فن الخط الصيني التقليد و الرهانات
يولين إيسكاند (*)
إن فن الخط الصيني يضمر، باعتباره فن النخبة، بحثا شخصيا روحيا، فالأثر ليس أكثر من استمداد مباشر من شغاف قلب الخطاط يجلوه نصوع الورق، لكنه يبقى أحد رهانات السلطة لكونه يخدم الدعاية الإيديولوجية..
يصنف “فن الخط” في الصين ك “نظام تربوي” انضباطي أو “منهجية كتابة” و ذلك على العكس ممّا ترخيه الترجمة الفرنسية من تداعيات. إنه لا يتصل قطعا بمعنى “الكتابة بطريقة بديعة” بقدر ما ينصب في دلالة تربوية ذاتية صارمة و يستنهض فكرة إنماء الشخصية و تصليب مؤهلاتها. و لأنه يجد مرتكزه في المزايا الجمالية و الشكلية للكتابة التداولية، كتابة سائر الأيام (مراسلات، عقود رسمية، وثائق إدارية..) فإن هذا الفن الذي سينشأ في مطالع عصرنا الحالي سيحظى بصفة الفن الأوفى كمالا و الأكثر نبالة. فلقد كان يمارس من لدن تلك الزمرة من المتأدبين الذين كانت تسند إليهم مأمورية تسيير دواليب الإدارة الإمبراطورية، قوامه التضلع في الكتابة و الأخذ بناصيتها بينما غايته نقل القيم الأخلاقية و بثها. و كونه فنّا متأبّيا على العامة تستأثر به النخبة لوحدها فإن هذا الملمح هو ما سيجعله فنّا منذورا لترميم نقائص الشخصية و مثالبها، أداة للتقصي الروحي و الدعاية الإيديولوجية دفعة واحدة.
إن تقنية “فن الخط” أو الرسم، لا فرق، و هي تساوق أجرأتها العملية في عرض ورق رهيف، لدن و نشّاف، لا تحتمل تصويبا و لا تنقيحا أو تنميقا، فالتطبيق، توسطا بريشة الرسم، لا يجيز الوقوع في نوع من التردد عدم إجازته اللجوء إلى أيّما تعديلات استدراكية، و هذا ما يفسر اعتماد التقييم ليس النتيجة النهائية للأثر المتحصّل، مثلما قد يراود الذهن، أو للحركية التي تؤطره، و إنما كفاءة المسلسل الإبداعي في شموليته، في تكثيفه لبرهة استبصار – تركيز حياها ناسخ يدوي، و كذلك المفعول البصري لأثره في نفسية المشاهد.
و للعلم فإن الكتابة الصينية، بما هي الكتابة الوحيدة في العالم التي لازمت، منذ فجرها و حتى وقتنا هذا، نمطا ترميزيا خالصا ليست مجرد استنساخ وفيّ للكلام، بل إنها، و على النقيض من الكتابات الألفبائية، مركبة من جملة أحرف يمثل كل واحد منها كلمة قائمة الذات. فالصينيون يكتبون، عادة، على شكل أعمدة، من أعلى إلى أسفل و من اليمين إلى اليسار. أمّا على الصعيد الفلسفي المحض فإن مادة التدوين لا يمكنها أن تنماز أو تنفرز، مثلا، عن الأثر بالنظر إلى أنهما يجسمان كلاّ كوسمولوجيا: إن المداد ليناظر مبدأ “يين” (الذي يتضمن حمولات العتمة، الرطوبة، الليونة، الأنوثة، القمر..) و يتعالق مع يحيل إليه من سديم أصلي، في حين أن الورق أو الحرير، السند الأبيض، فيعبر عن “يانغ” (أي الضوء، الاجتفاف، الاستدامة، الذكورة، الشمس..) و يمت بصلة إلى عالم الظواهر، بمعنى أن الصور المدونة أو المرسومة لا تجد سبيلها إلى التجسّد إلاّ بفضل السند أو الدعامة، و بحسب هذه الرؤية فالذي تصنعه الريشة التي تمسك بها الأنامل هو، في العمق، إنشاء وشيجة بين السماء – يانغ و الأرض – يين و ذلك بما يندغم مع دور الإنسان الذي هو من يستحكم في زمام الأشياء و الموجودات المؤثثة للفجوة الفاصلة بين هذين الحدّين، و الخلاصة هي أن ممارسة الكتابة الصينية تجد مغزاها، أساسا، في اصطناع كون مصغّر شبيه بالكون الهائل، المتراحب، لا في التعبير عن مزاج روحي أو حالة ذهنية.
