روسيا تحتفل بثلاث قمم إبداعية كلاسيكية …. د. أشرف الصباغ

روسيا تحتفل

بثلاث قمم إبداعية كلاسيكية

د. أشرف الصباغ

موسكو

يبدو أن الأدب الحديث في روسيا يواجه منعطفات تاريخية، قد يكون جزء منها خاصا بروسيا وبأوضاعها. لكن الجزء الأكبر “عولمي”، إذا جاز التعبير، وهو ما ينسحب بدرجة أو بأخرى على الآداب الحديثة في الكثير من دول العالم. هذه المنعطفات دفعت الأوساط الثقافية الروسية الرسمية وغير الرسمية إلى العودة قليلا إلى الوراء وإقامة الاحتفالات والمناسبات الاحتفائية بالأدب الكلاسيكي الروسي، وكأنها تعلن بشكل غير مباشر أن الوقت لم يحن بعد للخروج إلى العالم بأدب روسي جديد.

لقد عادت الآلة الثقافية الروسية إلى جوجول في العام الماضي لتحتفل بمرور 200 عام على ميلاده. وظلت المحافل الثقافية تلوك شخصية جوجول مبتعدة قدر الإمكان عن جوهر إبداعات الرجل لكي لا تثير حساسيات اجتماعية. فالقيصر الروسي نيقولاى الأول، وبعد أن شاهد عرض الافتتاح لمسرحية “المفتش العام” عام 1836، قال: “حصل كل شخص على ما يستحق، وأنا أكثر من غيري”. هذا النص مثلا أغضب الطبقة الأرستقراطية الروسية آنذاك. ولشدة حيويته وحدة سخريته، فهو لا يزال يبحلق في وجه المجتمع الروسي الحالي. أما رواية “النفوس الميتة” فهي لا تزال أيقونة على جبين الأدب العالمي بكل ما تضمنته من تفاصيل خاصة بالنفس البشرية عموما وبأرواح الروس في المرحلة القيصرية على وجه الخصوص. والأهم في هذه الرواية أنه من الممكن أن تلتقي الكثير من شخصياتها الآن وبعد أكثر من قرن على كتابتها.

لم تكن عبارة ديستويفسكي: (كلنا خرجنا من معطف جوجول) مجرد مبالغة أو محاولة بلاغية قصد منها إجلال الرجل، وإنما كانت نابعة أساسا من قناعته بأن الأدب الروسي الحقيقي قد بدأ فعليا بجوجول. أما المقصود بـ “معطف جوجول” فهو قصة المعطف التي اعتبرها ديستويفسكي مثالا نموذجيا للعمل الفني. هنا نأتي إلى الروح الروسية التي لا تزال هائمة. لقد جسدها كل كاتب بطريقته، لكن هناك غصة لدى الروس؛ رغم كل ما يحملونه من احترام وتبجيل لديستوفيسكي، من تعامل هذا الكاتب (ديستويفسكي) مع الروح الروسية، إذ تمكن من إعمال مشرطه الحاد في أعمق أعماق الجوانب المظلمة فيها. لم يغفر له الكثيرون – إلى الآن – هذه الطريقة المرة التي سلط بها الضوء على تلك الجوانب المظلمة. أما جوجول فقد تعامل بطريقة أخرى نسبيا مع تلك الروح، ففضحها أيضا وكشف عن عوراتها. أي أن الكاتبين وجهان لعملة واحدة. وهناك أوجه شبه بارزة الملامح، بينهما: التدين، والمرض النفسي، واستعداء السلطة، الكشف-الفضح (وإن اختلفت الأساليب). واختلاف الأساليب هو الذي كاد يودي بديستويفسكي إلى الإعدام، بينما دفع جوجول إلى حالة من الجنون المرضي.

في هذا العام اختلفت الأمور قليلا؛ فقد قررت جهات ما في روسيا الاحتفال ليس بذكرى ميلاد الكاتب ليف تولستوي، وإنما بذكرى رحيله؛ ما أثار موجة من الاستياء والاستهجان في أوساط عديدة داخل روسيا وخارجها. هذه الجهات قررت فجأة الاحتفال بمرور 100 عام على وفاة ليف تولستوي (9 سبتمبر 1828 – 20 نوفمبر 1910). بل وطالبت اليونسكو بإعلان عام 2010 عام تولستوي. وما يثير الدهشة هو أن الروس عادة يحتفلون بيوم ميلاد الكاتب وليس بيوم وفاته. ولكن لا أحد يعرف إلى الآن مغزى هذه الفكرة!

