مايو 2 2015
بناء الاختلاف واكتشاف الهوية في شعرغادة السمان .. خالد زغريت
بناء الاختلاف واكتشاف الهوية
في شعر غادة السمان
ــــــــــــــ
خالد زغريت(*)
في البدء كانت التفاحة :
فى البدء كانت التفاحة . . فى البدء كان الجمال . . فى البدء كانت الانثي . . إذا انشقت الحياة من ضلع آدم وتجسدت بتفاحة حواء ، البدء الأزلى لجمالية الوجود والسر المتغامض الذى مازال يحتاجه الكون فى سيرورته لتحقيق وجوده بموازاة هذه التفاحة ، ومازال حلمه اللامنتهى هو تحقيقه لهذه التفاحة ، للحضارة ، فى أروع صورها، لذلك كان بدء السر الكونى الغامض الذى يشغل الأداء الحضارى والوجود بهاجسه، ومازال النشيد الأول الذى يتصارع مع الوجود إلي تحقيقه مع جملة احتذاءات الحضارات لبلورة الجمالية المنشودة من مفهومية الحيل المثل ـ التفاحة ـ ولقد أدركت الأنثي منذ وجودها الأول ملكتها فى الإلهام الجمالى ، وكينونته الذرائعية لتحقيق سبل الخلود والمثل فظلت أمنية لجوهرها ، ذائبة علي تطوره والبحث عن صورة تجسيده حسب أداءاتها وفعلها ، ولم تبهت ألوان هذا الحلم رغم التراكمات التى طغت على جوهرها عبر السيرورة الوجودية . ولسنا بقصد العرض التاريخى لرصد التشوهات والترسبات التى لحقت بالقطب الجمال المكون للوجود . . هذا .
لقد أدركت الشاعرة بوصفها حامل لواء الهم الأنثوى أهمية استجلاء هويتها وتأصيلها وبناء الاختلاف لصيانة خصوصيتها ومصداقية ماهية ذاتها إنسانياً فى مواكبة التطورات الحضارية وسيرورة الحياة ولقد التزمت الشاعرة غادة السمان برسالة المرأة العربية وسعت لفك حصارها وقيودها ونفض الصدأ الذى تراكم علي وجودها فاعلنت حربها المقدسة فى الدفاع عن جوهر صورتها وأساسها الوجودى ، فاجتهدت فى مغالبة التفسيخ الذى ألحق بشخصيتها واستواءاتها الحضارية ، فقرأت تاريخ وجودها ، ماضيها ، وحاضرها، ومستقبلها, وأدركت ذاتها ومعني وجودها، فكانت امرأة شاعرة تستشف ذاتها ، وتجسدها بالقصيدة التى تؤديها بغنائية عنبة ، مرددة صداها الطبيعة التى لم تكن إلا قرينتها فى الوجود ، ولقد تجسدت هذه الرؤية فى شعر غادة السمان علي شكل ثنائيات مقترنة لإنبات المدلولات العميقة ، لصورة المرأة فى الطبيعة . . . ويمكن قراءة هذه الثنائيات التى تؤسس رؤية غادة السمان فى استجلاء الهوية وتأسيس الاختلاف علي المستويات التالية :
الكائن / الكون :
- · لم تكن غادة السمان شعرياً منغلقة علي نرجسيتها فى الانتصار لجنسها وتمجيد كونيته ، لأن الكائن هو أداء الكون ، قطباً الوجود ، وهما علاقتان متواشجتان لتحقيق الوجود ، فالمرأة ليست رهينة الافتنان بكونها بقدر ما هى مشاركة فعلية فى حركية الكون وأداءاته الاجتماعية ، فالمرأة أحد أهم أقطاب القوي التى تجند فى سبيل بعث الوجود واستعمال حضارته لخدمة الكينونة وخلود الكون من صورة الخصب والجمال الذى تصبح المرأة مادتها :
(لا تباركنى بفتور
اقتلنى بحرارة
وفاء للحياة
بدلاًمن نذوى معاً ببطء
وفاء للموت
ها أنا أفتح صندوق الآثام