ففي التقليد الصيني لا يقتصر خوض غمار صنيع فني و التمرّس بخبرته على ملاقاة موضوع مستقل ذاتيا يتوافر على العديد من المزايا الإيديولوجية و الجمالية و الأخلاقية و الإيمانية و التلقينية.. بل يتعدى هذا فيحثّ على الملاقاة الحميمة مع المبدع ذاته. إن الأثر ليرتدي لبوس استمداد مباشر من شغاف قلب الناسخ يتعهده بالسند بالتشخيص و الإبراز، و لأن الأمر كذلك، لهذا الاعتبار لا يطغى التوصيف “الموضوعي” للأعمال الفنية على العنصر النظري في المسألة، بحيث إن “الجمال” لا يعتدّ به كمعيار وارد لتقييم الأعمال الفنية أو أصحابها و المعيار المرجعي هو “الطبيعي” لأنه جمالي (فلسفي) و فني (تقني) و تشكيلي في نفس الآونة. فالطبيعي يقوم بتعيين الأثر دونما عناء يذكر بينما يكتسب هذا الأخير مزيته من غير ما حاجة إلى حركية، لكنه يحيد عن روح المبادئ التنظيمية للطبيعة، و لهذا لا داعي إلى الاستغراب إذا كان ما تطلبت الخبرة المسعفة على إنجاز أثر من هذا الطراز سنوات من الكدّ و المران.
إن الكتابة و لا الفن المتنسّل منها سوف يمثلان، على الدوام، أحد رهانات السلطة: فالإمبراطورية ستحقق وحدتها بفضل الكتابة بالذات، زد على هذا أن ما يلحقها، أي الكتابة، من تبدلات شكلية يرمز، باستمرار، إلى تبدلات يعيشها الحقل السياسي. فقد جرت العادة أن تسخر السلطة متأدبين – خطاطين أبرياء الذمة و مشهود لهم بالاستقامة و تمنحهم وظائف سامية و ذلك بغاية إضفاء الشرعية على وجودها، و هؤلاء يعاملون كحكماء يستحقون تبجيل الرعية و تعلقها بسمعتهم التي تشعّها مناقبهم الأخلاقية، لقاء هذا هم لا يستنكفون، من جانبهم، عن إدماج فضائلهم الفعلية، أو المفترضة، في منتسج آثارهم الفنية، أمّا السلطة فتعمد، من جانبها، إلى استملاك هالة هذه الشخصيات و سنّ قواعد مضبوطة للأشكال المعبرة عن مناقبهم الأخلاقية المذكورة موظفة إياهم، على هذا النحو، لتأدية مهامّ إيديولوجية دعائية، بل و في هذا النطاق، تحديدا، فإن عددا لا يستهان به من الأباطرة عرف عنهم تجريبهم لفن الخط.
من هذا الضوء ليس أمرا فجائيا أو عرضيا أن يشعل ماوتسي تونغ فتيل الثورة الثقافية من خلال صور تقدمه كخطاط يمسك بريشة مغدقا، هكذا، على هذه الممارسة الفنية صبغة ديمقراطية، بل منزّلا إياه من عليائه إلى عرض الشارع العام عبر “ملصقات مطرّزة بأحرف متضخمة” (دزي باو). و للإشارة فسيتم اعتبار فن المتأدبين، و لا فكرهم، مع إطلالة القرن العشرين، بمثابة علة انحطاط الصين و رضوخها للقوى الغربية حتى إذا قام النظام الشيوعي، الذي سيستولي على مقاليد السلطة عام 1949، وقف منه موقف اعتراض و رفض، بل و بادر إلى تمييعه و هو يعطيه “طابعا شعبويا” صارخا.
