اللغة والهوية مقارنة بين الحالة العبرية والفرنسية والعربية .. د/ أحمد درويش

اللغة والهوية
مقارنة بين الحالة العبرية والفرنسية والعربية
الدكتور أحمد درويش
ناقدوأكاديمي  من مصر
يسعى هذا البحث إلى دراسة علاقة التأثير المتبادل بين اللغة والهوية في أشكالها المختلفة إحياء أو إنعاشاً أو إضعافاً، وتنبع الصور المتولدة عن كل علاقة من هذه العلاقات على مختلف مستويات التجربة الحضارية في مجالات مختلفة مثل التعليم والاقتصادية وحالة الروح القومية للأمة وما يترتب عليها من تماسك أو تفكك، وما يؤدي إليه هذا كله من تقدم أو جمود أو تخلف ومن قوة أو ضعف.
ويتخذ البحث مجالاً له، التجارب الحية الكبرى في العصر الحديث، عبر القرنين التاسع عشر والعشرين ممثلة في ثلاث لغات، هي العبرية ودورها في إنشاء الوطن القومي لليهود، والفرنسية ودورها في إنعاش المكانة المتميزة لفرنسا بعد سقوط الإمبراطوريات التقليدية إبان حرب السويس، ثم اللغة العربية التي نود الوقوف أمام علاقاتها المضطربة بالهوية في العصر الحديث والآثار المترتبة على ذلك الاضطراب في المجالات المختلفة.
مدخل إلى اللغة والهوية:
يقول الشاعر الصقلي إجنازيا بوتينا من قصيدة جميلة تحمل عنوان ( لغة وحوار):
ضع شعباً في السلاسل
جردهم من ملابسهم
سد أفواههم. لكنهم يمكن أن يظلوا أحراراً
خذ منهم أعمالهم.. وجوازات سفرهم
والموائد التي يأكلون عليها
والأسرَّة التي ينامون عليها
لكنهم يمكن أن يظلوا أغنياء
إن الشعب يَفتقر ويُستعبد
عندما يُسْلبُ اللسان
الذي تركه له الأجداد
وعندها يضيع للأبد
نعم فالدور الذي تلعبه اللغة في حياة الفرد والجماعة، يتجاوز بكثير مجرد كونها أداة ناقلة ومجسدة لما يدور في الذهن من معان مجردة، يراد لها أن تنتقل من مرحلتها التجريدية، إلى مرحلة التجسيد لتنقل الرغبة أو الأمر أو النهي أو الرجاء، أو تفتح باب التواصل والحوار.
فكل هذه الأهداف، على اختلاف درجاتها، يمكن أن تتحقق للكائن الحي، وليس للكائن البشري وحده، بوسائل تعبيرية متعددة وهي ليست بالضرورة وسائل لغوية، فالحيوان الأعجم ينقل حاجته إلى الطعام أو الري أو الإشباع، وينقل مشاعره خوفاً وتهديداً وترحيباً، من خلال تنوع في درجات الصوت، وحركات الوجه، وتقلص الأعضاء أو تهللها، وهز الذيل أو سكونه، وغير ذلك من الوسائل التي ندركها وقد تعارفنا على فك شفرتها، ومن الوسائل الكثيرة الأخرى التي لا ندركها والتي تشكل في ذاتها شفرة بين الجماعات المتجانسة، ومجالاً لاجتهاد الإنسان للتعرف على خفاياها. ولا ريب أن الأمر لا يقف عند عالم الحيوان، وإنما يتعداه إلى عالم النبات، بل وإلى الظواهر الطبيعية، التي لا شك أنها تمتلك وسائلها الخاصة في التعبير عن حاجاتها ورغباتها، وفق سنن الكون الدقيقة، وأن جزءاً من أسرار عمار الكون يكمن في محاولة التعرف على هذه الوسائل وتشكيل رد الفعل الملائم لها من الإنسان سيد الكون وخليفة الله في أرضه.
وإذا انتقلنا إلى عالم الإنسان نفسه، فإننا نجد أن اللغة ليست هي المعبر الوحيد عن حاجاته ومشاعره وأفكاره، وأنه يستطيع أن يمارس حياته كلياً أو جزئياً، في غياب اللغة المؤقت أو الدائم، مستعيناً بوسائل التعبير الأخرى التي تتاح للكائنات الحية، التي يشترك معها في صفة الحياة، والحاجة للتعبير، ويتفوق عليها في مراحل أخرى، بامتلاك ” اللغة ” والصعود درجات متفاوتة في تحقيق مفهوم إنسانيته، وانتمائه من خلال عنايته بها، فالطفل يقطع فترة من عمره تمتد للعامين أوتتجاوزهما – وهي فترة تكاد توازي في حياة بعض الكائنات الأخرى، عمراً كاملاً – يقطع هذه الفترة مستعيناً بالأصوات والإيماءات، والتعبيرات الحركية الغريزية للتعبير عن الحاجة، ويكاد يتساوى في شفرات الرموز والحركات في هذه الحالة كل الأطفال من كل اللغات التي سينتمون إليها لاحقاً وهم يجتازون مرحلة ما قبل اللغة.
والذين يحرمون نعمة النطق من البشر، ويعيشون في حالة لا يكلمون الناس فيها إلا رمزاً، يطورون وسائلهم غير اللغوية في الاتصال، بطريقة تشكل لهم شبكة متكاملة من الرموز تفي باحتياجاتهم من ناحية، وتشكل الشبكات العالمية، لهذه الفئة، من ناحية أخرى، ما يمكن أن يكون لغة موازية للغات الأخرى في مرحلة الحياة ” خارج اللغة “.
