها الجملة الفعلية ، وكذلك من خلال اعتماد بنائها على أحد المشتقات مما يحيل المتلقي إلى الطابع الإيجابي اللازم للجملة الفعلية.
(4)
والحق أن ثمة جوانب من العمل القصصي يكشف عنها رصد التراكيب من هذه الزاوية ؛ إذ يتيح هذا الرصد أن يتضح دور ـ التركيب بوصفه منبهاً أسلوبياً؛ إذ يمكن أن يضطر ـ نوع بعينه من نوعي الجملة داخل النص، ثم تقع مغايرة تقطع هذا الاضطراد، وهو ما يرتبط بموقف ذي خصوصية، أو بشخصية بعينها، أو بمسار القص من حيث ظهور المؤلف سارداً أو غيابه.
ومما يندرح تحت تحديد نوع التركيب رصد “أساليب الشرط”؛ والحق أن ثمة دلالة ذاتية ترتبط بأسلوب الشرط ؛ إذ تقوم فكرة هذا الأسلوب على وجود جزئين يرتبطان ارتباط السبب بالنتيجة، وهو ما يجعل المعنى الذي يتضمنه هذا الأسلوب مشرياً بروح منطقية ؛ إذ يؤول هذا المعنى إلى جزئين بينهما علاقة تلازمية.
ولا تفوتنا الإشارة إلى “أداة الشرط” الجامعة بين هذين الجزئين؛ إذ تنهض هذه الأداة بدور جوهري في الإضافة إلى الدلالة الذاتية للأسلوب التي أشرنا إليها؛ خاصة حين تؤدي معنى الشرط مضافاً إليه دلالة المكان أو الزمان أو الكيفية وما إلى ذلك من معان ترتبط بها أدوات الشرط.
ولا ريب أن ثمة تفاعلاً متوقعاً يحدث بين السيتق الجزئي من ناحية وأسلوب الشرط الوارد في هذا السياق من ناحية أخرى، ويتبلور هذا التفاعل في أن يظهر هذا السياق بقدر من التأكيد مردع هذه الروح المنطقية التلازميه وقد يعد الأسلوب الشرطي على هذا النحو قالباً تركيبياً ملائماً لعرض ما يحمله الكاتب للنص من أفكار وقضايا.
(5)
وينتقل المحلل خطوة أبعد يتجاوز فيها تحديد “نوع” التركيب إلى تحديد “خصائص” هذا التركيب، وهو ما يجعله يرصد “مكونات” التركيب ، ولا يتسع المقام للحديث عن هذه المكونات جميعاً ، وحسبنا أن نضرب عليها بعض الأمثلة التي توضح مدى الإفادة المرتجاة من تحديد مكونات التركيب.
فعلى سبيل المثال نجد أن تضمن الجملة مفعولاً مطلقاً مؤكداً أمر يدعم ما تنطوي عليه الجملة الفعلية من دلالة ذاتية على الإيجابية، وكذا يعمق دلالة “الحدث” التي يؤديها الفعل، أما المفعول المطلق المبين للنوع فإنه يشرع ـ بالإضافة إلى هذه الدلالات ـ في تركيز انتباه المتلقي إزاء “بؤرة دلالية” بعينها داخل النص ؛إذ يكون تحديد هذه البؤرة، ثم لفت الأنظار إليها مهمتين موكولتين إلى المفعول المطلق.
أما “المفعول لأجله” فإنه يرد في التركيب ليهب السياق بعداً منطقياً، إذ يشرع في إضافة وحدات صغرى إلى الدلالة الجزئية ترتبط فيما بينها من خلال التعليل، وهو ما قد يكون واحداً من عوامل “الإحكام” في بنية العمل القصصي.
“والمفعول فيه” أو الظرف إنما يمثل إضافة لها دورها الفاعل داخل البناء القصصي؛ إذ يقدم الخلفية الزمنية أو المكانية للأحداث، وكأن “الظرف” ـ على هذا النحو ـ نوع من المكملات ذو طبيعة قصصية ـ إن جاز التعبير ـ فدلالته تؤول إلى العناصر الأصلية المكونة للبناء القصصي.
أما الحال فله دلالة ذاتية على “التصوير” وحفز قدرات التخيل لدى المتلقي، فهو يكشف هيئة صاحب الحال أثناء حدوث الفعل، وهو بذلك يلتقي مع الظرف في أصالة دوره في البناء القصصي ، فهو الآخر ذو طبيعة قصصية فضلاً عن أن الحال ـ إن أحسن القاص توظيفه ـ يحقق سمه أساسية في لغة النص، وهو أنه يكسبها قدراً من “التكثيف”، إذ يرتبط الحال ـ كما أسلفنا ـ ببعد تصويري مصاحب، وهذا البعد غير مصرح في ظاهر النص.
ويضيق بنا المقام لو رحنا نتتبع الدلالة الذاتية المرتبطة بكل مكمل من مكملات التركيب، وتكفينا هذه الأمثلة الدالة، وحسبنا أن نشير إلى أن إدراك هذه الدلالة إنما يعتمد على درجة من “التواصل الحميم” بين المتلقي ولغة النص، يقيم المتلقي فيه حواراً مع نكونات التركيب ليحدد دورها الدلالي عن دلالتها الذاتية
(6)
وينتقل الناقد بعد ذلك إلى تحديد سمات التركيب، وربما يتمثل المدخل الذي يعول عليه الناقد في تحديد هذه السمات هو قياس “طول الجملة”، فتحديد علة الطول يفضي إلى الكشف عن طبيعة المكونات المؤدية إلى هذا الطول، والحق أن قياس طول الجملة ، مع ما يفضي إليه، إنما يبلوران درجة من التواصل العميق مع لغة النص بما يمكن من التحديد الدقيق لسمات التركيب.
وبدءاً فإن طول الجملة يصلح إطاراً تركيبياً مستوعباً ما قد يرد على لسان بعض الشخصيات، والمؤلف نفسه حين يكون سارداً، من قضايا تعرض على جهة التحليل، وهو ما يبرز البعد الفكري الذي يتضمنه قطاع بعينه من قطاعات النص القصصي.
وقد يكون طوال الجملة سمة ملازمة للوصف وللتصوير اللذين يفرضان قدراً من الامتداد في بناء العبارة لاستيعاب أبعاد المعنى المعروض.
وكأن طول الجملة يصلح أن يكون مؤشراً لمسار السياق داخل النص القصصي، فالوصف والتصوير يستلزمان – كما أسلفنا- امتدادا في بناء العبارة أما تحريك الأحداث وتواليها وتلاحقها فأمور تستلزم تلاحقاً موازياً في توالي الجمل التي يغلب عليها القصر.
ومن عنا فإننا نفهم كيف يمكن أن يكون طول الجملة متبهاً أسلوبياً دالاً على المسار الذي يتخذه البناء القصصي؛ حين يضطرد طابع بعينه للجمل ثم تطرأ مغايرة على هذا الطابع، وهي مغايرة منبهة على مغايرة موازية لحركة القص.
ويصلح طول الجملة كذلك لأن يكون مؤشراً على طبيعة التواصل مع النص، إذ يهدد الامتداد المبالغ فيه لعبارة النص القصصي التواصل المبتغى بين المتلقي والنص ، إذ يستحيل التركيب في هذه الجملة إلى هدف في ذاته !إذ لا يشعر المتلقي أنه يتخذ التركيب وسيلة لتكوين بناء القص، بل يشعر أنه في حاجة إلى نشاط ذهني خاص ليفض مغاليق التركيب محدداً مبدأه ومنتهاه راصداً علاقاته المعقدة المتشابكة!
(7)
وثمة زاوية أخرى ينظر خلالها الناقد إلى عبارات النص، وهي تلك الزاوية المستقاة من علم البلاغة وتحديداً “علم المعاني”؛ حين يحدد نوع العبارة بالنظر إلى انتمائها إلى الخبر أو إلى الإنشاء.
ولا نريد أن تكون هذه الجزئية تلخيصاً لهذا الجانب كما عرضته المصنفات البلاغية، بل أن تكون عرضاً لبعض الأمثلة الدالة على أوجه الإفادة المبتغاة من رصد العبارات من هذه الزاوية.
وبدءاً نجد أن الأساليب الإنشائية يكون لها ارتباط ببعد وجداني مصاحب لا نجد ما يماثله في الأسلوب الخبري وهو ما يجعل من هذه الأساليب وسيلة يعبر الكاتب من خلالها عن انفعالات الشخصيات، والكشف عن تكوينها الوجداني المميز، كما أنها تعد وسيلة لإضفاء طابع الحياة الفعلية على الشخصيات داخل البناء الروائي، إذ تسهم الأساليب في الكشف عما تتسم به الحياة من حركة وانفعال يمكننا أن نجد صورة فيما يشيع في حواراتنا في الحياة المعيشة من أساليب إنشائية!
وإن صح هذا الوجه الدلالي فإن الأسلوب الخبري تكون له جدارته اللافتة في عرض المعنى مصحوباً بالتقرير والتأكيد، بينما تكون الأساليب الإنشائية ذات قدرة على عرض المعنى مصحوباً بالوجدان والانفعال!
