يناير
25
2010
مخاطر الغموض في المصطلح النقدي
د. أحمد درويش
هنالك طموح عام واكب الدراسات الإنسانية منذ القرن التاسع عشر وتمثل في حلم هذه الدجراسات في أن تلحق في منهجيتها ونتائجها بالعلوم التطبيقية وفي أن ينطبق عليها لفظ ” العلم ” بمفهومه المنهجي الدقيق ، ولم تكن محاولات سانت بيف للكتابة عن ” الفصائل والأنواع ” الأدبية والنفسية إلا صدي وإعجاباً بمحاولات واردة في نظرية ” الفصائل والأنواع ” في مجال العلوم التطبيقية .
وقد خطت الدراسات الإنسانية في سبيل تحقيق هذا الهدف خطوات ملحوظة في بدايات القرن العشرين ، وكان علم اللغة إلي جانب علم النفس من أسبق الدراسات في هذا المجال وكانت محاولات دي سوسير وتلاميذه ، موضع تقدير زملائهم في فروع الدراسات الإنسانية الاخري ، وموضع غيرتهم أحياناً ، ولاشك أن النقد الادبي باقترابه الواضح من مجال الدراسات اللغوية وباصطناعه للوسائل الإحصائية والرياضية في طرح فروضه والوصول إلي نتائجه وفي استعانته بنتائج الدراسات الغنسانية “الدقيقة” في مختلف فروع المعرفة الإنسانية ، لاشك أنه بهذاكله تتقارب خطواته في سبيل تحقيق الحلم ” العلمي ” لهذا الفرع الهام من فروع الدراسات الإنسانية .
لكن علينا أن نلاحظ في المقابل أيضاً أن الصياغة العربية لمعطيات النظرية النقدية الحديثة وتطبيقاتها – وهي نظرية ذات روافد أجنبية في معظم الأحايين – هذه الصياغة بسبب اضطراب المصطلح فيها – تكاد تهدد هذا الحلم من جذوره ، وتبتعد بالنقد الأدبي كثيراً عن مجال الطرح العلمي القابل للاستيعاب ، والقائم علي الحوار والبرهان ، بل وتكاد أن تبتعد به عن مجال ” المقروء ” المتداول أو تحصره في طائفة ذات لغة خاصة .
ذلك أن وضوح المصطلح شرط اساسي لدخول مادة ما في إطار العلم ، فالمصطلحات بمعناها العام الذي يشمل الألفاظ والتقنية العلمية أصبحت تعتبر اليوم أساس كل تكوين ، إذ لا تخصص بدون مصطلحات مضبوطة ثابتة والمصطلحات ، إذا تعمقنا التفكير فيها وتأملنا ما يجب عمله لنستطيع حقاً أن ندرك ركب الحضارة لمنطلق بسرعة فائقة ، أصبحت تحتل الدرجة الثانية من الأهمية بعد وسائل الطبع (1) .
إن ” فك ” المصطلح إذا يجئ مباشرة تاليا لفك الخط ، لكي يتدرج القارئ التدرج الطبيعي الذي يقتضي أن يقرأ الإنسان لكي يعلم ، وفي غياب وضوح المصطلح يجد نفسه في أفضل الاحوال مضطراًَ لأن يعكس التدرج الطبيعي أي أن يعلم لكي يقرأ وبذلك ينحصر تداول المادة المطروحة والإفادة منها أو أدعاء ذلك بين جماعة محدودة عالمة سلفاُ بما يقوله أفرادها – أو متواطئة علي إظهار ذلك وعندما يصل فرع من فروع المعرفة الإنسانية إلي هذه الحالة ، فإنه يكون مهدداً بالإنسحاب من دائرة العلم بل ومن دائرة المتداول المقروء إذا لم يتدارك أمره ويناقش قضاياه مناقشة جذرية صريحة .
فما الذي أوصل شريحة كبري من لغة النقد الأدبي في اللغة العربية المعاصرة إلي ما هي عليه اليوم ؟ ما الذي جعلنا تقع عيوننا في معظم الدراسات والمقالات النقدية الحديثة علي جمل وتراكيب ومقولات لا تكاد نخرج منها بطائل مع أن أصحابها دفعوا بها إلينا في ثقة بل وأحياناً في زهو من أمثال هذه الكلمات التي اعتبرها الدكتور محمد عناني بحق نموذجاً لهذا اللون من الكتابة (2) .
” إن الانهيار التركيبي في إطار التجني التداولي علي السطوعية للواقعية لم يعد يبشر بإمكانيات الفعالية المتنامية مهما تكون (هكذا) تأصلاتها الحقيقية أوالزائفة فحسب بل بالتجني علي الأدبية الحداثية أيضاً ” .
أليست هذه الظاهرة ومشتقاتها هي التي دفعت واحداً مثل الدكتور صلاح فضل إلي الإشارة إلي أن : ” المصطلحات تمثل العائق الأساسي في التلقي للنقد الحداثي ” (3) .
وإذا كانت المصطلحات في النموذج الذي نراه هنا والنماذج المماثلة قد كتبت بحروف عربية وبنية حمل فكر معين فما المعوق أو المعوقات التي تحول بينها وبين أداء وظيفتها ؟ وحملها للمعني النقدي المراد ؟
إن قضية “معني ” الكلمة في لغة كالعربية قضية دقيقة تدخل فيها “الظلال ” والترسبات التاريخية التي حملتها الكلمة عبر رحلة تعدد أطول الرحلات في تاريخ اللغات الحية ، إضافة إلي بعض الترسبات المكانية الناتجة من استخدام الكلمة ذاتها في رقعة واسعة متنوعة تمتد من المحبط إلي الخليج وإتصالها في كل بقعة بمؤثرات ثقافية محلية قد تختلف عن البقعة الأخري مما يترك دون شك ظلالاً خاصة علي استخدام كلمة ما في المشرق أو المغرب أو الخليج أو الشام أو العراق ، وهي ظلال من السهل التنبه لها لصاحب الثقافة اللغوية العربية الرفيعة وهي في الوقت ذاته عرضة لأن يقع في شباكها من تختل لديه كفتا التوازن بين ثقافته اللغوية العربية ، وثقافته اللغوية الأجنبية ، ذلك الاختلال الذي قد يجعل مفهوم الثقافة اللغوية العربية عنده يختلط قليلاً أو كثيراً بالمفهوم العامي أو المحلي ، وقد يضاف إلي ذلك المعايير الصرفية والنحوية الدقيقة في العربية والتي تتدخل في صياغة جانب هام من المعني ويؤدي عدم التنبه لها إلي الوقوع في اللبس والغموض .
إن بعض هذه العوامل هو الذي يدفع إلينا بمصطلحات نابعة من اقتراحات فردية في معظم الاحيان وتدي روح عدم النقد والتخصيص السائدة بيننا إلي تركها تترسب وتشيع فإن الاتفاق علي معني محدد لها أحياناً ، أو الاتفاق علي معني ما رغم عدم دقة المصطلح أو عدم كونه الاكثر ملاءمة بين مصطلحات أخري كان يمكن الاختيار منها ويؤدي سكوتنا إلي أن يشيع المصطلح بالتقادم وأن يكتسب صلابة ليست نابعة من قيمة الإيجابية بقدر ما هي نابعة من سكوتنا السلبي وعدم تمحيصه .