وحتى الأسوياء من البشر الذين اجتازوا مرحلة الطفولة وما “قبل اللغة”، ونجوا من مرحلة الحياة الصامتة “خارج اللغة” – هذه الفئة التي ينتمي إليها أغلب البشر، في مراحل نضجهم، لا تعد اللغة عندهم هي الأداة الوحيدة الناقلة للمشاعر والأفكار، بل إنهم يلجؤون إلى وسائل أخرى كثيرة، للإبانة عما لديهم، وتحقيق “بيان” ما في نفوسهم.
وقديمًا كان الجاحظ شديد الدقة وهو يعبر عن هذه الأدوات البيانية المستغنية عن اللغة أو المتعاونة معها حين قال في كتابه الشهير “البيان والتبيين”، “والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجرى القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع “. ثم يوضح الجاحظ بعد ذلك خمساً من وسائل الدلالات على المعاني، فيها وسيلتان لغويتان هما اللفظ والخط، وثلاث غير لغوية، وهي الإشارة والعقد والحال الدالة. ويقف الجاحظ في مواطن كثيرة عند بلاغة الإشارة باعتبارها مكملاً لبلاغة العبارة فضلاً عن كونها وسيلة تعبيرية في غياب اللفظ والخط، ويقف كذلك عند فن العَقْد، وهو ضرب من الحساب يكون بأصابع اليدين، وله كتب في فك رموزه في التراث العربي، وقد وردت الإشارة إليه في الأحاديث النبوية، وكذلك فن دلالة الحال التي كانت تسمى بالنَّصْبَة، ويغنى فيها الحال عن المقال().
ليس الدور الذي تلعبه اللغة – إذن – في حياة الفرد والجماعة، منحصراً في القدرة على الإفهام وتوصيل المعاني المجردة، فتلك أهداف يمكن أن تؤدى حتى في غياب اللغة، ولكن اللغة هبة، تمثل أول درجات تميز الكائن البشري على ما عداه من الكائنات، ولعل هذا يبدو في عدها الميزة الأولى التالية لخلق الإنسان نفسه، في التعبير القرآني في الآيات الأولى لسورة الرحمن حيث يقول سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ (4)، فالامتنان بالبيان يأتي مباشرة بعد نعمة الخلق ذاتها، وهذه الهبة يتم اكتسابها التدريجي مع النمو الأول لخلايا الطفل في شهور عمره الأولى، من خلال لبن الأم وصوتها، ومن هنا جاء مصطلح ” لغة الأم ” الذي نطلقه دائماً على اللغة التي تلقاها الإنسان بفطرته وغريزته، وتعلمها كما تعلم الأكل والشرب والمشي، ربما بدون جهد إرادي منه، ولكن من خلال الاستجابة الغريزية لدوافع البقاء والتحضر، ولغة الأم هذه تكاد تعاصر في تخلقها في نفس الكائن البشري مرحلة تخلق خلايا المخ والذاكرة، وأوعية الاحتفاظ بالمشاعر ذاتها، ولهذا فإن لغة الأم، تصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصية صاحبها، وتظل حتى وإن زاحمتها لغات أخرى فيما بعد، هي أقرب اللغات للتعبير عن الخلجات الدقيقة إرسالاً واستقبالاً، على اختلاف ميادين الإرسال والاستقبال.
وهذه اللغة هي التي تختزن المشاعر الأولى، والأفكار الأولى، والتشكيلات الأولى للكون من حول الإنسان، وفيها ومن خلالها يتشكل معنى ولفظ البهجة والحزن والانتصار والانكسار والحب والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور والملاطفة والمخاشنة والرضا والإنكار، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاق مفاتيحه، وإلى هذه المفاهيم الأولى، ترتد أية مفاهيم تالية يمكن للإنسان أن يحصلها من اللغات المكتسبة في مراحل تالية من العمر، فيترجمها المرء دون إرادة إلى مفاهيم لغة الأم، أو يتقرب منها لكي تزداد وضوحاً أمام خلاياه الذهنية والنفسية. ويقول علماء النفس : إن هذا النمط من البناء اللغوي هو القادر وحده على تشكيل ما يسمى بالذاكرة الطويلة الأمد، في مقابل الذاكرة القصيرة الأمد، التي قد نحتاج إليها لفترة عابرة، ثم ننساها.
فنحن عندما نواجه مهمة طارئة في حياتنا، تحتاج إلى حشد طاقة الذاكرة، لحفظ أرقام معينة، أو الإلمام بتفاصيل خريطة مكان معين، أو الإلمام بخصائص شيء معين، فإن الذاكرة غالباً ما تحتفظ بهذه الأشياء المؤقتة في أدراج الذاكرة القصيرة الأمد، لكي تفرغ منها أو تنساها بعد انتهاء المهمة المؤقتة، فنرى أنفسنا بعد حين قد تخلينا عن الاحتفاظ بهذه المعلومات لانتهاء الحاجة إليها، وليس الأمر كذلك بالنسبة للذاكرة الطويلة الأمد التي تحتفظ بالمعلومات أو المفاهيم أو الخصائص الدائمة، فنحن لا نحتفظ بأسماء الألوان فترة ثم ننساها، ولا بأبعاد الجهات الأربع أو الست، لمدة قصيرة، ولا بمعايير الصواب والخطأ واللياقة والخروج عليها في فترة دون غيرها.