والأساليب الإنشائية ـ في مجموعها ـ أشد احتفاء بالمخاطبين، إذ لا يتصور أسلوب إنشائي ـ استفهام أو نداء مثلاً ـ دون مخاطب يستحضر إلى السياق داخل النص وإلى الذهن في إطار عملية التلقي، وهذا المخاطب قد يكون المتلقي نفسه في سياقات التعقيب والتعليق، وقد يكون أحد الشخوص في سياقات القص والحكي ، وهو ما يشي بحالة من “التجاوب” تكاد تلازم الأساليب الإنشائية ـ في مجموعها ـ ملازمة . فإن كان المخاطب هو المتلقي فهذا التجاوب يؤول إلى التواصل القائم بين النص وهذا المتلقي، وإن كان المخاطب هو أحد الشخوص فهذا التجاوب يؤول إلى تحقيق قدر من الترابط والتماسك بين الشخوص داخل العالم القصصي ، أو إلى الإبانة عن علاقة حميمة مرهفة تغلف الصلة بين المتكلم والمخاطب في السياق الجزئي الوارد فيه هذا الأسلوب.
أما الأسلوب الخبري فلعله أشد احتفاء بالمحتوى الدلالى، وهو ما يجعله أصلح في سياقات الوصف والتصوير، وعرض ما يتضمنه النص من أفكار وقضايا تصاحب النص القصصي.
ولا يعني ذلك سلب الأساليب الإنشائية قدرتها على الكشف عن الأبعاد المصاحبة لهذا النص، ونكتفي برهانا على ذلك بالتمثيل بأسلوبين؛ الأول : النداء : الذي يستحضر بذاته مخاطباً، وقد يكون هذا الاستحضار ذا طبيعة مادية يحل فيه المخاطب في المكان ، وقد يكون ذا طبيعة نفسية خالصة ، يستحضر فيه المخاطب على جهة الاستدعاء في السياق ، وذلك حين يمثل هذا المخاطب قيمة أو رمزاً محيلاً المتلقي إلى قضية بعينها.
والأسلوب الآخر: الاستفهام الذي يكاد يبلور في مختلف سياقاته نشاطاً ذهنياً يتمثل في إثارة التساؤل والحض على البحث والتأمل. وقد يكون سؤال أحد شخوص الرواية ـ وإن وجه إلى شخص آخر فيها ـ قادراً على بعث حالة من التأمل في ذهن المتلقي. في نفس القضية التي ينصب عليها السؤال.
ويبلور “الغرض” الذي يؤديه الأسلوب الإنشائي قطاعاً معقداً من طبيعة نشاط لغة النص، حين يتجاوز الأسلوب دلالته الحرفية السطحية المباشرة وصولاً إلى الدلالة العميقة المرادة، المصحوبة بدورها بالبعد الوجداني الملازم، ويتم ذلك كله من خلال التفاعل الخصيب بين قرائن السياق من ناحية وسمات التركيب وطبيعة دواله من ناحية أخرى.
ولعلنا لسنا بحاجة في تفصيل القول في أن الوصول إلى “الغرض” إنما يصلح ـ هو الآخر مؤشراً نفيس به عمق تواصل المتلقي مع النص؛ إذ لا تكشف القراءة العابرة العجلى هذا القطاع المعقد من نشاط لغة النص الذي أشرنا إليه.
(8)
ويبقى بعد ذلك البحث في العلاقات الجامعة بين وحدات النص القصصي بدءاً من الكلمة المفردة، وانتهاء بالسياق الجزئي. وكثيرمن رموز القصص تنجلي للناقد خلال بحثه عن هذه العلاقات الجامعة، وفيما يتعلق بالمفردات فالإطار الجامع هو التركيب الذي فصلنا القول فيه فيما مضى من جزئيات.
أما التراكيب فتشرع هي الأخرى في الارتباط فيما بينها والروابط الجامعة قسمان : لفظية (كحروف العطف مثلا) ، ومعنوية وهي الصلة الدلالية القائمة بين العبارات.
والحق أن الروابط اللفظية تكتسب أهميتها حين تكون لها دلالتها الذاتية المصاحب، ويمكن أن تقارن ـ توضيحاً لهذه الفكرة ـ بين الواو بوصفها مجرد رابط لفظي، وبين حروف العطف الأخرى مثل (بل) و(لكن) وما إلى ذلك.
حروف العطف ذات الدلالة المصاحبة يكون لها قدرتها على توجيه الصلة الجامعة بين التراكيب المتوالية وجهة خاصة مثل :دلالة بل على الإضراب ؛ تثبت ما بعدها وترد ما قبلها، في حين تبقي (أو) الدلالة متأرجحة صالحة على الانسحاب على ما قبلها وعلى ما بعدها.
أما الروابط المعنوية فهي بذاتها مؤشر على إحكام النص القصصي وترابط وحداته ، ويصلح العثور على هذه الروابط كذلك أداة قياس لعمق التواصل مع النص. إذ يعتمد إدراك هذه الروابط على النظر الموازن بين الجمل المتوالية.
(9)
وتتلاقى العبارات فيما بينها لتكون السياقات الجزئية، التي تمثل الواحدات الكلية الكبري النص القصصي، ويمكن أن تلتمس أقسام أخرى للنص، يراعي فيها عناصر البناء القصصي.
وأيا ما كانت الأقسام التي يلتمسها الناقدة فإن التحليل للغوي يظل ذا إفادة بالغة في تحديد خصائص لغوية فارقة ترتبط بها بعض السياقات، وفي الكشف عن “الأدوات اللغوية” المأخوذ بها في الوصف مقارنة بالأدوات التي يتم بها تحريك الحدث أو التعقيب عليه. إذ يرتبط كل مكون من مكونات النص القصصي بطائفة من الظواهر الأسلوبية التي تحيل إليه.
وبعد
فإ ننا لا ندعي أن ما قدمناه من تصورات منهجية أو أوجه دلالية حق مفطرع بصحته، وجسبنا شرف الاجتهاد وإننا نتطلع إلى جهود تالية تقوم مازل فيه هذا الطرح المنهجي من.
زلات، وحسبنا كذلك اننا قد اجتهدنا ـ ما وسعنا الإجتهاد ـ في الإفادة من جهود أساتذتنا الرواد الذين ارسوار كائز النقد الأسلوبي في واقعنا النقدي المعيش ونرجو ان تتاح الفرصة لتطبيق ما قدمناه في هذه السطور من طرح منهجي في مقال تال ينصب على واحد من الأعمال القصصية بإذن الله.
في التضمين اللغوي
أ . السعيد شنوقة*
يزخر الدرس اللغوي في اللغة العربية بجوانب مضيئة مشرقة تعكس رؤى ثاقبة لعلمائنا القدامى وتظهر جهدهم العلمي القيم الذي لم يكن ليقتصر في أغلب الأحوال على خدمة مستويات اللغة العربية الصوتية والصرفية والنحوية وإنما تجاوزها لغيرها من اللغات الإنسانية تجلية لما في اللغة من أسرار وفوانين وحقائق وضوابط تمكن مستعملي اللغة من توظيف أحسن واستغلال أنجع لتبليغ أدق وإبداع أكثر وأفضل. إن التراث اللغوى العلمي لا يخلو من قيمة وهذا أمر بديهى؛ غير أنه يحتاج لأن نعمق فيه البحث علنا نكشف فيه ما يفيدنا اليوم ويساعد على الانطلاق من جديد بعد ربطه ومقارنته بالجديد المعاصر. ونحن إن انطلقنا من هذه الأرضية نساهم فى إثرائه وإن لم يكن لنا ذلك نكون قد قدمناه للقارىء وكشفناء له وعرفناه به فنحفزه إلى درايته وبحثه لأن الانطلاق إلى المستقبل من الحاضر لا يقصي أبداً الماضي وبذلك نكون قد جعلناه في هذا الخضم المعاصر يدرك أساسيات لغته وأساليب استعمالاتها في أبوابها اللغوية المختلفة التي تتسم من ناحية بالثبات على قوانين رغم المحاولات الساعية إلى تجديدها التي أثبت الزمن أنه لا طائل من ورائها؛ ولكنها تتميز من ناحية ثانية بجوانب متجددة لا سبيل إلى ردها وهو ما يمكن الوقوف عليه في مجالها الأسلوبى الذي يخضع للمقام الذى يكون فيه مستعمل اللغة وهو في الأصل متكون من ثلاثة عناصر: المتكلم والمخاطب والسياق. وقد أردنا في هذا المبحث أن نتناول باباً من أبواب اللغة العربية “هو التضمين” الذي يمثل أحد أبوابها الواسعة. ولا ريب في أن بحثه وبسطه يؤدي إلى كشفه باعتباره جانباً من الجوانب المحفزة على التقصي والتعمق في اللغة التى تمكن في كشف بعض أسرارها التى تشدنا نحوها مثل الإيجاز والتأمل فى معناها وتعدد أساليب تعبيرها التي تسهم فى التوسيع اللغوي وتكثير إجازتها.
وقد بنينا هذا البحث فى إطار العناصر التالية:
أولاً – معنى التضمين.
ثانياً – التضمين في الأسماء.
ثالثاً – التضمين في الأفعال.
رابعا – التضمين في الحروف.