ولتأخذ علي ذلك مثلاً المصطلح الذي شاع في ترجمة كلمة ECART أو كلمة DEVIATION وهما مصطلحان يستخدمان في علم الإحصاء ، ويقصد بهما الخروج عن المعدل أو الانحراف عنه وتقاس من خلال ذلك ” الخروج ” أو ” الانحراف ” الظاهرة ومدي كونها عادية أو خاصة وعندما تم اللجوء إلي المعايير الإحصائية في قياس الظواهر اللغوية مثل معرفة الفروق بين لغة الشعر ولغة النثر أو بين وسائل التعبير الحقيقي والتعبير المجازي – تم استخدام هذا المصطلح والتفكير في ترجمة له ومع أن الظاهرة نفسها موجودة عند البلاغيين القدماء فإن الذين صكوا المصطلح الحديث أو أشاعوه لم يعبأوا بالمصطلحات القديمة أو لم يلتفتوا إليها في الوقت الذي سار فيه المصطلح القديم في نفس مسار تفكير البلاغي الحديث ، وهو تحويل الظاهرة من حالتها المعنوية المجردة إلي حالة مكانية مجسدة، فقد تصور الطريقة العادية للتعبير في النثر بطريقة غير مباشرة ، وأطلق علي ذلك الاجتياز اسم”المجاز” أي الطريق غير العادي الذي يجتازه المعني وفي إطار هذا التصور صدر أول كتاب في البلاغة العربية وهو كتاب ” المجاز ” الذي كتبه أوائل القرن الثالث الهجري أبوعبيدة معمر بن المثني ،ولم يكن يريد به معني “المجاز” كما عرف عند البلاغين فيما بعد باعتباره المقابل المعني “الحقيقة ” وإنما أراد به ما يقابل مصطلح ECART أو DEVIATION .
ولكن المصمم الحديث للمصطلح اختار صيغاً أخري بعض النقاد اختار “الانحراف” باعتباره ترجمة حرفية للمصطلح في علم الإحصاء فالشعر عندهم “أنحراف” بالقياس إلي النثر والتعبير المصور ” انحراف ” بالقياس إلي التعبير المجرد والأدب في نهاية المطاف “انحراف” عن اللغة العملية النفعية في الحياة اليومية ولا شك أن هذا الاختيار يسقط تماماً قضية “ظلال” الكلمة وهي جزء منها في لغة كالعربية .
فالأنحراف وصف خلقي لايساغ استعماله في الفن القولي الجميل ولا يكفي أن تكون الكلمة صحيحة أو دقيقة من الناحية المعجمية حتي تستخدم في المصطلحات وهذا هو الذي يمنعنا بالتأكيد من تسمية النافورة بالخرارة مع أن القدماء كانوا يسمونها كذلك لأنها آتية من خرير الماء يقول صاحب لسان العرب : الخرير صوت الماء والريح والخرارة عين الماء الجارية، سميت خرارة لخرير مائها ( جـ2 : 234 ) وهناك واقعة أدبية طريفة تتصل باستخدام هذه الكلمة ، وقد حدثت عندما قدم الأستاذ أحمد أمين كتابه ” فجر الإسلام ” إلي أحد أصدقائه من المستشرقين الذي قرأ الكتاب فأعجب ورأي أنه ” عين ما جارية ” في صحراء المعرفة القاحلة فكتب للأستاذ أحمد أمين ” شكراً لك ” .
لقد قدمت للثقافة العربية الإسلامية خرارة كبيرة ” لكننا أمسكنا عن التسمية لارتباط المصطلح بظلال غير حسنة ، والذين ييدون مصطلح الانحراف في الأدب قد يتوقفون قليلاً إذا امتد المصطلح نحوهم باعتبارهم منتجين للأدب فأصبح يطلق عليهم أنهم من زعماء الانحراف أو أنهم منحرفون باعتبار أن طرائقهم في التفكير والتعبير تختلف عن طرائق الناس العاديين من غير المشتغلين بالأدب يقول الدكتور صلاح فضل في بلاغة الخطاب وعلم النص : وأبرز هذه المصطلحات في تقديرنا هو مصطلح الانحراف الذي تعددت صيغة في اللغة العربية فمرة يبحث له الرفاق عن معادل بلاغي قديم هو العدول فيقلمون أظافره ويثلمون حده ، ومرة أخري يلجأ الباحثون إلي كلمة ذات إيحاء مكاني واضح هو الانزياح تفادياً للإيحا الأخلاقي المقصود والمستثمر في كلمة انحراف (4) .
وإذا كان مصطلح الانزياح الذي يستخدم للتعبير عن نفس المعني قد حاول تفادي الإيجاء الاخلاقي فقد وقع فيما هو اسوأ منه ، لأنه اختار كلمة تقع في إيحاء القبح وهي تتحدث عن علم الجمال ولا أدري عن أي ذهن أدبي تفتقت هذه الكلمة الغريبة ، ففعل الكلمة سواء في صيغته العادية أو صيغته المطاوعة لا يأتي أبداً في اللغة إلا مع الهوية والأمراض والأحزان والقاذوراته وأول ما يطالعك به أي قاموس صغير معاصر عند البحث عن كلمة أزاح أن يقول لك إزاحة إزالة يقال : أزاح الله علته فزاحت ، وانزاح زال ” (5) .
وانطلاقاً من هذا الرصيد اللغوي تردد العبارة المشهورة ” انزاح الهم عن القلب ” أو ” أنزاح البلاء ” أو انزاحت الكارثة ونحن لا نقول أبداً انزاح السرور أو انزاحت لحظة الصفا ” فكيف نقول ” انزاح الشعر أو انزاح الابداع وانزاحت الصورة الجميلة ” ؟!
ولا يختلف الامر في القواميس القديمة وهي تتحدث عن مادة الزيح والانزياح فيصاحب التهذيب يقول الزيح ذهاب الشئ تقول : قد أزحت علته فزاحت وهي تزيح قال الأعشي :
وأرملة تسعي بشعت كأنها
وإياهم ربد احثت رثالها
هنانا فلم تمتن علينا فاصبحت
رخية بال قد أزحنا هزالها
أما صاحب لسان العرب فيضيف بعد أن ينقل عبارة صاحب التهذيب زاح ، وزاخ بالحاء والخاء بمعني واحد إذا تنحي ومنه قول الشاعر :
لو يقوم الفيل أو فياله
زاح عن مثل مقامي ورحل
قال : ومنه زاحت علته ، وأزحتها أنا وانزاح ذهب وتباعد .
إننا لا ينبغي أن نتناسي ونحن ف يمجال أدبي إبداعي أهمية اللمسة الجمالية التي تكمل الدقة ولا تتنافي معها ، وفي هذا الإطار فإن كلا من مصطلح الانحراف والانزياح لا يصلح للتعبير عن هذا التحول الجمالي في مسري اللغة عندما تتحول من لغة نثرية عادية إلي لغة شعرية ويبقي مصطلح العدول الذي أورده القدماء ، أكثر دقة وجمالاً ويبقي كذلك مصطلح المجاوزة أكثر قرباً من روح المصطلح العربي القديم أو أكثر ملاءمة لمناخ الشعر.
وإذا تذوقنا وقع الكلمات علي ألسنتنا وآذاننا – بعيداً عن سطوة المصطلح السائد الذي فرض نفسه بالتكرار وعدم المناقشة – فسوف نجد أن التعبير عن الصورة الأدبية أو التعبير الشعري بأنه عدول أو مجاوزة بالقياس إلي التعبير العملي ، أقرب إلي الدقة إلي ناحية وإلي مراعاة الظلال بين شطرين من ثقافة واحدة من ناحية ثانية بالإضافة إلي كون ذلك عامل تواصل بين شطرين من ثقافة واحدة لا يفيد التقاطع بينهما إلامن حرم من موهبة المعرفة والإبداع فقرر أن يشد إليه الآخرين بدلاً من أن يلحق هو بهم .
إن الغموض يتسرب أحياناً إلي المصطلح من الترجمة الحرفية للمصطلح الأجنبي دون بحث عن العبارة الموازية التي يمكن أن تعكس المعني في اللغة العربية ومن المصطلحات التي شاعت في مجال العمل الروائي من هذه الطائفة ، مصطلح يستخدم في ألوان الرية التي يملكها الروائي بالقياس إلي شخصياته وهل يترك الشخصيات تتنامي بحرية أم يمسك بخيوط حركتها صديه وفي هذا الإطار يشيع عند النقاد الفرنسيين مصطلح VISION ARRIERE ويترجم بمصطلح الرؤية من الخلف وهي ترجمة حرفية لا تقدم في العربية إلا معني غامضاً بل قد تقدم من حيث الظلال ترجمة مسيئة وأعتقد أن روح المصطلح تتحدث عن رؤية الهيمنة وليس الرؤية من الخلف .