لأستعيد حصتى من النجوم والأزهار والفراشات والأكاذيب وأمضى هاربة من ميتم النساء اللطيفات الدامعات
إلي حيث أصنع فصولى وأختار رياحى وغاباتى وصقورى وأكسر إبرة بوصلتى التى لم تكن لتشير إلا صويك1)
تستحضر غادة السمان الأنثي فيها صورة للطبيعة فى ألق خلقها وفرادة خصوبتها وكونيتها لتأصيل جوهرها وتأكيده، ونشر آليته الجمالية التى تمنح الوجود جناحه الآخر للتحليق والمثابرة علي تحقيق أفقه ، وهى تستبصر كينونتها فى ضوء حركتها المتفاعلة مع الوجود ، وطبيعتها وخصوصيتها وإيحاءات هذه الخصوصية فى إشاعة الوجه الجمالى المتجسد فى كينونتها؛ أى تصير المرأة وجوداً بالآخر ليشف عن الكون:
(لو لم أكن حرة كالأمواج
لما استطعت اختيار شطآنك لأروح
وأجىء عليها ليلاً
أسامر الرمال والقواقع والنجوم وضوء القمر منشدة بصوت عرائس البحر لو لم أكن حرة لعجزت عن حبك2)
لاتنشد غادة السمان المغايرة إلا لتحديد موقفها تجاه القطب الآخر الرجل بأداء بحصن خصوصيتها وجوهرها ، ويصون حريتها كمشارك غير مصفد بالعرف الشرقى الأبوى، لذلك تحاول الشاعرة اختراق النص الأنثوى السائد وإبداع نص جديد مبدع بموازاة جوهرها وحقيقتها ، لقد آمنت الشاعرة بضرورة التغيير، وتأصيل شخصيتها بوصفها مشاركاً محرراً من الوصاية ، فانطلقت تبحث عن أجنحة تليق بأفقها وخرجت عن النص الذى رسخته التراكمات المضادة لحقيقتها ، فأبدعت النص المضاد “نصها الآخر،.
(لا أريد أن أحبك ولا أنساك
أريد أن أظل علي حافة ذلك الوجع الغامض الملقب حباً
كى أظل أكتبك حتى النفس الأخير لمحبرتى وبين آن وآخر
ضمنى إلي جناحيك وحلق بى
لنحتفى بأمسيات
كنت أزورك فيها شرنقة
وأغادرك فجراًفراشة)3
تولدت المواجهة بين غادة السمان والنصية القديمة المرسومة لها ـ موضوعياً ـ فلم تأخذها الحماسة لبناء وضع الهجوم إذ القصيدة النسائية لم تتذرع بجملة هجومية بقدر ما كانت فى وضع الدفاع عبر استيصارات واعدة مسترشدة بحركية الكون وسيرورته وفهم موقعها بوصفها قطباً أساسياً فى تنشئة الكون وديمومته لذلك حققت الانقلاب علي المساكنة التى فرضها الآخر لا حتوائها مكسورة الجناح ، فسعت الشاعرة لإلغاء هذه المساكنة مجاهدة فى سببل فتح فضائها المغاير والمشروع بحثاً عن التوزان الوجودى وتفسيخ القواقع المتكلسة التى تصنعت لتغييب حقانيتها فى ممارسة قطبيتها الوجودية .
الجسد / الأرض
تنشأ هذه الثنائية فى شعر غادة السمان استجابة لنداءات الذات قصد الانبثاق من خفائها والأندساس فى أصقاع الحياة ـ الشعر ـ حيث تستقصى الشاعرة من خلالها كينونتها، وذلك بمقارنة دلالات الجسد ـ الخصوصية ـ (ولادة ـ عطاء ـ حياة) مع دلالة الأرض التى تماثلها ، وتلتقى الدلالتان فى دلالة كلية هى (الأم) ولا تحتاج دلالات الأمومة لكثير من التشريحات ، لاستشراف هويتها الكلية ورصيدها الكونى ومركزيتها للحياة ، لذلك أصبحت الكتاب الأنثوية توجهاً حيوياً حلولياً ، يساكن الأشياء لإيقاظ قوانين الحياة فيها وبلورتها خصوبياً .