أولاً – معنى التضمين
التضمين لغة:
قال الزمخشوي(ت538هـ) : “ضمن المال منه أي كفل له به.وهو ضمينه وهم ضمناؤه، وهو في ضمنه، وضمانه، وضمنته إياه”. ثم قال “ومن مجازه: ضمن الوعاء الشيء وتضمنه وضمنه إياه وهو في ضمنه. يقال :ضمن كتابه وكلامه معنى حسناً، وهذا في ضمن كفابه وفي مضمونه ومضامينه”(1).
وقال ابن منظور (ت711هـ) فى مادة (ضمن) “الضمين: الكفيل.ضمن الشيء وبه ضمناً وضماناً : كفل به “(2)، ثم قال “ضمن الشيء بمعنى تضمنه ومنه قولهم مضمون الكتاب كذا وكذا” (3). وعرفه الجوهرى (ت721)”ضمن الشيء بالكسر ضماناً: كفل به؛ فهو ضامن ضمين وضمنه الشيء تضميناً فتضمنه عنه مثل غرمه، وكل شيء جعلته فى وعاء فقد ضمنته إياه”(4). وذهب الشريف الجرجانى(ت816هـ) إلى أنه جعل الشيء فى ضمن الشيء ومشتملاً عليه”(5) . وقال يعض المحدثين ” ضمن الرجال يضمن ضمناً وضمانة زم ن. وضمن الشيء ضماناً: كفله. ضمن الشيء الوعاء: جعله فيه وتضمن الوعاء الشيء :اشتمل عليه . والضامن : الكفيل . والضمن : داخل الشيء والضمانة: الحب. والضمن: العاشق “(6). ويطلق الضمان اليوم ويقصده به الكفالة (7).
التضمين اصطلاحاً:
أورد علماء اللغة القدامى آراء مختلفة في التضمين ؛ منهم ابن جنى (ت492هـ) الذي ذهب إلى “أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر ؛فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل فى معني ذلك الآخر؛ فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه” (8)واستشهد لهذا بقوله عز وجل “أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم (9)مبيناً أنه لا يقال رفثت إلى المرأة وإنما يقال رفثت بها” أو معها بيد أنه لما كان الرفث هنا في معنى الإفضاء وأنه يعدي أفضى بـ (إلى) مع الرفث ليشعر أنه. بمعناء(10).
ولعل أدق تعريف لدى القدامى وأوسعه ما أورد ابن هشام الأنصاري (ت761هـ) حين قال : “قد يشربون لفظا معنى لفظ فيعطونه حكمه ويسمى ذلك تضميناً.وفائدته أن تؤدى كلمة مؤدى كلمتين”(11)واستشهد بالآية ذاتها التي ذكرها قبل ابن جني قائلاً : ضمن الرفث معنى الإفاضة فعدي بإلى مثل : وقد أفضى بعضكم إلى بعض. والأصل أن يتعدى الرفث بالباء فيقال: أرفث فلان بأمرأته.(12)
جاء فى مجمع اللغة العربية: التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدى فعل آخر أو ما في معناه فيعطى حكمه في التعدية واللزوم”.(13)
وقد وصف تعريف ابن جني السابق بالنقص من بعض الدارسين لأنه لا يشمل المشتق وما فى معناه إذا تعلق به جار ومجرور ولكونه لم يشمل الفعل المتعدي بحرف خاص فتعدى بنفسه أو ذاك الذي كان فعلاً لازماً فضمن معنى فعل متعد بنفسه(14)وقد تجند، الباحثون المحدثون هذا النقص فيما أورده ابن جني للتضمين في الأفعال وراحوا يدرسون أنواع التضمين في تعريفات مفصلة منها:
التضمين هو أن يشرب فعل من الأفعال معنى فعل آخر لقرابة بينهما وقد يكونان كلاهما متعديين بأنفسهما أو يكون أحدهما متعدياً بنفسه والآخر بحرف الجر أو يحل حرف أحدهما محل الآخر.(15)ويؤخذ عن هذا التعريف تخصيص التضمين بالأفعال وبابه في الأصل جامع شامل؛ لذا أورد غيره ما هو أشمل في التعريف وأدق ومن غير أن يخص به الأفعال وهو ما أورده بعض الدارسين: “هو إشراب لفظ معنى لفظ آخر وإعطاؤه حكمه؛ فإذا كان اللفظ فعلاً تصرف في اللزوم والتعدي تصرف الفعل الذي أشرب معناه؛ فقد يكون الفعل لازماً فيتعدى بالتضمين أو يكون متعدياً فيلزم أو يستمر لازماً فيعدل به حرفه إلى حرف آخر”(16).
ومن التضمين ما قيل في تفسير الشبه المعنوي الذي يقع بين الاسم والحرف ويسبب له البناء . وقد ذكر منه ابن مالك (ت672هـ) : فى شبه الأسم للحروف:
كالشبه الوضعي في اسمي جنتنا
والمعنوي في متى وفي هنا
فشبه الأسم للحرف في المعنى أن يشبه حرفاً موجوداً أو غير موجود فالأول مثل “متى” فإنها مبنية لشبهها الحرف في المعنى لاستعمالها الاستفهام : متى تستقيم؟ وفي الشرط: متى تزرع تحصد فهي في الحالتين تشبه حرفاً موجوداً إذ هي في الاستفهام كالهمزة وفي الشرط كإن .إما شبهه لحرف غير موجود فمثل “هنا” بنيت لأنها أشبهدت حرفاً كان من المفروض أن يوضع فلم يوضع (17). وبهذا يفسر الشبه على أن يتضمن الأسم معنى من معاني الحروف كان يتضمن الظرف معنى في :انتصر المسلمون ببدر(18)، والشرط في مثل “متى” التى تتضمن معنى إن.
وعرفه الزركشى (ت794هـ)بأنه “إعطاء الشيء معنى الشيء وتارة في الأسماء وفي الأفعال وفي الحروف”(19).
ويبدو من هذه التعاريف أن التضمين هو أن توقع لفظاً موقع لفظ آخر لأنه يتضمن مدلوله، ويقع هذا في الأفعال والأسماء وكذلك الحروف.
ثانياً – التضمين فى الأسماء:
حين فسر الزمخشرى (ت538هـ) قول الله عز وجل “ولتكبروا الله على ما هداكم”(20) علق قائلاً: “وإنما عدي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمناً معنى الحمد كأنه قيل : ولتكبرا الله حامدين على ما هداكم” (21) وأنت ترى أن الفعل (تكبروا) لا يتعدى بحرف الجر (على) غير أنه لما تضمن معنى الحمد جيء معه بهذا الحرف. فاللفظ الظاهر هو الفعل (تكبروا) إلا أنه تضمن مع ذلك معنى اسم هو الحمد؛ فكأنه قال كما ذكر المصنف (ولتكبروا الله جامدين). ونحن نفهم من هذا أن حامدين اسم فاعل بابه الإعرابي حال منصوبة؛ وعلى هذا يكون التضمين في الأسماء أن تورد فعلاً ظاهراً دالاً على معناه الوضعي وعلى معنى آخر للفظ محذوف كالحال المقدرة سابقاً بمعونة قرينة لفظية فيجتمع بذلك في التضمين معنيان. وقد أوجب السيوطي (ت911هـ) اعتبار الحال وإلا كان مجازاً لا تضميناً كقوله عز وجل “يؤمنون بالغيب”(22)فالحال هنا مقدرة محذوفة . قال الزمخشرى:”وأما تعديته بالباء فلتضمينه معنى أقر واعترف” (23)أي مقرين ومعترفين.
ويوافق بعض المحدثين رأي السيوطي في عد التضمين في الأسماء من قبيل المجاز المرسل (24)وداخلا في بابا مجاز الحذف أي حذف الحال محتجاً بقول الزمخشرى أو حذف المعنى الأصلي نحو: أحمد إليك فلاناً أى أنهي إليك حمده. وهذا دأب البيانيين في التضمين البياني الذي كان الزمخشري أول قائل به يدل عليه ما ذهب إليه في الآية (185من سورة البقرة) وغيره في الكشاف. ولم يكن جمعهم ليتصور معنيي الفعل السابق (لتكبروا) أنه مشرب بهما كما فعل النحاة(25).
وقد عد البيانيون الاستعارة التبعية من طرق تخريج التضمين، وفي متعلق الجار والمجرور الذي يؤدي إلى أبواب المجاز المرحل في اللفظ المذكور أو المجاز بالحذف أو الكناية، والمعنى المتضمن تابعاً من توابع الفعل المذكور مدلولاً عليه بلفظ محذوف مقدر هو حال في الغالب فقالوا في قوله عز وجل (ولا نعد عيناك عنهم)(26) قال الزمخشرى: فإن قلت : “أي غرض فى هذا التضمين، وهلا قيل : ولا تعدهم عيناك أو لا تعل عيناك عنهم ؟ قلت، الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ”(27) ثم قال “ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك : “ولا تقتحم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم (28) ، ونحوه قوله تعالى “ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم”(29) أي ولا تضموها إليها آكلين لها”(30) متجاوزتين: حال منصوية. ومثلها:آكلين.