إن الغموض الناتج عن الترجمة الحرفية للخلف والأمام والأعلي والأسفل يذكر في تلك الطرفة الحادثة عن ترجمة غير دقيقة تضمنتها لافتة محل لتصفيف شعر النساء في إحدي المدن العربية وقد أراد صاحب المحل أن يعرب اللافتة التي كتبت أساساً بالفرنسية :
LAHAUTE COIFFURE DE FEMME فكتب عليها : الحلاقة العالية للنساء وهو لا شك يريد أن يقول : ” الحلاقة العليا للنساء ” وإذا كان صاحب المحل يشكر علي حسن نيته ولا يلام لأنه رجل مشغول بصناعة غير صناعة الكلمات فإن الذين يصكون المصطلحات الأدبية ويقعون في ليس مماثل عليهم يقع عبء اللوم والمؤاخذة ” .
إن الصياغة الصرفية تلعب دورها أيضاً في غموض المصطلح أو وضوحه فالأوزان العربية تلعب دوراً هاماً في تحديد المعني فالكلمات التي تأتي علي وزن فعلال مثل ضرغام وتمساح غير الكلمات التي ترد علي وزن فعلل مثل هدههد أو فعلول مثل عصفور وذلك جانب من طبيعة اللغة ينبغي المحافظة عليه ومن مظاهر عدم الدقة التي ترتبت علي عدم مراعاة هذا المبدأ خارجمجال المصطلح النقدي وذلك لا يبعد المخالفة عن دائرة مخاطر الغموض علي ذلك المصطلح لأن عدوي المخالفة أكثر سرياناً في العادة من عدوي الموافقة من هذه المظاهر في مجال ترجمة المصطلح الاقتصادي اختيار كلمة ” خصخصة ” أو خوصصة ترجمة للمصطلح الإنجليزي PRIVAZISATION الذي يعني تحويل القطاع العام إلي قطاع خاصومظهر عدم الدقة يأتي من عدم التنبيه إلي خصائص صيغة فعللة الصرفية في العربية وهي ” تدل دائماً علي الحركة العنيفة في كلمات مثل دمدمة ، حمحمة زلزلة ، زغزغة قلقلة ، ولو كان المترجم علي علم بأصول الاشتقاق في اللغة العربية لفطن إلي أن الحرف المضعف أو المشدد في كلمة “خص” هو الصاد وليس الخاء التي تتكرر في الخصخصة (6) .
وكثيراً ما تجنح ترجمة المصطلح إلي ترك الكلمة في صيغتها القديمة المألوفة واللجوء إلي صيغة أخري قد يكون معناها مغايراً لما يود المتكلم أن يقوله ومن هذا القبيل يأتي شيوع كلمة ” إشكالية ” بدلاً من مشكلة خلطاً بين مصطلحين أجنبيين هما PROBLEMATIQUE , PROBLEME التي تحمل غالباً معني الشئ المريب أو المتناقض وقد أسرف النقاد في استخدام هذا المصطلح في الدلالة علي المشكلة التي تعني طرح قضية ما طرحاً محايداً من خلال البحث عن حلول لها وترتب علي هذا أن أصبحت كل ظاهرة يراد طرحها علي بساط البحث ، أو حتي مجرد الحديث عنها إشكالية وأصبحنا نتحدث عن إشكالية المعني وإشكالية الأجناس الأدبية وإشكالية المصطلح مع أنه في الإمكان التحدث عن مشكلة أو حتي عن مجرد ظاهرة حتي لا تتداخل الفروق الدقيقة بين الكلمات والمصطلحات.
ومن هذا القبيل يأتي شيوع ظاهرة فعللة الأشياء التي أشار لها الدكتور عبدالقادر القط(7) ، مثل ” الأسلبة ” و ” النمذجة ” و ” السمقطة ” و ” السميأة ” أو شيوع النسبة إلي المصادر الصناعية أو إلي جميع المؤنث السالم مثل النقد الموضوعاتي أو الظاهراتي مع ما في هذه الظاهرة حتي مع افتراض حسن النية ومحاولة التعبير الدقيق عن المعني من خروج علي لون من الموسيقي الكامنة في الصيغة العربية لا شك أن فرعاً كالنقد الأدبي في حاجة إلي إكتسابها دون تفريط في الدقة التي يسعي إليها .
إن جانباً هاماً من الأسباب التي أو إلي ظهور هذا الضعف في صياغة المصطلح النقدي والعبارة النقدية والمقال النقدي يعود إلي عدم الاهتمام بالتكوين اللغوي للناقد وأحياناً للمبدع وإلي عدم إحساس من تنقصهم بعض قدرات النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة من المنتسبين إلي طائفة النقاد والمبدعين بأن شيئاً جوهرياً فاتهم وينبغي أن يحاولوا استكماله لكي يكونوا أهلاً للمهمة التي يتصدون لها وتلك ظاهرة لافتة للنظر ، وقد شاعت لدرجة كادت أن تصبح مألوفة ولم يعد من المستغرب أن تجد ناقداً لا يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة نصاً أدبياً يريد أن يتصدي لتحليله ، دون أن يخجل من هذا أو تجد أدبياً لا تستقيم معه اللغة حتي في النص الذي كتبه وإذا ما حوصر بعضهم بشيوع الأخطاء ، أدعي أنه يتعمدها للخروج علي المألوف أأو لتكسير اللغة أو لتفجيرها وما إلي ذلك من المصطلحات الغامضة والواقع أنه في أي أدب عالمي قديم أو معاصر يبدأ تصدي الناقد للنص وتحليله الجمالي بعد سيطرة الناقد نفسه علي أدوات الصحة اللغوية من نحو وصرف وعروض وفقه لغة لكي يتاح له أن يدرك إيجابيات النص أو يناقش محاولات الخروج بين الابتكار أو الضعف .
وإذا لم يكن من الضروري أن يكون المبدع دارساً لعلوم الصحة اللغوية فإنه يكون قادراً علي إدارك مواطن الصحة والخطأ ربما دون تعليل أحياناً ويحرص علي أن تطير موهبته علي أجنحة من المعرفة تمكنها من التحكم في سار الحركة لكيلا يصبح طيرانها مثل طيران الهوام العشوائي بل مثل تحليق الطيور الراقية صغيرها وكبيرها تعرفمتي ترتفع ومتي تقترب ومتي تتشكل في أسراب وجماعات ومتي تتحرك فرادي لكي تحقق منعة الفن وتسمر بالموهبة التي منحها الله إياها .
وفي الوقت الذي يعتز فيه كبار المبدعين العالميين بأنهم ” نحويون ” كما كان يقول ما لا رميه ، ويقيم فيع كبار النقاد المحدثين نظرياتهم انطلاقاً من تعمقهم الشديد في نحو اللغة التي يمارسون الكتابة بها كما هو الشأن في كل المدارس النقدية التي انطلقت من ( دي سير ) حتي الآن نجد كثيراً من المشتغلين بحقلي الإبداع والنقد عندما تنقصهم كثير من أدوات المعرفة اللغوية للعربية وأسرارها ونتج عن هذا النقصان بعض الظواهر المطروحة أمامنا في هذه الدراسة .
إن طبيعة الجهد الفردي في مجال اقتراح مصطلحات جديدة في فرع كالنقد الأدبي من شأنها أن تؤدي إلي طرح بعض الكلمات القابلة للمناقشة وإعادة النظر فيها بين المهتمين مع تغيير الجهد الذي بذل ، ولاشك أن مهمة صك المصطلح مهمة عسيرة وينبغي أن تتضافر فيها المبادرة الفردية والحوار الجماعي سعياً إلي الاتفاق في نهاية المطاف ، لأن الجماعة لا يمكنها الإفادة من جهد أفرادها دون الاتفاق علي مفاتيح لغة الحوار ومن هذا المنطلق فإن السعي إلي إنشاء ، بنوك المصطلحات والمعاجم الموحدة ضرورة حضارية وعلمية تعرفها كل اللغات بما في ذلك اللغة العربية المعاصرة وخاصة في الجانب العلمي حيث تسعي المجامع اللغوية والمؤتمرات العلمية إلي توحيد كثير من المصطلحا ومنذ عقد في الجزائر سنة 1953 منذ نحو نصف قرن المؤتمر توحيد المصطلحات العلمية ، تعددت الخطوات في هذا الاتجاه ، فعقت ست مؤاتمرات علمية متوالية في عقدي الخمسينيات والستينيات في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق وتم الاتفاق خلال هذه المؤؤتمرات علي توحيد نحو أربعين ألف مصطلح ، وجاء بعد ذلك إنشاء مكتب تنسيق التعريب وإنشاء مجلة “اللسان العربي ” التي خطت بدورها خطوات بارزة في اتجاه تعريب المصطلح .
