في المقهى …………………………. راشد الشيب

في المقهى

راشد الشيب

قاص من قطر

أسرعت الخطى لكي أصل إلى المقهى الذي يقع في زاوية المجمع الكبير أمام الشارع العام، بعد أن حجزتُ طاولةً هناك، جلست أنتظر تلك السيدة التي غابت عن المكان منذ أيام، وأنا على هذه الحالة منذ أمد بعيد، أشتري الصحف اليومية، وأصنع منها طائرات ورقية بعد قراءتها حرفًا حرفًا، أو سفنًا بحرية أو نماذج أخرى مسلية، أُضيِّع وقتي إلى أن تأتي تلك السيدة التي غابت عني منذ حضورها الأول.

أنتظرها بسبب تلك الابتسامة الخارقة التي أهدتها لي أول مرة، ولم تهدها لأحدٍ غيري، وملاطفتها لي في الكلام والتعامل أيضًا طيلة ذلك اليوم، بعد أن أعطيتها منديلي لكي تجفف الماء الذي سكب عليها بعد اصطدامي بطاولتها، منذ ذلك الوقت وبعد تلك الابتسامة، لم يهنأ لي بال، وأنا أتقلب من حالٍ إلى حال، ومن السهر إلي النوم أرى الكوابيس والأهوال، كل ذلك بسبب تفكيري في تلك السيدة التي رمت سهم شيطانها عليَّ ثم غابت، تاركة ذلك السهم يشعل نار الانتظار بعد اختراقه لبؤبؤ قلبي، لقد تركت مجنونًا ينتظرها على نار الشوق واللقاء، تركتني هنا، وأنا أنتظرها؛ علها تعود وأراها، فتطفئ نارًا قد أشعلت كل شيء فيَّ.

كُل زوار المقهى تعرفوا عليَّ، حتى ” الكناس ”  الذي لقبته بصاحب المكنسة الذهبية تعرف عليّ؛ لأنه يأنس لمجالستي، فحاله مثل حالي،  فهو عاشق ومجنون بعشقهِ، ولكن لا يستطيع أن يتقدم لخطبة من يعشقها؛ لأنه كناس، وتخاف كلام النسوةِ الصاحبات وهمسهن، كيف تتزوج من هو عامل يعمل في تنظيف قذارة الناس ؟  هكذا قال لي وهو يذرف دموعه.. كلما رآني جالسًا يأتي ويحكي لي قصته مع تلك الفتاة التي تعمل خادمة في منزلٍ ذي شأن عالٍ جدًّا، وهي تخاف أن ترتبط به؛ لأنه كناس، ولا يستطيع أن يكون في مقام خادمة تعمل في بيت السادة الكبار .

الصدفة هي التي أوقعته في شباكها، فأثناء عمله مرَّ أمام ذلك المنزل الذي تعمل به تلك الخادمة ذات مرة، رآها ولم يعرها اهتماما، ولكن نداءها عليه جعله يُسرع الخطى لها ملبيًا نداءها، طلبت منه أن يساعدها في حمل كيس القمامة، فلبى طلبها من غير تردد، شكرته على صنيعه بألطف الكلام، وودعته وداع أهل الكِرام، فسرح بفكره بعيدًا وهَامَ، فاشتعلت عنده نار الغرام.

أصبح يتردد على ذلك الشارع بين الفينةِ والفينة، حتى لا يلفت انتباه الفضوليين من المارة، ولكن في أوقات خاصة بعد أن حددتها له، فأصبح من رواد ذلك الشارع.

وفي لحظة شرود الذهن أفصح لها عما في قلبه، فأفصحت له عما في قلبها، فجرحته وطعنته وقطعت أوصال قلبه من غير إحساس؛ لأنها قالت له بأنها لن تستطيع أن تتزوج إلا ابن صاحب المنزل، وبالفعل  تزوجها عنوة وهرب بعيدا؛ لأن أهله لم يقبلوا بها، وها هو صاحبنا الكناس يشكي الحال لمن يسمع له.

علم الجميع بحالتي، حالة إنسان ميئوس من حالهِ؛ بسبب ابتسامة أهديت لي في أحد الأيام، فصرت أفكر في من غاب عني منذ أيام، وبسبب تلك الابتسامة أيضًا، انقلب حالي وصرت في هيام، فلا فرق عندي إن كنت جالسًا في الليل أو النهار، فتسارعت لديَّ خطى الساعات، ومضى عليَّ الوقت وكأنه تفاهات، مضى عليَّ بلا فرحٍ ولا مسرات، حتى تاه الفكر عني من كثرة الخُرافات.

هجرني الكناس منذ زمن بعيد، وجاء مكانه صديقٌ جديد، هو شيخٌ كبير قد أنهكه التقاعد، متثاقل في خطواته، ثرثارٌ بحكاياته، بطولاته كثيرة، كبيرة وخطيرة، طويلة ومثيرة، أتهرب منه بذهني، ولا أعيره اهتمامي، حتى يصمت ويستريح، ويحتسى الشاي بِهَمِّ الجريح، صادرًا تلك الزفرات، التي تخفي خلفها الكثير من الآهات.

