التجسيد الفني لظاهرة الموت
في شعر فدوي طوقان وسيرتها الذاتية
د. احمد درويش
ظاهرة الموت التي تشكل أكبر الأسئلة التي يطرحها على كل من يعبر بهذه الحياة كانت محور تأملات الشعراء وأحاديث الحكماء ووعظ الدعاة ونصائح الأساة ومجال إظهار قوة الفتاك أو زهد النساك ومعرض تجلى ثبات عزائم الشجعان او ارتعاد فرائص الجيان .
ويستطيع المتأمل أن تجد مئات الصور التي يتجسد فيها الموت لدي الشعراء في لغات الأرض تبعاً لعشرات المتغيرات النفسية والعقيدية والحياتية التي يمر بها الشاعر أو تمر به وفي الشعر العربي نلتقي بصور مختلفة للموت عند النابغة الذبياني وطرفة بن العبد وتأبط شراً والشنفرى الأزدى والخنساء وحسان بن ثابت وشعراء الخوارج وأبي العلاء المعري والمتنبى وابن الرومي وكذلك الشأن بالنسبة لشعراء العصر الحديث وتبلغ هذه الصور حداً من التنوع تكاد تتميز عنده صورة الحياة .
وفدوي طوقان من الشعراء الذين تحتل صورة الموت جانباً هاماً في حياتهم وشعرهم نتيجة للظروف التي أحاطت بها فى مسيرتها الأسرية ، ومسيرة وطنها وساعات على تشكيل ميولها واتجاهاتها السلوكية والفنية .
ويمكن تلمس ملامح هذه الصورة فيما كتبته في سيرتها الذاتية الممتعة ” رحلة جبلية .. رحلة صعبة [1]” وفيما نشرته من قصائد في دواوينها السبعة التي ضمها مجلد ” الأعمال الشعرية الكاملة [2]“.
ويلفت النظر في سيريها الذاتية شدة الاتصال بعالم الموتى بدءاً من الإهداء الذي تصدر به كتابها متحدثة خلاله عن ساكني هذا العالم الآخر : ” لقد لعبوا دورهم في حياتي ثم غابوا في طوايا الزمن ” هو إهداء يصاغ بطريقة غريبة ، فهو لا يتوجه إليهم ولا إلينا ولا إلي أي أحد وإنما يتحدث عنهم وعن غيابهم الذي لا يتساوي بالضرورة مع العدم لأنهم يقعون في طية من طوايا الزمن ونقع نحن في طية أخري منه وكأن الشاعر شاهد على هذه الطوايا قادر على اختراق حواجزها وعلى الإمساك بطرف الحوار مع هؤلاء الذين سبقونا إلي الغياب ذلك الغياب يكاد يتحول في نظرة الشعر إلي أصل ثابت يقاس إليه الحضور “الطارئ” التمثل في الحياة ، وقد صور أبو العلا المعري الموت على انه ضجعة النوم على حين بدت الحياة في مقابله مثل لحظة السهاد :
ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد وانطلاقاً من هذا ، تقاس متحركات الأشياء إلي ثوابتها وقد فعلت فدوي طوقان شيئاً من ذلك ، وهي تحاول في بداية سيرتها وهي تحاول في بداية سيرتها الذاتية أن تحدد تاريخ بدء حياتها تاريخ ميلادها في عصر لم تكن فيه وثائق التدوين تعني فيه بالرصد الدقيق للعام الذي يفد فيه مولود جديد فضلاً عن الشهر واليوم وعندما حاولت أن تقرب لها أمها ذلك العام حين كبرت واهتمت بالسؤال ، قالت لها[3] ” أنا أدلك على مصدر موثوق حيث يمكنك التيقن من عام ميلادك فحين استشهد ابن عمي كامل عسقلاني كنت في الشهر السابع من الحمل ” وهكذا تحدد تاريخ بدء حياتها بتاريخ موت خالها لقد وهبها الموت أول معرفة يقينية في رحلتها .
لكنه هو الذي وهبها أيضاً أول سؤال حائر كبير شغل مخيلتها وهي طفلة فى العاشرة عندما رأت أحبابها الذين التصقت بهم أو اعتقدت أنهم الشوامخ الرئيسية يرحلون فرادى لاتسطيع أن تمنعهم من الرحيل ، ولا أن تشاركهم إياه [4]:
” حين توفي عمي بالذبحة الصدرية عام 1927 عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاماً كانت وفاته أول طرقات الموت على بوابة حياتي وقفت أرقبه وهو مسجي على سريره بلا حراك ، وحيرني ما رأيت على وجهه الممتقع من عدم المبالاة بكل ما يجري من بكاء الأهل والأحباب … وظل عقلي البسيط … كثير الانشغال بهذا الشئ الغريب الرهيب الذي يسمونه الموت وكان أكثر ما يحيرني أن وجوه الأموات جميعاً تتخذ نفس المظهر .. مظهر اللامبالاة والوحدة المطلقة .. مات من أحبابي من مات ، كل بمفرده ، دون أن أستطيع مشاركته لحظة الموت الغريبة ، وبقي السؤال معلقاً على شفتي الطفلة : لماذا ماتوا ورحلوا عني ؟ “.
وكما انتزع الموت من الطفلة واحداً من شوامخ الأهل دون أن يجيب عن سر الاختيار وأسباب الرحيل انتزع أقرب معلماتها حباً إلي نفسها وهي في رحلة الصبا المبكر ( ست زهوة العمد ) التي أحبتها الصبية كما لم تحب أحداً من أهلها والتي ما إن بدأت تعطيها أسباب الثقة في التفاؤل بالحياة والإحساس بها حتي اختطفها الموت : ” كان موت – ” زهوة ” – معلمتي الشابة ثاني طرقات الموت على بوابة حياتي “[5]
والذي يقرأ سيرة فدوي طوقان ، يلاحظ الأهمية القصوى للدور الذي قام به أخوها إبراهيم في ربطها بأسباب الحياة بعد أن كانت صلتها بها على وشك أن يتعريها الذبول ، كانت التقاليد الصارمة للأسرة قد حالت بينها وبين مواصلة تعليمها ، حين لاحظت أن صبيا قدم لها وهي في طريقها الي بينت خالتها زهرة فل ، ركض بها إليها في حارة العبقة [6] وعندئذ صدر قرار أخيها يوسف بفرض الإقامة الجبرية عليها في البيت حتى يوم الممات ، التهديد بالقتل إذا هي تخطب عتبة المنزل ومضت شهور طويلة وهي قابعة في المنزل تذبل يوماً بعد يوم وتحرم من بصيص التعليم الذي كان قد بدأ يشع في حياتها نوراً إلي أن عاد أخوها إبراهيم من بيروت سنة 1929 بعد حصوله على شهادة من الجامعة الأميركية ليمارس مهنة التعليم في نابلس وبعودة إبراهيم كما تقول فدوي ” أشرف وجه الله على حياتها ” وكانت يده كما تقول ” هي حبل السلامة الذي تدلي لينتشلها من بئر النفس الموحشة المكتنفة بالظلام ” وتمثلت بعض خيوط هذا الحبل في قراره بأن يقيم لها في البيت حلقة تعليمية خاصة لكي يعملها اللغة وآدابها ويدربها على كتابة الشعر ولكننا حين نتأمل في صفحات هذا الحب العظيم نجدها دائماً مبطنة بروائح الموت حتي وهي اوج التألق والريعان تقول فدوي [7] ” ظل حبي لإبراهيم مصدر كآبة باطنية رافقت تعلقي به طيلة حياتي القصيرة كان شعوري بالسعادة لوجود هذا الأخ الحنون في حياتي يهزني أحياناً بما يشبه الحزن وذلك من فرط خوفي عليه من موت مبكر كان زلزال نابلس الفظيع سنة 1927 هو الذي زرع في قلبي الطفل المتعلق بإبراهيم الخوف عليه باستمرار من الموت ففي ذلك اليوم الذي لا ينسي انهار سقف الغرفة التي كان يقيل فيها لحظة الزلزال لكن الصدفة شاءت أن تكون سريره بعيداً عن الجزء المنهار فنجا من الموت ليمتد به العمر أربعة عشر عاماً أخري ”
ويبدو أن هذا الشبح الخفي للموت لم يكن يدب في نفس الفتاة فحسب وانما كان يتبدي أحياناً في بعض تصرفات أخيها ومعلمها وفي هذا المجال فإن من اللافت للنظر أن يكون الدرس الأول الذي يختاره إبراهيم طوقان لاخته المتطلعة إلي كتابة الشعر يتمثل في تدريبه إياها على حفظ قصيدة قالتها امرأة ترثي أخاها يختارها لها من ديوان الحامسة دون سائر القصائد الأخرى لكي يدريها على حفظها [8] :
” قال هذه القصيدة سأقرأها لك وأفسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها إلي دفتر خاص وتحفظينها غيباً لأسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب وبدأ يقرأ : امرأة ترثي أخاها :
طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك
أي شئ حسن لفتي لم يك لك
كل شئ قاتل رصد حين تلقي أجلك
والمنايا رصد للفتي حيث سلك
فهل كان ذلك الدرس الأول نبوءة مبكرة بتفجير ذلك الينبوع الذي سوف يحتل مكاناً مميرأ في حياة فدوي طوقان وقصائدها ؟
ولم تتأخر النبوءة كثيراً فقد غادر إبراهيم فلسطين إلي العراق بعد أن أقيل من إذاعة فلسطين بسبب حديث أدبي عن شاعر يهودي عربي هو السموءل بن عاديا ولم تتحمل صحته العليلة مناخ العراق القاسي وبعد بضعة شهور مرض وعاد إلي نابلس ومات وانكسر شئ في أعماق فدوي وسكنتها حرقة اليتم .