ثم كانت مرحلة الاتفاق علي بعض المعاجم الموحدة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من خلال مؤتمرات التعريب التي عقدت بالجزائر وطرابلس وطنجة وعمان والرباط والقاهرة ، حيث تم الاتفاق علي نحو اربعين معجماً للتعليم العام والتعليم التقني والفني ، وتم طرح بعض المبادئ الأساسية في اختيار المصطلحات العلمية ووضعها (8) ، وهي مبادئ صالحة لأن يسترشد بها في معالجة أزمة المصطلح النقدي لأنها تمس جوهراً لمشكلة الكامن في كيفية التعامل مع اللغة أثناء محاولة صك مصطلح جديد أو إعادة استخدام مصطلح قديم أو ترجمة مصطلح من لغة أجنبية وأهم هذه المبادئ التي تم الاتفاق عليها في مجال المصطلح العلمي تكمن في النقاط التالية :
1- ضرورة وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلول المصطلح اللغوي ومدلوله الإصطلاحي ولا يشترط في المصطلح أنه يستوعب كل معناه العلمي .
2- وضع مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد ذي المضمون الواحد في الحقل الواحد .
3- تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد في الحقل الواحد ، وتفضيل اللفظ المختص علي اللفظ المشترك .
4- استقراء التراث العربي وإحياؤه وخاصة ما استعمل منه أو أستقر منه من مصطلحات علمية عربية صالحة للاستعمال الحديث وما ورد فيه من ألفاظ معربة .
5- مسايرة المنهج الدولي في اختيار المصطلحات العلمية :
(أ) مراعاة التقريب بين المصطلحات العربية والعالمية لتسهيل المقابلة بينهما للمشتغلين بالعلم والدارسين .
(ب) اعتماد التصنيف العشري الدولي لتصنيف المصطلحات حسب حقولها وفروعها.
(ج) تقسيم المفاهيم واستكمالها وتحديدها وتعريفها وترتيبها حسب كل حقل .
(د) إشتراك المختصين والمستهلكين في وضع المصطلحات .
(هـ) مواصلة البحوث والدراسات لتيسير الاتصال الدائم بين واضعي المصطلحات ومستعمليها .
6- استخدام الوسائل اللغوية في توليد المصطلحات العلمية الجديدة بالأفضلية طبقاً للترتيب التالي : التراث ، فالتوليد ( لما فيه من مجاز واشتقاق وتعريب ونحت ) .
7- تفضيل الكلمات العربية الفصيحة المتواترة علي الكلمات المعربة .
8- تجنب الكلمات العامية إلا عند الاقتضاء بشرط أن تكون مشتركة بين لهجات عربية عديدة وأن يشار إلي عاميتها بأن توضع بين قوسين مثلاً .
9- تفضيل اللفظة الجزلة الواضحة وتجنب النافر والمحظور من الألفاظ .
10- تفضيل الكلمة التي تسمح بالاشتقاق علي الكلمة التي لا تسمح به .
11- تفضيل الكلمة المفردة لأنها تساعد علي تسهيل الاشتقاق والنسبة بالإضافة والتثنية والجمع .
12- تفضيل الكلمة الدقيقة علي الكلمة العامة أو المبهمة ومراعاة اتفاق المصطلح العربي مع المدلول العلمي للمصطلح الأجنبي دون تقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأجنبي .
13- في حالة المترادفات أو القريبة من المترادف تفضل اللفظة التي يوحي جذرها بالمفهوم الأصلي بصفة أوضح .
14- تفضيل الكلمة الشائعة علي الكلمة النادرة أو الغريبة إلا إذا التبس معني المصطلح العلمي بالمعني الشائع المتداول لتلك الكلمة .
15- عند وجود ألفاظ مرادفة أو متقاربة في مدلولها ، ينبغي تحديد الدلالة العلمية الدقيقة لكل واحد منها ، وانتقاء اللفظ العلمي الذي يقابلها ويحسن ععند انتقاء مصطلحات من هذا النوع أن تجمع كل الألفاظ ذات المعاني القريبة أو المتشابهة الدلالة وتعالج كلها مجموعة واحدة .
16- مراعاة ما أتفق المختصون علي استعماله من مصطلحات ودلالات علمية خاصة بهم معربة كانت أو مترجمة .
17- التعريب عند الحاجة وخاصة المصطلحات ذات الصيغة العالمية كالألفاظ ذات الأصل اليوناني أو اللاتيني أو اسماء العلماء المستعملة مصطلحات أو العناصر والمركبات الكيماوية .
18- عند تعريب الألفاظ الأجنبية يراعي ما يأتي :
(أ) ترجع ما سهل نطقه في رسم الألفاظ المعربة عند اختلاف نطقها في اللغات الأجنبية .
(ب) التغيير في شكله حتي يصبح موافقاً للصيغة العربية ومستساغاً .
(ج) اعتبار المصطلح المعرب عربياً يخضع لقواعد اللغة ويجوز فيه الاشتقاق والنحت وتستخدم فيه أداوت البدء والإلحاق مع موافقته للصيغة العربية .
(د) تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح .
(هـ) ضبط المصطلحات عامة والمعرب منها خاصة بالشكل حرصاً علي صحة نطقه ودقة أدائه .
وإذا كان كثير من هذا الجهد يصب في مجري المصطلحات العلمية فإن المنهجية وتنظيم الجهد المبذول يمكن أن تساعد في إثراء الجهد الموازي في المصطلحات الأدبية مع التسليم بوجود فوارق بين الحقلين وجنوح المصطلح في المجال النقدي أحياناً إلي الأفق الاستعاري الذي يتسم بسمات فردية متنوعة ومع وجود كثير من الأفكار المطروحة حل عقد مؤتمرات أو لجان لتعريب المصطلحات أو توحيدها ، فإنه يمكن البدء بفكرة بسيطة متواضعة تترك أثرها علي المدي المنظور في سبيل تحقيق هذا الهدف ، ونعني بهذه الخطوة اتفاق المجلات الادبية في العالم العربي علي نشر قائمة موحدة كل سنة أو نصف سنة بالمصطلحات الموحدة والالتزام بها في المقالات التي تنشرها هذه المجلات ولأن هذه المجلات محدودة العدد في نهاية المطاف ، فإن إمكانية الاتفاق بينها واردة ، ولأنها أيضاً تصل غالباً إلي معظم المهتمين بالمجال – علي عكس الكتب التي قد تجد بعض الصعوبة في حركتها – فإن تأثيرها يمكن أن يصل إلي أكبر عدد من القراء ويساعد في نهاية المطاف علي تقليل المخاطر المتمثلة من غموض المصطلح النقدي ويشكل خطوة في بداية الطريق .
الهــوامـتش :
1- أحمد الأخضر غزال : توفير المصطلحات وضبطها وتوحيدها وتعميقها مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ، قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب – الرباط – نوفمبر 1993م .
2- د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة ، ص 30 .
3- د. صلاح فضل : مناهج النقد المعاصر ، ص 6 ، دار الآفاق العربية – القاهرة 1997م .
4- د. صلاح فضل : بلاغة الخطاب وعلم النص ، عالم المعرفة – الكويت سنة 1992م .
5- المعجم الوسيط جـ 1 ، ص 423 .
6- عبدالقادر القط قضية المصطلح في مناهج النقد الأدبي الحديث ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، الكويت ، سنة 1994م .
7- د. عبدالقادر القط : المرجع السابق .
8- أنظر : شاكر الفحام ، إشكالية المصطلح وضعاً وتوحيداً ودور مكتب تنسيق التعريب في خدمة المجتمع ، ضمن كتاب قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب ، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط 1993م .