(هل تذكر كيف كنا نمشى فوق رؤوس أشجار الصنوبر والتلال ونتعثر بالنجوم
وكيف كنا نمد أيدينا إلي القمر ونلاطفه كقط وكيف كنا نغمس أقلامنا بالغيوم
ونكتب بحبرها الشفاف علي صفحة الأفق حتي فجر الأوراق الساخنة
هل تذكر كيف كنا ننفض التثاؤب عن وجه المدينة
قبل أن نذهب إلي النوم والشمس تقهقه تصيريدك بجعة
وأنت تمدها صوبى لتحتوى وجهى بكفك علي ارتفاع ثلاثين ألف قدم من الذكريات4) تبنى غادة السمان تفاصيل صورة المرأةمن خلال التشكيل الحيوى للهوية الأنثوية قصد استكشاف بناء الاختلاف فى هوية المرأة العربية لكونها شاعرة لم تعد مجرد أنثي تصارع لتحديد جنسيتها المطابقة لجنسية الأرض وحسب ،لذلك ركزت فى جهادها لتحقيق ذاتها بوصفها بنية كونية لا تحجمها الأسلاك والحدود ، مما يفتحها علي تحقيق بهاءات إضافية يستدعيها الاختلاف فى تشكيل الأنوثة :
(إذا التقينا
واستيقظت الغجرية فى أعماقى
من سباتها الاجتماعى الطويل
وعادت تخاطبها العناصر
ينادينى النهر الشهى : تعالى وأغرقى. .
لتتعلمى
كيف تتنفسين ملء رئتيك
تنادينى الريح : أنا صوت القادرات المجهولة
ألم تفتقدى الرحيل إليها
تنادينى الشمس : تعلمى حكمة الغصافير الإقامة فى العش طقس عابر
والطيران وحده هو الحقيقة)5
تتركز المغايرة التى تنشدها الشاعرة فى بنا مجري لذاتها فى جغرافيا الوجود الكونى فى صورة اندساس ذكى فى السيرورة الحضارية ، لقد راحت الشاعرة تنشد أفقها المطلق ، مكسرة النص المحنط لكونيتها وإشراقاتها ، وتجدد فى ألوانها التى بهتت بفعل الصدأ الذى فرضته التراكمات المتولدة عن الانحدار الفكرى الحضارى، اللذين طبعاً المراحل الظلامية التى تشكل عنوانات واقعنا، ونتيجة إحساس الشاعرة بةطأة هذه التراكمات والحيف الذى يلحق بها من جرائها، راحت تحدد موقفها وتستحلى موقعها مجترحة المفهومات والأدبيات المتداولةعن كيانها لخلق مفهومات جديدة تليق بكينونتها ، وهذا ما حتم عليها ابتكار الآفاق الاختراقية باستجلاء جمالية أخري لمفهوم الجسد/ المرأة ، وتحليقات إبداعية خارجة عن قانون الرؤية الجمالية السائدة:
(أعيش حباًعلي غيرهدي
حباً ماكر الأفراح ، متأرجحاً داخل مراياه
كالمدن المشيدة فوق الماء
فهل تجرؤ علي أن نمد يديك
وتفتح ظل الباب المتماوج فوق صفحة المياه
وتقبله منى … ذلك الحب الضل..
وردة سواء
فى ليل المخاطر الشهية لا مرأة ونبقية الأمزجة وتعشق الحب وتكره الحبيب6)
إن نص الأنثي مضاد للثبات ومرفى عمقه
الشعرى نص خلق وتجلى لذاتهاعبر
جغرافيتها الداخلية ، فالشاعرة تنشد أغنيةخصوبتها الوجودية فر أرجاء محيط الكون” :
(عصفور ينقر حبة قمح من يدل
ثم يعاود طيرانه
فىالمدي
هكذا الحب
لحظة فرح كونية هاربة ،
كنجم اشتعل ثم هوي8)
الحب / الفصول :
تأسست رؤية غادة السمان الشعرية علي فضاء الهاجس الأنثوى وطاقاته ، فإذا كان الحب أنوثة الأشياء لخصوبته وجماليته فإنه فى الشعر يصبح إعادة بناء للعالم جمالياً وخصوبياً ، لذلك لم تعد الشاعرة تري الحب وفق الفرالب المنجزة أطراً تراجيدية تتغناه الأساطير والتراث الوجدانى بمنتجاته المأساوية، فالحب هوأداء خلقى حمالى متمايز بحضاريته ويساعديته الكونية، وليس علي الشاعرة أن تجعل من صورتها ترجيعة لبكاءات ليلى العامرية . . ونواحات بثينة . . فالحب فصول من ماقبة، تشكل فى هذا التعاقب دورة الحياة ، دورة البناء الحضارى وإنشادات خلوده ، وهذا ما يستدعى الأداء الجديد وطقوسه الخلقية المتمايزة : (منذ ألف عام كان ربيع وأحببتك