فأنت ترى اللفظ المذكور مستعملاً في حقيقته أما الملحوظ معناه فمحذوف لدليل في الكلام وهو حرف الإضافة (الجر) أو القرينة في حالة عدم وجود حرف الجر؛ فهو من باب مجاز الحذف. ويمكن للدارس أن يرى في جعلهم المحذوف أصلاً والفعل المذكور تابعاً بتقديره حالاً شيئاً من المبالغة وهو ما قالوه فى قوله تعالى “ولاتأكلوا أموالهم إلى أموالكم” الآية بأن حقيقتها ةلا تضموا أموالهم إلى أموالكم آكلين ؛ على أساس الفعل الظاهر (تأكلوا) تابعاً للمقدر المحذوف: آكلين المؤدية لوظيفة الحالية.
وتجد في تضمين الأسماء أن يضمن اسم معنى اسم آخر مثل قوله عز وجل ” حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق”الآية الكريمة يتضمن اسماً آخر. ويمكن أن نتبين ذلك من خلال أوجه القراءات التي أوردها الزمخشوي: “فيه أربع قراءات، المشهورة: وحقيق علي أن لا أقول وهي قراءة نافع. وحقيق أن لا أقول: وهي قراءة عبدالله . وحقيق بأن لا أقول وهي قراءة أبي . وفي المشهورة إشكال ولا تخلو من وجوه : أحدهما أن تكون مما يقلب من الكلام لأمن الإلباس كقوله وتشفى الرماح بالضباطرة الحمر. ومعناه: وتشفى الضباطرة بالرماح.
والثانى أن ما لزمك فقد لزمته فلما كان قوله الحق حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحق أي لازماً له.
والثالث: “أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب” ثم قال:
والرابع وهو الأوجه : “الأدخل فى نكت القرآن أن يعرف موسى في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لاسيما وقد روي أن عدو الله فرعون قال له لما قال إني رسول من رب العالمين: كذبت. فيقول: أنا حقيق علي قول الحق أي واجب علي قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به”(32). قال أبو حيان ولا يتضح هذا الوجه إلا إن عنى أنه يكون “على أن لا أقول ” صفه كما تقول: أنا على قول الحق. أي طريقي وعادتي قول الحق(33) . فالتضمين بين الأسمين يتجه من ظاهر لفظ (حقيق) إلى حريص بالأقل وواجب على بالأكثر.
وتتضمن بعض الأدوات معنى الأسم فيكون لها محل من الإعراب مثل “كأين” فى الأصل أداة؛ غير أنها نقلت إلى استعمال الأسماء المبهمة مثل: كما وكيف. قال الله تعالى “وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم”(34) أي كم من دابة. قال ابن هشام الأنصاري كأين في الأصل مركبة من كاف التشبيه وي (المنونة) وهي توافق كم في الإبهام والافتقار إلى التمييز والبناء ولزوم التصدير وإفادة التكثير تارة وهو الغالب فيها كقوله عز وجل “كأي من نبي قاتل معه ربانيون كثير” (35) وندر إفادتها الأستفهام الذي لم يثبته إلا ابن قتيبة وابن عصفور وابن مالك ، استدل عليه بقول أبي كعب لابن مسعود “كأي تقرأ سورة الأحزاب”؛فقال : ثلاثاً ويبعين(36).
والكلمة إذا ضمنت معنى غيرها ووصلت بصلتها لم يعد معناها الأول مراداً وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز فى لفظ واحد وهذا ممتنع ومنه قول عز وجل “فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل”(37). قال الزمخشري: “وكيل : رقيب مطلع” (38). بدليل كلمة (على)لا حقيقة الوكالة(39). وذلك لذهاب بعضهم إلى أن كلاً من التضمين والاستعارة في الحروف من قبيل التأويل والتوسع فى استعمال اللفظ فى غير معناه، وعلى هذا فإن الاستعارة التبعية فى الحروف ليست سوى طريق من طرق تخريج التضمين والتأويل فى الفعل ذاته أو فى متعلق الجار والمجرور يؤدى إلي طرق أبواب المجاز المرسل فى اللفظ المذكور أو المجاز بالحذف أو الكناية، وهذه – كما ترى – من مباحث علم البيان. إلا أن جل البيانيين والزمخشرى فى مقدمتهم قد جعلوا المعنى المتضمن تابعاً من توابع الفعل المذكور يدل عليه اللفظ المحذوف المقدر حالاً كما مر أن ذكرناه قبل فى الآيتين “ولا تعد عيناك عنهم” وقوله عز وجل “ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ” أو علي تقدير أنه مفعول به فى مثل:”أحمد إليك الله أى” أنهى إليك حمد الله”، فسبكوا من الفعل (أحمد) مصدراً مؤولاً بدون سابك كسبك الفعل بعد همزة التسوية(40).
ويأتى التضمين فى الأسماء أيضاً بذكر الفعل الدال على معناه الذى وضع له وكذلك على معنى المحذوف الذى يقدر حالاً فى الغالب كما فى قوله سبحانه “والذين يؤمنون بما أنزل إليك “(41)قال أبو حيان الأندلسى (ت754هـ) : الإيمان التصديق وأصله من الأمن أو الأمانة ومعناهما الطمأنينة ، منه صدقه أو آمن به : وثق به . والهمزة فى أمن للصيرورة كأعشب، ثم قال: “وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء”وأضاف “وهو يتعدى بالباء واللام “فما امن لموسى”(42) والتعدية باللام فى ضمنها تعد بالباء(43) ومن التضمين فى الأسماء قوله تعالى “وهو الذى يقبل التوبة عن عباده”(44)فجاء بـ “من” لأنه ضمن التوبة معنى العون والصفح (45).
ثالثاً- التضمين في الأفعال:
التضمين فى الأفعال أن نأتى بفعل يتعدى بحرف فى معنى فعل آخر يتعدى بحرف آخر لأن هذا الفعل له معنى الفعل المضمن ونجريه مجراه فى التعدية واللزوم ، وقد ذكرنا قبل ما ذكره ابن جنى فى هذا المعنى حيث قال “أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فإن العرب تتسع فتوقع أحد الفرعين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل فى معنى ذلك الآخر، فبذلك جىء معه بالحرف المعتاد مع ما هو فى معناه ” (46)ثم استشهد لذلك بآي الذكر الحكيم الذى ذكرنا تفصيله قبل هذا. ويبدو من قوله أنه يعد التضمين قياسياً باعتباره كما ذهب إلى هذا نحاة البصرة أنه من ضروب المجاز، والمجاز قياسي. إلا أنه يشترط تقارب معنى الفعلين(47) ونحن نفهم قياسية التضمين البيانى مذهباً للبيانيين بغير خلاف. وقد قرر مجمع اللغة العربية بالقاهرة أن التضمين قياسى بثلاثة شروط: الأول : تحقق المناسبة بين الفعلين. الثانى : أن توجد قرينة دالة على ملاحظة الفعل الآخر وتدفع اللبس . الثالث: أن يلائم التضمين الذوق العربى. مع أن المجمع اللغوي المذكور قد أو صى بألا يلجاً للتضمين إلا لغرض بلاغي (48). وهي شروط رآها بعض الدارسين قد استخلصت في علماء النحو والبلاغة وتوافق شروط المجاز نفسه الذي تكثر سماته في أكثر كلامهم الذي قالوه في تخريج التضمين. وهذه الشروط على أي حال تكفي لاستعماله على ما استعمله العرب وتحقق الفائدة من اعتباره أحد طرق الإيجاز الذى يمثله أحد أركان البلاغة العربية وأهم أساليب التوسع اللغوي فيها(49).
ومن أمثلة التضمين في الأفعال قوله عز وجل “وإذا خلوا إلى شياطينهم”(50) قال الزمخشري “خلوت بفلان وإليه: إذا انفردت معه ويجوز أن يكون من خلا بمعنى مضى، وخلالك ذم: أى عداك ومضى عنك (51) فعلى هذا: (خلوا) بمعنى (مضوا). وهو ما ذهب إليه الزركشى حين قال فى الآية الكريمة نفسها: “وإنما يقال خلوت به، لكن ضمن “خلوا” معنى “ذهبوا” و”انصرفوا” وهو معادل لقوله “لقوا”؛ وهذا أولى من قول من قال : إن “إلى” هنا بمعنى الباء أو بمعنى “مع”(52). ثم أضاف قول مكي : “إنما لم تأت الباء لأنه يقال : خلوت به إذا سخرت منه (53)فأتى بـ (إلى) لدفع هذا الوهم ” (54).
وذهب العلماء إلى أنه : يضمن الفعل غير المتعدى المتعدي واستشهدوا له بقوله عز وجل “لأقعدن لهم صراطك المستقتيم”(55) فقالوا: الصراط منصوب على أنه مفعول به والتقدير: لألزمن صراطك ، أو لألزمن بقعودي صراطك ؛ رغم أن الفعل “أقعد” غير متعد إلا أنه ضمن معنى فعل متعد بنفسه (56). وقالوا فى الفعل “لتعودن” من قول عز وجل “أو لتعودن في ملتنا”(57) بأنه ضمن نعنى “لتدخلن” أو”لتصيرن” (58) وكذلك ضمنوا “لا تشرك” من قوله تعالى “ألا تشرك بي شيئاً” (59) معنى “لا تعدل”. والعدال: التسوية، معناه : لا تسو به شيئاً.
وجوز بعضهم كالزمخشري نصب “نقاماً” من قوله تعالى “عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً”(60) على الظرف مضمناً “يبعثك” معنى “يقيمك” وجوز مع هذا أن يكون حالاً بمعنى أن يبعثك ذا مقام محمود (61).