بواسطة admin •
01-دراسات •
• الوسوم : أحمد درويش, العدد الاول
يناير 25 2010
مخاطر الغموض في المصطلح النقدي ……….. د. أحمد درويش
مخاطر الغموض في المصطلح النقدي
د. أحمد درويش
هنالك طموح عام واكب الدراسات الإنسانية منذ القرن التاسع عشر وتمثل في حلم هذه الدجراسات في أن تلحق في منهجيتها ونتائجها بالعلوم التطبيقية وفي أن ينطبق عليها لفظ ” العلم ” بمفهومه المنهجي الدقيق ، ولم تكن محاولات سانت بيف للكتابة عن ” الفصائل والأنواع ” الأدبية والنفسية إلا صدي وإعجاباً بمحاولات واردة في نظرية ” الفصائل والأنواع ” في مجال العلوم التطبيقية .
وقد خطت الدراسات الإنسانية في سبيل تحقيق هذا الهدف خطوات ملحوظة في بدايات القرن العشرين ، وكان علم اللغة إلي جانب علم النفس من أسبق الدراسات في هذا المجال وكانت محاولات دي سوسير وتلاميذه ، موضع تقدير زملائهم في فروع الدراسات الإنسانية الاخري ، وموضع غيرتهم أحياناً ، ولاشك أن النقد الادبي باقترابه الواضح من مجال الدراسات اللغوية وباصطناعه للوسائل الإحصائية والرياضية في طرح فروضه والوصول إلي نتائجه وفي استعانته بنتائج الدراسات الغنسانية “الدقيقة” في مختلف فروع المعرفة الإنسانية ، لاشك أنه بهذاكله تتقارب خطواته في سبيل تحقيق الحلم ” العلمي ” لهذا الفرع الهام من فروع الدراسات الإنسانية .
لكن علينا أن نلاحظ في المقابل أيضاً أن الصياغة العربية لمعطيات النظرية النقدية الحديثة وتطبيقاتها – وهي نظرية ذات روافد أجنبية في معظم الأحايين – هذه الصياغة بسبب اضطراب المصطلح فيها – تكاد تهدد هذا الحلم من جذوره ، وتبتعد بالنقد الأدبي كثيراً عن مجال الطرح العلمي القابل للاستيعاب ، والقائم علي الحوار والبرهان ، بل وتكاد أن تبتعد به عن مجال ” المقروء ” المتداول أو تحصره في طائفة ذات لغة خاصة .
ذلك أن وضوح المصطلح شرط اساسي لدخول مادة ما في إطار العلم ، فالمصطلحات بمعناها العام الذي يشمل الألفاظ والتقنية العلمية أصبحت تعتبر اليوم أساس كل تكوين ، إذ لا تخصص بدون مصطلحات مضبوطة ثابتة والمصطلحات ، إذا تعمقنا التفكير فيها وتأملنا ما يجب عمله لنستطيع حقاً أن ندرك ركب الحضارة لمنطلق بسرعة فائقة ، أصبحت تحتل الدرجة الثانية من الأهمية بعد وسائل الطبع (1) .
إن ” فك ” المصطلح إذا يجئ مباشرة تاليا لفك الخط ، لكي يتدرج القارئ التدرج الطبيعي الذي يقتضي أن يقرأ الإنسان لكي يعلم ، وفي غياب وضوح المصطلح يجد نفسه في أفضل الاحوال مضطراًَ لأن يعكس التدرج الطبيعي أي أن يعلم لكي يقرأ وبذلك ينحصر تداول المادة المطروحة والإفادة منها أو أدعاء ذلك بين جماعة محدودة عالمة سلفاُ بما يقوله أفرادها – أو متواطئة علي إظهار ذلك وعندما يصل فرع من فروع المعرفة الإنسانية إلي هذه الحالة ، فإنه يكون مهدداً بالإنسحاب من دائرة العلم بل ومن دائرة المتداول المقروء إذا لم يتدارك أمره ويناقش قضاياه مناقشة جذرية صريحة .
فما الذي أوصل شريحة كبري من لغة النقد الأدبي في اللغة العربية المعاصرة إلي ما هي عليه اليوم ؟ ما الذي جعلنا تقع عيوننا في معظم الدراسات والمقالات النقدية الحديثة علي جمل وتراكيب ومقولات لا تكاد نخرج منها بطائل مع أن أصحابها دفعوا بها إلينا في ثقة بل وأحياناً في زهو من أمثال هذه الكلمات التي اعتبرها الدكتور محمد عناني بحق نموذجاً لهذا اللون من الكتابة (2) .
” إن الانهيار التركيبي في إطار التجني التداولي علي السطوعية للواقعية لم يعد يبشر بإمكانيات الفعالية المتنامية مهما تكون (هكذا) تأصلاتها الحقيقية أوالزائفة فحسب بل بالتجني علي الأدبية الحداثية أيضاً ” .
أليست هذه الظاهرة ومشتقاتها هي التي دفعت واحداً مثل الدكتور صلاح فضل إلي الإشارة إلي أن : ” المصطلحات تمثل العائق الأساسي في التلقي للنقد الحداثي ” (3) .
وإذا كانت المصطلحات في النموذج الذي نراه هنا والنماذج المماثلة قد كتبت بحروف عربية وبنية حمل فكر معين فما المعوق أو المعوقات التي تحول بينها وبين أداء وظيفتها ؟ وحملها للمعني النقدي المراد ؟
إن قضية “معني ” الكلمة في لغة كالعربية قضية دقيقة تدخل فيها “الظلال ” والترسبات التاريخية التي حملتها الكلمة عبر رحلة تعدد أطول الرحلات في تاريخ اللغات الحية ، إضافة إلي بعض الترسبات المكانية الناتجة من استخدام الكلمة ذاتها في رقعة واسعة متنوعة تمتد من المحبط إلي الخليج وإتصالها في كل بقعة بمؤثرات ثقافية محلية قد تختلف عن البقعة الأخري مما يترك دون شك ظلالاً خاصة علي استخدام كلمة ما في المشرق أو المغرب أو الخليج أو الشام أو العراق ، وهي ظلال من السهل التنبه لها لصاحب الثقافة اللغوية العربية الرفيعة وهي في الوقت ذاته عرضة لأن يقع في شباكها من تختل لديه كفتا التوازن بين ثقافته اللغوية العربية ، وثقافته اللغوية الأجنبية ، ذلك الاختلال الذي قد يجعل مفهوم الثقافة اللغوية العربية عنده يختلط قليلاً أو كثيراً بالمفهوم العامي أو المحلي ، وقد يضاف إلي ذلك المعايير الصرفية والنحوية الدقيقة في العربية والتي تتدخل في صياغة جانب هام من المعني ويؤدي عدم التنبه لها إلي الوقوع في اللبس والغموض .
إن بعض هذه العوامل هو الذي يدفع إلينا بمصطلحات نابعة من اقتراحات فردية في معظم الاحيان وتدي روح عدم النقد والتخصيص السائدة بيننا إلي تركها تترسب وتشيع فإن الاتفاق علي معني محدد لها أحياناً ، أو الاتفاق علي معني ما رغم عدم دقة المصطلح أو عدم كونه الاكثر ملاءمة بين مصطلحات أخري كان يمكن الاختيار منها ويؤدي سكوتنا إلي أن يشيع المصطلح بالتقادم وأن يكتسب صلابة ليست نابعة من قيمة الإيجابية بقدر ما هي نابعة من سكوتنا السلبي وعدم تمحيصه .