لا شك أن الأدب الروسي الكلاسيكي شكَّل ظاهرة عالمية إلى جانب الآداب الكلاسيكية الأخرى؛ وكان أحد الساحات الخصبة إلى جانب الأدبين الفرنسي والإنجليزي تحديدا، نظرا للعلاقات المميزة التي ربطت روسيا القيصرية بكل من فرنسا وبريطانيا. وليف نيكولايفيتش تولستوي يقف إلى جانب ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمونتوف ونيقولاي جوجول وديستويفسكي وإيفان جونتشاروف وإيفان تورجينيف وتشيخوف شامخا بأعماله الملحمية الخالدة بالفعل. وليس غريبا على دولة مثل روسيا أن تعيد طباعة الأعمال الكاملة، أو مختارات من أعمال كل هؤلاء الكتاب بشكل دوري يكاد يكون سنويا في طبعات فخمة وأنيقة، حتى إن مكتبة أي بيت لا تكاد تخلو من طبعة أو اثنتين. إضافة إلى تدريس الأعمال الكلاسيكية لكتابها الكبار في المدارس والجامعات. بين كل هؤلاء يقف تولستوي شامخا رغم ما أصاب روسيا ما بعد السوفيتية من خراب في حقبة التسعينات وانعاكاسات كل ذلك على الثقافة الروسية عموما. ولا يمكن أن نتجاهل إطلاقا الترجمات الدورية لأعمال الكتاب الروس الكلاسيكيين، بدون مبالغة، إلى جميع لغات العالم. لكن لماذا تحتفل روسيا بيوم وفاة تولستوي، وليس بيوم ميلاده كما جرت الأعراف والتقاليد؟! سؤال سيبقى بدون إجابة!

وجاءت الحلقة الثالثة في هذه السلسلة لتضم الاحتفال بمرور 150 عاما على ميلاد الكاتب أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860 – 1904) الذي تعرفه الثقافة العربية ككاتب قصة أكثر من كونه كاتبًا مسرحيًّا من الدرجة الأولى على الرغم من قلة إنتاجه في هذا المجال.

لسنا هنا بمعرض تقييم النصوص السردية للكاتب الروسي، ولكن النظرة الأحادية العامة والشاملة لمجمل إنتاج تشيخوف – تجعلنا نخشى على العقلية العربية المثقفة عموما، وعلى أصحاب الإنتاج الفني على وجه الخصوص. والخوف الأشد قد يكون من النظرة الكلاسيكية المتحجرة له، سواء من حيث التعظيم أو التقليل من الشأن. هناك مشاكل كثيرة في إنتاجه السردي، وهي مشاكل وإشكاليات قابلة للنقاش. غير أن إنتاجه المسرحي القليل على مستوى الكم، والمهم على مستوى الكيف، يجعلنا نتوقف كثيرا لإعادة قراءة مجمل إنتاجه المسرحي والسردي، والتعامل مع هذا الإنتاج بآليات أخرى. ولحسن الحظ فقد تم إحياء إبداعات تشيخوف الدرامية بإقامة مهرجان تشيخوفي دولي، انتهت دورته التاسعة في يوليو 2010.

لقد جرت فعاليات الدورة الأولى لهذا المهرجان في صيف 1992، أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بأقل من عام واحد. وتعطلت 4 سنوات كاملة بسبب ظروف كثيرة، من بينها حالة الانهيار العامة والشاملة التي ضربت روسيا في سنوات التسعينيات. وجرت الدورة الثانية في صيف 2006. واستقر الأمر على إقامة المهرجان كل عامين إلى أن أصبح أحد أهم ثلاثة مهرجانات مسرحية في أوروبا إلى جانب مهرجان أفينيون الفرنسي وأدنبره الإسكتلندي.

منذ بداية النقاشات حول إقامة هذا المهرجان في فترة البيريسترويكا في مطلع النصف الثاني من سنوات الثمانينيات، حيرني سؤال: لماذا لا يشارك المسرحيون العرب فيه؟ وظل هذا السؤال يتردد إلى يومنا هذا!