وباركتنا البراعم وعصافير الفجر
اليوم
إينما كنت وكيفما كنت أتذكرك مع الربيع
تهب رائحة زهر الليمون علي
حتي وأنا فى عرض البحر
فهى عبير أيامنا معاً)8
أيقظ الوعى الجديد المتسرب إلي الشاعرة الحديثة من الثقافات المعاصرة المرتبطة بماهية العصرـ الإدراك بحتمية اختراق النص الموميائى للحب ، وترسيم آفاق ملائمة لوجودها وقيمتها الحضارية وماهيتها الإنسانية، فاجتهدت فى قراءة نصية الحب بأصابع مغايرة ، قرأتع فصولاً ، لانصاً ، فصولاً تتعاقب وتتداخل لتشكل كونيتها الجديدة ودورتها التصاعدية ، وأنجز هذا الحب حركية إنتاجية خصبة فى سيرورة الاختراق الحضارى ، وهذا ما دعا الشاعرة أن تنطلق فى مغايرتها من تحديد موقعها بوصفها فرداً مشاركاً فى بنية الحضارة ، وتحقيق السمات اللازمة لهذه المشاركة ومايستلزمها من تحرير وانطلاق وتجديد لغة الأنوثة وأغنيتها المتخاصبة :
(منذ عصور وأنا أتوغل فى حبك
آملة أن أتعرف علي نفسى
فى حبك شىء من حرارة أهل دمشق
وياسمين دمشق وعذوبة دمشق
وخرير مياهها وزمنى الغابر
اللامنسى فى بلاطها
أتوغل فى خضرة حبك
أخطو إلي أحشاء الأشجار
لعلنى أتعلم الاستقرار
لكننى حجر لاينمو عليه العشب إلا إذا تدحرج)9
إن ثقافة التجديد التى تتلبس الشاعرة تفرض علي الشعر النسوى أن يتحول إلي تقصيات رؤيوية تجترح الأنوثة من الظلامات المتمكنة من الواقع ، والظرمية السيدة له ، مما يحيل النص الأنثوى إلي اختراقات للنص المألوف والقاعدة المتآكلة والمترسبة فى حركية الواقع وإجراءاته الاجتماعية لذلك تصر غادة السمان علي تحقيق كيانها من دون أن تمكن الآخر من ابتلاعه وتذويبه، فتسعي إلي تحصين هذا الكيان بالدفاع عن جوهره وأحقيته ومشروعيةنورانيته الحضارية ، فالحب ليس إجهاضاً للجوهر الأنثوى لأنه تأصبله وتأكيده
واستمراريته:
(تسألنى عمن عرفت قبلك
هل أنت ترتدى ذاكرتى
كقميص خش مطرز بالأشواك
تركض به بعيداً لتتعذب
لن أقف أمامك مذنبة مثل منبه رن قبل الأوان
لن أهرب من الصدق إلي الشعر
نعم أحببت قبلك
وسأحب بعد
ذلك لا ينفى أننى أحبك10)
ثقافة الاختلاف
فى ختام هذه القراءة شعر غادة السمان لابد من التأكيد علي أن تجلى مقولة اكتشاف الهوية وبناء الاختلاف فى شعر غادة السمان ينفتح دائماً علي فضاءات مضاعفة كون غادة السمان تبنى فى شعرها ثقافة الاختلاف قبل كل شىءوهى تمارس هذه الثقافة فى شعرها علي مستوي الشكل والمحتوى اللذين يخرجان علي النص القديم للأنثي العربية لذلك فنصها الشعرى الجديد والعابر للنص الشعرى العربى يطرح إشكالاته وصدامه المميز فى الثقافة العربية معرفة وفناً ورؤية مما يجعل صورة هوية الأنثي العربية فى شعرها محيطاً شائكاً من اختلاف الكتابة المختلفة .
الهوامش
1- غادة السمان : رسائل الحنين إلي الياسمين : منشورات غادة السمان ،بيروت لبنان ،1996،ص 74-84.
2- غادة السمان : عاشقة فى محبرة منشورات غادة السمان بيروت ، لبنان 1995، ص142.
3- غادة السمان : رسائل الحنين إلي الياسمين ، مصدر سابق ص29-30.