وفي هذه الذاكرة الطويلة التي يتشكل وعاؤها الأول من لغة الأم، تدخل كثير من أنواع العلوم والمعارف، وهو ما يدعو كثيراً من الباحثين الجادين إلى الحديث عن أن توطين المعرفة بالمعنى الحقيقي لا يمكن أن يتم في غياب لغة الأم، وتلك نقطة سنعود إلى الحديث عنها بالتفصيل عند إثارة قضية اللغة القومية وتوطين المعرفة().
ولعل هذا هو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني هيدجر (ت 1889 م) حين قال: (إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها من خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع”.
إن الإنسان مهما تأثر في مراحل تالية بلغات أجنبية – ومن حقه أن يستفيد منها ويتأثر بها – سوف يجد نفسه في اللحظة الحميمة، أو لحظة الغفلة عن التصنع، يعود إلى لغة الأم من تلقاء نفسه، وتلك خاصة يستغلها علماء النفس وخبراء التجسس في كشف لحظات التصنع المحكمة، وفي أدبيات الحرب العالمية الثانية يدور الحديث عن جاسوس ألماني، استطاع أن يتقن اللغة الفرنسية إتقانًا كاملاً، بحيث لا تبدو في نطقه أية لكنه أجنبية، واستطاع من خلال ذلك أن يتسرب إلى أكثر الأوساط خصوصية في عالم السياسة والحرب، حتى شك خبراء مكافحة الجاسوسية أنفسهم في ظنونهم المثارة حوله، وأخيراً، دلهم أحد الخبراء اللغويين على إمكانية استثارة لغة الأم في لحظة انفعال مفاجئ فتعقبه أحد المراقبين أثناء سفره في القطار وهو منهمك في قراءة الجريدة، ووجه إليه صفعة مباغته أغضبته فرد عليه بعبارة استنكار بالألمانية قبل أن يشتبك معه، وكان هذا وحده كافياً لإثارة لغة الأم عنده، ولإدراك أن لغته الفرنسية المتقنة، إنما هي لغة مكتسبة، وأنه في نهاية المطاف جاسوس، وذلك ما أراد خبير اللغة أن يكشفه، من خلال استثارة لغة الأم، وعلاقتها الحميمة بهوية الفرد.
لغة الأم تشكل عاملاً رئيسيًا في هوية الفرد المنتمي إليها، وهي من خلال هذا تؤهل الفرد لكي يلتحق بجماعة أكبر تنتمي إلى نفس اللغة، بدءًا من الجماعة الصغيرة في الأسرة الواحدة وامتداداً إلى الجماعات الأكبر في القرية أو الإقليم أو القبيلة أو المنطقة أو الولاية أو الدولة أو غيرها من مسميات التجمعات البشرية، ونحن جميعاً نستشعر أنه – حتى داخل اللغة الواحدة – تتشكل ملامح للهويات الجماعية الصغيرة من خلال الملامح اللهجية والخصائص الصوتية، التي تمثل ملامح ” لغة الأم ” ويجرى الاعتزاز بها والتعرف على الهوية من خلالها، ومن منا لم يستشعر في القرى والتجمعات الصغيرة درجات الاعتزاز بهذه الخصائص التي تتميز بها قرية عن قرية أخرى لا يفصل بينهما سوى جدول ماء صغير، أو طريق زراعي يعبره المسافرون، ومع ذلك فإن الخلاف في التفخيم أو الترقيق أو الإشباع أو الترخيم أو نطق الجيم أو القاف أو الهمزة أو الراء أو استخدام مفردة هنا لا تشيع هناك، كل ذلك يتحول إلى ملامح في الهوية تكون مصدر اعتزاز وتفاخر، ولا يُسلم أحد أبداً بأن خصائصه اللغوية المميزة أقل قدراً من خصائص الآخرين، وكم من المفارقات الاجتماعية تحدث، عندما تتزوج فتاة في قرية أخرى، ويحدث بالتدريج تقارب الخصائص أو الخضوع للخاصية الغالبة، واستغلال الفروق في تشكيل النكات الاجتماعية الطريفة، واتساعها عندما تبتعد لغة الأعمام عن لغة الأخوال، ومن منا لا يدرك على الفور بصمة أهل الصعيد، أو أهل الوديان أو أهل المدن الساحلية أو الصحراوية أو البدوية أو الحضرية وغيرها من المناطق الأخرى، من خصائصهم اللهجية المتميزة، وهي بصمات لا تتصل فقط في وجداننا بكيفية النطق والتعبير ولكن أيضاً بكيفية التصرف والتدبير، وهذه المفارقات هي المجال الأوسع لإبداع الأعمال الأدبية، والحكايات الاجتماعية، والنكات الفكاهية، وهذا لا يحدث في لغتنا فقط، وإنما في كل اللغات الأخرى، تجاه شرائح المتحدثين بها وخصائصهم اللهجية، سواء في إنجليزية شمال المملكة المتحدة وجنوبها، أو في فرنسية سكان بلجيكا أو سكان جنوب فرنسا أو غربها، مع تنوعات متعددة في الأقاليم، أو في إسبانية القارة الأوربية وأمريكا اللاتينية وهكذا في بقية اللغات.