وهكذا نجد التضمين في الأفعال أنواعاً : منها ما يتعدى فعل بحرف يتعدى به فعل آخر لأنه تضمن معنى ذلك الفعل. ومنه أن يتضمن الفعل اللازم معنى الفعل المتعدي مثل تضمن الفعل “أحسن” من قوله عز وجل “وقد أحسن بي”(62) معنى “لطف” فالفعل “أحسن” تعدى بحرف يتعدى به فعل آخر ؛ لكنه لما تضمن هنا معنى “لطف” تعدى بالحرف الذي يتعدى به هذا الفعل وهو حرف الجر الباء ؛ فجاء في قوله عز وجل “أحسن بى”. ومثله ما ورد في قوله تعالى “ونصرناه من القوم”(63)؛ فأصل (نصر) أن تتعدى بـ (على)؛ فتقول: (ونصرناه على)؛ غير أنه لما تضمن ههذا معنى جنبناه ومنعناه وكلاهما يتعدى بحرف الجر (من) أجرينا (نصر) مجرى: جنب أو منع(64).
ونحن نفهم من هذا أن من الأفعال ما يأتى متعدياً بحرف ليس من عادته التعدى به ، فالأول تضمين الفعل، والثاني تضمين الحروف.
وقد اختلف الدارسون لغويين ونحويين في أيهما أولى ؛ فقال اللغويون وبعض النحاة التوسع في الحرف ؛ بينما قال المحققون : التوسع في الفعل ؛ لأنه في الأفعال أكثر؛ واستدلوا على هذا بالمثال: عيناً يشرب بها عباد الله . فأنت ترى أن الفعل “يشرب” يتعدى في الأصل بـ (من) ؛ فتكون تعديته بالباء أما على تضمينه معنى (يروى ويلتذ) أو تضمين الباء معنى من نحو “أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم” وقد مر معنا توضيح التضمين الوارد فيها. وهذا معناه أن الفعل يشرب عدى بالباء لتضمينه معنى أحد الفعلين يروي أو يلتذ.(65)
ولعله من المهم أن نقول أيضاً: إن التضمين يذكر ويطلق على غير ما سبق من المعاني المذكورة فيه، ويمكن أن نقف على هذا مثلاً فيما أورده الباقلاني (ت403هـ) حين قال : “وأما التضمين فهو المحصول معنى فيه من غير ذكره له باسم أو صفة هى عبارة عنه، ثم صنفه صنفين:
الأول : ما يفهم من البنية مثل قولك معلوم ؛ فإنه لابد أن يوجب عالماً.
والثانى : “تضمين يوجبه معنى العبارة من حيث لا يصح إلا به كالصفة بضارب يدل على مضروب” ثم قال : “والتضمين كله إيجاز (..) وأن “بسم الله الرحمن الرحيم” من باب التضمين لأنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه على جهة التعظيم لله تعالى أو التبرك باسمه” (66).
وقال غيره : هو نوع من المجاز لأن اللفظ فيه لم يوضع للحقيقة والمجاز معاً ؛ فالجمع بينهما مجاز . ونوع من الإيجاز (67)وهذه من طرق التعبير البلاغي. وهو واقع في القرآن خلافاً لما ذهب إليه البيانيون؛ منه قوله عز وجل “ولولا عندنا ذكراً من الأولين لكنا عباد الله المخلصين”(68)، وهو يطلق على إدراج كلام الغير في أثناء الكلام(69) توكيداً للمعنى أو ترتيباً للنظم مثل قول الله عز وجل اسمه “قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء” (70) وقوله فيما حكاه عن المنافقين “قالوا إنما نحن مصلحون (71). قال ابن منظور : والعظال في القوافى : التضمين (72) (..) وعاظل الشاعر فى القافية : “ضمن” (73) . وذكر أن عمر بن الخطاب قال لقوم من العرب “أشعر شعرائكم من لم يعاظل الكلام ولم يتتبع حوشيه” فلم يعاظل الكلام أى لم يجعل بعضه على بعض ولم يتكلم بالرجيع من القول ولم يكرر اللفظ والمعنى(74).
وليس التضمين عند أبي الحسن الأخفش عيباً؛ لكن ابن جني رد على ما ذهب إليه الأخفش قائلاً : “هذا الذى رآه أبو الحسن من أن التضمين ليس بعيب مذهب تراه العرب وتستجيزه ولم يعد فيه مذهبهم من وجهين : أولهما : السماع . والثانى : القياس . فالسماع كثر وروده عنهم . أما القياس فلأن العرب قد وضعت الشعر وضعاً دلت به على جواز التضمين عندهم (75). ويظهر الوجه المقبول في حسن التضمين فى القياس هو أن البيتين اللذين يتقاسمان المعنى منزلان كالجملة المعطوفة بعضها على بعض. ولا ريب فى أن حكم المعطوف والمعطوف عليه يجريان مجرى العقدة الواحدة. وهو قياس يدعم حسن التضمين . ولكن الأمر الذى قبح التضمين لأجله هو ما ذكره أبو الحسن الأخفش وغيره الذين ذهبوا إلى أن كل بيت من القصيدة شعر قائم بنفسه ؛ فمن هنا قبح التضمين . قال ابن جني : “وأما أبو الحسن فكان يروي ويعتقد أن العرب لا تستنكر الإقواء ويقول : قلت قصيدة إلا فيها الإقواء ويعتل لذلك بأن يقول إن كل بيت منها شعر قائم برأسه” ثم أضاف: “وهذا الاعتلال منه يضعف ويقبح التضمين في الشعر”(77).
ومن المحدثين من ذهب إلى أن التضمين صورة من صور النقل الأسلوبي (78) مستشهداً له بآي الذكر الحكيم منها قوله عز وجل ” ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها”(79) فظلموا بها أي كفروا بها . ففعل الظلم يتعدى فى الأصل بنفسه ولما تضمن هنا معنى الفعل (كفر) تعدى بحرف الجر الباء الذي يتعدى به هذا الفعل الأخير (80) . ومنه قول الله عز وجل “قل يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق”(81) الفعل غلا يغلو : فعل لازم،
بيد أنه ورد فى الآية متعدياً نصب مفعولاً به هو (غير)، لأنه تضمن معنى لا تزيدوا أو لا تتقولوا ، فأخري مجراه(82).
رابعاً – التضمين في الحروف :
جاء فى الكتاب “هذا باب حروف أجريت مجرى حروف الاستفهام وحروف الأمر والنهي” ذكرت فيه حروف النفى التى شبهها العرب بحروف الاستفهام فقدموا الاسم قبل الفعل لأن هذه الحروف غير واجبة مثلما كان ذلك في الألف وحروف الشرط في الأمر والنهي ، فسهل بذلك تقديم الأسماء فيها لأنها نفى لواجب، وليست كحروف الاستفهام والجزاء وإما هى مضارعة لها نحو : ما زيدا ضريته ولا زيدا قتلته (83). وان جعلت ما بمنزلة ليس الحجازية لم يكن إلا الرفع : ما زيد ض ربته كأنك قلت : ليس زيد ضربته ، “لأنك تجىء بعد أن يعمل فيه ما هو بمنزلة فعل يرفع”(84).
وقد خصص ابن جني (ت392هـ) بابا للحروف التى يقع بعضها موقع بعض مبرزاً أن الناس يتلقونه بغير دقة وتمحيص وهو فن لا يكاد يحاط به وهو جدير بالائتناس لأنه فصل لطيف فى اللغة العربية حري بأن يفقهه المرء (85) منها قولهم : إن (إلى) تكون بمعنى (مع) كقوله تعالى “من أنصارى إلى الله” (86) أي مع الله. ومنها أن (في) تكون بمعنى (على) . كقول الله عز اسمه “ولأصلبنكم فى جذوع النخل”(87) أى عليها. وغيره كثير. إلا أنه استدرك فقال ، نحن لا نرد ذلك لكنه يكون بمعناه فى موضع دون موضع بحسب السياق الذى يستدعيه ويسوغه(88).
ومن الحروف التي ذكرها جارية مجرى غيرها قول القحيف العقيليل يندح حكيم بن المسيب القشيرى:
إذا رضيت علي بنو قشير
لعمر الله أعجبني رضاها
قشير أحبته وأقبلت عليه، لذلك استعمل (على) بمعنى (عن)(89).
ويمكن الوقوف على شواهد غير قليلة من أي الذكر الحكيم فى التضمين المتعلق بالحروف.