إن تقليد الأدابة أو المثقفية المترسخ لم يحصل قط أن توقف مجراه لأنه ينتقل عرفيا عن طريق التلقين، من أستاذ إلى تلميذ، لكن في إبان الثورة الثقافية مع ما رافقها من تضييق للخناق على “اليمينيين” و قدامى المتأدبين سيتعرض كثيرون منهم لشتى ألوان الاضطهاد و التنكيل في حين سيوالي كثيرون آخرون منهم، في أضعف الأحوال، تعليم حفنة تلاميذ خصوصا في الجهات و الأقاليم النائية. و بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، و بفضل تلاميذ قدامى في هذا الميدان، ستجري إعادة استكشاف أو، بالأدق، تأهيل فنانين كبار منضوين إلى تقليد الأدابة أو المثقفية، رسامين أو خطاطين، و اليوم لا مفر لرجل سياسة من الانضواء إلى ائتلاف خطاطي الصين إن هو أراد انتزاع نصيب من التقدير من عموم الشعب.
—————————
(*) باحثة في المركز الوطني للبحث العلمي، تدرّس فن الخط في مدرسة الهندسة المعمارية بباريس – لافيليت. أصدرت ضمن منشورات كلينسكيزيك “مقالات صينية حول الرسم و فن الخط”، الجزء الأول “النصوص التأسيسية” (من أسرة “هان” إلى أسرة “سوي”).
فن الخط الصيني التقليد و الرهاناتيولين إيسكاند (*)
إن فن الخط الصيني يضمر، باعتباره فن النخبة، بحثا شخصيا روحيا، فالأثر ليس أكثر من استمداد مباشر من شغاف قلب الخطاط يجلوه نصوع الورق، لكنه يبقى أحد رهانات السلطة لكونه يخدم الدعاية الإيديولوجية..
يصنف “فن الخط” في الصين ك “نظام تربوي” انضباطي أو “منهجية كتابة” و ذلك على العكس ممّا ترخيه الترجمة الفرنسية من تداعيات. إنه لا يتصل قطعا بمعنى “الكتابة بطريقة بديعة” بقدر ما ينصب في دلالة تربوية ذاتية صارمة و يستنهض فكرة إنماء الشخصية و تصليب مؤهلاتها. و لأنه يجد مرتكزه في المزايا الجمالية و الشكلية للكتابة التداولية، كتابة سائر الأيام (مراسلات، عقود رسمية، وثائق إدارية..) فإن هذا الفن الذي سينشأ في مطالع عصرنا الحالي سيحظى بصفة الفن الأوفى كمالا و الأكثر نبالة. فلقد كان يمارس من لدن تلك الزمرة من المتأدبين الذين كانت تسند إليهم مأمورية تسيير دواليب الإدارة الإمبراطورية، قوامه التضلع في الكتابة و الأخذ بناصيتها بينما غايته نقل القيم الأخلاقية و بثها. و كونه فنّا متأبّيا على العامة تستأثر به النخبة لوحدها فإن هذا الملمح هو ما سيجعله فنّا منذورا لترميم نقائص الشخصية و مثالبها، أداة للتقصي الروحي و الدعاية الإيديولوجية دفعة واحدة.إن تقنية “فن الخط” أو الرسم، لا فرق، و هي تساوق أجرأتها العملية في عرض ورق رهيف، لدن و نشّاف، لا تحتمل تصويبا و لا تنقيحا أو تنميقا، فالتطبيق، توسطا بريشة الرسم، لا يجيز الوقوع في نوع من التردد عدم إجازته اللجوء إلى أيّما تعديلات استدراكية، و هذا ما يفسر اعتماد التقييم ليس النتيجة النهائية للأثر المتحصّل، مثلما قد يراود الذهن، أو للحركية التي تؤطره، و إنما كفاءة المسلسل الإبداعي في شموليته، في تكثيفه لبرهة استبصار – تركيز حياها ناسخ يدوي، و كذلك المفعول البصري لأثره في نفسية المشاهد.