ولعله من أجل جمع شتات هذه الهويات الصغيرة المتقاربة والمختلفة في آن واحد، اهتدت اللغات منذ القدم إلى فكرة ” اللغة المكتوبة ” التي تشكل ” بؤرة ” تلتقي فيها أشعة ” الهويات ” اللغوية الصغيرة مكونة منها ” هوية ” لغوية كبيرة لجميع المنتمين إليها، تاركة في الوقت ذاته جانباً من حرية الحركة، والتطور يختلف من لغة إلى لغة، وهو يبدأ عادة في اللغة المنطوقة الحية، ويمتد أثره شيئاً فشيئاً إلى بؤرة التجمع الكبرى في اللغة المكتوبة، فتتطور بدورها إلى آماد مطلقة في بعض اللغات، وإلى آماد محدودة نسبياً في لغات أخرى كالعربية التي تملك أقدم هجائية كتابية في تاريخ اللغات الحية()، لارتباطها بنص ديني مقدس، يحفظها ويمنعها من التغير الكلي ويحميها من الزوال، ولكنها في نهاية المطاف، شهدت وتشهد تطوراً كبيراً على مختلف مستوياتها، لا ينكره إلا الذين لم يعطوا لأنفسهم فرصة التأهيل والنظر والتأمل، قبل إطلاق الأحكام غير الدقيقة.
إن هذه اللغة المكتوبة، وما يتبعها من ثقافات وتقاليد، لا تساعد فقط على مزج الهويات الصغيرة في ” هوية ” واحدة، ولكنها قد تعمل أيضاً على توسيع حدود الهوية اللغوية، لكي تضم إليها أتباع لغات أخرى، تقلص دورها التاريخي أو ضعف، من خلال الدخول في حوار أو تنافس حضاري بين اللغات، ويشهد التاريخ العلمي أن اللغة العربية قد كسبت كثيراً من الجولات، في مجال الحوار أو التنافس مع اللغات الأخرى، سواء في جولات الانتشار والتوسع، أو في جولات وقف الانحسار وصد الهجوم.
ولقد عرفت العربية موجات الانتشار والتوسع منذ عهد ما قبل الإسلام، حيث تدل كثير من الآثار المتناثرة على نمط من انتشار العربية بدرجة أو بأخرى خارج دائرة الجزيرة العربية، سواء في المناطق الواقعة على تخوم الإمبراطوريتين الكبيرتين للفرس والروم، أو في السواحل الشرقية لإفريقيا، حيث تشكلت إمارات عربية هناك منذ القرن الميلادي الأول في بعض الجزر الساحلية في زنجبار وما حولها، وسجل المؤرخون الإغريق أن ساحل شرق إفريقيا كان يزدحم بالسفن العربية القادمة من شمال إفريقيا، وكان يكثر الاختلاط والتزاوج بين العرب والأفارقة ()، ولذلك لم يكن من المستبعد مع بدء الدعوة الإسلامية أن يلجأ عرب مكة من المسلمين المضطهدين إلى أصدقائهم في بلاط النجاشي ملك الحبشة ( وهو مصطلح كان يطلق على معظم شرق إفريقيا ). والحوارات التي تدور بينهم وبين مطارديهم من قريش أمام النجاشي، وتنتهي بأن يحمي الملك وفادتهم، ويمنع تسليمهم ويتأثر بالقرآن الذي سمعه منهم – تدل في مجملها على عدم غرابة العربية في هذه البلاد، إن لم تكن تدل على شيوعها، وليس أقل منها دلالة في الزمن الأكثر قدماً، وفود الأعشى على بلاط كسرى إمبراطور فارس وتغنيه بقصائده هناك، ولا وفود امرئ القيس من قبله على بلاط قيصر إمبراطور الروم طالباً للنجدة والحماية.
والذي لا شك فيه أن العربية قد عرفت لوناً من موجات الانتشار خارج الجزيرة العربية، مهدت للانتشار والاستقرار الواسع العظيم بعد الدعوة الإسلامية، حيث تغلبت على بقايا اللغات المنافسة، وقُدر لها أن تستقر إلى الأبد في جانب كبير من الأرض التي انتشرت فيها في البقعة الجغرافية المتصلة التي تسمى بالعالم العربي الآن، وأن تنحسر جزئياً أو كلياً عن جانب آخر منها.
ولا شك أن ارتباط العربية بالدين الإسلامي ساعد كثيراً على سرعة وازدياد رقعة هذا الانتشار، لكن مبدأ معيناً من مبادئ هذا الدين، يندرج في إطار التسامح واتساع النظرة، أوجد رابطة قوية بين اللغة والهوية الثقافية، ويتمثل ذلك المبدأ في الأثر النبوي الشريف : ( ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمه، وإنما العربية لسان فمن تكلم العربية فهو عربي “. ولقد حول هذا المبدأ صفة ” العربية” من كونها صفة تنتمي إلى مجال العصبية والقبلية والنسب، إلى كونها صفة تنتمي إلى مجال الثقافة واللغة، وليس بالضرورة إلى مجال الدين، وفتح المجال أمام شعوب كثيرة لكي تدخل طواعية تحت مظلة هذه الهوية الجديدة، دون أن تكون مضطرة إلى تغيير عقائدها، مع الاحتفاظ بكل مزايا الانتماء إلى ” هوية ” نبيلة، والتمتع بحقوق المواطنة.
وكان أبرزها في المجال الثقافي الذي نحن بصدد الحديث عنه، فتح الأبواب على مصاريعها أمام المشاركة في التغيير الثقافي الكبير الذي شهده العالم من خلال اللغة العربية، من خلال المنتمين ( الجدد ) إليها، سواء عبر الوظائف الكبرى للكتاب والوزراء أو الإنتاج الغزير للمترجمين والعلماء والمبدعين في شتى المجالات، بلسان عربي مبين، أصبح يشكل الهوية والموروث الثقافي والفكري، أياً كانت الأصول العرقية للمشاركين فيه.