وكانت قصيدة الرثاء التي كتبتها فدوي على قبر إبراهيم بداية لسلسة من قصائد رحيل الأعزاء ولقد يلفت النظر أنه لم يحمل اسم ابراهيم منها سوي قصيدة واحدة مع أن روح الحزن عليه سرت في كثير من القصائد الأخري وقد اختاري القصيدة شكل من المقطوعات جاءت موسيقاها وقوافيها على طريقة الموشحات التي تنتهي الأبيات الثلاثة الأولي فيها من كل خماسية بقافية تتنوع من خماسية لآخري وتبقي قافية البيت الرابع حرة على حين تتحد قوافي البيت الخامس في المقطوعات الاثنتى عشرة :
أه يا قبر هنا كم طاف روحي
هائما حولك كالطير الذبيح
أو ما أبصرته دامي الجروح
يتنزي فرط تبريح ويأس
مرهفاً مما يعنيه الحنين
* * *
وهنا يا قبره أشواق نفسي
يالأشواق على دربك حبس
وهنا قبله أحلامي وهجسي
قربتني الدار أو طال نزوحي
فخيالي بك رهن كل حين
وتستمر القصيدة على هذا الإيقاع الموسيقي المحكم على امتداد أبياتها الستين ومقطوعات الاثنتي عشرة ويبلغ الإحكام في الإيقاع الموسيقي حداً قد يدفع إلي التساؤل عن مدي درجة الوعي التي يتطلبها ذلك اللون من الموشحات للسيطرة على قنواته المتعرجة خلال مسيرة القصيدة وعن مدي التعارض أو التوافق بين هذه الدرجة من الوعي والسيطرة وبين درجة من ” الذهول ” التي لا بد منها أمام الصدمة القوية لموت الأحباب وبالتالي عن مدي الملاءمة التامة أو المنقوصة بين ” الموشحة ” و” المرثية”
إن هذا اللون من التنويع الموسيقي ، كان دون شك صدي لشيوع هذا التطريز في موسيقي القصيدة العربية في الربع الثاني من القرن العشرين وما حوله لدي الشعراء المهجريين وشعراء جماعة أبو للو وشعراء مجلة ” الرسالة ” وهو تنويع جميل في ذاته وربما تواءم مع المراثي الأخري التي لم يكن الشأن فيها أن تغمرها موجات الذهول وقد تكون قصيدة ” الشاعرة والفراشة ” في ديوان ” وحدي مع الأيام ” نموذجاً لهذه المرثية الخفيفة التي تتأمل فيها الشاعره لحظة موت الفراشة في وسط عرس الطبيعة :
ما أجمل الوجود لكنها
أيقظها من حلو إحساسها فراسة
فراشة تجدلت في الثري
تودعه آخر أنفاسها
تموت في صمت كأن لم تفض
مسارح الرض بأعراسها
وهنا تستيطيع الشاعرة أن تطرح التساؤل حول دوافع الذبول الذي يفضي إلي موت وما إذا كانت هذه الدوافع كامنة في غياب الحب حيث الندي يجفو والزهرة تصد والأنسام تضيع الهوي ؟!
دنت إليها وانثنت فوقها
ترفعها مشفقة حانية
أختاه ماذا ؟ هل جفاك الندي
فمت في أيامك الزاهية
هل صد عنك الزهر ؟ هل ضيعت
هواك أنسام الربي اللاهية
وإذا كانت ظاهرة الموت يمكن أن تتجسد أحياناً في بعض قصائد فدوي طوقان بهذه المسحة الرومانسية الحانية التي تسبل أمامها الجفون ويرق الصوت وتداعت الأنامل الجسد الميت الرقيق للفراشة ، فإنها كانت تتجسد في مشاهد أخري من شعرها في الصورة المقابلة تماماً ، صورة الهلع والفزع والصراخ الحاد ، والعيون المفتوحة الزائغة الحائرة والتساؤلات المتنكرة التي تنغرس كالنصل في جوف أكثر الأشياء قداسة وتكون ما يمكن أن يسمي مجازاً بالمرثية ” الزوبعة ” الثائرة فى مقابل المرثية ” الرومانسية ” الهادئة ولا شك أن المراثي كتبها الشاعرة حول مصرع أخيها نمر تجسد جوانب هذه المرثية الثائرة وألوان التأملات والبني الفنية التي تنبعث منها كان ” نمر” هو الأخ الذي حل محل ” إبراهيم في الحنز والحب بعد رحيله تقول فدوي [9] ” كان نمر شقيقي وصديقي وحبيبي يحس بما أعانيه في حياتي يتعاطف معي ويهتم باهتماماتى كان مولعاً بالشعر والموسيقي بالرغم من تخصصه في علم الأمراض ” باثولوجي ” وتكريس حياته العلية لكتابة البحوث في موضوع تخصصه والمحاضرات التي كان يلقيها على طلابه في الجامعة الأميركية ببيروت وكانت فدوي وقت مصرعه المفاجئ في حادث طائرة تقيم في إنجلترا لكن طيف الفجيعة ألم بها في المنام قبل أيام من وقوعها : ” قبل وقوع الفجيعة بأيام قليلة رأيته يخرج من بيته في بيروت متجهاً نحو سيارة يجلس خلف مقودها شقيقي إبراهيم ( كان قد مات ) … وانطلقت بهما السيارة دون أن ينبس أحدهما بحرف صرخت في حلمي بلوعة حارقة : مات نمر ” وبعد هذه الرؤيا بأيام قليلة سقطت طائرة إميل البستان في البحر وكان معه ” نمر طوقان “.
وقد أتيح لفدوي طوقان ان تسجل مشاعرها حيال هذه الصدمة نثراً في سيرتها الذاتية وشعراً في دواوينها ومن الممكن أن نواجه صفحة الشعر مع صفحة السيرة لكي نحاول استجلاء بعض الفروق التي تتطلبها الطبيعة الخاصة لكل من الفنيين في سيرتها الذاتية تقول [10] : ” في الساعة الخامسة من مساء نهار الجمعة 15/3/1963 عدت إلي البيت لأجد برقية في انتظاري استلمتها من يد مسز فيتهام بقلب واجف ارتقيت السلم الخشبي دخلت غرفتي مبهوتة مرعوبة جلست أنظر إلي البرقية لبضعة دقائق دون أن أجرأ على فتحها كان الرعب يشل أصابعي فجأة عن لي خاطر مشجع لم لا يكون المضمون بشارة قدوم أحد الأهل إلي إنجليزا ؟ وفتحت البرقية العالم الخارجي يتلاشي ذهول خدر كل إحساس لدي يصاب بالتوقف لأول مرة في حياتي يستعصي على البكاء فراغ في الرأس فراغ في النفس كل شئ يترك مكانه لفراغ أخرس غياب أن وما حولي نغرق في الغياب لا حضور لشئ إطلاقاً فقط غياب والخبر لا معني له كأنه لا يدل على شئ هبطت السلم على غير وعي مني كالسائر في نومه لم أكد أفعل حتي عدت أدراجي فتحت شباك الغرقة موجة هوائية ثلجية لطمت وجهي كان الليل قد هبط مثل ستارة من صقبع أسود قبيل منتصف الليل راح جسدي يرتجف بقشعريرة عنيفة ها هو الفراغ يمتلئ بحزن عظيم تهاوي جانبي الأيمن وسجبني فالتويت معه لا إراديا التويت جهة اليمن وبدأت ألوب دون أن أستطيع بحال من الأحوال الاستقامة في جلستي نفس الحالة التي عرتني ساعة تلقيت نعي إبراهيم وهكذا عرفت لو قرن الشعراء آلامهم وأحزانهم بالكبد واكبدا قد تقطعت كبدي .