و للعلم فإن الكتابة الصينية، بما هي الكتابة الوحيدة في العالم التي لازمت، منذ فجرها و حتى وقتنا هذا، نمطا ترميزيا خالصا ليست مجرد استنساخ وفيّ للكلام، بل إنها، و على النقيض من الكتابات الألفبائية، مركبة من جملة أحرف يمثل كل واحد منها كلمة قائمة الذات. فالصينيون يكتبون، عادة، على شكل أعمدة، من أعلى إلى أسفل و من اليمين إلى اليسار. أمّا على الصعيد الفلسفي المحض فإن مادة التدوين لا يمكنها أن تنماز أو تنفرز، مثلا، عن الأثر بالنظر إلى أنهما يجسمان كلاّ كوسمولوجيا: إن المداد ليناظر مبدأ “يين” (الذي يتضمن حمولات العتمة، الرطوبة، الليونة، الأنوثة، القمر..) و يتعالق مع يحيل إليه من سديم أصلي، في حين أن الورق أو الحرير، السند الأبيض، فيعبر عن “يانغ” (أي الضوء، الاجتفاف، الاستدامة، الذكورة، الشمس..) و يمت بصلة إلى عالم الظواهر، بمعنى أن الصور المدونة أو المرسومة لا تجد سبيلها إلى التجسّد إلاّ بفضل السند أو الدعامة، و بحسب هذه الرؤية فالذي تصنعه الريشة التي تمسك بها الأنامل هو، في العمق، إنشاء وشيجة بين السماء – يانغ و الأرض – يين و ذلك بما يندغم مع دور الإنسان الذي هو من يستحكم في زمام الأشياء و الموجودات المؤثثة للفجوة الفاصلة بين هذين الحدّين، و الخلاصة هي أن ممارسة الكتابة الصينية تجد مغزاها، أساسا، في اصطناع كون مصغّر شبيه بالكون الهائل، المتراحب، لا في التعبير عن مزاج روحي أو حالة ذهنية.ففي التقليد الصيني لا يقتصر خوض غمار صنيع فني و التمرّس بخبرته على ملاقاة موضوع مستقل ذاتيا يتوافر على العديد من المزايا الإيديولوجية و الجمالية و الأخلاقية و الإيمانية و التلقينية.. بل يتعدى هذا فيحثّ على الملاقاة الحميمة مع المبدع ذاته. إن الأثر ليرتدي لبوس استمداد مباشر من شغاف قلب الناسخ يتعهده بالسند بالتشخيص و الإبراز، و لأن الأمر كذلك، لهذا الاعتبار لا يطغى التوصيف “الموضوعي” للأعمال الفنية على العنصر النظري في المسألة، بحيث إن “الجمال” لا يعتدّ به كمعيار وارد لتقييم الأعمال الفنية أو أصحابها و المعيار المرجعي هو “الطبيعي” لأنه جمالي (فلسفي) و فني (تقني) و تشكيلي في نفس الآونة. فالطبيعي يقوم بتعيين الأثر دونما عناء يذكر بينما يكتسب هذا الأخير مزيته من غير ما حاجة إلى حركية، لكنه يحيد عن روح المبادئ التنظيمية للطبيعة، و لهذا لا داعي إلى الاستغراب إذا كان ما تطلبت الخبرة المسعفة على إنجاز أثر من هذا الطراز سنوات من الكدّ و المران.