جاء فى تفسير القرطبى (ت671هـ) قوله عز وجل “سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا”(90)؛ (ما) بمعنى الذى أى مصدرية بمعنى إلا الذى علمتنا، أو إلا تعليمك إيانا (91) وقوله “اسجدوا لآدم”(92) معنى “لآدم” إلى آدم. وقوله تعالى “فهي كالحجارة أو أشد قسوة”(93) “أو” قيل هي بمعنى الواو قال “آثماً أو كفروا” “عذراً أو نذراً” وقال الشاعر : (نال الخلافة أو كانت له قدراً) أي وكانت . وقيل : هي بمعنى بل كقوله تعالى “و أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون” (94) المعنى: بل يزيدون .قال الشاعر:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
وصورتها أو أنت في العين أملح
أى : بل أنت. وقيل : معناها الإبهام على المخاطب. ومه قول أبي الأسود الدؤلي:
أحب محمداً حباً شديداً
وعباساً وحمزة أو علياً
فإن يك حبهم رشداً أصبه
ولست بمخطىء إن كان غياً
ولم يشك أبو الأسود أن حبهم رشد ظاهر وإنما قصد الإبهام . وقد قيل له حين قال ذلك:
شككت ! قال : كلا، ثم استشهد بقوله تعالى “و إنا أو إياكم لعلى هدى أو فى ضلال مبين”(95) وقيل معناها التخيير أى شبوهها بالحجارة وقيل: هى على بابها من الشك (96) ومنه في قوله “واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان”(97)
أي على شرعه ونبوته. قال الزجاج : المعنى على عهد ملك سليمان . وقيل المعنى : فى ملك سليمان يعني فى قصصه وصفاته وأخباره. وقال الفراء تصلح على وفي في مثل هذا الموضع (98).
قال أبو حيان : إن الملك ليس شخصاً يتلى عليه فهو ليس فى حكم : يتلى على زيد القرآن ، فلذلك قال بعض النحاة أن (على) تكون بمعنى (فى) أي تتلو فى ملك سليمان. ثم أضاف قائلاً: “وقال أصحابنا لا تكون (على) فى معنى (في) بل هذا من التضمين فى الفعل ضمن تتقول: فعديت بعلى لأن تقول : تعدى بها ، قال تعالى “ولو تقول علينا”(99) ومعنى “على ملك سليمان” أى شرعه ونبوته وحاله وقيل : على عهده وفي زمانه وهو قريب. وقيل : على كرسي سليمان بعد وفاته لأنه كان من آلات ملكه” (100).
وذهبوا فى قوله عز وجل “ويكون الرسول عليكم شهيداً” (101) أن “عليكم” بمعنى “لكم” أي يشهد لكم بالإيمان . وقيل يشهد عليكم بالتبليغ لكم وقيل : معناه بأعمالكم يوم القيامة (102).
وقد ذكر ابن هشام الأنصاري نفي البصريين إنابة الحروف بعضها عن بعض لأنهم يعدون ذلك من قبيل التأويل أو على تضمين الفعل معنى فعل يتعدى بذلك الحرف كما ضمن بعضهم “شربن” فى قوله : شربن بماء البحر. معنى (روين) . وأحسن بى . معنى لطف . أو على شذوذ إنابة كلمة عن أخرى. ويظهر ميل ابن هشام هنا لرأي الكوفيين إذ ذهب أن أكثر الكوفيين وبعض المتأخرين يجعلون إنابة كلمة عن أخرى شاذاً وأن مذهبهم أقل تعسفاً(103).
ويمكن القول : إن لما أورده ابن جني وابن هشام فى هذه المسألة وجهين : الأول : إما أن يكون تضمين الحرف موقوفاً على السماع . وإما أن يكون الحرف قد وضع لمعنى واحد فى الأصل ثم أجرى مجرى المجاز مثل استعارة البيانيين الحرف لمعنى آخر. وعلى هذا، إذا أخذنا بالرأي الأول بطل القول بالنيابة قياساً . وإن نحن أخذنا بالرأي الثاني بطل القول : أن الحرف الواحد يؤدي عدة معان من غير مجاز، هذا إذا سلمنا بما يقوله الكوفيون ومن تبعهم ورجح مذهبهم أو مال إليه كابن هشام الأنصاري. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الموضوع ينبغي أن ينظر فيه من خلال التركيب ودلالات الألفاظ يدل على هذا أنك تجد شواهد المجوزين للنيابة فى الحروف قابلة للتأويل القريب المستساغ غير البعيد(104).
وقد دل اهتمام العلماء بمعاني الحروف ونيابة بعضها عن بعض على لطافة هذا الباب وأنه جدير بأن يفهم ويدرى لهذا ألف فيه البعض كالزجاج (ت337هـ أو 340هـ) قال : (لما) تكون (105) بمعنى (لم) فى نفي الفعل المستقبل كقوله عز وجل : “بل لما يذوقوا عذاب” (106) وقال الزركشى : أى لم يذوقوه فهي تدخل على المضارع وتقلبه ماضياً(107). وبمعنى (إلا) كقول الله جل وعز “إن كل نفس لما عليها حافظ” (108): أى إلا عليها . وإذا كان لها جواب فهي لأمر يقع بوقوع غيره بمعنى (حين) مثل قول الله تعالى “فلما آسفونا انتقمنا منهم” (109). أى حين ’سفونا(110).
وكإجراء (في) مجرى (على) مثل قوله عز وجل “ولأصلبنكم فى جذوع النخل” (111): أي على (112).
وانظر كيف يتحكم السياق وعلاقة المتكلم بالمخاطب فى معاني (لعل) ، فالمعنى الأول للشك قولك : لعل محاضرة تقع . غير أنك إذا واجهت من تخاطب بقولك : لعل محاضرة تقع؟ استفهام كآتك تقول : أتظن محاضرة تقع؟ ولها معنى الإيجاب عند قولك : لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً .(113). ولها معنى الرجاء كذلك . رغم ذهاب بعضهم بأنها لا تكون للترجي إلا فى الممكن لأنه انتظار ولا ينتظر إلا فيما هم ممكن (114). ولها معان أخرى مبسوطة لدى الدارسين.
وقال في اللام : إنها تكون للملك والاستحقاق والاختصاص والأمر. بينما قسم غيره معانيها فى الكلام على ثلاثة أقسام : متحرك لا يجوز إسكانه، ومتحرك يجوز إسكانه، وساكن يجوز تحريكه. فاللأول نوعان. نفتوح ومكسور. وفى المفتوح ما هو أصلي وفرعي. فالأصلي فيه سته أضرب : لام الابتداء، لام التوكيد، ولام القسم ولام الإيجاب : إن زيداً لقائم. ولام التعجب : يا للعجب. ولام الشرط مثل قوله تعالى “لئن أخرجتم لنخرجن معكم”(115)وأما الفرعي فلام الجر مع المضمر فى أربعة أمور : الملك كقوله “له ملك السموات” (116) والاستحقاق كقوله عز وجل “ولهم عذاب واصب”(117) والاختصاص مثل له مسجد . والعذر : لك جئت ، أى لأجلك (118) قال ابن ملك (ت672هـ) فى معانيه بعد ذكر إفادتها انتهاء الغاية (119) فى موضع سابق :
واللام للملك وشبهه ، وفي
تعدية – أيضاً – وتعليل قفي (120)
ويمكن الرجوع لتفصيل معانيها الواحد والعشرين فى الذي أورده الصبان في حاشيته(121) وإلى غيرها من معاني الحروف الأخرى.
وهكذا لابد من النظر للكلمة من خلال السياق والتركيب النحوي ومن خلال التفريق الذي يحدده علماء الدلالة كذلك بين المعنى الأولي أو المركزي للكلمة وبين المعنى الإضافي العرضي الثانوي أو التضمين على اعتبار أن المعنى هدف مركزي تتحه إليه جميع مستويات الدرس اللغوي كما يلي : (122).
الأصوات الدلالة
التشكيل الصوتى المعنى المعجم
الصوت النحو
ويستلزم ذلك ثلاثة عناصر: الأول : المتكلم . والثاني : المخاطب . والثالث : مقتضى الحال أو السياق الذى ذكرناه.
وزاد بعض الدارسين ما أطلق عليه المعنى الأيحائي من جهة التأثير الصوتي والعرفي والدلالي المرتبط بالكلمات (123) التي يتعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض، لأن “اللفظ تبع للمعنى فى النظم وأن الكلم تترتب فى النطق بسبب ترتب معانيها فى النفس”(124)، ولمعاني الكلمات إذن سياقات : سياق لغوي فعلي لا تيحدد معنى الكلمة فيه إلا بعلاقتها مع غيرها فى السلسلة الكلامية، أما سياق الموقف فيبرز أنماط التغيير التى تلحق المدلولات باختلاف السياقات التى تستخدم فيها الكلمات وهو ما حدده بعض الدارسين في العناصر التالية : (125).
– تحليل السياق صوتياً وصرفياً ونحوياً ومعجمياً.
– بيان شخصية المتكلم والمخاطب والظروف
– المحيطة بالكلام.
– بيان نوع الوظيفة الكلامية.
– بيان الأثر الذى يتركه الكلام.
والخلاصة :
– إن درس التضمين عند هؤلاء العلماء لغويين ونحويين وبيانيين قد قسم إلى تضمين نحوي وتضمين بياني. ونحن نوافق بعض الدارسين الذين لم يروا فرقاً بينهما في واقع الاستعمال وإنما الفرق بين تأويل النحاة وتأويل البلاغيين رغم ذهاب بعضهم في تحديد صلته بالإعراب والبيان ؛ فنثل ارتباطه بقوانين الإعراب في تعدية الفعل بنفسه أو تعديته بالحرف. بينما دلت صلته بعلم البيان في الذي يفهم من جهة التعريف بالمعنى.
– إنه يفيد التعبير الكلامي في الإإيجاز ؛ لأنه يفهم من معنيين بلفظ واحد.