زحفت متحاملة وانطرحت على سريري هنا بدأ الينبوع الساخن المتفجر يتدفق حمداً لك أيها الينبوع لو استمر انحباسك لبخعت نفسي دمع منهمر لا يتوقف للحظة واحدة شئ لا يصدق من أين كانت تأتي كل الدموع ؟ ثلاثة أيام متواصلة في بكاء متواصل شئ لا يصدق هذه هي صفحة الوصف النثري التسجيلي لوقع خبر وفاة نمر على فدوي وهي صفحة اهتمت بالاستبطان بوصف الحالة الجسدية ومحاولة رصد الحالة النفسية واستغرقت لحظتها الزمنية نحو ثلاثة أيام وتحركت مساحتها المكانية داخل أرجاء الغرفة التي تلقت فيها النبأ وتشكل رد فعلها الأساسي في ذهول الجسد واستعصاء الدموع أولا ثم في وعي الجسد بالصدمة من خلال امتلاء الفراغ الحزن وتهاوي الجنب اللاإرادي وآلام الكبد وانهمار الدموع اللانهائي وكل هذه المشاهد يتم رصدها فيما يشبه الحياد ويكاد ينعدم فيها التعليق .
وفي القصيدة الأولي من مرثيات نمر التي حملت عنوان ” مرثاة إلي نمر ” تكاد كثير من المشاهد التي رصدتها صحفة ” النثر ” تترجم إلي لغة ” الشعر”
وارتجفت مثلوجة أصابعي على
وريقة البريد
هم يكذبون
هم يكذبون
بل أنت تحلمين تحملين
استيقظي حلم ثقيل
وحدقت عيناي في الأشياء
وامتدت يدي
تلامس الخوان والكتاب والأوراق
استيقظي حلم ثقيل لا يطاق
حدقت عنياي في وريقة البريد من جديد
وأطبقت مثلوجة أصابعي على وريقة البريد
يا نمر لا يا نمر لا يا نمر
فالخامة الرئيسية في المقطع الشعري تتشكل في ملامسة ” وريقة البريد ” والهرب إلي عالم الحلم الثقيل وكلاهما كانت الصحفة النثرية قد فصلته واقعاً مرت به الشاعرة والهرب من قسوة الحقيقة المرة إلي توهم ان الأمر كله كذب هو صدي لبيت المتنبي المشهور في رثاء خولة أخت سيف الدولة :
طوي الجزيرة حتي جاءتي نبأ
فزعت فيه بآمالي إلي الكذب
لكن الصيغة الشعرية لا تقف بالطبع عند رصد الواقع على النحو الذي سجلته الصيغة النثرية إن مرحلة تسليط الضوء على ما بعد ” الحدث ” تتشكل في مقطعين متتاليين متدرجين في القصيدة يأخذ الأول فيهما شكل مظهر الأنات الهادئة التي تقترب من أن تكون حديثاً للنفس ويأخذ الثاني مظهر الهياج والثورة والغضب وإلقاء حمم البركان في مل اتحاه .
ويتشكل ” المقطع الهادئ ” لغوياً من تكرر أدوات الذداء في شكلها العادي ” يا حبيبنا ” و ” يا أميرنا ” وليس في شكل الندية ” وانمراه ” ومن طرح أدروات الاستفهام القصيرة والتعليق والإضراب ” لو أنه .. لكنه ” وساند هذه الأدوات نفس هادئ يتمثل في اللجوء إلي الجملة الطويلة المسترسلة ” أهكذا بلا وداع يا حبيبنا ويا أميرنا الجميل لا قبلة على طراوة الخدين والجبين لا نظر أخير تحملها زاداً لنا في وحشة الفراق أما المقطع الثأئر الذي يتلوه فيتم اللجوء إلي الجمل القصيرة المدببة اللاهثة ” وهمت في الدروب ” غريبة في بلد غريب ويتم اللجوء فيه أيضا إلي جنون هذه الحياة ثم تتراكم الصفات المتصلة بالموت على نحو خاص في محاولة لتجسيد صورته القبيحة يا موت يا غشوم … يا موت يا مجنون يا أعمي العيون يا أصم يا قاصماً ظهري الضعيف وينتهي المقطع الهائج بلمسة تجديفية تنفلت إليها الشاعرة بين الحين والحين دون أن يكون السياق الفني مستلزما لها بالضرورة ثم يعقب ذلك مقطعان أحدهما قصير أشبه بحديث النفس الهامس الذي يبحث عن الدموع المحتبسة لا يتعداها ولآخر أشبه بقصيدة منفصلة أو ذيل قصيدة في شكل رسالة إلي الأم :
يا أم عائد إليك ابنك الحبيب
ترفه عرائس البحار في طراوة الصباح
ولعله يلاحظ من خلال المقارنة الأولية بين التعبير النثري والتعبير الشعري عن الموقف الواحد أن الرقعة المكانية للحدث الشعري اتسعت وان عدد الشخصيات المدعوة للحوار قد ازداد وهذه العناصر قد تثير تساؤلات حول فكرة الكثافة والانبساط في كل من الشعر والنثر وحول الوسائل المثلي للامتداد الرأسي أو الأفقي في المعالجة وتبقي أيضاً أهمية النظرة إلي ما المحنا إليه من اختلاف طريقة ” بناء الجملة ” في كل من الشعر والنثر وتناسب ذلك مع الطبيعة الخاصة بكل منهما والدور الذي يلعبه الإيقاع في هذه البنية وهي نقاط تظهر في كثير منها القدرات الفنية المتميزة لفدوي طوقان .
