لحظات سياسية سينمائية مشرقة محمود قاسم *

لحظات سياسية
سينمائية مشرقة
محمود قاسم *
باسم الأمة تعلن قناة السويس شركة مساهمة مصرية ..
* هذه الكلمات كانت المفاجأة الكبري بل أهم وأجمل ما سمعته الآذان العربية في القرن العشرين حين طلع جمال عبدالناصر علي العالم بمفاجأته استرداد قناة السويس في 26 يوليو 1956 .
وتحركت الأحادث بسرعة وصار ما يحدث في المنطقة حديث العالم وبدأت الحركة السياسية قبل أن يتم العدوان الثلاثي في 29 أكتوبر 1956 .
وشهدت المنطقة أحداث ساخنة .. انتهت بخروج قوات العدوان في 23 ديسمبر من نفس السنة لكن .. تري أين كانت السينما .. ؟
لأن السينما إبداع .. وفن جماعي فقد تحركت بشكل قوي أثناء الأحداث .. وقدمت في 8 يوليو 1957 فيلماً ضخماً عل يمستوي الأحداث .ز فيلم اشترك في بطولته أكثر من مائة نجم بالإضافة إلي المجاميع والتصوير بالعدسات العريضة (سينما سكوب) اسم الفيلم هو (بورسعيد) .
المخرج هو “معز الدين ذو الفقار وهو أيضاً مؤلف القصة والسيناريو .. أما كاتب الحوار فهو علي الزرقاني ..
الفيلم صورة عبده نصر في مدة عرض 140 دقيقة وعرض لأول مرة بسينما ريفولي الممثلون الرئيسيون في الفيلم هم هدي سلطان فريد شوقي ليلي فوزي شكري سرحان زهرة العلا أمينة رزق رشدي اباظة حسين رياض سراج منير كمال يس أحمد مظهر توفيق الدقن نعيمة وصفي كمال حسين نور الدمرداش عدلي كاسب زينب صدقي رياض القصبجي شفيق نور الدين والمخرج عز الدين ذو الفقار والطفل سليمان الجندي.
تدور الاحداث في مدينة بورسعيد ..
بورسعيد الباسلة هناك أسرة وبقايا أسرة تربط بين الاثنين جيرة .. وألفة ودماء ابوين وهبا شهيدين في حرب فلسطين ..
الأسرة الأولي مكونة من فتحي الضابط البحري ( شكري سرحان ) وشقيقته وفية (هدي سلطان) وقد نشأ الاثنان بعد أن حرما من عطف الأم ومن رعاية الأب في حماية أم طلبة (زينب صدقي ) التي تعيش مع ابنها طلبة (فريد شوقي ) مدرب كتائب الحرس الوطني وطفلها مرزوق (سليمان الجندي) الطفل الذكي .
هاتانا الأسرتان تعيشان في هناء ويضاعف من قوة الصلات بينهما علاقة الحب العنيف التي تربط بين وفية وطلبة .
وفي بورسعيد شخصية أخري المرأة الإنجليزية الأصل المصرية النشأة مس بات (ليلي فوزي ) وهي تبذل كل جهدها لأن تتقرب إلي أفراد الشعب .. وأن تغزو قلب فتحي وتبوء محاولتها الأولي بالفشل .
لكن المحاولة الثانية تنجح ..
ثم يقع العدوان الغاشم .
وتدوي صفارات الانذر .
وتشاهد المدينة صراعاً عنيفاً ضد العدو ..
صراع فيه بطولة .. فالكل يجود بالدم وصراع فيه خسة .
فهناك عصابة من الجواسيسيرأسها ويليامز (عز الدين ذو الفقار ) وتساعده مس بات ويكشف فتحي سر العصابة فيقبض علي ويليمز وتفر بات إلي مكان مجهول … حيث يساعدها مور هاويس (أحمد مظهر ) علي تكملة رسالة الشر .
وينكشف في المدينة معدن المصريين .. صاحبة المقهي تحول المكان إلي مأوي لأبناء المدينة .
وأم الجندي الباسل الشاويش محمد تعيش مع كل طلقة .. وتموت مع الطلقة الأخيرة .