إن الكتابة و لا الفن المتنسّل منها سوف يمثلان، على الدوام، أحد رهانات السلطة: فالإمبراطورية ستحقق وحدتها بفضل الكتابة بالذات، زد على هذا أن ما يلحقها، أي الكتابة، من تبدلات شكلية يرمز، باستمرار، إلى تبدلات يعيشها الحقل السياسي. فقد جرت العادة أن تسخر السلطة متأدبين – خطاطين أبرياء الذمة و مشهود لهم بالاستقامة و تمنحهم وظائف سامية و ذلك بغاية إضفاء الشرعية على وجودها، و هؤلاء يعاملون كحكماء يستحقون تبجيل الرعية و تعلقها بسمعتهم التي تشعّها مناقبهم الأخلاقية، لقاء هذا هم لا يستنكفون، من جانبهم، عن إدماج فضائلهم الفعلية، أو المفترضة، في منتسج آثارهم الفنية، أمّا السلطة فتعمد، من جانبها، إلى استملاك هالة هذه الشخصيات و سنّ قواعد مضبوطة للأشكال المعبرة عن مناقبهم الأخلاقية المذكورة موظفة إياهم، على هذا النحو، لتأدية مهامّ إيديولوجية دعائية، بل و في هذا النطاق، تحديدا، فإن عددا لا يستهان به من الأباطرة عرف عنهم تجريبهم لفن الخط.من هذا الضوء ليس أمرا فجائيا أو عرضيا أن يشعل ماوتسي تونغ فتيل الثورة الثقافية من خلال صور تقدمه كخطاط يمسك بريشة مغدقا، هكذا، على هذه الممارسة الفنية صبغة ديمقراطية، بل منزّلا إياه من عليائه إلى عرض الشارع العام عبر “ملصقات مطرّزة بأحرف متضخمة” (دزي باو). و للإشارة فسيتم اعتبار فن المتأدبين، و لا فكرهم، مع إطلالة القرن العشرين، بمثابة علة انحطاط الصين و رضوخها للقوى الغربية حتى إذا قام النظام الشيوعي، الذي سيستولي على مقاليد السلطة عام 1949، وقف منه موقف اعتراض و رفض، بل و بادر إلى تمييعه و هو يعطيه “طابعا شعبويا” صارخا.إن تقليد الأدابة أو المثقفية المترسخ لم يحصل قط أن توقف مجراه لأنه ينتقل عرفيا عن طريق التلقين، من أستاذ إلى تلميذ، لكن في إبان الثورة الثقافية مع ما رافقها من تضييق للخناق على “اليمينيين” و قدامى المتأدبين سيتعرض كثيرون منهم لشتى ألوان الاضطهاد و التنكيل في حين سيوالي كثيرون آخرون منهم، في أضعف الأحوال، تعليم حفنة تلاميذ خصوصا في الجهات و الأقاليم النائية. و بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، و بفضل تلاميذ قدامى في هذا الميدان، ستجري إعادة استكشاف أو، بالأدق، تأهيل فنانين كبار منضوين إلى تقليد الأدابة أو المثقفية، رسامين أو خطاطين، و اليوم لا مفر لرجل سياسة من الانضواء إلى ائتلاف خطاطي الصين إن هو أراد انتزاع نصيب من التقدير من عموم الشعب.—————————(*) باحثة في المركز الوطني للبحث العلمي، تدرّس فن الخط في مدرسة الهندسة المعمارية بباريس – لافيليت. أصدرت ضمن منشورات كلينسكيزيك “مقالات صينية حول الرسم و فن الخط”، الجزء الأول “النصوص التأسيسية” (من أسرة “هان” إلى أسرة “سوي”).
أغسطس 26 2014
فن الخط الصيني التقليد و الرهانات ……. يولين إيسكاند
فن الخط الصيني التقليد و الرهاناتيولين إيسكاند (*)
إن فن الخط الصيني يضمر، باعتباره فن النخبة، بحثا شخصيا روحيا، فالأثر ليس أكثر من استمداد مباشر من شغاف قلب الخطاط يجلوه نصوع الورق، لكنه يبقى أحد رهانات السلطة لكونه يخدم الدعاية الإيديولوجية..