تتجسد صورة الموت في مجموعة من الأطر الزمانية والمكانية المفضلة لدي الشاعرة وتحيط بها مجموعة من الظواهر الطبيعية تساعد على تشكيل الإيقاع الخارجي وتهيئة النفس لاستقبال الطيف الذييستعصي على التجسيد ويشكل الليل إطاراً زمانياً مفصلا ً يغلف فيه الأسي القلب ويزداد التوهج عندما يجمتع مع الليل الريح والمطر :
لماذا يغلف قلبي الأسي
في ليالي المطر
لماذا إذا عصفت في الشجر
رياح الشتاء
ألمت طيوف الأحبة بي من وراء الحفر ؟
وإذا كانت طيوف الأحبة الموتي تفلت من أسرها بالليل لكي تطوف بالأحياء فإن أحزان الأحياء تفلت كذلك من أسرها بالليل لكي تحصد النعاس من العيون ، وتثير الهواجس :
في الليل حين تفلت الأحزان من أسرارها وحين وجهنا الأصيل يرفع القناع ( ولا أدري لماذا لم تكن :
وحين يرفع القناع وجهنا الأصيل )
تضمه أحزاننا إلي قرارها
تمر كفها على العيون تحصد النعاس في العيون
والوقت المفضل للقاء الأحباب الأحباء والموتي هو الليل :
أحبابنا خلف الحياة والزمان
الليل ميعاد لنا
كل مساء ها هنا يضمنا لقاء
والليل هو المسرح طبيعي لارتعاد القلب
بالخوف واهتزاز الأرض من تحت الأقدام :
وحدي في فلوات الليل
مرتعد قلبي بالخوف
أبدا مرتعد بالخوف
أبدا أرضي تهيز تميد تدور بلا محور
والموت ليس ظاهرة تهدد الإنسان فحسب وإنما تهدد الكائنات أيضاً وكما يوجد بين بني البشر من يكون الموت امتهاناً له وإعلاناً لفنائه ومن يكون الموت تكريماً له وإيذانا بخلوده فإن الكائنات تبدو كذلك شهيدة في بعض الأحيان وتبدو مستعصية على الفناء متشبثة بالخلود وفي مرثية حزة وهو رمز لالاف الشهداء البسطاء الذين استشهدوا في سبيل الوطن :
كان حمزة واحداً من بلدتي كالآخرين
طيباً يأكل خبزه
بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين
في هذه المرثية تقاوم الأرض مصرة على أن لا تموت :
هذه الأرض ستبقي
قلبها المغدور حياً لا يموت
وتقسم الدار وأولادي قرابين خلاصك
نحن من أجلك نحيا ونموت
أما الغرف التي ينسفها الطغاة البرابرة فهي غرف ” شهيدة ” :
ساعة وارتفعت ثم هوت
غرف الدار الشهيدة
وانحنى فيها ركام الحجرات
وحتي الكلمات يصيبها الموت أحيا ناً وتقع صرعي جثثاً مشوهة أمام فداحة الخطب والتضحية:
أورقت صمت على شفتي احزاني
وأطبقت الحروف شفاههها تتساقط الكلمات صرعي مثلهم
جثثا مشوهة تري ماذا أقول لهم
ومن عيني ومن قلبي تسيل دماؤهم
إن هذا التوسيع الأفقي لخط المواجهة مع الموت لا يجعله مجرد شبح غامض يهبط في لحظة ليسلب الحياة ويطفئ نورها وإنما يجعله مرحلة من مراحل الخلود ربما يكون اجتيازها في بعض الأحيان اكتمالاً :
أقول لقلبي اكتمال هو الموت
تتويج عمر وفبض امتلاء
وقد يكون الموت ميلاداً جديداً يهب الجموع طاقة ويعينها على بلوغ الغاية وفي رثاء فدوي طوقان لجمال عبد الناصر تنبئها الريح أن موته ليس إلا ميلاداً :
قالت الريح : سيأتي
مرته الميلاد لابد سيأتي
في يديه الشمس ذات الشمس
في مقلتيه الوجد ذات الوجد والعشق والمعني
من جراح الأرض يأتي
من سنين القحط يأتي
من رماد الموت يأتي
موته الميلاد لابد سيأتي
ومن أجل هذا فإن الموت لدي الشاعرة يكتسب كثيراً من سمات الحياة ويدخل في دورة الصيرورة على النحو الذي صورته الشاعرة في قصيدة تحمل هذا العنوان وتنطلق مابين شهداء 1976 وأطفال الحجارة فهو شجرة صفصافة كبيرة تمتد الأغصان :
والموت كبير يتنامي
صفصافة بللور أحمر
فتمد تمد تمد تمد
تمد وتنتشر الأعصان
والموت لا يقهر البشر فمن الحلم الممكن أن تعاد الأشلاء بعد تناثرها وأن تجمع لنتضح فيها الحياة من جديد على النحو الذي جسدته من قبل أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية :
لملمته شلوا فشلوا
باقة من الزهر أسلمتها إلي الرياح
وقلت يارياح
هذي شظاياه ابذريها
في السهول في ثنايا الغور
في مسارب النهر
ومن هنا فإن الذي يرفض الموت يستطيع أن يهزم الموت ويبقي خالداً كما جاء في مرثية كمال زعيتر:
أنت يا من قلت لا للموت والتيه
وللوجه الذي عشرين عاماً ظل مسرق الهوية
أنت يا شمسي الفضية
أيها الرفض للموت هزمت الموت حين اليوم مت
وإذا كان الموت يتشح أحياناً بمظاهر الخلود فإنه يستحق أن يعشق ويمكن أن يكون شهياً وفي سيرتها الذاتية تقول فدوي طوقان :
” إن الموت شهي في مكان تبعث الأجساد في تربته زهوراً وزعتراً برياً وما أجمل بلادي
كيف يمكن أن أموت على غير أرضها
وهي تكرر نفس المعني في شعرها حيث يضم ديوانها ” الليل والفرسان ” قصيدة بعنوان ” عاشق موته ” تختتمها بهذا المقطع :
ياشجر المرجان عرشت غصونه
على جوانب الطريق
أعشق موتي في مواسم الفداء والعطاء
أعشق موتي تحت ظلك المضرج الغريق
إذا كان هذا التصوير الفني لفلسفة الموت قد أعطاه هذه الأبعاد الرحبة في شعر فدوي طوقان فإن ذلك يتم غالياً عندما تتمثل الشاعرة هذه الفلسفة وتعايشها وتتركها تنبث بطريقة غير مباشرة في شعرها لكنها تكون أقل جودة وإحاكماً عندما تتعجل الشاعرة فتصوغ الأفكار وهي ما تزال في مرحلة الحوار العقلي الفلسفي قبل أن تدخل دائري جذب الشاعرية فتبدو القصيدة كأنها هيكل عظمي يحمل الفكر لكنه لا يكتسي بجمال الشعر ونستطيع أن نضرب مثالاً على ذلك بقصيدة ” جسر اللقيا ” التي تصدرها الشاعرة بعبارة لأحد الأدباء الغربيين وذلك يتكرر كثيراً لديها هذا التصدير يحمل أيضاً تساؤلات حول ضرورة تتويج القصيدة به :
أنا أخت أنا لي قلب الأخت
هل تلقي أخت إخوتها
في ظلمة قبر النسيان
أتواري أخت إخوتها
في أبشع قبر أقسي موت ؟
ومن حسن الحظ أن هذا النمط لا يتكرر كثيراً في الدواوين التي بين أيدينا ومتداداً للتساؤلات الفلسفية يبقي بعد ما وراء الطبيعة في مواجهة ظاهرة الموت ومخاطبة القوي العليا التي تسيطر على الكون وتملك سر الموت والحياة ويثيراً هذا البعد أسئلة أجابت عنها كل العصور بتأملات مختلفة وفتحت المجال لإبداعات شعرية عالمية ولا نريد أن ندخل في تفاصيل ما يحس به المتذوق أحيانا من غلبة النزعة التجديفية على بعض قصائد فدوي طوقان قصيدة أمام الباب المغلق مثلا أو مرثاة إلي نمر ولكننا نقول إن إحساس المرأة المكلومة الثكلي قدطغي على إحساس الشاعرة المتأملة في بعض المواقف فجاء الحديث أقرب إلي النواح منه إلي الرثاء
إن التنوع الهائل لقصائد الرثاء في شعر فدوي طوقان من حيث البواعث ووسائل التصوير واستخدام التقنيات المتخلفة سردا أو تجسيداً أو حواراً وما يترتب عليه من ديناميكية الحوار أحيانا وتحليقه كالطائر المنجح أو تعثره في بعض الأحايين وتحركه كالبطة المتأنية وما يصاحب ذلك كله من ألوان من البني الشعرية المتنوعة كل هذا يجعل تجسيد ظاهرة الموت في شعر فدوي طوقان وسيرتها واحدة من الظواهر المهمة في تاريخ الأدب العربي الحديث .
الهوامش
1 ) رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية فدوي طوقان دار الشرق للنشر والتوزيع عمان الأردن الطبعة الثالثة 1988 .
2 ) الأعمال الشعرية الكامل فدوي طوقان المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيوت الطبعة الأولي 1993 .
3 ) حلة جبلية ص 14 .
4 ) السابق ص 30 .
5 ) رحلة جبلية رحلة صعبة ص 53 .
6 ) أنظر : رحلة جبلية رحلة صعبة ص 54 .
7 ) المرجع السابق ص 127 .
8 ) السابق ص 68 .
9 ) رحلة جبلية ص 127 .
10 ) رحلة جبلية ص 208 .