المدينة كلها تتحول إلي جندي مقاتل .. بشوارعها التي تلتهمها النيران ، والدبابات التي تجوب كل مكان حاملة آلية الموت والدمار ويكتشف الأهالي في شيكو الحلاق (توفيق الدقن ) جاسوساً فيقبضون عليه ويستغلونه ضد القوات المعتدية . ثم يقتدون به طلبة وتستمر المدينة في نضالها حتي يكتب لها النصر .
الفيلم الثاني الذي عرض في نفس الأسابيع هو “سجين ابوزعبل ”
الفيلم عرض في 17 يونيه 1957 .
كتب له السيناريو وأخرجه نيازي مصطفي وكتب له الحوار والسيناريو السيد بدير والفيلم من تمثيل محسن سرحان محمود المليجي منيرة سنبل استيفان روستي سعيد أبوبكر .
الموضوع هنا يختلف لكن أحداثه مرتبطة بالعدوان الغاشم علي المدينة .
فنحن أمام اثنين من الخصوم .. زج الأول بالثاني في السجن ووجد الأول نفسه في داخل نفس السجن ،أنه ابوزعبل .
والفيلم مأخوذ عن حادثة حقيقية حين هاجمت الطائرات المعادية سجن ابوزعبل وقام بعض المساجين بتسليم أنفسهم بدلاً من الهروب .
إلا أن السينما هنا اختلفت قصة خيالية ممزوجة بالبطولة تدور حول تهمة ملفقة لإدخال شخص (محسن سرحان ) السجن ولكن المرصاد يتصدي للشرير الذي دبر هذه التهمة فيدخل نفس السجن وفي السجن تقع الغارة المشهورة ويهرب الصديقان اللدودان إلي مدينة بورسعيد ، كي يدفع السجين البرئ حسن بغريمه أن يتزوج أخته .
ويكشف فيلم ” سجين أبو زعبل ” أن المصريين هم الذين دافعوا عن مدينتهم ووطنهم أما الاجانب الذين عاشوا في بورسعيد فهم الذين تجسسوا لحساب العدوان فالخواجاية ( منيرة سنبل ) تعيش مع خواجة مثلها ( استيفان روستي ) ويأوي الاثنان في البيت بعض جنود العدوان الذين هبطوا بالمظلات .
والفيلم بمثابة حالة وطنية عالية فالسجناء يتحولون إلي فدائيين ويحملون السلاح ضد العدو بعد أن كانوا يتقاتلون فيما بينهم وهناك واحد منهم ( محمود المليجي ) يستشهد في المعركة ويدفع حياته ثمناً لفداء وطنه أما الثاني فإنه بعد النصر يقوم بتسليم نفسه إلي المسئولين .
وهناك قصص سينمائية عديدة أخذت من الواقع ومن أهمها بالطبع قصة استشهاد مجموعة من ضباط البحرية العربية في معركة البرلس .
هذه القصة قدمها السيد بدير في فيلم حربي يحمل اسم ” عمالقة البحار ” عام 1960 وهو أول فيلم عن العدوان الثلاثي يشترك في تأليفه اثنان من ضباط البحرية هما كمال الحديدي وعبدالله أبو رواش .
أما المخرج السيد بدير فقد كتب السيناريو والحوار بالاشتراك مع محمد مصطفي سامي الفيلم يدور حول شخصيات حقيقية عرفتها العسكرية مثل المقدم جلال دسوقي والطالب السوري جول جمال الذي كان طالباً بالكلية البحرية أثناء العدوان الثلاثي .
وقد بدأ صدق الفيلم من خلال الاستعانة بالشاب السوري عادل جمال ليجسد دور أخيه ، فبدا كأنه نسخة منه أما أحمد مظهر ( الضابط سابقاً في القوات المسلحة ) فقد جسد دور جلال الدسوقي .
وبدور الفيلم قبل العدوان علي مصر ، وفي الإسكندرية يتولي جلال الدسوقي تدريب مجموعة من الجنود والضباط علي وحدة قاذفات الطوربيدات الصغيرة .
ومن بين هؤؤلاء الطالب السوري جول جمال يقوم الطلاب العسكريون برحلة إلي سوريا وفي اللاذقية يلتقون بخطيبة جول جمال .
ويبدو مدي الحب الذي يربط بينهما يقوم العدوان ويوكل لجلال الدسوقي مهمة استطلاع موقع القوات المعادية تتم المهمة بنجاح وعند العودة إلي الوحدة البحرية يحدث اشتباك بين البحرية المصرية وبحرية العدو ويكون جلال الدسوقي وجول جمال من بين الشهداء .
