البطل ………………………. خليل إبراهيم الفزيع

البطل

خليل إبراهيم الفزيع *

لم يكن الوقت مناسباً لحديث الذكريات .. بدا الجو مثقلا بالرطوبة إلي درجة تبعث علي الضيق لكن عبيد وقد تعود علي هذا الجو في هذه المدينة الساحلية الصاخبة .. لم يعبأ بتذمر صديقة .. لم يعبأ يشعور بالنشوة كلما هبت نسيمات باردة لا تلبث أن تذوب في طوفان الرطوبة اللملة حين ينز العرق وتلتصق الملابس بالأجساد وكأن الناس قد خرجوا لتوهم من البحر.

اتكأ عبيدعلي ساعده .. مد جسده النحيل فوق رمال الشاطئ بينما اكنفي صديقة بالجلوس محدقاً في البحر وأنوار الشارع تنعكس علي صفحته .. مرتعيشة كلما تحركت أمواجه الهادئة في مدها وجزرها البطئ قال عبيد مواصلاً حديثة لصديقة العائد بعد غياب:

– إثر إصابتي في الحرب عدت بطلاً متوجاً بغار النصر ، وكأن ما تكبده العدو من هزيمة إنما هو بسبب البطولة النادرة التي أبديتها في معاركنا معه .. عدت إلي قريتي فاحتفي بي الجميع .. مدرية القرية نظمت حفْلاً لابنها البطل .. أصبحت فتي أحلام فتيات القرية .. زوجة العمدة بعثت لي بهدية خاصة ، وأخري حلفت بأغلظ الأيمان أن ترقص يوم زفافي .. إحدى الفتيات أعلنت صراحة أنها تريد الاقتراب بي لأنها تريد ابناً بطلاً مثل أبيه .. مثل هذا التصريح كان مستنكراً وغريباً في الأيام العادية ، لكنه في موجة الاحتفاء بالبطل العائد من الحرب بدا عادياً ومنطقياً .. وألحت أمي العجوز علي أن أنتهز الفرصة لأختار من أريد من بنات الأسر الكريمة .. سكان القرية جميعهم كانوا علي استعداد لتقديم كل ما في وسعهم دون حساسية ، وهو الذين كانوا يرفضون مجرد السماح لي بحضور مجالسهم ، لأني ابن الجزار ، والجزارة والحدادة والحلاقة من المهن التي يرفض سكان القرية مزاولتها ،إلا من توارثها أباً عن جد فالتصقت به لتكون لقباً له ولعائلته من بعده . أما وقد أصبحت بطلاً من أبطال الحرب ، فقد أصبح الجمعة يخطبون ودّي .. والدي لو كان حياً لانتشي وهو يري ابنه محط الأنظار ..

كان عبيد فرحاً بعودة صديق طفولته وصباه ، وقد وحد أن من المناسب جداً أن يحكي له حكايته .. بدا الصديق مشدوهاً بما يسمع فليس في هيئة عبيد ووضعه ما يوحي بآثار النعمة التي يقول إنها هبطت عليه من السماء لمجرد الاعتقال بأنه بطل حرب . فاستقرت :

– وماذا حققت في الحرب من بطولات ؟ مسح العرق من جبينه .. عادت يده تعبث بالرمال ..شاهد قطين يتصارعان علي شئ ماء فاز بها أحدهما وهرب .. انطلق خياله إلي عوالم ظلت تفاصيلها الدقيقة راسخة في ذاكرته .. يحتو عليها بحب لا تخمد حرارته .. أجاب :

– عملت مع أحد المقاولين المكلفين بتموين الخطوط الأمامية .. ارتدينا ملابس الميدان .. توغلنا في إحدى المرات بسياراتنا المدنية .. اشتعلت من حولنا الأرض .. أصبحنا في مرمي العدو دون أن ندري .. كانت إصابتي بليغة ، نقلت علي أثرها للمستشفي العسكري ، وهناك بقيت أكثر من ثمانية شهور تحت العلاج .. قبل هذا الحادث كنت احد المتطوعين في دورة تدريبية نظمها الدفاع المدني لمواجهة أخطار الحرب .. كان ارتدائي ملابس التدريب العسكرية ملفتاً للنظر .. وجاءت إصابتي في الحرب تأكيداً لتلك البطولة التي أرادها الجميع .

سأله صديقة ولا تزال علامات الاستغراب بادية علي محياه :

– لكني لا أزال أعزب وبدون عمل .. لا زلت (درويشا) رغم بطولاتك !

أجاب عبيد بدون مبالاة :

– هي ليست بطولات بالمعني الدقيق .. لكنها بطولة اخترعها سكان القرية وصدقوها لفترة .. بعد شهور انحسر مد العواطف الجياشة .. انتهت حفلات الترحيب .. بدأت الحفاوة تتضاءل حتى تلاشت.. لم يعد حديث الحرب يستهوي أحداً عاد البطل كما كان .. ابن الجزار الذي يأنف الجميع من صحبته .

تحدث صديقة .. لكنة لم يلتفت إليه .. لأنه غرق في أحلام البطولة التي تتحقق.