[1]
[2]
أكتوبر 17 2011
التجسيد الفني لظاهرة الموت عند فدوي طوقان د. احمد درويش
التجسيد الفني لظاهرة الموت
في شعر فدوي طوقان وسيرتها الذاتية
د. احمد درويش
ظاهرة الموت التي تشكل أكبر الأسئلة التي يطرحها على كل من يعبر بهذه الحياة كانت محور تأملات الشعراء وأحاديث الحكماء ووعظ الدعاة ونصائح الأساة ومجال إظهار قوة الفتاك أو زهد النساك ومعرض تجلى ثبات عزائم الشجعان او ارتعاد فرائص الجيان .
ويستطيع المتأمل أن تجد مئات الصور التي يتجسد فيها الموت لدي الشعراء في لغات الأرض تبعاً لعشرات المتغيرات النفسية والعقيدية والحياتية التي يمر بها الشاعر أو تمر به وفي الشعر العربي نلتقي بصور مختلفة للموت عند النابغة الذبياني وطرفة بن العبد وتأبط شراً والشنفرى الأزدى والخنساء وحسان بن ثابت وشعراء الخوارج وأبي العلاء المعري والمتنبى وابن الرومي وكذلك الشأن بالنسبة لشعراء العصر الحديث وتبلغ هذه الصور حداً من التنوع تكاد تتميز عنده صورة الحياة .
وفدوي طوقان من الشعراء الذين تحتل صورة الموت جانباً هاماً في حياتهم وشعرهم نتيجة للظروف التي أحاطت بها فى مسيرتها الأسرية ، ومسيرة وطنها وساعات على تشكيل ميولها واتجاهاتها السلوكية والفنية .
ويمكن تلمس ملامح هذه الصورة فيما كتبته في سيرتها الذاتية الممتعة ” رحلة جبلية .. رحلة صعبة [1]” وفيما نشرته من قصائد في دواوينها السبعة التي ضمها مجلد ” الأعمال الشعرية الكاملة [2]“.
ويلفت النظر في سيريها الذاتية شدة الاتصال بعالم الموتى بدءاً من الإهداء الذي تصدر به كتابها متحدثة خلاله عن ساكني هذا العالم الآخر : ” لقد لعبوا دورهم في حياتي ثم غابوا في طوايا الزمن ” هو إهداء يصاغ بطريقة غريبة ، فهو لا يتوجه إليهم ولا إلينا ولا إلي أي أحد وإنما يتحدث عنهم وعن غيابهم الذي لا يتساوي بالضرورة مع العدم لأنهم يقعون في طية من طوايا الزمن ونقع نحن في طية أخري منه وكأن الشاعر شاهد على هذه الطوايا قادر على اختراق حواجزها وعلى الإمساك بطرف الحوار مع هؤلاء الذين سبقونا إلي الغياب ذلك الغياب يكاد يتحول في نظرة الشعر إلي أصل ثابت يقاس إليه الحضور “الطارئ” التمثل في الحياة ، وقد صور أبو العلا المعري الموت على انه ضجعة النوم على حين بدت الحياة في مقابله مثل لحظة السهاد :
ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد وانطلاقاً من هذا ، تقاس متحركات الأشياء إلي ثوابتها وقد فعلت فدوي طوقان شيئاً من ذلك ، وهي تحاول في بداية سيرتها وهي تحاول في بداية سيرتها الذاتية أن تحدد تاريخ بدء حياتها تاريخ ميلادها في عصر لم تكن فيه وثائق التدوين تعني فيه بالرصد الدقيق للعام الذي يفد فيه مولود جديد فضلاً عن الشهر واليوم وعندما حاولت أن تقرب لها أمها ذلك العام حين كبرت واهتمت بالسؤال ، قالت لها[3] ” أنا أدلك على مصدر موثوق حيث يمكنك التيقن من عام ميلادك فحين استشهد ابن عمي كامل عسقلاني كنت في الشهر السابع من الحمل ” وهكذا تحدد تاريخ بدء حياتها بتاريخ موت خالها لقد وهبها الموت أول معرفة يقينية في رحلتها .
لكنه هو الذي وهبها أيضاً أول سؤال حائر كبير شغل مخيلتها وهي طفلة فى العاشرة عندما رأت أحبابها الذين التصقت بهم أو اعتقدت أنهم الشوامخ الرئيسية يرحلون فرادى لاتسطيع أن تمنعهم من الرحيل ، ولا أن تشاركهم إياه [4]:
” حين توفي عمي بالذبحة الصدرية عام 1927 عن عمر يناهز الثانية والخمسين عاماً كانت وفاته أول طرقات الموت على بوابة حياتي وقفت أرقبه وهو مسجي على سريره بلا حراك ، وحيرني ما رأيت على وجهه الممتقع من عدم المبالاة بكل ما يجري من بكاء الأهل والأحباب … وظل عقلي البسيط … كثير الانشغال بهذا الشئ الغريب الرهيب الذي يسمونه الموت وكان أكثر ما يحيرني أن وجوه الأموات جميعاً تتخذ نفس المظهر .. مظهر اللامبالاة والوحدة المطلقة .. مات من أحبابي من مات ، كل بمفرده ، دون أن أستطيع مشاركته لحظة الموت الغريبة ، وبقي السؤال معلقاً على شفتي الطفلة : لماذا ماتوا ورحلوا عني ؟ “.
وكما انتزع الموت من الطفلة واحداً من شوامخ الأهل دون أن يجيب عن سر الاختيار وأسباب الرحيل انتزع أقرب معلماتها حباً إلي نفسها وهي في رحلة الصبا المبكر ( ست زهوة العمد ) التي أحبتها الصبية كما لم تحب أحداً من أهلها والتي ما إن بدأت تعطيها أسباب الثقة في التفاؤل بالحياة والإحساس بها حتي اختطفها الموت : ” كان موت – ” زهوة ” – معلمتي الشابة ثاني طرقات الموت على بوابة حياتي “[5]
والذي يقرأ سيرة فدوي طوقان ، يلاحظ الأهمية القصوى للدور الذي قام به أخوها إبراهيم في ربطها بأسباب الحياة بعد أن كانت صلتها بها على وشك أن يتعريها الذبول ، كانت التقاليد الصارمة للأسرة قد حالت بينها وبين مواصلة تعليمها ، حين لاحظت أن صبيا قدم لها وهي في طريقها الي بينت خالتها زهرة فل ، ركض بها إليها في حارة العبقة [6] وعندئذ صدر قرار أخيها يوسف بفرض الإقامة الجبرية عليها في البيت حتى يوم الممات ، التهديد بالقتل إذا هي تخطب عتبة المنزل ومضت شهور طويلة وهي قابعة في المنزل تذبل يوماً بعد يوم وتحرم من بصيص التعليم الذي كان قد بدأ يشع في حياتها نوراً إلي أن عاد أخوها إبراهيم من بيروت سنة 1929 بعد حصوله على شهادة من الجامعة الأميركية ليمارس مهنة التعليم في نابلس وبعودة إبراهيم كما تقول فدوي ” أشرف وجه الله على حياتها ” وكانت يده كما تقول ” هي حبل السلامة الذي تدلي لينتشلها من بئر النفس الموحشة المكتنفة بالظلام ” وتمثلت بعض خيوط هذا الحبل في قراره بأن يقيم لها في البيت حلقة تعليمية خاصة لكي يعملها اللغة وآدابها ويدربها على كتابة الشعر ولكننا حين نتأمل في صفحات هذا الحب العظيم نجدها دائماً مبطنة بروائح الموت حتي وهي اوج التألق والريعان تقول فدوي [7] ” ظل حبي لإبراهيم مصدر كآبة باطنية رافقت تعلقي به طيلة حياتي القصيرة كان شعوري بالسعادة لوجود هذا الأخ الحنون في حياتي يهزني أحياناً بما يشبه الحزن وذلك من فرط خوفي عليه من موت مبكر كان زلزال نابلس الفظيع سنة 1927 هو الذي زرع في قلبي الطفل المتعلق بإبراهيم الخوف عليه باستمرار من الموت ففي ذلك اليوم الذي لا ينسي انهار سقف الغرفة التي كان يقيل فيها لحظة الزلزال لكن الصدفة شاءت أن تكون سريره بعيداً عن الجزء المنهار فنجا من الموت ليمتد به العمر أربعة عشر عاماً أخري ”
ويبدو أن هذا الشبح الخفي للموت لم يكن يدب في نفس الفتاة فحسب وانما كان يتبدي أحياناً في بعض تصرفات أخيها ومعلمها وفي هذا المجال فإن من اللافت للنظر أن يكون الدرس الأول الذي يختاره إبراهيم طوقان لاخته المتطلعة إلي كتابة الشعر يتمثل في تدريبه إياها على حفظ قصيدة قالتها امرأة ترثي أخاها يختارها لها من ديوان الحامسة دون سائر القصائد الأخرى لكي يدريها على حفظها [8] :
” قال هذه القصيدة سأقرأها لك وأفسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها إلي دفتر خاص وتحفظينها غيباً لأسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب وبدأ يقرأ : امرأة ترثي أخاها :
طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك
أي شئ حسن لفتي لم يك لك
كل شئ قاتل رصد حين تلقي أجلك
والمنايا رصد للفتي حيث سلك
فهل كان ذلك الدرس الأول نبوءة مبكرة بتفجير ذلك الينبوع الذي سوف يحتل مكاناً مميرأ في حياة فدوي طوقان وقصائدها ؟
ولم تتأخر النبوءة كثيراً فقد غادر إبراهيم فلسطين إلي العراق بعد أن أقيل من إذاعة فلسطين بسبب حديث أدبي عن شاعر يهودي عربي هو السموءل بن عاديا ولم تتحمل صحته العليلة مناخ العراق القاسي وبعد بضعة شهور مرض وعاد إلي نابلس ومات وانكسر شئ في أعماق فدوي وسكنتها حرقة اليتم .