4- المصدر السابق ، ص32.
5- غادة السمان : عاشقة فى محبرة ،مصدر سابق ،ص62.
6- المصدر السابق ،ص101.
7- المصدر السابق ،ص138.
8- غادة السمان : رسائل الحنين إلي الياسمين ،مصدر سابق ص121.
9- المصدر السابق ،161.
10-المصدر السابق ،ص23.
مايو 2 2015
من خطاب الأن المبد عة إلى المخيلة النقدية ……. د. خلف عبد العزيز
من خطاب الأن المبد عة إلى المخيلة النقدية
رؤية في حتمية التكوين
والصدام الخطا بين الإبداعي والنقدي
ـــــــــــــــ
د. خلف عبد العزيز(*)
لم يكن رولان بارت منصفاً إلى حد بعيد حينما تصور أن المدول significant ملكاً مشاعاً ، مضفياً بذلك روح الثبات الدال – nifiesigوحده . ولقد أدت هذه التحولية القيمية للمدلول إلى تطور الصراع القديم بين الخطابين الإبداعى والنقدى . وبات جلياً اليوم والعالم طوى صفحات القرن العشرين أن الخطاب الأدبى (وهو خطاب وثائقى وتصورى فى آن واحد ساهم فى جلاء الكثير من الحقائق والألغاز التاريخية التى لم تتجاوز حد التضارب وعلامات الاستفهام لدى كثير من الكتابات التاريخية ذات الصبغة التبابنية) يعانى منذ مهده ضروباً من التشكيك والاتهام ، منذ أمد جد بعيد فى المخيلة النقدية التى صاحبته منذ قرون عديدة ويكفينا النظر فى خاتمة منطقية لشتى البيئات التى تمت تلقى الخطاب الأدبى فيها للتثبت من حقيقة هامة ، ألا وهى أنه ليس هناك نص أدبى يتمتع بوجدية خالصة ، فكيان قائم على حوار وجواره ووجوده الاجتماعى ولحظته التاريخية والبيئية ، هو خطاب يعيش على التغذى من النصوص الأخرى على حد تعبير أحد أبرز الميزانين النقديين فى هذا العصر 1، أو هو خطاب يستقى وجوده من انعاطفه وتبعيته للنصوص الأخرى التى تسبقه فى الزمن ، فكيانه بذلك رهن لقراءة ثانية لهذه النصوص التى يجرى حواراً معها وفقاً لتصور أحد اللغويين الغربيين المحدثين 2، أو هو خطاب استبدادى يستقى وجوده وماهيته من جراء الحوار الهش الذى يديره مع الوسط المتلقى الذى لا يمكن له أن يزامنه وفقاً لتعبير أحد من كرسوا جهد كبيراً فى ملاحقة الخطاب الأدبى 3.
هذا التلازم القديم بين الخطاب الأدبى ومتلقيه الذى يصطبغ بطابع فلسفى لم يكن ليمر دون أن يحرض الدراسات الإنسانية الأخرى وأهمها الفلسفة ، فى أن تدلو بدلوها فى هذا المعترك الاحتدامى السرمدى . فلعلنا نذكر إن سقراط ـ بعدما هاله أن ـ من بين شعراء عصره ـ لم يكن بينهم من يقوى على تأويل شعره بعدماً أخضعه لمنهجه الاستقرائى ـ قد سعى سعياً حثيثاً إلى فصل ثلاث قدرات يتمتع بها الإنسان ، بعضها عن البعض الآخر، أولهما القدرة على تلقى نص أدبى، وثانيهما القدرة على تفكيكه منطقياً، أخيراً القدرة على الحكم عليه حكماً موضعياً .
