دفترُها الأزرق. -وجيهة عبد الرحمن

كانَ عليهِ في البدءِ إرجاءُ كلِّ شيءٍ إلى فيما بعد.. إلى أجلٍ غيرِ مسمى… قالت لهُ ذلك, عندما كانا واقفين على ناصية الشَّارع, عند أول تقاطع مع الطَّريق المؤدِّية إلى منزلها.. حين كان منزلَُها.

لحظتها لم تخفض بصرها عنهُ, تكاد تلج حدقتيه اللتين كانتا على أتمِّ الاستعداد لابتلاعها, وهي التي بدت صَلبة كحجر الصوَّان الذي يصدر شرارة لدى احتكاكه بمثيلهِ الآخر.

بعد مِضيِّ كلِّ تلك السَّنواتِ الطويلة التي كانت حربُها معلَنةً فيها مع ذاتها.. لم تنسَ قط بأنَّها كانت منتمية إلى مكان ما.. لكن هل من مكان.. ما يزال ماثلاً يحفظ لها ذكرياتها.. وهل من وجود لمسنٍّ نسي أين خبَّأ دفتر يوميِّاته.

بعدما غادرت, وخلال سنين طويلة دأبت كثيراً على السَّير, كانت تقطع كل يوم ٍأميالاً كثيرةً, تُحصي فيها أيامها التي انصرمت ثمَّ تطيل التَّفكير فيما إذا كانت قد نسيت حدثاً وإن كان صغيراً لم تدوِّنهُ في دفترها الأزرق الذي رافقها طيلة تلك الأعوام..

منذ البداية اختارت أن يكون حَجمُ الدَّفتر كبيراً, فذلك الكمُّ الهائلُ من الأيام كان لابد لها من أن تحفلَ بالأحداث ِالكثيرة, التي اختارتها لتعبِّئ بها صفحاته، ربّما ستنسى حدثا ما مهماً لأن الجروح العميقة تكمن في بقعة مظلمة من زوايا القلوب.. لكنّها كانت في مجمل ِالأحوال حريصةً على ألا تنسى شيئاً.

بندول الذَّاكرة يتحرَّك بسرعة مخيفة.. وهي ما تزال قصيَّة.

أيَّة ُقوةٍ سحبت تلك القاطرات إلى الوراء بهذه السَّرعة الجنونيِّة, لتعود بنا إلى يومها الأخير هناك وأيامٍ مضت.. كانت الرياح تملأ الشِّراع والسَّفينة تنتظر.. كلُّ أمتعتها كانت مُعَدَّة في ذلك اليوم لترحل إلى حيثُ لم ترغب.

لم تخرج بتلصص, ماذا أرادت لنفسها لتغرينا بالصُّعود إلى متن تلك السَّفينة, كان رُكَّابَها غرباء.

يعتقد النّاس أنَّهم يفقدون أشياءً, لكنهم في الواقع لا يفقدونها, بل هي تنتقل إلى آخرين.

كل ما نملكهُ يتلقفه الآخرون مبتهجين.. أو يعمُّ الحزن قلوبهم فيما بعد..

بعد أن واجهتهُ ذات مرَّة عن سبب تردُّد أولئك النَّاس على منزل طفولتها بين الحين والآخر, لم يتردَّد عن التملُّص من الجواب.

الغريب أنَّ العديد منهم تردَّدوا على المنزل أكثر من مرَّة, والغريب أيضاً بأنَّهُ كان يجوب بِهِم أرجاء البيت دون أن ينسَ زاوية نسجت فيها العناكب بيتها.

تسأله: من هؤلاء, لِم َ تريَهم البيت ؟

يرد عليها ببرودة نسمات الشتاء الصّباحيَّة:

هذا فلان أعجبهُ منزلُنا ويريد بناء مثلهُ, وهذا آخر ربّما المفروشات قد أثارت إعجابهُ, أما ذاك فهو صديق الطّفولة سعيد برؤيتي أعيش في منزل كهذا.

هكذا كان يضع نقطة أخيرة لسؤالها الذي حيَّرها.

بعدما تسمع إجاباته كانت تساؤلاتها تنخر جدران الدِّماغ.

الشُّكوك واظبت على ممارسة فعلها المجنون وفي صمتها كانت تقول:

ربّما سيأتي ذلك اليوم الذي سأعرف فيه ما الذي تخطِّط لهُ.