ولتأخذ علي ذلك مثلاً المصطلح الذي شاع في ترجمة كلمة ECART أو كلمة DEVIATION وهما مصطلحان يستخدمان في علم الإحصاء ، ويقصد بهما الخروج عن المعدل أو الانحراف عنه وتقاس من خلال ذلك ” الخروج ” أو ” الانحراف ” الظاهرة ومدي كونها عادية أو خاصة وعندما تم اللجوء إلي المعايير الإحصائية في قياس الظواهر اللغوية مثل معرفة الفروق بين لغة الشعر ولغة النثر أو بين وسائل التعبير الحقيقي والتعبير المجازي – تم استخدام هذا المصطلح والتفكير في ترجمة له ومع أن الظاهرة نفسها موجودة عند البلاغيين القدماء فإن الذين صكوا المصطلح الحديث أو أشاعوه لم يعبأوا بالمصطلحات القديمة أو لم يلتفتوا إليها في الوقت الذي سار فيه المصطلح القديم في نفس مسار تفكير البلاغي الحديث ، وهو تحويل الظاهرة من حالتها المعنوية المجردة إلي حالة مكانية مجسدة، فقد تصور الطريقة العادية للتعبير في النثر بطريقة غير مباشرة ، وأطلق علي ذلك الاجتياز اسم”المجاز” أي الطريق غير العادي الذي يجتازه المعني وفي إطار هذا التصور صدر أول كتاب في البلاغة العربية وهو كتاب ” المجاز ” الذي كتبه أوائل القرن الثالث الهجري أبوعبيدة معمر بن المثني ،ولم يكن يريد به معني “المجاز” كما عرف عند البلاغين فيما بعد باعتباره المقابل المعني “الحقيقة ” وإنما أراد به ما يقابل مصطلح ECART أو DEVIATION .
ولكن المصمم الحديث للمصطلح اختار صيغاً أخري بعض النقاد اختار “الانحراف” باعتباره ترجمة حرفية للمصطلح في علم الإحصاء فالشعر عندهم “أنحراف” بالقياس إلي النثر والتعبير المصور ” انحراف ” بالقياس إلي التعبير المجرد والأدب في نهاية المطاف “انحراف” عن اللغة العملية النفعية في الحياة اليومية ولا شك أن هذا الاختيار يسقط تماماً قضية “ظلال” الكلمة وهي جزء منها في لغة كالعربية .
فالأنحراف وصف خلقي لايساغ استعماله في الفن القولي الجميل ولا يكفي أن تكون الكلمة صحيحة أو دقيقة من الناحية المعجمية حتي تستخدم في المصطلحات وهذا هو الذي يمنعنا بالتأكيد من تسمية النافورة بالخرارة مع أن القدماء كانوا يسمونها كذلك لأنها آتية من خرير الماء يقول صاحب لسان العرب : الخرير صوت الماء والريح والخرارة عين الماء الجارية، سميت خرارة لخرير مائها ( جـ2 : 234 ) وهناك واقعة أدبية طريفة تتصل باستخدام هذه الكلمة ، وقد حدثت عندما قدم الأستاذ أحمد أمين كتابه ” فجر الإسلام ” إلي أحد أصدقائه من المستشرقين الذي قرأ الكتاب فأعجب ورأي أنه ” عين ما جارية ” في صحراء المعرفة القاحلة فكتب للأستاذ أحمد أمين ” شكراً لك ” .
لقد قدمت للثقافة العربية الإسلامية خرارة كبيرة ” لكننا أمسكنا عن التسمية لارتباط المصطلح بظلال غير حسنة ، والذين ييدون مصطلح الانحراف في الأدب قد يتوقفون قليلاً إذا امتد المصطلح نحوهم باعتبارهم منتجين للأدب فأصبح يطلق عليهم أنهم من زعماء الانحراف أو أنهم منحرفون باعتبار أن طرائقهم في التفكير والتعبير تختلف عن طرائق الناس العاديين من غير المشتغلين بالأدب يقول الدكتور صلاح فضل في بلاغة الخطاب وعلم النص : وأبرز هذه المصطلحات في تقديرنا هو مصطلح الانحراف الذي تعددت صيغة في اللغة العربية فمرة يبحث له الرفاق عن معادل بلاغي قديم هو العدول فيقلمون أظافره ويثلمون حده ، ومرة أخري يلجأ الباحثون إلي كلمة ذات إيحاء مكاني واضح هو الانزياح تفادياً للإيحا الأخلاقي المقصود والمستثمر في كلمة انحراف (4) .
وإذا كان مصطلح الانزياح الذي يستخدم للتعبير عن نفس المعني قد حاول تفادي الإيجاء الاخلاقي فقد وقع فيما هو اسوأ منه ، لأنه اختار كلمة تقع في إيحاء القبح وهي تتحدث عن علم الجمال ولا أدري عن أي ذهن أدبي تفتقت هذه الكلمة الغريبة ، ففعل الكلمة سواء في صيغته العادية أو صيغته المطاوعة لا يأتي أبداً في اللغة إلا مع الهوية والأمراض والأحزان والقاذوراته وأول ما يطالعك به أي قاموس صغير معاصر عند البحث عن كلمة أزاح أن يقول لك إزاحة إزالة يقال : أزاح الله علته فزاحت ، وانزاح زال ” (5) .
وانطلاقاً من هذا الرصيد اللغوي تردد العبارة المشهورة ” انزاح الهم عن القلب ” أو ” أنزاح البلاء ” أو انزاحت الكارثة ونحن لا نقول أبداً انزاح السرور أو انزاحت لحظة الصفا ” فكيف نقول ” انزاح الشعر أو انزاح الابداع وانزاحت الصورة الجميلة ” ؟!
ولا يختلف الامر في القواميس القديمة وهي تتحدث عن مادة الزيح والانزياح فيصاحب التهذيب يقول الزيح ذهاب الشئ تقول : قد أزحت علته فزاحت وهي تزيح قال الأعشي :
وأرملة تسعي بشعت كأنها
وإياهم ربد احثت رثالها
هنانا فلم تمتن علينا فاصبحت
رخية بال قد أزحنا هزالها
أما صاحب لسان العرب فيضيف بعد أن ينقل عبارة صاحب التهذيب زاح ، وزاخ بالحاء والخاء بمعني واحد إذا تنحي ومنه قول الشاعر :
لو يقوم الفيل أو فياله
زاح عن مثل مقامي ورحل
قال : ومنه زاحت علته ، وأزحتها أنا وانزاح ذهب وتباعد .
إننا لا ينبغي أن نتناسي ونحن ف يمجال أدبي إبداعي أهمية اللمسة الجمالية التي تكمل الدقة ولا تتنافي معها ، وفي هذا الإطار فإن كلا من مصطلح الانحراف والانزياح لا يصلح للتعبير عن هذا التحول الجمالي في مسري اللغة عندما تتحول من لغة نثرية عادية إلي لغة شعرية ويبقي مصطلح العدول الذي أورده القدماء ، أكثر دقة وجمالاً ويبقي كذلك مصطلح المجاوزة أكثر قرباً من روح المصطلح العربي القديم أو أكثر ملاءمة لمناخ الشعر.
وإذا تذوقنا وقع الكلمات علي ألسنتنا وآذاننا – بعيداً عن سطوة المصطلح السائد الذي فرض نفسه بالتكرار وعدم المناقشة – فسوف نجد أن التعبير عن الصورة الأدبية أو التعبير الشعري بأنه عدول أو مجاوزة بالقياس إلي التعبير العملي ، أقرب إلي الدقة إلي ناحية وإلي مراعاة الظلال بين شطرين من ثقافة واحدة من ناحية ثانية بالإضافة إلي كون ذلك عامل تواصل بين شطرين من ثقافة واحدة لا يفيد التقاطع بينهما إلامن حرم من موهبة المعرفة والإبداع فقرر أن يشد إليه الآخرين بدلاً من أن يلحق هو بهم .
إن الغموض يتسرب أحياناً إلي المصطلح من الترجمة الحرفية للمصطلح الأجنبي دون بحث عن العبارة الموازية التي يمكن أن تعكس المعني في اللغة العربية ومن المصطلحات التي شاعت في مجال العمل الروائي من هذه الطائفة ، مصطلح يستخدم في ألوان الرية التي يملكها الروائي بالقياس إلي شخصياته وهل يترك الشخصيات تتنامي بحرية أم يمسك بخيوط حركتها صديه وفي هذا الإطار يشيع عند النقاد الفرنسيين مصطلح VISION ARRIERE ويترجم بمصطلح الرؤية من الخلف وهي ترجمة حرفية لا تقدم في العربية إلا معني غامضاً بل قد تقدم من حيث الظلال ترجمة مسيئة وأعتقد أن روح المصطلح تتحدث عن رؤية الهيمنة وليس الرؤية من الخلف .