ومن بين القدرات الثلاث التى تحدث عنها سقراط ، ظلت الثالثة تحظى بشرعية ووجود بعدى من الناحية الكرونولوجية ـ chronologique من حيث علاقتها بالخطاب الأدبى المصاحبة له، ووجود فبلى لدى بعض الأوساط التى تلتحف بمعطف الثقافة فى حين أن سلطانها وبرجوازبتها الثقافية تأسستا على ما أفادته من المتلقى النقد الأدبى ، وليس من مطالعتها وعلاقتها ورؤيتها للخطاب الأدبى . أنها بالأحرى لهجة مزدوجة لهذه البرجوازية الثقافية التى لاتدين بالفضل لمن أسس عقلها الثقافى النقد الأدبى، بل تمضى وتعتمد لغه الخيانة الأيدلوجية وتدير ظهرها لمن ناصرته فى الباطن ، وتبنت أحكامه الخطاب النقدى فى الحوار التقريرى . وربما كان مؤشر مبيعات كتب النقد الأدبى بمختلف توجيهاته ومذاهيه فى أوروبا والعالم العربى يدلنا على هذا الوجود العلاقاتى المزيف بين ثلاثة أقطاب تصاحب عملية الكتابة ألا وهى الخطاب الأدبى الإبداع /الخطاب النقدى/ المستهلك الثقافى ، ففى حين تقدم أعداد هائلة ثانوية على اقتناء دراسات نقدية حول البؤساء لفيكتور هوجو، بندر رواد المكتبات الباحثون على شراء الرواية النص الأدبى المبدع.
الخطابان الإبداعي والنقدي :
حتمية التلازم والصراع
أن حتمية هذا التواجد بين العدوين الحميمين(الخطاب الأدبى / الخطاب النقدى) تظل دوماً لمثابة علاقة مزاحمة هيجيلية يحاول فيها كل فريق إزاحة واستبعاد الآخر حتى وأن كانت طريقة الإجراء هى الاعتراف بالآخر بغية إقصائه أو تهميشه فيصبح بذلك الحاضر الغالب . ذلك أن غاية الخطاب الأدبى وبعده الأيديولوجى ـ إذا تصورنا أن له غاية فى الأساس ـ تكمن فى محاولة إعادة إنتاج الواقع وفقاً لمعايير وصور شخصية بحته، أو البوح وإزاحة ما تضمره النفس المبدعة وفقاً للتحليل الفرويدى للأدب ، مقصياً بذلك دور العامل الآلى فى العملية الإبداعية وهو المتلقى أو الغريمى فالإبداع لايسعى لإصابة متلق أو جمهور مسلح لمعاير ثقافية معينة ، أى أن مسألة الإبداع ليست تصميم مؤلف لجمهرة معينة، أما الخطاب النقدى، وهو خطاب يستمد شرعيته من مزاولة نشاطه التذهيبى من التصاقه والتفافه حول الأدب، فيسعى ـ لاقيا فى سعيه كل نجاح ـ إلى تأصيل أدواته ومعطياته من خلال الخطاب الأدبى فيطاوعه ويلبسه قالبه وتوجهه أو يحاول أن يروضه مخضعاً إياه لما يمكن أن نطلق عليه التبني أو التجاوز العضوى للنص ، وهو محاولة تصغير النص وتفكيك وحداته بشكل يسمح بربطه باللحظة التاريخية أو الاجتماعية أو السياسية ، أو محاولة النيل منه بأدعاء أنه ليس خطاب الانا المبدعة ، ما هو إلا خطاب الـ ( نحن ) – أو الـ ( أندم ) أو الـ ( هم ) وهي إتحاد العناصر المؤسسة للنص الأدبي ، والتي تشارك في مركبات شتي كالطبيعة والجنس واللحظة والنصوص الأخري وغيرها كل بحصته ، فلا يصبح المبدع لذلك سوي أداة خلقتها اللحظة ودفعتها أن تكون ممثلاً لها . وفي كل من الإجراءين ( الإبداع والنقدي ) تظل العلاقة بين الخطابين علاقة تضاد وتزاحم تصب في بعض الأحيان فيما يشيه الاحتدام ، وهو احتدام تقليدي كالقول الشهير الذي يتبؤ به الخطاب الأدبي ، من أن إلي آخر متي استبد به الخطاب المنازع الخطاب النقدي ، وغداً ينال من الخطاب المنازع ما النقدي سوي إبداع محقق أو كالقول الضدي الذي يعتمده الخطاب النقدي متي ثبت له أن غريمه الخطاب الأدبي يسلب لب جمع غفير من جمهرة المثقفين ما كان للإبداع أن يوجد دون وسط مثاق ولجلاء الأمر علينا أن نقول أن الخطاب الأدبي يعاني في علاقته بالخطاب النقدي علاقة تصل إلي حد العبودية ، إذا جاز لنا استقدام هذا المصطلح من لغة الساسة واستخدامه في هذا المقام ، فإذا كانت وجودية الخطاب الأدبي رهن التصافه بوسط متلق شرعي الخطاب النقدي فإنه في ذلك التلازم الحتمي يقف موقف المتهم ، أبكم ليس له أن يدفع عنه سهام الآخر فينتهي به الأمر أن يطالعنا مذعناً في ثوب متلق عادي – كل حكم طالما أنه أصيب بداء إليكم متي قذف به في ساحة النقد وأصبح النص نصاً نهائياً ، ولهذا فتظل هذه العلاقة علاقة مزامنة مزمنة لا يستطيع أي من الفريقين الفكاك منها رغم الفارق الزمني الذي يفصل بين لحظة الإبداع والإنتاج النقدي حول الإبداع .