لم تتذكر بأنَّها منذ سنين بلا ذاكرة كالمحيط, كانت قد فاجأته بتلك الورقة المذيَّلة بتواقيع وأختام, ربطتها بشريط الحرير الأحمر, عقدته على شكل وردة جوريَّة في أوائل الرّبيع.

كان يوماً لا يحمل موعداً لمناسبة ما لتكون الوثيقة هديتَها لهُ في المناسبة تلك.

فقط كان صباح يوم الجّمعة ذاك مليئاً بالمطر.. كانت تلك أطول ليلة في حياتها.. انتظرت حتى الصّباح بضجر, لتقدِّم لهُ نقطة انهيارها على طبق مع فنجان القهوة الصّباحي.

لم تكن تعرف بأنَّها ربّما ستنهمك في الموت بدلاً من العيش باستقرار.

استيقظت مبكِّرة مع الطّيور, أو ربّما لم تستيقظ, لأنَّها لم تنم, فقد كانت تعتقد بأنَّها إذا غفت سينتهي أمرها وستفقد المفاجأة بهجتها, لذا آثرت البقاء مستيقظة.

وضعت الوثيقة على سفرة الصَّباح مع فنجانَيّ القهوة الوسط في الصَّباح, والتي ستتحول بقية النَّهار إلى عديمة السُّكر (سادة ) بطعم رماد أيامها الآتية.

هيا أغمض عينيك قالت لهُ بشيء من اللطافة المَشُوبة بالدّلال.

ماذا ستخبرينني, الوقت ما زال صباحاً, ثمَّ أنَّنا أنهينا أحاديثنا في الليل وليس من جديد على ما أعتقد, قالها مبتسما كالذي يعلم بموتها.

عندما يعلم النَّاس أنَّك تموت, يبدؤون بالإصغاء إليك فعلاً.

وكالطَّائرة التي تهتز لدى الإقلاع أو الهبوط, اهتزَّت من رأسها حتى أخمص قدمها, وهي تقدِّم لهُ مملكة باشرت بالسُّقوط.

الأمور التي نملكها هي التي ربّما وفيما بعد ستملكنا.. في نهاية ما.

هذه لك .. قالت هامسة.

ما هذه الوثيقة قالها بدهشةٍ ما .

افتحها فقط وستعرف.

فتحها بشغف النَّحل الودود مع وردة نيسان, يمتصُّ منها رحيقها, فتغدو بلا رائحة…

لماذا فعلتِ ذلك, قال..

تمنَّت لو استطاعت قول شيء.. سكنها الصَّمت.. ثمَّ قالت:

أحياناً نقوم بأشياء لا نعرف لماذا نقوم بها, ربّما هناك صوت مباغت يهوي على مسمعنا يأمرنا .

لا عليك كلانا واحد, ثمَّ رشفت أول رشفة قهوة من فنجانها.

وكملك قديم ينظر إلى مملكتهُ, راحت تجول بنظرها في أرجاء الغرفة تتفحَّصُ الموجودات التي ستتحوَّل ذات يوم إلى ركام.

ومن ثّمَّ شعرت بالبرد.. أو ربّما خوف.. ثمَّ انقضت أيامها .

شقَّت الظّلمة طريقها إلى غابات العالم المسكونة بقلوب البشر التي يسهل إفسادها.

في السِّجن قد يُشغلُ المرءُ ذهنهُ في أيَّ شيء كي يمضِ الوقت.

في سجنها الفسيح أخذتْ تملأ ُأيامَها بما يشغلها عن الخوف, بعدما حفرت بأظافرها الليَّنة تلك الهوَّة السَّحيقة بينهما والتي بات من المحال ردمها.

صراخها كان هستريا لا يُسمع.

تحوَّلت الحياة بينهما إلى أشبه بحمل يُثقل كاهليهما, وكأن هذا الرجل كان بانتظارِ فاتح ٍ لمكنوناتهِ, لينطلق إلى حيثُ يشاء, وليعلن مللهُ من حياةٍ كانت من صنعهِ, فكانت تلك الوثيقة هي الفاتحةُ العظمى..

بدا وكأنَّهُ تسلَّم مقاليد الحكم وصارت زمام الأمور بيده.. تناسى بأنّها قبلاً كانت كذلك.

رتابة الأيام ِلا تُطاق, تحوِّل المرء إلى آلة, لكنّهُ قبلاً أيضاً كان في خضَّم هذا الضّجر….  ما الذي تغيَّر, ردَّدت ذلك كثيرا ًوباستغراب.