وكانت قصيدة الرثاء التي كتبتها فدوي على قبر إبراهيم بداية لسلسة من قصائد رحيل الأعزاء ولقد يلفت النظر أنه لم يحمل اسم ابراهيم منها سوي قصيدة واحدة مع أن روح الحزن عليه سرت في كثير من القصائد الأخري وقد اختاري القصيدة شكل من المقطوعات جاءت موسيقاها وقوافيها على طريقة الموشحات التي تنتهي الأبيات الثلاثة الأولي فيها من كل خماسية بقافية تتنوع من خماسية لآخري وتبقي قافية البيت الرابع حرة على حين تتحد قوافي البيت الخامس في المقطوعات الاثنتى عشرة :
أه يا قبر هنا كم طاف روحي
هائما حولك كالطير الذبيح
أو ما أبصرته دامي الجروح
يتنزي فرط تبريح ويأس
مرهفاً مما يعنيه الحنين
* * *
وهنا يا قبره أشواق نفسي
يالأشواق على دربك حبس
وهنا قبله أحلامي وهجسي
قربتني الدار أو طال نزوحي
فخيالي بك رهن كل حين
وتستمر القصيدة على هذا الإيقاع الموسيقي المحكم على امتداد أبياتها الستين ومقطوعات الاثنتي عشرة ويبلغ الإحكام في الإيقاع الموسيقي حداً قد يدفع إلي التساؤل عن مدي درجة الوعي التي يتطلبها ذلك اللون من الموشحات للسيطرة على قنواته المتعرجة خلال مسيرة القصيدة وعن مدي التعارض أو التوافق بين هذه الدرجة من الوعي والسيطرة وبين درجة من ” الذهول ” التي لا بد منها أمام الصدمة القوية لموت الأحباب وبالتالي عن مدي الملاءمة التامة أو المنقوصة بين ” الموشحة ” و” المرثية”
إن هذا اللون من التنويع الموسيقي ، كان دون شك صدي لشيوع هذا التطريز في موسيقي القصيدة العربية في الربع الثاني من القرن العشرين وما حوله لدي الشعراء المهجريين وشعراء جماعة أبو للو وشعراء مجلة ” الرسالة ” وهو تنويع جميل في ذاته وربما تواءم مع المراثي الأخري التي لم يكن الشأن فيها أن تغمرها موجات الذهول وقد تكون قصيدة ” الشاعرة والفراشة ” في ديوان ” وحدي مع الأيام ” نموذجاً لهذه المرثية الخفيفة التي تتأمل فيها الشاعره لحظة موت الفراشة في وسط عرس الطبيعة :
ما أجمل الوجود لكنها
أيقظها من حلو إحساسها فراسة
فراشة تجدلت في الثري
تودعه آخر أنفاسها
تموت في صمت كأن لم تفض
مسارح الرض بأعراسها
وهنا تستيطيع الشاعرة أن تطرح التساؤل حول دوافع الذبول الذي يفضي إلي موت وما إذا كانت هذه الدوافع كامنة في غياب الحب حيث الندي يجفو والزهرة تصد والأنسام تضيع الهوي ؟!
دنت إليها وانثنت فوقها
ترفعها مشفقة حانية
أختاه ماذا ؟ هل جفاك الندي
فمت في أيامك الزاهية
هل صد عنك الزهر ؟ هل ضيعت
هواك أنسام الربي اللاهية
وإذا كانت ظاهرة الموت يمكن أن تتجسد أحياناً في بعض قصائد فدوي طوقان بهذه المسحة الرومانسية الحانية التي تسبل أمامها الجفون ويرق الصوت وتداعت الأنامل الجسد الميت الرقيق للفراشة ، فإنها كانت تتجسد في مشاهد أخري من شعرها في الصورة المقابلة تماماً ، صورة الهلع والفزع والصراخ الحاد ، والعيون المفتوحة الزائغة الحائرة والتساؤلات المتنكرة التي تنغرس كالنصل في جوف أكثر الأشياء قداسة وتكون ما يمكن أن يسمي مجازاً بالمرثية ” الزوبعة ” الثائرة فى مقابل المرثية ” الرومانسية ” الهادئة ولا شك أن المراثي كتبها الشاعرة حول مصرع أخيها نمر تجسد جوانب هذه المرثية الثائرة وألوان التأملات والبني الفنية التي تنبعث منها كان ” نمر” هو الأخ الذي حل محل ” إبراهيم في الحنز والحب بعد رحيله تقول فدوي [9] ” كان نمر شقيقي وصديقي وحبيبي يحس بما أعانيه في حياتي يتعاطف معي ويهتم باهتماماتى كان مولعاً بالشعر والموسيقي بالرغم من تخصصه في علم الأمراض ” باثولوجي ” وتكريس حياته العلية لكتابة البحوث في موضوع تخصصه والمحاضرات التي كان يلقيها على طلابه في الجامعة الأميركية ببيروت وكانت فدوي وقت مصرعه المفاجئ في حادث طائرة تقيم في إنجلترا لكن طيف الفجيعة ألم بها في المنام قبل أيام من وقوعها : ” قبل وقوع الفجيعة بأيام قليلة رأيته يخرج من بيته في بيروت متجهاً نحو سيارة يجلس خلف مقودها شقيقي إبراهيم ( كان قد مات ) … وانطلقت بهما السيارة دون أن ينبس أحدهما بحرف صرخت في حلمي بلوعة حارقة : مات نمر ” وبعد هذه الرؤيا بأيام قليلة سقطت طائرة إميل البستان في البحر وكان معه ” نمر طوقان “.
وقد أتيح لفدوي طوقان ان تسجل مشاعرها حيال هذه الصدمة نثراً في سيرتها الذاتية وشعراً في دواوينها ومن الممكن أن نواجه صفحة الشعر مع صفحة السيرة لكي نحاول استجلاء بعض الفروق التي تتطلبها الطبيعة الخاصة لكل من الفنيين في سيرتها الذاتية تقول [10] : ” في الساعة الخامسة من مساء نهار الجمعة 15/3/1963 عدت إلي البيت لأجد برقية في انتظاري استلمتها من يد مسز فيتهام بقلب واجف ارتقيت السلم الخشبي دخلت غرفتي مبهوتة مرعوبة جلست أنظر إلي البرقية لبضعة دقائق دون أن أجرأ على فتحها كان الرعب يشل أصابعي فجأة عن لي خاطر مشجع لم لا يكون المضمون بشارة قدوم أحد الأهل إلي إنجليزا ؟ وفتحت البرقية العالم الخارجي يتلاشي ذهول خدر كل إحساس لدي يصاب بالتوقف لأول مرة في حياتي يستعصي على البكاء فراغ في الرأس فراغ في النفس كل شئ يترك مكانه لفراغ أخرس غياب أن وما حولي نغرق في الغياب لا حضور لشئ إطلاقاً فقط غياب والخبر لا معني له كأنه لا يدل على شئ هبطت السلم على غير وعي مني كالسائر في نومه لم أكد أفعل حتي عدت أدراجي فتحت شباك الغرقة موجة هوائية ثلجية لطمت وجهي كان الليل قد هبط مثل ستارة من صقبع أسود قبيل منتصف الليل راح جسدي يرتجف بقشعريرة عنيفة ها هو الفراغ يمتلئ بحزن عظيم تهاوي جانبي الأيمن وسجبني فالتويت معه لا إراديا التويت جهة اليمن وبدأت ألوب دون أن أستطيع بحال من الأحوال الاستقامة في جلستي نفس الحالة التي عرتني ساعة تلقيت نعي إبراهيم وهكذا عرفت لو قرن الشعراء آلامهم وأحزانهم بالكبد واكبدا قد تقطعت كبدي .