– التضمين أحد أساليب التوسع اللغوي. ولما كانت شروطه المقدمة من مجمع اللغة العربية هي شروط المجاز ذاتها فإن هذا يمثل ضماناً لاستعماله في الكلام على سمت استعمالات العرب ولكن في إطار حاجيات العصر اللغوية. وجانب الفائدة التي نقصدها هنا بقاؤه نوعاً من الإيجاز الذي يشكل أحد أركان البلاغة في اللغة العربية الجميلة.
– يعد الزمخشري أول القائلين بالتضمين البياني.
– جعله بعضهم في الأسماء والأفعال والحروف ؛ بيد أن البصريين رفضوا أن تنوب الحروف بعضها عن بعض.
– وصف بعضهم التضمين عند القدامى بالاضطراب وسحب هذا الوصف على ما ذهب إليه مجمع اللغة العربية والسبب أن درسهم هذه المسألة لم تكن في منظور الدرس الأسلوبي الحديث.
– ليس التضمين مسألة ثابتة جامدة لأن يتفق عليها الدارسون لأن وظيفته وفائدته إنما هى التعبير و الإبانة مع الإيجاز وهو صورة تعبيرية تجاري التجربة الإنسانية وتساعد صاحبها في التبليغ والتواصل والإبانة.
– هو مسلك من مسالك التعبير في اللغة العربية يراعى فيه السياق ؛ فلا يصح إغفال السياق الذي توظف فيه الكلمة ، وأن ينظر لها مع ذلك من خلال التركيب النحوي وأن يعتبر ما ذهب إليه علماء الدلالة في التفريق بين المعنى الأولي أو المركزي والمعنى الإضافى العرضي الثانوي أو التضمين وذلك قبل أن نحدد معني الكلمة نهائياً . بل ونزيد على ذلك النظر في تأثيرات المعنى الإيحائي : الصوتية والعرفية والدلالية ذات الصلة بالكلمات المجازية.
ولا يخفى ما في أسلوب التضمين من فتح مجال البحث والتقصي وتعميق الفكر الذي يسهم في تجلية الحقائق الخفية باللغة ويساعد على معرفة الانجذاب الذي يشد النفوس نحوها.
ولما كان التضمين يسهم في تعدد أساليب التعبير ؛ فإنه بهذا يزيد اللغة العربية ثراء.
ــــــــــــــــــ
هوامش ومراجع البحث
1- أساس البلاغة ، دار المعرفة، بيروت(د.ت)ص272.
2- لسان العرب ، دار صادر ، بيروت ،ط1،ج13،ص257(ضمن).
3- م ن،ج13،ص257.
4- مختار الصحاح، تحقيق محمود خاطر، طبعة جديدة، مكتبة لبنان ناشرون،بيروت 1995،ج1،ص161.
5- التعريفات، تحقيق إبراهيم الأبيارى، دار الكتاب العربي،بيروت،ط1 ، 1405هـ ، ص 148.
6- محمد فريد وجدي ، دائرة معارف القون العشرين ، دار المعرفة بيروت، (د.ت)،ج5 ص654 (ضمن).
7- أنظر ، م ن،ج5 ،ص654.
8- الخصائص ، تحقيق محمد علي النجار ، المكتبة العلمية (د.ت) ،ج2 ،ص308.
9- البقرة : 187.
10- أنظر، م ن، ج2، ص308.
11- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ،تحقيق د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله ، دار الفكر بيروت، ط6، 1985م ،ج1، ص897، 898.
12- م ن ،ج1،ص181.
13- مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ج 1،ص180.
14- م ن،ج1 ، ص181.
15- د. جواد مصطفى /،دراسات في فلسفة النحو، مطبعة أسعد، بغداد 1968م، ص98 . وكذا؛ عبد الجبار توامة، التعدية والتضمين في الأفعال في العربية ـ دراسات في النحو العربي، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ، 1994،ص91.
16- الزعبلاوي صلاح الدين، مسالك القول في النقد اللغوي، ط1، الشركة المتحدة للنشر والتوزيع ،دمشق، 1984م ،ص 191.
17- أنظر ؛ شرح ابن عقيل (ت769هـ) على ألفية ابن مالك تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد دار الفكر، ط16، 1974م، ج1 ،ص30، 31،32.
18- راجع ، ابن جني ، الخصائص ، ج2، ص315، وكذا؛ ابن هشام مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، ج 1، ص141/687 وكذا ؛ عبد الجبار توامة التعدية والتضمين في الأفعال في العربية،ص31.
19- البرهان في علوم القرآن ، دار الفكر الطباعة والنشر والتوزيع، 1980م ،ج3،ص338.
20- البقرة : 185.
21- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأفاويل في وجوه التأويل، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،ط1 ، 1977م،ج 1،ص337.
22- البقرة :3.
23- الكشاف، ج1 ،ص126، 127.
24- المجاز المرسل كلمة استعملت في غير معناها الأصلي لعلاقة غير المشابهة مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي.
25- أنظر؛ عبد الجبار توامة، التعدية والتضمين في الأفعال في العربية،ص100.
26- الكيف: 28.
27- الكشاف؛ج2 ، 481.
28- م ن، ج2 ، 481.
29- النساء: 2.
30- م ن ، ج1 ، ص495، ج2،ص481.
31- الأعراف: 105.
32- الكشاف، ج2، ص100 ، 101.وكذا ؛ أبو حيان الأندلسي ، البحر المحيط في التفسير، طبعة جديدة بعناية الشيخ عرافات الغسا حسونة ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ، 1992م ، ج5 ، ص128.
33- البحر المحيط في التفسير، ج5 ،ص128.
34- العنكبوت : 60.
35- آل عمران : 146.
36- انظر ؛ معنى اللبيب عن كتب الأعاريب تحقيق حنا الفاخوري ، دار الجيل ، بيروت ، ط 1، 1991م ،ج1 ،ص316.
37- يوسف : 66.
38- الكشاف ، ج2،ص332.
39- أنظر. عبد الجبار توامة، التعدية والتضمين في الأفعال في العربية ، ص102،ص103.
40- أنظر، م ن ، ص101.
41- البقرة :4..
42- يونس : 83.
43- البحرالمحيط في التفسير ، ج1 ،ص65.
44- الخصائص ، ج2 ، ص308.
45- الشوري : 25.
46- الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ،ج3 ،ص339.
47- انظر ابن جني الخصائص ، ج2 ، ص308.
48- أنظر. مجمع اللغة العربية بالقاهرة ج4 ص180،181.وكذا؛ عبد الجبار توامة التعدية والتضمين في الأفعال العربية – دراسات في النحو العربي – 107.
49- أنظر، م ن ، ج1 ، ص195.
50- البقرة : 14.
51- الكشاف ، ج14 ، ص184.
52- البرهان في علوم القرآن ، ج3، ص339.
53- أنظر، الزمخشري، الكشاف، ج1 ، ص 184.
54- البرهان في علوم القرآن ، ج3 ، ص339.
55- الأعراف :16.
56- أنظر ، الزمخشري ، الكشاف ، ج2،ص70 . وكذا ؛ أبو حيان الأندلسى، البحر المحيط في التفسير، ج5 ،ص21، والزركشي، البرهان في علوم القرآن ، ج3، ص340.
57- براهيم : 13.
58- أنظر؛ الزمخشري ، الكشاف ج2، ص370. وكذا ؛ الزركشي ، البرهان في علوم القرآن ج3، ص340.
59- الحج :26.
60- الإسراء : 79.
61- أنظر؛ الكشاف ،ج2 ، ص462.وكذا ؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن ، ج3، ص341. والمقام المحمود الذي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه. وهو يطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات . وقيل: هو الشفاعة ؛ عن أبي هريرة عن النبي-صلي الله عليه وسلم – “هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي”.
62- يوسف : 100.
63- الأنبياء : 77.
64- أنظر ؛ كتب ورسائل ابن تيمية (ت 728هـ) في التفسير ، تحقيق عبد الرحمن محمد قاسم النجدي، مكتبة ابن تميمية، ج 13، ص342. وكذا ؛ محمد حسن عواد ، تناوب حروف الجر في لغة القرآن ، دار الفرقاف للنشر والتوزيع، عمان ،ط1 ، 1928م ، ص54.
65- أنظر؛ محمد بن محمد بن محمد الغزي (ت1061هـ) ، إتقان ما يحسن من الأخبار الدائرة على الألسن ، تحقيق خليل محمد العربي ، الفاروق الحديثة، القاهرة، 1415هـ ، ج 2،ص 109.
66- إعجاز القرآن ، إعداد ممدوح حسن محمد تصديرطه عبد الرؤوف سعد، دار الأمين، ط 1 ، 1993م ، ص246، وانظر؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن ، ج 3 ، ص343.
67- انظر؛ الزركشي، البرهان في علوم القرآن ، ج3،ص 343، وكذا؛ محمد بن محمد بن محمد الغزي، الإتقان ، ج2، ص110، 243.
68- الصافات 169.
69- م ن ،ج3 ،ص343، 344. وكذا ؛ محمد بن محمد بن محمد الغزي، الإتفاق ، ج2 ص243.
70- البقرة : 30.
71- البقرة : 31.