يصنف “فن الخط” في الصين ك “نظام تربوي” انضباطي أو “منهجية كتابة” و ذلك على العكس ممّا ترخيه الترجمة الفرنسية من تداعيات. إنه لا يتصل قطعا بمعنى “الكتابة بطريقة بديعة” بقدر ما ينصب في دلالة تربوية ذاتية صارمة و يستنهض فكرة إنماء الشخصية و تصليب مؤهلاتها. و لأنه يجد مرتكزه في المزايا الجمالية و الشكلية للكتابة التداولية، كتابة سائر الأيام (مراسلات، عقود رسمية، وثائق إدارية..) فإن هذا الفن الذي سينشأ في مطالع عصرنا الحالي سيحظى بصفة الفن الأوفى كمالا و الأكثر نبالة. فلقد كان يمارس من لدن تلك الزمرة من المتأدبين الذين كانت تسند إليهم مأمورية تسيير دواليب الإدارة الإمبراطورية، قوامه التضلع في الكتابة و الأخذ بناصيتها بينما غايته نقل القيم الأخلاقية و بثها. و كونه فنّا متأبّيا على العامة تستأثر به النخبة لوحدها فإن هذا الملمح هو ما سيجعله فنّا منذورا لترميم نقائص الشخصية و مثالبها، أداة للتقصي الروحي و الدعاية الإيديولوجية دفعة واحدة.إن تقنية “فن الخط” أو الرسم، لا فرق، و هي تساوق أجرأتها العملية في عرض ورق رهيف، لدن و نشّاف، لا تحتمل تصويبا و لا تنقيحا أو تنميقا، فالتطبيق، توسطا بريشة الرسم، لا يجيز الوقوع في نوع من التردد عدم إجازته اللجوء إلى أيّما تعديلات استدراكية، و هذا ما يفسر اعتماد التقييم ليس النتيجة النهائية للأثر المتحصّل، مثلما قد يراود الذهن، أو للحركية التي تؤطره، و إنما كفاءة المسلسل الإبداعي في شموليته، في تكثيفه لبرهة استبصار – تركيز حياها ناسخ يدوي، و كذلك المفعول البصري لأثره في نفسية المشاهد.و للعلم فإن الكتابة الصينية، بما هي الكتابة الوحيدة في العالم التي لازمت، منذ فجرها و حتى وقتنا هذا، نمطا ترميزيا خالصا ليست مجرد استنساخ وفيّ للكلام، بل إنها، و على النقيض من الكتابات الألفبائية، مركبة من جملة أحرف يمثل كل واحد منها كلمة قائمة الذات. فالصينيون يكتبون، عادة، على شكل أعمدة، من أعلى إلى أسفل و من اليمين إلى اليسار. أمّا على الصعيد الفلسفي المحض فإن مادة التدوين لا يمكنها أن تنماز أو تنفرز، مثلا، عن الأثر بالنظر إلى أنهما يجسمان كلاّ كوسمولوجيا: إن المداد ليناظر مبدأ “يين” (الذي يتضمن حمولات العتمة، الرطوبة، الليونة، الأنوثة، القمر..) و يتعالق مع يحيل إليه من سديم أصلي، في حين أن الورق أو الحرير، السند الأبيض، فيعبر عن “يانغ” (أي الضوء، الاجتفاف، الاستدامة، الذكورة، الشمس..) و يمت بصلة إلى عالم الظواهر، بمعنى أن الصور المدونة أو المرسومة لا تجد سبيلها إلى التجسّد إلاّ بفضل السند أو الدعامة، و بحسب هذه الرؤية فالذي تصنعه الريشة التي تمسك بها الأنامل هو، في العمق، إنشاء وشيجة بين السماء – يانغ و الأرض – يين و ذلك بما يندغم مع دور الإنسان الذي هو من يستحكم في زمام الأشياء و الموجودات المؤثثة للفجوة الفاصلة بين هذين الحدّين، و الخلاصة هي أن ممارسة الكتابة الصينية تجد مغزاها، أساسا، في اصطناع كون مصغّر شبيه بالكون الهائل، المتراحب، لا في التعبير عن مزاج روحي أو حالة ذهنية.