على الرغم من عرض مسرحيات تشيخوف في العديد من المسارح العربية، إلا أن التفكير السائد لدى الأوساط الثقافية العربية يتمحور حول إنتاج تشيخوف السردي. والغالبية العظمى ترى فيه كاتب قصة عظيمًا ورائعًا ورياديًّا. كثير من المسرحيين المصريين والعرب قاموا بمسرحة قصص تشيخوف. ومع ذلك فالقليل هو الذي انتبه إلى كون أنطون تشيخوف مسرحي، ودراماتورج من الدرجة الأولى على الرغم من أنه كتب 5 نصوص مسرحية فقط، هي “النورس”، و”الشقيقات الثلاث”، و”بستان الكرز”، و”الخال فانيا”، و”إيفانوف”، إضافة إلى نص “الدب”.

الدورة التاسعة لهذا المهرجان بدأت بالفعل في أول يونيو عام 2010. وكان أمام المسرحيين العرب وقت لمعرفة التفاصيل، ومن ثم المشاركة. فالمسرحيون الروس يشاركون بشكل دائم، على سبيل المثال لا الحصر، في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وكان من الممكن أن يتوفر الوقت للاستفسار منهم عن هذا المهرجان. هناك أيضا وزارات الثقافة العربية، وما يتفرع منها من مؤسسات وأشكال كان، ومازال، بإمكانها الاستفسار رسميا عن مدى إمكانية المشاركة. فهل هناك إمكانية لدى المبدع المسرحي العربي للنظر إلى إنتاج تشيخوف والتعامل معه بعيدا عن الأطر التي رسمت له طوال السنوات الماضية؟

اليوم نصادف اسم تشيخوف في كل نشرة ثقافية سواء في روسيا والدول الأوروبية، والولايات المتحدة، وغيرها من دول العالم. فقد نظمت في عام 2004 وحده عشرات المؤتمرات، منها ندوة تشيخوف البحثية في لندن، ومؤتمر في هوفجايسمر، وأيام تشيخوف في كارولينا الشمالية، ومؤتمر ثقافي في وارسو.

إن مسرح تشيخوف يحظى بشهرة واسعة خارج روسيا، إذ قدمت له أفضل المسارح في الكثير من دول العالم، ومازالت تقدم مسرحياته إلى الآن. كما تقدم في الوقت الحاضر مسرحيات جديدة خاصة تعتمد على إبداع تشيخوف المسرحي. ففي مسرح بيلتمور في نيويورك جرى في شتاء 2004 العرض الأول لمسرحية “الغراب الغارق” لريجينا تايلور المقتبسة من موضوع مسرحية “النورس” لتشيخوف. أما في الهند فقد أدرجت مسرحية “الشقيقات الثلاث” قبل 6 سنوات في عصر إمبراطورية ماوريا التاريخية. وفي ألمانيا وسويسرا فقط (في موسم 2003/2004) جرى عرض 12 مسرحية تعتمد على مسرحة “الشقيقات الثلاث” منها عدد من الأعمال الرائعة في مسرح برلين الألماني للمخرج ميخائيل تالهايمر، ومسرحية أنطوان ويدهاج في مسرح ليبزج، ومسرحية بيوتر هيلينج في لوتسيرن.

أما في بريطانيا فقد نال تشيخوف استثناء خاصا في الدليل الأدبي الإنجليزي الراقي:

(“The Oxford Companion to English Literature”)

بحيث وضع اسمه بين اسمي تشوسير وتشيسترفيلد. واستمر الكاتب المسرحي الأيرلندي برايان بريل أكثر من

30 عاما يتعامل مع إبداع أنطون تشيخوف، فكتب في عام 1972 نسخته المسرحية من “الشقيقات الثلاث”، وفي عام 1998 ألف النسخة الأيرلندية من مسرحية “الخال فانيا”، وفي عام 2001 حول قصة “السيدة والكلب” لتشيخوف إلى مسرحة تحمل عنوان “مزحة يالطا”. كما قام الكاتب الأيرلندي باقتباس مسرحية “الدب” في عمل آخر. وأخيرا قام الكاتب برايان بريل بتأليف دراما “بعد المسرحية” التي يصف فيها مصير بطلي تشيخوف- سونيا في مسرحية “الخال فانيا”، وأندريه بروزوروف في مسرحية “الشقيقات الثلاث”.

د. أشرف الصباغ