وقد ظلت قصص البطولة في زمن بورسعيد تدول من خلال قصص حب إنسانية تدور داخل المدينة فابناء المدينة هم الذين يدافعون عنها وهم يدافعون عن الأرض والإنسان والممتلكات والماضي والحاضر والمستقبل . ولذا فإن الأفلام التي دارت عن العدوان الثلاثي كانت تمزج بين الحب والحرب ولم تر قصص الجنود الذين يذهبون إلي جبهة بعيدة للدفاع عن الوطن بشكل عام ، ولكن أبطال قصص هذه الأفلام غير محاربين وغير مدربين ولذا فإن غريبة الشكل وهم يواجهون قوات نظامية لثلاث دول لديها السلاح المتطور والتدريب العالي .
وبدت هذه السمة واضحة في فيلم “حب من نار ” لحسن الأمام الذي عرض في أوائل عام 1958 حول شابين هما أحمد (شكري سرحان ) ومحود ( يوسف فخر الدين) يتمتعان بنفس القدرة من الكفاءات الرياضية والخلفية .
لذا .. فهما يتنافسان علي حب الفتاة نجف “شادية ” ولا تستطيع المفاضلة بينهما وعندما يم العدوان الغاشم يتطوعان في الخدمة العسكرية ، أما نجف فتنضم إلي صفوف الهلال الاحمر يهاجم الاعداء المدينة ويقبضون علي أبويها وأسرتها فتقرر الانضمام والانتقام وتذهب لارتداء ملابس نات الليل وتذهب إلي البار الذي ينزل فيه الإنجليز وتحصل علي معلومات مهمة تمكن الفدائيين من مهاجمتهم يقوم أحمد ومحمد بالغارة علي المعسكر .
وتصاب نجف أثناء حملة فدائية ويتبرع لها كل من الشابين بالدم لكنها تموت بينهما .
وفي هذا الفيلم بدا أن حسن الأمام يمزج بين الحس الوطني والحس العاطفي وهو في هذا يكرر قصصاً سبق أن قدمها عن الحب والواجب الوطني مثلما حدث عام 1956 في فيلم ” وداع في الفجر ” بطولة كمال الشناوي وشادية ويحيي شاهين .
وقد ظهرت حرب السويس كما تسميها الصحف الغربية حدثاً سينمائياً هامشياً بعد العدوان علي مصر في يونيه 1967 .
والأفلام المصرية التي تناولت النكسة حاولت أن تمد جذور الحرب إلي عدوان 1956 .. ففي فيلم ( أغنية عل يالممر ) الذي أخرجه علي عبدالخالق عام 1972 .
كان الشاويش محمد أحد الذين اشتركوا في الحربين معاً .
والشاويش محمد ( حمود مرسي ) في هذا الفيلم يرفض الاستسلام مع أربعة من الشباب .. ونحن هنا لم نر الحرب ولكنه الشاويش محمد . رجل من الماضي وقد ظلت حرب 1956 بعيداً عن ذاكرة السينما المصرية لفترة طويلة .. بالطبع لأن انتصار أكتوبر المجيد قد أعادة التوازن الحقيقي للعسكرية المصرية ومكانتها في قلبو المصريين لذا تغيرت المفاهيم كثيراً .
وفي فيلم ” ليلة القبض علي فاطمة ” الذي أخرجه هنري بركات عام 1984 رأينا لأول مرة خائناً مصرياً في هذه الحرب .
من قبل كان الخواجات هم الخونة ، والانتهازيون .ز لكن جلال هنا شاب انتهازي يقوم بتهريب الأسلحة للمعتدين في الوقت الذي تقوم فيه اخته الكبري بتوصيل السلاح للفدائيين ومنهم الشاب الذي تحبه “سيد” والفيلم من بطولة فاتن حمامة ، وشكري سرحان ومحسن محيي الدين وصلاح قابيل .
أما الفيلم الذي عام إلي عام 1956 كنوع من الحنين فهو أحلام صغيرة لخالد الحجر عام 1993 والفيلم من تأليف المخرج والذي يبدو أشبه بسيرة ذاتية لأشخاص عرفهم قامت ببطولته ميرفت أمين صلاح السعدني رجا حسين سيف عبدالرحمن والطفل أشرف تامر .