على أنه من الحق أن يقال : إن هذه الموجه الواسعة من تشكيل الهوية من خلال اللغة مثلث ظاهرة تاريخية فريدة، كادت العربية أن تتميز بها على كل اللغات، على الأقل في مجال اللغات القديمة، فهذا النمط من الوحدة اللغوية الكبيرة المستمرة لم تستطع أن تخلقه لغة عالمية كبرى كاللغة اليونانية، مع أن رقعة نفوذها السياسي، امتد فيما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد إلى مناطق واسعة عبر البحار.
فانتشر الإغريق على شواطئ البحر الأسود والبسفور وبحر مرمرة والدردنيل، وجنوب إيطاليا وصقلية، وجنوب فرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا، وأنشأوا عدداً من الحواضر الثقافية كانت الإسكندرية في طليعتها، وتركوا بصماتهم الثقافية، حتى على من هزموهم عسكرياً، كما حدث مع الرومان الذين غزوا اليونان عسكرياً عام 146 ق.م. ولكن ثبت فيما بعد أن اليونان هم الذين غزوهم ثقافياً من خلال تأثيرهم البالغ في الثقافية اللاتينية، ومع ذلك فمل تنجح اللغة اليونانية في أن تستقر في المناطق التي بلغتها، وأن تشكل منها هوية ثقافية لغوية واحدة كما صنعت العربية فيما بعد.
ومع ذلك فلم تنجح اللغة اليونانية في أن تستقر في المناطق التي بلغتها، وأن تشكل منها هوية ثقافية لغوية واحدة كما صنعت العربية فيما بعد.
وكذلك الشأن مع اللغة اللاتينية، التي بلغت شأواً واسعاً في التطور، انتقل بها من كونها لغة محلية لروما القديمة، إلى كونها لغة نموذجية لمعظم مناطق الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك فقد بدأت تتراجع أمام عامياتها منذ القرن الثامن الميلادي، وتفتت إلى لغات من خلال تطور هذه العاميات، مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية، وتراجعت اللاتينية القديمة إلى ردهات الكنائس، وقاعات ترتيل الصلوات الدينية.
على أنه من الحق أن يقال أيضاً : إن هذا النجاح الكبير للعربية في مرحلة الاتساع والانتشار، كانت تقف وراءه جهود مخلصة، وخطط علمية محكمة، إذا كانت كثير من تفاصيلها غائبة عنا، فإن نتائجها الباهرة تدل عليها، وينبغي أن تكون داعية لنا لبذل مزيد من الجهود في التعرف عليها والتأسي بها في المحافظة على الإرث العظيم الذي تركه لنا السلف، ونحن لا نكتفي فقط بالتفريط فيه، ولكن يحرص بعضننا على المشاركة في إضاعته وتبديده.
إن خطوة هامة مثل “تعريب الدواوين”() في عصر عبدالملك بن مروان تكاد تمثل النقيض الإيجابي لخطة ” تغريب المعاملات الدولية والمحلية ” في عصرنا، ولنا أن نتصور مدى الجهد الذي يتطلب قيام آلاف الموظفين في أرجاء الإمبراطورية الواسعة وملايين المتعاملين معهم بتغيير لغة التعامل، من لغات قديمة ذات مصطلحات وظيفية راسخة، ونظم حسابية متداولة، إلى لغة كالعربية لم يكن لها تاريخ في الوظائف والدواوين قبل سنوات قليلة معدودة، ولنا أن نتصور أيضاً مدى الفائدة التي تعود على اللغة العربية من ذلك الانتشار الواسع، والتعود على الاستجابة للمطالب الديوانية وللحياة اليومية، بدءاً من تحرير رواتب الموظفين، وشكاوى المتظلمين إلى توقيع الوثائق والمعاهدات بين الدولة الإسلامية وأقاليم الأرض المتسعة، وكيف ستنشط جيوش من شباب المتعلمين من الأصول غير العربية لإتقان العربية، للحصول  من خلال ذلك على وظائف مرموقة في الدولة،  خاصة أن الأبواب كانت مفتوحة أمامهم دون حواجز عنصرية، وقد وصل بعضهم إلى منصب الوزارة ذاتها، مثل عبدالله بن المقفع، ورأس بعضهم جهاز الترجمة، مثل حنين بن إسحاق، بل كيف نشط آلاف المترجمين في البلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية الإسلامية، لكي يتعلموا العربية ويتعاملوا معها، باعتبارها ” اللغة الرسمية ” لدولة الخلافة الإسلامية.
ولم يكن أمر التعريب سهلاً أمام منافسة لغات قوية عريقة مثل الفارسية والسريانية، خاصة أن بعضها كان قد ارتبط بممارسة الشعائر الدينية، ولا شك أن هناك كثيراً من وقائع الحوار أو المقاومة بين اللغات الآفلة واللغة الصاعدة، ويذكر ابن النديم في كتاب ” الفهرست ” واحدة من هذه الوقائع تتصل بوقائع ” تعريب الدواوين” في العراق في العصر الأموي، وكانت لغة التعامل به من قبل، هي الفارسية، فيقول : ” ثم نُقل الديوان، وكان باللغة الفارسية إلى العربية أيام الحجاج، والذي نقله صالح بن عبدالرحمن مولى بني تميم، وكان والده من سجستان يعمل في بلاط الحجاج، يخط بين يدي كاتبه ( واسمه زاد انفروج ) بالفارسية والعربية، فقال صالح له يوماً : والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته. فقال له : فحَوَّلْ منه أسطراً حتى أرى. ففعل، فلما مات زاد انفروج. ولَّى الحجاج صالحاً مكانه، وأمره بأن يواصل محاولة التعريب، وعلمت الفرس بذلك، فأغروه ببذل مائة ألف درهم له، على أن يظهر العجز عن نقل الديوان إلى العربية، فأبى، وقال له أحدهم : ” قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية “.