إن الغموض الناتج عن الترجمة الحرفية للخلف والأمام والأعلي والأسفل يذكر في تلك الطرفة الحادثة عن ترجمة غير دقيقة تضمنتها لافتة محل لتصفيف شعر النساء في إحدي المدن العربية وقد أراد صاحب المحل أن يعرب اللافتة التي كتبت أساساً بالفرنسية :
LAHAUTE COIFFURE DE FEMME فكتب عليها : الحلاقة العالية للنساء وهو لا شك يريد أن يقول : ” الحلاقة العليا للنساء ” وإذا كان صاحب المحل يشكر علي حسن نيته ولا يلام لأنه رجل مشغول بصناعة غير صناعة الكلمات فإن الذين يصكون المصطلحات الأدبية ويقعون في ليس مماثل عليهم يقع عبء اللوم والمؤاخذة ” .
إن الصياغة الصرفية تلعب دورها أيضاً في غموض المصطلح أو وضوحه فالأوزان العربية تلعب دوراً هاماً في تحديد المعني فالكلمات التي تأتي علي وزن فعلال مثل ضرغام وتمساح غير الكلمات التي ترد علي وزن فعلل مثل هدههد أو فعلول مثل عصفور وذلك جانب من طبيعة اللغة ينبغي المحافظة عليه ومن مظاهر عدم الدقة التي ترتبت علي عدم مراعاة هذا المبدأ خارجمجال المصطلح النقدي وذلك لا يبعد المخالفة عن دائرة مخاطر الغموض علي ذلك المصطلح لأن عدوي المخالفة أكثر سرياناً في العادة من عدوي الموافقة من هذه المظاهر في مجال ترجمة المصطلح الاقتصادي اختيار كلمة ” خصخصة ” أو خوصصة ترجمة للمصطلح الإنجليزي PRIVAZISATION الذي يعني تحويل القطاع العام إلي قطاع خاصومظهر عدم الدقة يأتي من عدم التنبيه إلي خصائص صيغة فعللة الصرفية في العربية وهي ” تدل دائماً علي الحركة العنيفة في كلمات مثل دمدمة ، حمحمة زلزلة ، زغزغة قلقلة ، ولو كان المترجم علي علم بأصول الاشتقاق في اللغة العربية لفطن إلي أن الحرف المضعف أو المشدد في كلمة “خص” هو الصاد وليس الخاء التي تتكرر في الخصخصة (6) .
وكثيراً ما تجنح ترجمة المصطلح إلي ترك الكلمة في صيغتها القديمة المألوفة واللجوء إلي صيغة أخري قد يكون معناها مغايراً لما يود المتكلم أن يقوله ومن هذا القبيل يأتي شيوع كلمة ” إشكالية ” بدلاً من مشكلة خلطاً بين مصطلحين أجنبيين هما PROBLEMATIQUE , PROBLEME التي تحمل غالباً معني الشئ المريب أو المتناقض وقد أسرف النقاد في استخدام هذا المصطلح في الدلالة علي المشكلة التي تعني طرح قضية ما طرحاً محايداً من خلال البحث عن حلول لها وترتب علي هذا أن أصبحت كل ظاهرة يراد طرحها علي بساط البحث ، أو حتي مجرد الحديث عنها إشكالية وأصبحنا نتحدث عن إشكالية المعني وإشكالية الأجناس الأدبية وإشكالية المصطلح مع أنه في الإمكان التحدث عن مشكلة أو حتي عن مجرد ظاهرة حتي لا تتداخل الفروق الدقيقة بين الكلمات والمصطلحات.
ومن هذا القبيل يأتي شيوع ظاهرة فعللة الأشياء التي أشار لها الدكتور عبدالقادر القط(7) ، مثل ” الأسلبة ” و ” النمذجة ” و ” السمقطة ” و ” السميأة ” أو شيوع النسبة إلي المصادر الصناعية أو إلي جميع المؤنث السالم مثل النقد الموضوعاتي أو الظاهراتي مع ما في هذه الظاهرة حتي مع افتراض حسن النية ومحاولة التعبير الدقيق عن المعني من خروج علي لون من الموسيقي الكامنة في الصيغة العربية لا شك أن فرعاً كالنقد الأدبي في حاجة إلي إكتسابها دون تفريط في الدقة التي يسعي إليها .
إن جانباً هاماً من الأسباب التي أو إلي ظهور هذا الضعف في صياغة المصطلح النقدي والعبارة النقدية والمقال النقدي يعود إلي عدم الاهتمام بالتكوين اللغوي للناقد وأحياناً للمبدع وإلي عدم إحساس من تنقصهم بعض قدرات النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة من المنتسبين إلي طائفة النقاد والمبدعين بأن شيئاً جوهرياً فاتهم وينبغي أن يحاولوا استكماله لكي يكونوا أهلاً للمهمة التي يتصدون لها وتلك ظاهرة لافتة للنظر ، وقد شاعت لدرجة كادت أن تصبح مألوفة ولم يعد من المستغرب أن تجد ناقداً لا يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة نصاً أدبياً يريد أن يتصدي لتحليله ، دون أن يخجل من هذا أو تجد أدبياً لا تستقيم معه اللغة حتي في النص الذي كتبه وإذا ما حوصر بعضهم بشيوع الأخطاء ، أدعي أنه يتعمدها للخروج علي المألوف أأو لتكسير اللغة أو لتفجيرها وما إلي ذلك من المصطلحات الغامضة والواقع أنه في أي أدب عالمي قديم أو معاصر يبدأ تصدي الناقد للنص وتحليله الجمالي بعد سيطرة الناقد نفسه علي أدوات الصحة اللغوية من نحو وصرف وعروض وفقه لغة لكي يتاح له أن يدرك إيجابيات النص أو يناقش محاولات الخروج بين الابتكار أو الضعف .
وإذا لم يكن من الضروري أن يكون المبدع دارساً لعلوم الصحة اللغوية فإنه يكون قادراً علي إدارك مواطن الصحة والخطأ ربما دون تعليل أحياناً ويحرص علي أن تطير موهبته علي أجنحة من المعرفة تمكنها من التحكم في سار الحركة لكيلا يصبح طيرانها مثل طيران الهوام العشوائي بل مثل تحليق الطيور الراقية صغيرها وكبيرها تعرفمتي ترتفع ومتي تقترب ومتي تتشكل في أسراب وجماعات ومتي تتحرك فرادي لكي تحقق منعة الفن وتسمر بالموهبة التي منحها الله إياها .
وفي الوقت الذي يعتز فيه كبار المبدعين العالميين بأنهم ” نحويون ” كما كان يقول ما لا رميه ، ويقيم فيع كبار النقاد المحدثين نظرياتهم انطلاقاً من تعمقهم الشديد في نحو اللغة التي يمارسون الكتابة بها كما هو الشأن في كل المدارس النقدية التي انطلقت من ( دي سير ) حتي الآن نجد كثيراً من المشتغلين بحقلي الإبداع والنقد عندما تنقصهم كثير من أدوات المعرفة اللغوية للعربية وأسرارها ونتج عن هذا النقصان بعض الظواهر المطروحة أمامنا في هذه الدراسة .
إن طبيعة الجهد الفردي في مجال اقتراح مصطلحات جديدة في فرع كالنقد الأدبي من شأنها أن تؤدي إلي طرح بعض الكلمات القابلة للمناقشة وإعادة النظر فيها بين المهتمين مع تغيير الجهد الذي بذل ، ولاشك أن مهمة صك المصطلح مهمة عسيرة وينبغي أن تتضافر فيها المبادرة الفردية والحوار الجماعي سعياً إلي الاتفاق في نهاية المطاف ، لأن الجماعة لا يمكنها الإفادة من جهد أفرادها دون الاتفاق علي مفاتيح لغة الحوار ومن هذا المنطلق فإن السعي إلي إنشاء ، بنوك المصطلحات والمعاجم الموحدة ضرورة حضارية وعلمية تعرفها كل اللغات بما في ذلك اللغة العربية المعاصرة وخاصة في الجانب العلمي حيث تسعي المجامع اللغوية والمؤتمرات العلمية إلي توحيد كثير من المصطلحا ومنذ عقد في الجزائر سنة 1953 منذ نحو نصف قرن المؤتمر توحيد المصطلحات العلمية ، تعددت الخطوات في هذا الاتجاه ، فعقت ست مؤاتمرات علمية متوالية في عقدي الخمسينيات والستينيات في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق وتم الاتفاق خلال هذه المؤؤتمرات علي توحيد نحو أربعين ألف مصطلح ، وجاء بعد ذلك إنشاء مكتب تنسيق التعريب وإنشاء مجلة “اللسان العربي ” التي خطت بدورها خطوات بارزة في اتجاه تعريب المصطلح .