زحفت متحاملة وانطرحت على سريري هنا بدأ الينبوع الساخن المتفجر يتدفق حمداً لك أيها الينبوع لو استمر انحباسك لبخعت نفسي دمع منهمر لا يتوقف للحظة واحدة شئ لا يصدق من أين كانت تأتي كل الدموع ؟ ثلاثة أيام متواصلة في بكاء متواصل شئ لا يصدق هذه هي صفحة الوصف النثري التسجيلي لوقع خبر وفاة نمر على فدوي وهي صفحة اهتمت بالاستبطان بوصف الحالة الجسدية ومحاولة رصد الحالة النفسية واستغرقت لحظتها الزمنية نحو ثلاثة أيام وتحركت مساحتها المكانية داخل أرجاء الغرفة التي تلقت فيها النبأ وتشكل رد فعلها الأساسي في ذهول الجسد واستعصاء الدموع أولا ثم في وعي الجسد بالصدمة من خلال امتلاء الفراغ الحزن وتهاوي الجنب اللاإرادي وآلام الكبد وانهمار الدموع اللانهائي وكل هذه المشاهد يتم رصدها فيما يشبه الحياد ويكاد ينعدم فيها التعليق .
وفي القصيدة الأولي من مرثيات نمر التي حملت عنوان ” مرثاة إلي نمر ” تكاد كثير من المشاهد التي رصدتها صحفة ” النثر ” تترجم إلي لغة ” الشعر”
وارتجفت مثلوجة أصابعي على
وريقة البريد
هم يكذبون
هم يكذبون
بل أنت تحلمين تحملين
استيقظي حلم ثقيل
وحدقت عيناي في الأشياء
وامتدت يدي
تلامس الخوان والكتاب والأوراق
استيقظي حلم ثقيل لا يطاق
حدقت عنياي في وريقة البريد من جديد
وأطبقت مثلوجة أصابعي على وريقة البريد
يا نمر لا يا نمر لا يا نمر
فالخامة الرئيسية في المقطع الشعري تتشكل في ملامسة ” وريقة البريد ” والهرب إلي عالم الحلم الثقيل وكلاهما كانت الصحفة النثرية قد فصلته واقعاً مرت به الشاعرة والهرب من قسوة الحقيقة المرة إلي توهم ان الأمر كله كذب هو صدي لبيت المتنبي المشهور في رثاء خولة أخت سيف الدولة :
طوي الجزيرة حتي جاءتي نبأ
فزعت فيه بآمالي إلي الكذب
لكن الصيغة الشعرية لا تقف بالطبع عند رصد الواقع على النحو الذي سجلته الصيغة النثرية إن مرحلة تسليط الضوء على ما بعد ” الحدث ” تتشكل في مقطعين متتاليين متدرجين في القصيدة يأخذ الأول فيهما شكل مظهر الأنات الهادئة التي تقترب من أن تكون حديثاً للنفس ويأخذ الثاني مظهر الهياج والثورة والغضب وإلقاء حمم البركان في مل اتحاه .
ويتشكل ” المقطع الهادئ ” لغوياً من تكرر أدوات الذداء في شكلها العادي ” يا حبيبنا ” و ” يا أميرنا ” وليس في شكل الندية ” وانمراه ” ومن طرح أدروات الاستفهام القصيرة والتعليق والإضراب ” لو أنه .. لكنه ” وساند هذه الأدوات نفس هادئ يتمثل في اللجوء إلي الجملة الطويلة المسترسلة ” أهكذا بلا وداع يا حبيبنا ويا أميرنا الجميل لا قبلة على طراوة الخدين والجبين لا نظر أخير تحملها زاداً لنا في وحشة الفراق أما المقطع الثأئر الذي يتلوه فيتم اللجوء إلي الجمل القصيرة المدببة اللاهثة ” وهمت في الدروب ” غريبة في بلد غريب ويتم اللجوء فيه أيضا إلي جنون هذه الحياة ثم تتراكم الصفات المتصلة بالموت على نحو خاص في محاولة لتجسيد صورته القبيحة يا موت يا غشوم … يا موت يا مجنون يا أعمي العيون يا أصم يا قاصماً ظهري الضعيف وينتهي المقطع الهائج بلمسة تجديفية تنفلت إليها الشاعرة بين الحين والحين دون أن يكون السياق الفني مستلزما لها بالضرورة ثم يعقب ذلك مقطعان أحدهما قصير أشبه بحديث النفس الهامس الذي يبحث عن الدموع المحتبسة لا يتعداها ولآخر أشبه بقصيدة منفصلة أو ذيل قصيدة في شكل رسالة إلي الأم :
يا أم عائد إليك ابنك الحبيب
ترفه عرائس البحار في طراوة الصباح
ولعله يلاحظ من خلال المقارنة الأولية بين التعبير النثري والتعبير الشعري عن الموقف الواحد أن الرقعة المكانية للحدث الشعري اتسعت وان عدد الشخصيات المدعوة للحوار قد ازداد وهذه العناصر قد تثير تساؤلات حول فكرة الكثافة والانبساط في كل من الشعر والنثر وحول الوسائل المثلي للامتداد الرأسي أو الأفقي في المعالجة وتبقي أيضاً أهمية النظرة إلي ما المحنا إليه من اختلاف طريقة ” بناء الجملة ” في كل من الشعر والنثر وتناسب ذلك مع الطبيعة الخاصة بكل منهما والدور الذي يلعبه الإيقاع في هذه البنية وهي نقاط تظهر في كثير منها القدرات الفنية المتميزة لفدوي طوقان .