ولا شك أن حوارات مماثلة خلال المواجهات الحضارية بين العربية واللغات الأخرى في أقاليم الخلافة الإسلامية الواسعة، ونقول : إنها مواجهات حضارية، لأنها كانت تتم من خلال التفاعل، وليس من خلال قوانين الإجبار، وكان التحول عندما يتم يأتي استجابة لواقع الحال، كما حدث مع اللغة القبطية في مصر، التي تراجعت بعد الفتح الإسلامي شيئاً فشيئاً عن أن تكون لغة التخاطب والثقافة، وحلت محلها العربية، حتى برزت الحاجة إلى ترجمة الإنجيل للغة العربية لتسهيل أداء المواعظ الدينية به، ثم انتهى الأمر بأن أصدر البطريرك القبطي غبريال بن تريك، في القرن الثاني عشر الميلادي ( 1131 – 1145 ) بعد نحو ستة قرون من دخول العربية إلى مصر، أصدر أول قرار يقضي باستخدام اللغة العربية في الخدمة الكنسية وتلاوة القداس، استجابة لحاجة المصلين الأقباط في الكنائس، الذين لم يعودوا قادرين على متابعة الشعائر الدينية باللغة القبطية.
إن هذه التحولات اللغوية لم تعمل أبداً على محو الخصائص الثقافية أو الدينية أو الفكرية لمن انضوى تحت لوائها ممن كانوا ينتمون إلى لغات أخرى، وإنما خلقت هوية ثقافية كبرى من خلال اللغة العربية.
وهي هوية تفاعلت داخلها، وزادت من تماسكها كل ألوان الحوارات والخلافات داخلها، فكتب بها علماء وأدباء ومفكرون من كل الأجناس والديانات، واتسعت لآرائهم جميعاً، ولم تعجز عن رصد حماس المؤيدين، وشك المترددين، وتجديف المنكرين، وإغراق الصوفية، ورموز الشعراء ومحاورات الفلاسفة، ومعادلات الرياضيين والكيمائيين والصيادلة والأطباء، وعقائد أتباع ومفكري الديانات، وكانت قادرة، من خلال هذه الروح الجماعية، أن تواصل مسيرتها فتستوعب وتتغذى وتتمثل، وتسقط الأوراق الذابلة لتخلفها أوراق أخرى أكثر ملاءمة وحيوية ونضارة، ولكنها تحافظ على صلابة الجذور وسلامة الهيكل، معتمدة على جهود حملة هذه الهوية الثقافية العريقة في حمايتها من الأعشاب الضارة، والحشرات الزاحفة أو الطائرة، والإهمال القاتل.
وفي الوقت الذي يحرس فيه حملة هذه الهوية شجرتهم، فإنها تظلهم وتحميهم وتمنحهم من الشخصية الثقافية ما يعطيهم كياناً جديراً بالاحترام والثقة في عيون الآخرين، ويبعد عنهم شبح التسكع أو التطفل تحت أشجارهم، بوهم أننا سنصير منهم، عندما نفرط في لغتنا، ونحاول التحدث بلغتهم، أو نتنازل عن هويتنا، ونحاول تقليد هويتهم، وهُو وَهْمُ يدفعه كبار مفكري الغرب أنفسهم وفي مقدمتهم المفكر الشهير صموئيل هنتجتون صاحب نظرية صدام الحضارات، فقد نشر سنة 1996 دراسة له بعنوان ” الغرب متفردٌ وليس عالمياً  West unique not universal ”  يقول فيها : “إن شعوب العالم غير الغربية، لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمتعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين، والقيم والتقاليد والعادات، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والمسيحية الغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون، والتعددية في ظل المجتمع المدني والهياكل النيابية، والحرية الفردية”().
ليس أمامنا مفرُّ إذن من العودة إلى إدراك أهمية الربط بين اللغة والهوية، وإدراك أن المحافظة على إحداهما محافظة على الأخرى، وأن إنقاذ إحداهما إنقاذ للأخرى، ولابد أن ندرك أن الضعف والتراخي إذا كانا نتيجة طبيعة لظروف تاريخية وحضارية متراكمة، فإن التنشيط والتجديد واستعادة التوازن إنما يتم من خلال العزم والتخطيط، ورسم السياسات، وإصدار القرارات وتنفيذها، على مختلف المستويات العلمية والتعليمية والاقتصادية والإعلامية والإعلانية، وتنسيق الجهود المتناثرة، وليس من المحال، عندما يتم بذل الجهد المناسب، أن تعود حالة القوة والانتعاش لكل من اللغة والهوية، حتى وسط أجواء سيطرة ثقافة العولمة، ونزعة الحرب المعلنة ضد اللغات الأخرى، وفي مقدمتها اللغة العربية، رمز الهوية التي يراد ألا تقوم لها قائمة قد تهدد مصادر الثروة، أو تحد من حرية الحركة المطلقة أمام مطامع الصهيونية العالمية وحمايتها المتطرفين.