ثم كانت مرحلة الاتفاق علي بعض المعاجم الموحدة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من خلال مؤتمرات التعريب التي عقدت بالجزائر وطرابلس وطنجة وعمان والرباط والقاهرة ، حيث تم الاتفاق علي نحو اربعين معجماً للتعليم العام والتعليم التقني والفني ، وتم طرح بعض المبادئ الأساسية في اختيار المصطلحات العلمية ووضعها (8) ، وهي مبادئ صالحة لأن يسترشد بها في معالجة أزمة المصطلح النقدي لأنها تمس جوهراً لمشكلة الكامن في كيفية التعامل مع اللغة أثناء محاولة صك مصطلح جديد أو إعادة استخدام مصطلح قديم أو ترجمة مصطلح من لغة أجنبية وأهم هذه المبادئ التي تم الاتفاق عليها في مجال المصطلح العلمي تكمن في النقاط التالية :
1- ضرورة وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلول المصطلح اللغوي ومدلوله الإصطلاحي ولا يشترط في المصطلح أنه يستوعب كل معناه العلمي .
2- وضع مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد ذي المضمون الواحد في الحقل الواحد .
3- تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد في الحقل الواحد ، وتفضيل اللفظ المختص علي اللفظ المشترك .
4- استقراء التراث العربي وإحياؤه وخاصة ما استعمل منه أو أستقر منه من مصطلحات علمية عربية صالحة للاستعمال الحديث وما ورد فيه من ألفاظ معربة .
5- مسايرة المنهج الدولي في اختيار المصطلحات العلمية :
(أ) مراعاة التقريب بين المصطلحات العربية والعالمية لتسهيل المقابلة بينهما للمشتغلين بالعلم والدارسين .
(ب) اعتماد التصنيف العشري الدولي لتصنيف المصطلحات حسب حقولها وفروعها.
(ج) تقسيم المفاهيم واستكمالها وتحديدها وتعريفها وترتيبها حسب كل حقل .
(د) إشتراك المختصين والمستهلكين في وضع المصطلحات .
(هـ) مواصلة البحوث والدراسات لتيسير الاتصال الدائم بين واضعي المصطلحات ومستعمليها .
6- استخدام الوسائل اللغوية في توليد المصطلحات العلمية الجديدة بالأفضلية طبقاً للترتيب التالي : التراث ، فالتوليد ( لما فيه من مجاز واشتقاق وتعريب ونحت ) .
7- تفضيل الكلمات العربية الفصيحة المتواترة علي الكلمات المعربة .
8- تجنب الكلمات العامية إلا عند الاقتضاء بشرط أن تكون مشتركة بين لهجات عربية عديدة وأن يشار إلي عاميتها بأن توضع بين قوسين مثلاً .
9- تفضيل اللفظة الجزلة الواضحة وتجنب النافر والمحظور من الألفاظ .
10- تفضيل الكلمة التي تسمح بالاشتقاق علي الكلمة التي لا تسمح به .
11- تفضيل الكلمة المفردة لأنها تساعد علي تسهيل الاشتقاق والنسبة بالإضافة والتثنية والجمع .
12- تفضيل الكلمة الدقيقة علي الكلمة العامة أو المبهمة ومراعاة اتفاق المصطلح العربي مع المدلول العلمي للمصطلح الأجنبي دون تقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأجنبي .
13- في حالة المترادفات أو القريبة من المترادف تفضل اللفظة التي يوحي جذرها بالمفهوم الأصلي بصفة أوضح .
14- تفضيل الكلمة الشائعة علي الكلمة النادرة أو الغريبة إلا إذا التبس معني المصطلح العلمي بالمعني الشائع المتداول لتلك الكلمة .
15- عند وجود ألفاظ مرادفة أو متقاربة في مدلولها ، ينبغي تحديد الدلالة العلمية الدقيقة لكل واحد منها ، وانتقاء اللفظ العلمي الذي يقابلها ويحسن ععند انتقاء مصطلحات من هذا النوع أن تجمع كل الألفاظ ذات المعاني القريبة أو المتشابهة الدلالة وتعالج كلها مجموعة واحدة .
16- مراعاة ما أتفق المختصون علي استعماله من مصطلحات ودلالات علمية خاصة بهم معربة كانت أو مترجمة .
17- التعريب عند الحاجة وخاصة المصطلحات ذات الصيغة العالمية كالألفاظ ذات الأصل اليوناني أو اللاتيني أو اسماء العلماء المستعملة مصطلحات أو العناصر والمركبات الكيماوية .
18- عند تعريب الألفاظ الأجنبية يراعي ما يأتي :
(أ) ترجع ما سهل نطقه في رسم الألفاظ المعربة عند اختلاف نطقها في اللغات الأجنبية .
(ب) التغيير في شكله حتي يصبح موافقاً للصيغة العربية ومستساغاً .
(ج) اعتبار المصطلح المعرب عربياً يخضع لقواعد اللغة ويجوز فيه الاشتقاق والنحت وتستخدم فيه أداوت البدء والإلحاق مع موافقته للصيغة العربية .
(د) تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح .
(هـ) ضبط المصطلحات عامة والمعرب منها خاصة بالشكل حرصاً علي صحة نطقه ودقة أدائه .
وإذا كان كثير من هذا الجهد يصب في مجري المصطلحات العلمية فإن المنهجية وتنظيم الجهد المبذول يمكن أن تساعد في إثراء الجهد الموازي في المصطلحات الأدبية مع التسليم بوجود فوارق بين الحقلين وجنوح المصطلح في المجال النقدي أحياناً إلي الأفق الاستعاري الذي يتسم بسمات فردية متنوعة ومع وجود كثير من الأفكار المطروحة حل عقد مؤتمرات أو لجان لتعريب المصطلحات أو توحيدها ، فإنه يمكن البدء بفكرة بسيطة متواضعة تترك أثرها علي المدي المنظور في سبيل تحقيق هذا الهدف ، ونعني بهذه الخطوة اتفاق المجلات الادبية في العالم العربي علي نشر قائمة موحدة كل سنة أو نصف سنة بالمصطلحات الموحدة والالتزام بها في المقالات التي تنشرها هذه المجلات ولأن هذه المجلات محدودة العدد في نهاية المطاف ، فإن إمكانية الاتفاق بينها واردة ، ولأنها أيضاً تصل غالباً إلي معظم المهتمين بالمجال – علي عكس الكتب التي قد تجد بعض الصعوبة في حركتها – فإن تأثيرها يمكن أن يصل إلي أكبر عدد من القراء ويساعد في نهاية المطاف علي تقليل المخاطر المتمثلة من غموض المصطلح النقدي ويشكل خطوة في بداية الطريق .
الهــوامـتش :
1- أحمد الأخضر غزال : توفير المصطلحات وضبطها وتوحيدها وتعميقها مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ، قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب – الرباط – نوفمبر 1993م .
2- د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة ، ص 30 .
3- د. صلاح فضل : مناهج النقد المعاصر ، ص 6 ، دار الآفاق العربية – القاهرة 1997م .
4- د. صلاح فضل : بلاغة الخطاب وعلم النص ، عالم المعرفة – الكويت سنة 1992م .
5- المعجم الوسيط جـ 1 ، ص 423 .
6- عبدالقادر القط قضية المصطلح في مناهج النقد الأدبي الحديث ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، الكويت ، سنة 1994م .
7- د. عبدالقادر القط : المرجع السابق .
8- أنظر : شاكر الفحام ، إشكالية المصطلح وضعاً وتوحيداً ودور مكتب تنسيق التعريب في خدمة المجتمع ، ضمن كتاب قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب ، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط 1993م .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : أحمد درويش, العدد الاول