تحدث مرةً عن مغامرةٍ قد حصلت في شبابه، مغامرة كانت السبب في ما هو عليه الآن، عندما كان في الجيش في بداياته، كان من أنشط الضباط، الذين يضرب بهم المثل في الانضباط، محبًّا لعمله، ملتزما في مواعيده، يغار منه الجميع؛ لأنه مطيع وخدوم، كريم، طيب المعشر، محبوب من قبل الجنود، وبسبب ذلك دُمِّرَت حياتُهُ، دمرت بطريقة غير مباشرة، دمرت أثناء التدريبات الميدانية؛ لأنه أصيب إصابة بالغة جدًّا، لقد غامر بنفسه من أجل إنقاذ أحد الجنود إثر خطأ صار معه، فراح ضحيته رجله، التي قطعت بسبب تلك المغامرة، ثم أحيل بعد ذلك إلى التقاعد بعد إعطائه رتبة جديدة.

لم يحزن لذلك التقاعد ولم يهتم، ما أحزنه هو التخلي عن خدماته، ضابط في مثل خبرته يُبعد ويؤتى بآخر مبتدئ؟! وما أحزنه أكثر وأكثر أن المتسبب بتلك الإصابة قد رقي؛ لأنه ابن أحد السادة الكبار .

استطاع بعد التقاعد أن يجد وظيفة أخرى، وظيفة يستطيع من خلالها أن يسدد ولو شيئًا من ديونهِ، واستخدم في هذه الوظيفة أسلوبه المعتاد، أسلوب الصفات الحسنة، ولكن العطل الذي تسبب في تدمير نصف آلات المصنع جعله يعود إلى التقاعد مرةً أُخرى بعد طرده من العمل، وزاد على أحزانهِ حُزنًا، بعد أن طلق زوجته؛ لأنه لا يستطيع أن يعيلها، هكذا كانت حجتها وحُجة أهلها بعد تقاعده الثاني، وبسبب الديون التي تراكمت عليه، باع منزله، وسكن في منزل أخيه الصغير، في ملحقٍ يقع في زاوية المنزل، الحمد لله.. وجد من يأويه عنده؛ لأن الجميع قد تخلى عنه، ووجد من يستمعُ إليه أيضًا، وتحملت ثرثرته طيلة هذه المدة، عادة يُطرَدُ من هنا؛ لأن الجميع  يظن أنه مجنون.. شكرًا لك.. شكرًا لإنصاتك لي.. شكرًا..، هكذا يقول لي قبل رحيله كُل يوم.

فتحت باب الكلام معه، فشد انتباهه لي ومسمعه، فدار تفكيرهُ في مطمعه، لكي يعرف من تكون تلك المتسكعة، عندما أخبرته عن تلك الفتاة، التي ضحكت لي منذ زمنٍ قد فات، فضحك عليّ بعدةِ ضحكات، فقذفته بعدها بعدة كلمات .

هجرني ذلك الشيخ بمماته، وأصبحت وحيدًا بعد فراقه، وازدادت وحشتي بعد وفاته، ولا أنيس لديَّ سوى حكاياته.

مرت عليَّ أشهر معدودة، ولم تظهر فتاتي من خلالها، حتى شاب رأسي من كثرة التفكير بها، ففقدت الأمل المتعلق بلقائها.

أصبحت فقيد الحبيبين، حبيبٌ قد مات، وحبيبٌ قد سكن الفؤاد، ولا أعلم متى هو آت، أشتاق لهما في كل الأوقات، حتى يئس الصبر مني وملّ، وجلست أعاني على أثره المضرات، لقد طال أمد الانتظار لفتاتي، والأيام تسابق الأوقات، وهن القلب عندي، واللحية مالت  للبياض، فقررت في النهاية إنهاء تلك القصة الهزلية.

نعم.. قررت أن أذهب إلى المقهى لآخر مرة، وستكون بالفعل هي آخر مرة، هربت عني الأفراح والمسرة، أبسبب نظرة أعشقها من أول مرة، أم

بسبب تلك الابتسامة التي سحرتني في تلك الفترة، أم سهمٌ من سهام لحاظها  وجد من يصنع له تلك المضرة ؟

أثناء جلوسي وأثناء انشغالي بالنظر، مرت عليَّ فتاةٌ شمطاء لا تسر الخاطر ولا النظر، تمشي على ثلاثة؛ لأنها عرجاء، فحزنت لها وأردتُ أن أغير اتجاه تلك النظرات، فلمحت منها ما جعلني أقف باكتراث، ولوت تفكيري فصال بي وعاث، عندما أخرجت منديلي جعلتني أبعثر الأثاث.

ابتسمت لها بعد هجري للابتسامة،  تساءلت في سري قبل أن ينطق لساني، هل أنتِ صاحبة تلك الابتسامة ؟

راشد الشيب

الدوحة