تجربة الفرنكفونية وإنعاش اللغة:
إن تجربة إنعاش الفرنسية وربطها بنمط من الكيانات الثقافية والمعنوية والاقتصادية والسياسية، لا تزال قيد التشكيل أمام أعيننا، ولهذا فإن من المفيد أن نتأمل في بعض جوانب التجربة، لنرى كيف يخطط الآخرون لإنقاذ لغتهم وهويتهم، وكيف يتقدمون خطوة خطوة وفقاً لتصور مدروس، وهدف واضح.
ومن المعروف أن اللغة الفرنسية كانت مع الإنجليزية إحدى اللغتين الكبيرتين اللتين كادتا تقتسمان النفوذ في العالم، في فترة المد الاستعماري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأن الفرنسية خلال هذه الفترة سادت في كثير من الدول التي كانت تحتلها فرنسا في إفريقيا وآسيا وبعض مناطق القارة الأمريكية وجزر المحيط، لكنها سادت كذلك كلغة ثقافة وفنون، وكلغة للطبقات الراقية والمنتمين إلى البلاط في كثير من البلاد الأخرى التي لم تكن خاضعة للنفوذ الاستعماري الفرنسي المباشر، ومن بينها مصر التي كسبت فيها الثقافة الفرنسية جولات كثيرة للمنافسة قبل البعثات التي أرسلها محمد علي في نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر، حيث كانت حملة العلماء الفرنسيين المرافقة لنابليون، والتي يقودها مؤلفو كتاب “وصف مصر” الشهير ومكتشفو رموز لغة الفراعنة، قد مهدت للتأثير الثقافي الفرنسي في مصر على امتداد القرن التاسع عشر، وهو تأثير لم يتمكن الاستعمار الإنجليزي من إيقافه فامتد إلى مرحلة التأثير على خريطة القرن العشرين مع نفر من الساسة والأدباء المشهورين من أمثال مصطفى كامل، وهيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وتيمور، وشوقي، وحافظ، والمنفلوطي، وغيرهم من مشاهير العصر.
لقد بدأ مد النفوذ السياسي والثقافي الفرنسي في التوقف والتراجع، بعد ظهور القوة الأمريكية بشكل واضح في النصف الثاني من القرن العشرين، مما جعل كفة اللغة الإنجليزية وتأثيرها الثقافي أكثر رجحاناً، ومع الانكماش الواضح للمستعمرات الفرنسية، وعودة الجنود الفرنسيين إلى بلادهم بدأ التخوف من تخلخل الرابطة اللغوية الفرنسية بين فرنسا الأم ومناطق نفوذ اللغة والثقافة الفرنسية، وازداد الأمر وضوحاً مع بداية ظهور ثقافة العولمة والرغبة في فرض الثقافة الأمريكية ولغتها على أرجاء العالم، وفي هذا المناخ تم إنعاش مصطلح فرنسي قديم، كانت قد عرفته الفرنسية في القرن التاسع عشر وهو مصطلح الفرنكفونية ”  la francophonie  وعاد إلى الظهور في فترة الستينات في القرن العشرين على يد مجموعة من المتكلمين بالفرنسية خارج فرنسا، من أمثال سنجور في السنغال، وسيهانوك في كمبوديا، وبورقيبة في تونس، ودعوا إلى تشكيل هوية لغوية ثقافية من المتحدثين بالفرنسية في أرجاء العالم، وأسفرت المناقشات عن عقد أول مؤتمر للفرنكفونية سنة 1969 في نيامي الإفريقية، برئاسة وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التخطيط الدقيق لتحديد أبعاد المشكلة اللغوية الفرنسية وأماكن المتحدثين بها، ومواطن استخدامها الكلي أو الجزئي، المفرد أو المشترك، وأسفرت الإحصاءات عن أن الفرنسية يتم استخدامها في إحدى وخمسين دولة وتسعة وثلاثين إقليماً في أرجاء العالم، وهي بذلك تأتي تالية للإنجليزية التي يتم استخدامها في تسع وخمسين دولة وخمسين إقليماً، ومواطن الفرنسية موزعة على كل القارات في بلجيكا وبنين وسويسرا وبوركينافاسو وشمال إفريقيا وجزر القمر والكنغو وجيبوتي ولوكسمبورج والنيجر ومصر والجابون وساحل العاج.. الخ، وصنفت الاستخدامات بين بلاد تستخدم فيها الفرنسية باعتبارها لغة الأم مثل فرنسا وكندا وبلجيكا وسويسرا، والمتحدثون بالفرنسية من هذه الفئة حوالي ثمانين مليوناً، يمثلون 82% من السكان في فرنسا و 23%  في كندا و 41 % في بلجيكا و 18% في سويسرا و 58 % في موناكو، وإذا أضيف إليهم من ينتمون إلى هذه الفئة في المستعمرات القديمة، في إفريقيا وآسيا وجزر المحيط، يصل العدد إلى نحو مائة وعشرة ملايين ولنلاحظ أن الذين يتحدثون العربية كلغة أم يقتربون من ثلاثة أضعاف هذا العدد. ثم تقف الإحصاءات الدقيقة أمام الذين يتلقون تعليمهم بالفرنسية، جزئياً أو كلياً في أرجاء العالم، فتصل بهم إلى نحو مائة وخمسين مليوناً، ثم تتبع الذين يستخدمون الفرنسية في الحياة التجارية أو الفنية أو القضائية أو العسكرية أو غيرها من مجالات الحياة، فتصل بهم إلى نحو 500 مليون متكلم للفرنسية بدرجة أو بأخرى ().