استسلم لرتابةٍ مقيتة, فقد قسَّم يومه إلى قسمين تفصلهما وجبة الغداء ثمَّ القيلولة, في الصَّباح كالعادة يكون في عملهِ, أما ليلاً تراه يمضي إلى دروبه التي اختارها لذاتهِ, ولا يعود إلا في وقت متأخِّر.

لم تكن ترغب في سؤاله ِعن وجهته إلا ما ندر, لم تكن راغبة في التعمُّق في ما خرج من راحة اليد كالطَّائر.. حتى لا تفقد الرَّابط المثالي, الذي كان يربطهما, في حال لم يرغب في الإفصاح عن حقيقة ما آل إليه, فتنشب مُشادَّة بينهما.

كانت تدرك تماماً بأن الشَّخص يكتسب طباعاً مع الزَّمن, وهناك أخرى تولد معهُ, لكنّهُ لم يكن حادَّ المزاج هكذا.

منذ سنينَ ونحن معاً.. تحاور نفسها, وفي كل مرَّة تترك هواجسها معلَّقة في بقعة ما دون البتِّ بما يراودها من أفكار علناً.

لكن مهما طالت ذؤابات الحشائش تحت الصُّخور, لابد من أن تحفِر لها نفقاً أو تزحف خلسةً, لتجد لها طريقاً إلى النّور.

بعد طول انتظار لما ستؤول إليه تلك التّغيرات الطَّارئة عليه, جاء اليوم الذي سيفصح عن كلِّ شيء, زحف ذلك اليوم الذي سيحدُّ من هواجسها زحفَ أفعى جريحةٍ مهشَّمةِ الرأس.

ربّما لم يخطِّط لذلك اليوم, لكنَّ المصادفات أحياناً تزيل الغبار عن الحقائق, مهما رغبنا في طمسها.

كان الوقت عصراً, حين طرق أحدُهم الباب, آثرت أن تفتحهُ هي, فتحت الباب الفاجعة, إذ  ينتصب أمامها رجلان وامرأة, غرباء كانوا ولم يكونوا.

ذاكرتها نبع الربيع, تذكَّرت مباشرة بأنّهم منذ مدة كانوا زواراً عندها في البيت, حينئذ ادَّعى زوجها بأنَّهُ أحد أصدقائه القدامى, قد جاء لزيارتهِ بصحبة زوجته وأخيها بعد أن كانوا خارج الوطن لمدّة طويلة.

هذا المنزل مليء بالمفاجآت.. تتوالى عليه بشتّى الألوان, ما من صباح مضى إلا ويكون حاملاً معه مفاجأةً ما.

انبعثت منهم رائحة ُمفاجأةٍ, كما رائحة الرِّيح حين تهبُّ من مرج بعيد .

وكالّتي فقدت عنزتها, وراحت تدور حول نفسها باحثةً عنها, أصبحت تمارس لعبة الأعاصير التفافاً حول نفسها.

أُلجِمَ لسانُها.. فسحت لهم الطَّريق للدّخول.. بينما تسمَّرت خلفهم ترقبهم, لم يكن لديها أدنى فكرة عن غدها, وعمن سيُصبحون أصدقاء عمرها..

بانوا مستعجلين, لأنّهم لم يجلسوا, فقط رأتهُ كيف صار جمرة ملتهبة فرحاً عندما مدَّ يدهُ ليتسلَّم حقيبة ملؤها النقود… وأي شيء يفسد العقول والقلوب سواها.

وأيضا رأته يقدِّم لهم وثيقة.

الذاكرة قصرٌ آيلٌ للسقوط, إلا أن بعض القصور منذ القديم ما تزال ماثلة…

صار جسدها مكاناً دافئاً بلا ذاكرة.. فقد دماغُها موجوداتِهِ.. لكن في ركن ما من خلايا الدِّماغ قبعت صورة الوثيقة و شريط الحرير الأحمرِ.

إنَّها ُالوثيقةِ ذاتها, ولكنّه لم يربطها بشريط ٍأحمر, لأنَّه لا يهديها بل استلم مقابلها تلَّة من النقود.. (الجندي حين يموت في المعركة, لا يرتدي أبهى ما لديه .. بل يغادر متّسخة ثيابه)

بعد قليل غادر الأشباح الثّلاثة, بعد أن اتفق معهم على موعدٍ لتسليم البيت.

حينها أدركت أنَّ رحيلها صار حتمياً وأنَّها لابد من أن تضمَّ إلى أمتعتها حفنة الخوف المهذَّب.. ويجب أن تغادر ِ إلى مكان ما دونما عودة إلى خليتها.