تتجسد صورة الموت في مجموعة من الأطر الزمانية والمكانية المفضلة لدي الشاعرة وتحيط بها مجموعة من الظواهر الطبيعية تساعد على تشكيل الإيقاع الخارجي وتهيئة النفس لاستقبال الطيف الذييستعصي على التجسيد ويشكل الليل إطاراً زمانياً مفصلا ً يغلف فيه الأسي القلب ويزداد التوهج عندما يجمتع مع الليل الريح والمطر :
لماذا يغلف قلبي الأسي
في ليالي المطر
لماذا إذا عصفت في الشجر
رياح الشتاء
ألمت طيوف الأحبة بي من وراء الحفر ؟
وإذا كانت طيوف الأحبة الموتي تفلت من أسرها بالليل لكي تطوف بالأحياء فإن أحزان الأحياء تفلت كذلك من أسرها بالليل لكي تحصد النعاس من العيون ، وتثير الهواجس :
في الليل حين تفلت الأحزان من أسرارها وحين وجهنا الأصيل يرفع القناع ( ولا أدري لماذا لم تكن :
وحين يرفع القناع وجهنا الأصيل )
تضمه أحزاننا إلي قرارها
تمر كفها على العيون تحصد النعاس في العيون
والوقت المفضل للقاء الأحباب الأحباء والموتي هو الليل :
أحبابنا خلف الحياة والزمان
الليل ميعاد لنا
كل مساء ها هنا يضمنا لقاء
والليل هو المسرح طبيعي لارتعاد القلب
بالخوف واهتزاز الأرض من تحت الأقدام :
وحدي في فلوات الليل
مرتعد قلبي بالخوف
أبدا مرتعد بالخوف
أبدا أرضي تهيز تميد تدور بلا محور
والموت ليس ظاهرة تهدد الإنسان فحسب وإنما تهدد الكائنات أيضاً وكما يوجد بين بني البشر من يكون الموت امتهاناً له وإعلاناً لفنائه ومن يكون الموت تكريماً له وإيذانا بخلوده فإن الكائنات تبدو كذلك شهيدة في بعض الأحيان وتبدو مستعصية على الفناء متشبثة بالخلود وفي مرثية حزة وهو رمز لالاف الشهداء البسطاء الذين استشهدوا في سبيل الوطن :
كان حمزة واحداً من بلدتي كالآخرين
طيباً يأكل خبزه
بيد الكدح كقومي البسطاء الطيبين
في هذه المرثية تقاوم الأرض مصرة على أن لا تموت :
هذه الأرض ستبقي
قلبها المغدور حياً لا يموت
وتقسم الدار وأولادي قرابين خلاصك
نحن من أجلك نحيا ونموت
أما الغرف التي ينسفها الطغاة البرابرة فهي غرف ” شهيدة ” :
ساعة وارتفعت ثم هوت
غرف الدار الشهيدة
وانحنى فيها ركام الحجرات
وحتي الكلمات يصيبها الموت أحيا ناً وتقع صرعي جثثاً مشوهة أمام فداحة الخطب والتضحية:
أورقت صمت على شفتي احزاني
وأطبقت الحروف شفاههها تتساقط الكلمات صرعي مثلهم
جثثا مشوهة تري ماذا أقول لهم
ومن عيني ومن قلبي تسيل دماؤهم
إن هذا التوسيع الأفقي لخط المواجهة مع الموت لا يجعله مجرد شبح غامض يهبط في لحظة ليسلب الحياة ويطفئ نورها وإنما يجعله مرحلة من مراحل الخلود ربما يكون اجتيازها في بعض الأحيان اكتمالاً :
أقول لقلبي اكتمال هو الموت
تتويج عمر وفبض امتلاء
وقد يكون الموت ميلاداً جديداً يهب الجموع طاقة ويعينها على بلوغ الغاية وفي رثاء فدوي طوقان لجمال عبد الناصر تنبئها الريح أن موته ليس إلا ميلاداً :
قالت الريح : سيأتي
مرته الميلاد لابد سيأتي
في يديه الشمس ذات الشمس
في مقلتيه الوجد ذات الوجد والعشق والمعني
من جراح الأرض يأتي
من سنين القحط يأتي
من رماد الموت يأتي
موته الميلاد لابد سيأتي
ومن أجل هذا فإن الموت لدي الشاعرة يكتسب كثيراً من سمات الحياة ويدخل في دورة الصيرورة على النحو الذي صورته الشاعرة في قصيدة تحمل هذا العنوان وتنطلق مابين شهداء 1976 وأطفال الحجارة فهو شجرة صفصافة كبيرة تمتد الأغصان :
والموت كبير يتنامي
صفصافة بللور أحمر
فتمد تمد تمد تمد
تمد وتنتشر الأعصان
والموت لا يقهر البشر فمن الحلم الممكن أن تعاد الأشلاء بعد تناثرها وأن تجمع لنتضح فيها الحياة من جديد على النحو الذي جسدته من قبل أسطورة إيزيس وأوزوريس الفرعونية :
لملمته شلوا فشلوا
باقة من الزهر أسلمتها إلي الرياح
وقلت يارياح
هذي شظاياه ابذريها
في السهول في ثنايا الغور
في مسارب النهر
ومن هنا فإن الذي يرفض الموت يستطيع أن يهزم الموت ويبقي خالداً كما جاء في مرثية كمال زعيتر:
أنت يا من قلت لا للموت والتيه
وللوجه الذي عشرين عاماً ظل مسرق الهوية
أنت يا شمسي الفضية
أيها الرفض للموت هزمت الموت حين اليوم مت
وإذا كان الموت يتشح أحياناً بمظاهر الخلود فإنه يستحق أن يعشق ويمكن أن يكون شهياً وفي سيرتها الذاتية تقول فدوي طوقان :
” إن الموت شهي في مكان تبعث الأجساد في تربته زهوراً وزعتراً برياً وما أجمل بلادي
كيف يمكن أن أموت على غير أرضها
وهي تكرر نفس المعني في شعرها حيث يضم ديوانها ” الليل والفرسان ” قصيدة بعنوان ” عاشق موته ” تختتمها بهذا المقطع :
ياشجر المرجان عرشت غصونه
على جوانب الطريق
أعشق موتي في مواسم الفداء والعطاء
أعشق موتي تحت ظلك المضرج الغريق
إذا كان هذا التصوير الفني لفلسفة الموت قد أعطاه هذه الأبعاد الرحبة في شعر فدوي طوقان فإن ذلك يتم غالياً عندما تتمثل الشاعرة هذه الفلسفة وتعايشها وتتركها تنبث بطريقة غير مباشرة في شعرها لكنها تكون أقل جودة وإحاكماً عندما تتعجل الشاعرة فتصوغ الأفكار وهي ما تزال في مرحلة الحوار العقلي الفلسفي قبل أن تدخل دائري جذب الشاعرية فتبدو القصيدة كأنها هيكل عظمي يحمل الفكر لكنه لا يكتسي بجمال الشعر ونستطيع أن نضرب مثالاً على ذلك بقصيدة ” جسر اللقيا ” التي تصدرها الشاعرة بعبارة لأحد الأدباء الغربيين وذلك يتكرر كثيراً لديها هذا التصدير يحمل أيضاً تساؤلات حول ضرورة تتويج القصيدة به :
أنا أخت أنا لي قلب الأخت
هل تلقي أخت إخوتها
في ظلمة قبر النسيان
أتواري أخت إخوتها
في أبشع قبر أقسي موت ؟
ومن حسن الحظ أن هذا النمط لا يتكرر كثيراً في الدواوين التي بين أيدينا ومتداداً للتساؤلات الفلسفية يبقي بعد ما وراء الطبيعة في مواجهة ظاهرة الموت ومخاطبة القوي العليا التي تسيطر على الكون وتملك سر الموت والحياة ويثيراً هذا البعد أسئلة أجابت عنها كل العصور بتأملات مختلفة وفتحت المجال لإبداعات شعرية عالمية ولا نريد أن ندخل في تفاصيل ما يحس به المتذوق أحيانا من غلبة النزعة التجديفية على بعض قصائد فدوي طوقان قصيدة أمام الباب المغلق مثلا أو مرثاة إلي نمر ولكننا نقول إن إحساس المرأة المكلومة الثكلي قدطغي على إحساس الشاعرة المتأملة في بعض المواقف فجاء الحديث أقرب إلي النواح منه إلي الرثاء
إن التنوع الهائل لقصائد الرثاء في شعر فدوي طوقان من حيث البواعث ووسائل التصوير واستخدام التقنيات المتخلفة سردا أو تجسيداً أو حواراً وما يترتب عليه من ديناميكية الحوار أحيانا وتحليقه كالطائر المنجح أو تعثره في بعض الأحايين وتحركه كالبطة المتأنية وما يصاحب ذلك كله من ألوان من البني الشعرية المتنوعة كل هذا يجعل تجسيد ظاهرة الموت في شعر فدوي طوقان وسيرتها واحدة من الظواهر المهمة في تاريخ الأدب العربي الحديث .
الهوامش
1 ) رحلة جبلية رحلة صعبة سيرة ذاتية فدوي طوقان دار الشرق للنشر والتوزيع عمان الأردن الطبعة الثالثة 1988 .
2 ) الأعمال الشعرية الكامل فدوي طوقان المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيوت الطبعة الأولي 1993 .
3 ) حلة جبلية ص 14 .
4 ) السابق ص 30 .
5 ) رحلة جبلية رحلة صعبة ص 53 .
6 ) أنظر : رحلة جبلية رحلة صعبة ص 54 .
7 ) المرجع السابق ص 127 .
8 ) السابق ص 68 .
9 ) رحلة جبلية ص 127 .
10 ) رحلة جبلية ص 208 .
[1]
[2]
بواسطة admin • 09-متابعات ثقافية • 0 • الوسوم : احمد درويش, العدد التاسع, فدوي طوقان