الشوفينية Chauvinisme :
ولا تخلو عادة هذه النزعة النقدية من دروب الشوفينية أو التزمت القومي ، إذ أن حضارة أمة تميل عادة إلي التنقيب في الحضارات الأخري بغية اكتشاف روحها وديناميتها المؤثرة في الآخر فيقودها هذا التعنت إلي إعادة أدني مركبات التشابه بينها وبين الحضارات الأخري حضارات مستقبلية ، ولكن سادت هذه الروح في النصف الثاني من القرن العشرين علي أيدي المقارنين الفرنسيين وتابعيهم إلي حد أن فرانسوا ماريوس حيار Francois – Marius Guyard جزأ الادب إلي آداب مرسلة وآداب مستقبلة أو آداب أوربية وغير أوروبية ، وهو إدراك ثار حوله جدل كبير في هذه الآونة ولم يتقبله نهج ما وراء المحيط ( النهج الأمريكي ) علي يد رينيه ويليك واوستن وارن ، وحتي داخل التقليد الفرنسي آنذاك علي يد رينيه ايتاميل Rene Etiemble الذي اتخذ من المثل الفرنسي ( المقارنة ليست عقلاً ) منهجاً له وألف كتاباً يدين فيه هذا النهج العنصري . ولقد أدي هذا الأمر إلي التخلي عن الشوفينية في الوسط النقدي الفرنسي فأصبح هدف الدرسي الأدبي كما يزعم ليف شيفرل Yves chvrel ، وهو أحد أعلام التقليد الفرنسي في الأدب المقارن وهو إطلاق الفرضيات والتقدم صوب الآخر وترك الناقد للنصوص يتحاور بعضها مع البعض الآخر بغية رصد القواسم المشتركة بينها .
وما كان لهذه الروح المتفشية التي يمارسها الخطاب النقدي حول الابداع أن تعاني الجمود بل تفشت في الدراسات النقدية الأخري التي مارست وما زالت تمارس حضوراً حول الخطاب الادبي ، كعلم الاجتماع ، وعلم الأسطورة ، وعلم النفس وعلم اللغة ، وأصبح القاسم المشترك بين هذه الدراسات جميعاً هو إحالة الإبداع إلي القضاء الاجتماعي كما يتصور الاجتماعيون وكان من أثر ذلك الموجة التي دعت في العقد السادس في القرن العشرين إلي دراسة الرواية والأدب دراسة اجتماعية بحتة وأعاودا هذا الخطاب الأدبي هي مرجعية أسطورية إلي حد أن البعض يميل إلي الاعتقاد بأن العمل الأدبي ما هو إلا تطور موروث وظل له ، وأن الحضور الأسطوري في خطاب الإبداع الأدبي يتمحور حول ثلاثة أبعاد مختلفة هي البروز والمرونة والإشعاع ، وربما كان علم النفس أقل العلوم الإنسانية جوار بالخطاب الأدبي فلقد اكتفي بالنظر إلي الأدب علي أنه حديث الأنا الآتية المعبرة عن خلجاتها دون عناء ، وأن ترسب اللاشعور يساعد كثيراً علي تشفير ألغاز مستعصية في الإبداع .
الهوامــش :
1- انظر مقدمة البروفسير جاري ماري كاريه ه Care Kan- Marie لكتاب Literature complete PUF Paris 1965 , P.6 .
2- Phlippe Soliers Thect d’ ensemble Paris , Seuil 1568 , p. 75 .
3- Dominque Mageeau Prognarique dud is cours intereaire .
بواسطة admin • 09-متابعات ثقافية • 0 • الوسوم : العدد السادس عشر, د. خلف عبد العزيز