72- التضمين في الشعر ألا يستغل البيت بمعناه بل يكون المعنى مقسوماً بين بيتين؛ فالمضمن من أبيات الشعر ما لم يتم معناه إلا في البيت الذي بعده : أنظر؛ ابن منظور ، لسان العرب (ضمن) ج13،ص259.
73- لسان العرب مادة (ع، ظ،ل) ،ج 11 ،ص457.
74- انظر ؛ قدامة بن جعفر (ت327هـ) نقد الشعر، نحقيق محمد عبد المنعم خفاجي ط1 مطبعة الكليات ـ الأزهريةـ القاهرة، 1978ص 174. ولسان العرب ج11، ص457.
75- م ن، ج12،ص 259.
76- الإقواء : المجري الذي هو حركة الروي المطلق بكسر وضم وهما من عيوب القافية: انظر قدامة بن جعفر ، نقد الشعر، ص181.
77- الخصائص، ج1 ،ص240.
78- أنظر.د. تمام حسان ، البيان في روائع القرآن ، دراسة لغوية أسلوبية للنص القرآني، عالم الكتب ، القاهرة، ط1 ، 1993م، ص349.
79- الأعراف : 103.
80- انظر؛ م ن ، ص350.
81- المائدة: 81.
82- أنظر؛ م ن، ص 349.
83- سيبويه (ت180هـ) الكتاب ، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون ، دار الجيل، بيروت ط1(د.ت) ،ج1،ص 145.
84- م ن ، ج1 ، ص 146.
85- الخصانص ، ج2 ، ص306وما بعدها.
86- الصف :14.
87- طه :14.
88- الخصانص ، ج2، ص307، 308.
89- أنظر؛ م ن ، ج2، ص 311.
90- البقرة : 32.
91- الجامع لأحكام القرآن ، دار إحيار التراث العربي ، بيروت (د ت) ، ج1، ص 285.
92- البقرة : 34.
93- البقرة : 74.
94- الصافات : 147.
95- سباً : 24.
96- تفسير القرطبي ، ج1 ، 463.
97- البقرة : 102.
98- م ن ، ج 2، ص 42.
99- الحاقة : 44.
100- البحر المحيط في التفسير، ج1 ، ص522، 523.
101- البقرة : 143.
102- تفسير القرطبي، ج2، ص156.
103- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب ، ج1 ، ص151.
104- أنظر؛ د. محمد حسن عواد ، تناوب حروف الجر في لغة القرآن ، دار الفرقان للنشر والتوزيع ، عمان ، ط 1 ، 1982م،ص20.
105- كتاب حروف المعاني ، تحقيق د. علي توفيق الحمد، مؤسسة الرسالة بيروت، ط 1 ، 1984م ، ج 4، ص11.
106- ص : 8.
107- أنظر ؛ البرهان في علوم القرآن ، ج4 ،ص 381:تجد تفاصيل الأوجه التي ترد عليها.
108- الطارق :4.
109- الزجاجي أبو القاسم عبد الرحمن بن اسحاق، كتاب حروف المعاني، ص11.
110- الزخرف :55.
111- طه : 71.
112- م ن ، ص12.
113- م ن ، س30 : وأنظر ؛ ابن هشام أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك دار الجيل، بيروت ، ط5، 1979م ، ص329، وكذا ؛ الزركي ، البرهان في علوم القرآن، ج4،ص 392فما بعدها وفي لعل لغات : لعل وعل وعن وأن ولأن ولعن ولغن. وعن أبي العباس أن أصلها (عل) زيدت عليها لام الابتداء : أنظر ؛ الزمخشري ، المفصل في صنعة الإعراب ، تحقيق د .علي بوملحم ، دار ومكتبة الهلال، بيروت 1993، ط1 ، ص401. وقال الأزهرى خالد بن عبد الله : فيها أربع لغات بإثبات لامها الأول وبحذفها لغتان. وبفتح لامها الأخيرة وكسرها لغتان كذلك ، فالمحصل أربع لغات : موصل الطلاب إلى قواعد الإعراب تحقيق د. عبد الكريم مجاهد ، مؤسسة الرسالة ، بيروت 1996م ،ط1 ،ص23.
114- أنظر ؛ الرزكشي، البرهان في علوم القرآن ، ج4 ،ص394.
115- الحشر : 11.
116- التوبة : 116.
117- الصافات :9.
118- أنظر ؛ الزجاجي ، كتاب حروف المعاني ، ص40 فما بعدها .
119- شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوريع ، بيروت ، ط16 ، 1974م ، ج3، ص17.
120- م ن ، ج3، ص19.
121- أنظر ؛ حاشية الصبان على شرح الأشموني، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، ج2 ، ص215.
122- أنظر ؛ د. تمام حسان ، اللغة بين المعيارية والوصفية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة ، 1958، ص116.
123- أنظر ؛ عبد الجبار توامة ، التعدية والتضمين في الأفعال في العربية ، ص119.
124- أنظر ؛ عبد القاهر الجرجاني (ت471هـ) ، دلائل الإعجاز ، دار المعرفة ، بيروت ، 1878م ، ص44.
125- د. سعيد حسن بحيري، عالم لغة النص المفاهيم والإتجاهات ، الشركة المصرية العالمية للنشر – لونجمان ، 1997مصر ، ص24.
مايو 2 2015
جيل التسعينات الشعري في سوريا ….. د. أديب حسن محمد
جيل التسعينات الشعري في سوريا
ـــــــ
د . أديب حسن محمد*
في البداية لابد من الإشارة إلى المصطلح (جيل التسعينات) والذي نعني به جميع الشعراء الذين أصدروا بواكير مجامعهم الشعرية في عقد التسعينات من القرن المنصرم، ولا نحسب أنه من المفبد إدراج القصائد التي لم يزل أصحابها مستنكفين عن نشرها ولأسباب مختلفة ، وذلك لصعوبة التتبع، وعدم وجود نماذج كافية نستطيع من خلالها استقراء تجربة ما من خلال قصائد قليلة.
يمكنناً تلمس بعض السمات المميزة ، وبعض المظاهر اللافتة في قصائد هذا الجيل الذي جاء في مرحلة تاريخية برزخية تميزت بسقوط الإيديولوجيات جنباً إلى جنب مع السقوط المريع للقيم الروحية وتراجع دور الشعر ومكانته على المستوى العالمي ، وسادت الصورة البصرية ، وتقانات المعلومات ، والوسائل التكنولوجية التي أحالت الحياة إلى خمول وكسل امتدا ليشملا العقل البشري الذي استكان لمنجزات الحضارة المادية ، وترك الروح منسية ومهملة في زوايا النسيان مثل هذه الظروف مجتمعة أدت إلى ظهور اتجاهات شعرية جديدة في المنحيين الشكلي والموضوعي..
محمد ………….)
* ظهرت عند أبناء هذا الجيل نزعات موضوعية جاءت كرد فعل على الجفاف الروحي القاحل لعصرهم ، ووسيلة تحصين وجداني في وجه التردي السائد لمنتجات الروح اللانفعية، فعادت الرومانسية الحالمة للظهور في بعض التجارب (منيرخلف ، عيس إسماعيل،محمد خير داغستاني ، نصرت حبش ) والرومانسية المغلقة دي ( طالب هماش ) وصولاً إلي استقطار البصيرة من البصر والدخول في غيبيات العالم وما ورائيته التي تتحدي أعتي الأفئدة ، أي الدخول إلي مدارات الصوفية وحنينها الرامي إلي التغلب علي الفناء وعلي تصرم الأزمان كما في تجرب الشعراء ( عيسي الشيخ حسن ، أيمن مهعروف ) .
ويلاحظ بروز ظاهرة الاغتراب في قصائد هذا الجيل بكثافة عالية .. شعور الروح بمفارقته عن المادة ، أو بتناقضه معها ، بحيث تتبدي المسافة الشاسعة بين الذات وبين بقية الكائنات ، وبحيث يعمل هذا الاغتراب الطوعي علي انتشال الإنسان من حصار التنبؤ ، أو من الاستحالة إلي جماد .
وتتبدي كذلك في قصائد هذا الجيل ( خاصة قصائد النفعيلة ) نزعة حنين إلي اللامرئي الأعظم ،وهذا ما تدل عليه كثيرة ورود الجمل الاستفهامية التي تطغي علي كل ما سواها ، والتي تعكس قلقاً متأصلاً ، وتوراً متنامياً بحيث يتبدي الإنسان في قصائد هذا الجبل حنيناً لا إشابع له ، ولوعة تناسبها الذات بسبب افتقار الوجود إلي الأنس وهو افتقار لا ينتجه شئ إلا تعرض القيم الروحية للانخفاض .
بيد أن الكثير من شعراء هذا الجيل استطاعوا أن يحيلوا الحزن الذي أفرزته الغربة إلي نشوية غنائية حملتها لة عذراء شديدة التأثير في الروح لما تتمتع به من تلقائية وعفوية ( تمام تلاوي ، كمال جمال بك ) رغم انخراط البعض الآخر في هاجس الإدهاش المجاني الذي يتسم بخشونة الدفقة وافتقارها إلي المسحة العفوية ( ماجد قاروط ، عباس حيروقة ) .
( فراس محمد ، محمد الحموي ، أوس أسعد ، لقمان محمود ، محمد المطرود ، عبدالبر كو ، مروان شيخي ) .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الحادى عشر, د. أديب حسن محمد