وأحداث الفيلم تبدأ ف يلحظات الهجرة من السويس عام 1967 ، لكن الفيلم بمثابة رحلة حياة قصيرة عاشها طفل اسمه غريب في المدينة .
ولأن الفيلم بمثابة رحلة عبر الماضي الجميل فإن “غريب ” هذا هو ابن لزوجين اقترنا معا بقصة حب ووطنية وقد أطلقا عليه هذا الاسم حتي يعيش لأن كل أبناء أمه السابقين ماتوا ويعيش الصغير غريباً .
وتبدو الحرب هنا من خلال الأب فهو شاب وطني يتطوع في المقاومة الشعبية ليصد العدوان الثلاثي علي مصر .. وفي الحرب يستشهد مثلما دفع الآلاف من أبناء المدينة حياتهم دفاعاً عنها .
ورغم أن الفيلم حول الابن فإن ذكري الاب الفدائي تظل ماثلة في ذاكرة الابن خاصة عندما تتزوج الأم من رجل باهت مليئ بالقسوة أناني ..
وتبدو حرب السويس هنا بمثابة خلفية رائعة مقرونة بالحس الوطني العالي عند المصريين ولعل هذه النقطة هي التي وقف عندها الفيلم التليفزيوني السينمائي ناصر 56 الذي أخرجه محمد فاضل وعرض علي الناس في يوليو 1996 أي بمناسبة مرور اربعين عاماً علي تأميم قناة السويس .
عندما عرض هذا الفيلم كانت أجيال عديدة من الذين شهدوا هذا الزمن قد تسربوا مع السنين إلي عالم الأبدية .
وجاء جيل جديد .. لا يكاد يعرف شيئاً عن هذه الحرب سوي من كتب التاريخ كما لا يعرفون تقريباً عن عبدالناصر سوي معلومات بسيطة في كتب المدرسة .
ووسط مشاعر هامة بالاحباط رأي المشاهدون من أجيال عديدة لحظة وطنية بالغة القوة والسمو .
وشاهد الناس زعيمهم القديم يقف .. وحده في مهب الريح أعوانه ومساعدوه يحاولون مراجعته في قرار مصيري حول تأميم قناة السويس .
لكن عبدالناصر بمضي قدماً … ويعلن الحدث الأعظم أمام الناس يلهب مشاعرهم ويعيد إليهم بعض أيام المجد .
ولم يدخل الفيلم هنا دائرة العدوان بل وقف فقط عند مائة يوم من حياة عبدالناصر قبل التأميم وبعدها إلي أن قام بإلقاء خطبته في الازهر الشريف فلقي تاييداً منقطع النظير من ابناء الشعب .
والفيلم الذي كتبه محفوظ عبدالرحمن يحكي قصة الأيام المائة ، منذ بداية التفكير في تأميم شركة قناة السويس .. والتي كانت تعد دولة داخل الدولة … بعد أن سحب الإنجليز والبنك الدولي عرضه بتمويل مشروع بناء السد العالي .
والفيلم يعيش عملية صنع القرار مع الزعيم جمال عبدالناصر لحظة بلحظة .. بمكتبة مع وزرائه وأعضاء مجلس قيادة الثورة وبمنزله مع زوجته السيدة تحيطة وأولاده .. لحظات عصبية عاشها عبدالناصر بين ميد ومتحفظ علي قرار التأميم قبل إعلانه في اللحظة . الحاسمة ليصح أهم القرارات في تاريخ مصر الحديث التي جسدت الإرادة المصرية في استعادة حقوقها بتأميم قناة السويس .
الفيلم قام ببطولته أحمد زكي وفردوس عبدالحميد ، أمينة رزق ، حسن حسني وعشرات من الممثلين .
الآن .. هل عبرت السينما بصدق عن هذا الزمن .. ؟
لو أن السينما المصرية قدمت فيلماً واحد من طراز “بورسعيد : لكان هذا كافياً وكما شاهدنا فإن ما قدمته السينما هنا كان عن حالات إنسانية أكثر من فيلم عن حرب .. وكانت هذه الافلام عن المقاومة الشعبية وأبطالها نماذج إنسانية وطنية .. لكن الملاحظ أن السينما لم تقترب قط من أي عمليات عسكرية .