ففي التقليد الصيني لا يقتصر خوض غمار صنيع فني و التمرّس بخبرته على ملاقاة موضوع مستقل ذاتيا يتوافر على العديد من المزايا الإيديولوجية و الجمالية و الأخلاقية و الإيمانية و التلقينية.. بل يتعدى هذا فيحثّ على الملاقاة الحميمة مع المبدع ذاته. إن الأثر ليرتدي لبوس استمداد مباشر من شغاف قلب الناسخ يتعهده بالسند بالتشخيص و الإبراز، و لأن الأمر كذلك، لهذا الاعتبار لا يطغى التوصيف “الموضوعي” للأعمال الفنية على العنصر النظري في المسألة، بحيث إن “الجمال” لا يعتدّ به كمعيار وارد لتقييم الأعمال الفنية أو أصحابها و المعيار المرجعي هو “الطبيعي” لأنه جمالي (فلسفي) و فني (تقني) و تشكيلي في نفس الآونة. فالطبيعي يقوم بتعيين الأثر دونما عناء يذكر بينما يكتسب هذا الأخير مزيته من غير ما حاجة إلى حركية، لكنه يحيد عن روح المبادئ التنظيمية للطبيعة، و لهذا لا داعي إلى الاستغراب إذا كان ما تطلبت الخبرة المسعفة على إنجاز أثر من هذا الطراز سنوات من الكدّ و المران.إن الكتابة و لا الفن المتنسّل منها سوف يمثلان، على الدوام، أحد رهانات السلطة: فالإمبراطورية ستحقق وحدتها بفضل الكتابة بالذات، زد على هذا أن ما يلحقها، أي الكتابة، من تبدلات شكلية يرمز، باستمرار، إلى تبدلات يعيشها الحقل السياسي. فقد جرت العادة أن تسخر السلطة متأدبين – خطاطين أبرياء الذمة و مشهود لهم بالاستقامة و تمنحهم وظائف سامية و ذلك بغاية إضفاء الشرعية على وجودها، و هؤلاء يعاملون كحكماء يستحقون تبجيل الرعية و تعلقها بسمعتهم التي تشعّها مناقبهم الأخلاقية، لقاء هذا هم لا يستنكفون، من جانبهم، عن إدماج فضائلهم الفعلية، أو المفترضة، في منتسج آثارهم الفنية، أمّا السلطة فتعمد، من جانبها، إلى استملاك هالة هذه الشخصيات و سنّ قواعد مضبوطة للأشكال المعبرة عن مناقبهم الأخلاقية المذكورة موظفة إياهم، على هذا النحو، لتأدية مهامّ إيديولوجية دعائية، بل و في هذا النطاق، تحديدا، فإن عددا لا يستهان به من الأباطرة عرف عنهم تجريبهم لفن الخط.من هذا الضوء ليس أمرا فجائيا أو عرضيا أن يشعل ماوتسي تونغ فتيل الثورة الثقافية من خلال صور تقدمه كخطاط يمسك بريشة مغدقا، هكذا، على هذه الممارسة الفنية صبغة ديمقراطية، بل منزّلا إياه من عليائه إلى عرض الشارع العام عبر “ملصقات مطرّزة بأحرف متضخمة” (دزي باو). و للإشارة فسيتم اعتبار فن المتأدبين، و لا فكرهم، مع إطلالة القرن العشرين، بمثابة علة انحطاط الصين و رضوخها للقوى الغربية حتى إذا قام النظام الشيوعي، الذي سيستولي على مقاليد السلطة عام 1949، وقف منه موقف اعتراض و رفض، بل و بادر إلى تمييعه و هو يعطيه “طابعا شعبويا” صارخا.إن تقليد الأدابة أو المثقفية المترسخ لم يحصل قط أن توقف مجراه لأنه ينتقل عرفيا عن طريق التلقين، من أستاذ إلى تلميذ، لكن في إبان الثورة الثقافية مع ما رافقها من تضييق للخناق على “اليمينيين” و قدامى المتأدبين سيتعرض كثيرون منهم لشتى ألوان الاضطهاد و التنكيل في حين سيوالي كثيرون آخرون منهم، في أضعف الأحوال، تعليم حفنة تلاميذ خصوصا في الجهات و الأقاليم النائية. و بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، و بفضل تلاميذ قدامى في هذا الميدان، ستجري إعادة استكشاف أو، بالأدق، تأهيل فنانين كبار منضوين إلى تقليد الأدابة أو المثقفية، رسامين أو خطاطين، و اليوم لا مفر لرجل سياسة من الانضواء إلى ائتلاف خطاطي الصين إن هو أراد انتزاع نصيب من التقدير من عموم الشعب.—————————(*) باحثة في المركز الوطني للبحث العلمي، تدرّس فن الخط في مدرسة الهندسة المعمارية بباريس – لافيليت. أصدرت ضمن منشورات كلينسكيزيك “مقالات صينية حول الرسم و فن الخط”، الجزء الأول “النصوص التأسيسية” (من أسرة “هان” إلى أسرة “سوي”).
بواسطة admin • 02-ملف العدد • 0 • الوسوم : العدد الخامس والعشرون, يولين إيسكاند