ولا تقف الجهود التخطيطية عند مجرد الإحصاءات، وإنما تتتبع كل فئة من حيث درجة الزيادة أو النقصان، فترصد زيادة إقبال الطلاب على دراسة الفرنسية كلغة أجنبية في كل من فنلندا وإيرلندا والنرويج والسويد والنمسا وبلغاريا ومصر وتركيا وإسرائيل والإمارات وبيرو وأمريكا وكندا، وتصل الزيادة ذروتها في إفريقيا الفرنسية، والمغرب رغم جهود التعريب بها، وعلى هذا النحو يتم رصد الحالة الواقعية للظاهرة من خلال الدقة الإحصائية، ليتم وضع الحلول، على أساس التشخيص العلمي. ولا أدري إن كانت لدينا نحن إحصاءات دقيقة مماثلة بالنسبة للغة العربية، وإذا كنا نعلم كم عدد الذين يتحدثونها كلغة أم أو لغة دينية، أو الذين يدرسونها أو يدرسون بها في مختلف أرجاء العالم، وكم عدد المتعاملين معها على مستويات مختلفة وأماكن مختلفة.
وعندما انتهى حماة الفرانكفوية من تجسيد الظاهرة أمامهم بدأوا يشرعون في إتخاذ الوسائل والخطط اللازمة لمعالجتها، والاهتمام بها على أعلى المستويات، فدعا رئيس جمهورية فرنسا ميتران إلى عقد أول مؤتمر لرؤساء الدول الفرانكفونية في باريس سنة 1986، وتتابعت بعده مؤتمرات القمة الفرانكفونية لتعقد في كندا والسنغال وبنين وفيتنام ولبنان وبوركينافاسو، وتشكلت من خلال هذه المؤتمرات مؤسسات فعالة في مختلف المجالات لحماية اللغة الفرنسية، والعمل على انتشارها ودفع المخاطر عنها.
مثل :
المركز الفرانكفوني لتوطين  استخدام الفرنسية في البحوث العلمية.
المؤسسة الفرانكفونية الإعلامية المرئية T.V.5.
هيئة مؤتمر وزراء الرياضة والشباب للدول الفرانكفونية.
هيئة مؤتمر وزراء التعليم العالي، والبحث العلمي.
الجمعية الدولية للبرلمانيين المتحدثين بالفرنسية.
الاتحاد الدولي للصحافة الناطقة بالفرنسية.
اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية والعمل على توسيع انتشارها.
الاتحاد الدولي للمدرسين الناطقين بالفرنسية.
المجلس الأعلى للفرانكفونية، وهو مؤسسة تعمل على رصد نقاط التلاقي بين المجتمعات الناطقة بالفرنسية، وهي ذات صوت بارز في الحوار العالمي. وكان يتولى رئاستها منذ سنة 1997 سكرتير عام الأمم المتحدة الأسبق الدكتور بطرس غالي.
إن مثل هذه المؤسسات التي تنتشر فروعها في أكثر من خمسين دولة تحرص على سياسة مركزية واحدة، قائمة على التخطيط وعدم إهدار الجهود الفردية أو تكرارها، وتكتسب قراراتها سلطة التنفيذ، كما حدث مع القرار الذي تبنته الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1994، والذي ينص على عدم السماح بعقد المؤتمرات العلمية المتحدثة بالإنجليزية على الأرض الفرنسية، كما وضع البرلمان قائمة بالكلمات السوداء التي يحظر استخدامها في لغة الإعلام والإعلان.
ويثور التساؤل من جديد : إلى أي مدى نمتلك نحن جانباً من المؤسسات التي تعمل على خدمة اللغة، وتكتسب قراراتها قوة التنفيذ، مقارنة بما يحدث في التجربة الفرانكفونية ؟ وهل يمكن أن يحل عندنا التخطيط  والتنسيق العلمي، في مواجهة المشكلة، محل اللامبالاة، او جهود النوايا الطيبة غير المنسقة في أحسن الأحوال؟ وهل يمكن أن نعمل على إنقاذ هويتنا من خلال لغتنا كما يحاول أصحاب الفرنكفونية ؟
إن انعدام الدراسات التشخيصية العلمية الدقيقة عن حالة اللغة العربية ودارسيها في الداخل والخارج – بشكل الخطوة الأولى في تشكيل تصور غامض ومشوش حول هذه القضية الخطيرة في حياتنا، والمتصلة اتصالاً مباشراً بهويتناً وموقعنا على خريطة العالم المعاصر، ومستقبلنا الذي نتحرك في اتجاه مخاطرة دون وعي كاف بجبال الثلج الضخمة التي تترصد مجرى السفينة المندفعة، وتتداخل ألوانها مع ألوان المياه التي تجري فوقها السفينة، والدراسات القليلة التي تحاول أن ترصد واقع الحال، كثيراً ما تقع في المجاملة ومحاولة (ستر العيوب) وعدم كشف المستور، خاصة إذا كانت تتم تحت إشراف جهات رسمية يهمها أن يبدو الأمر في قطاعاتها وكأن كل شيء (على ما يرام) وحتى عندما تصدر الدراسات وبها بعض الإشارات إلى المخاطر المحتملة وبعض التوصيات المفيدة، فإن الهوة الواسعة بين التوصيات وبين مجرد التفكير في قراءتها من المسئولين التنفيذيين – تبدو هوة شديدة الاتساع، وحتى عندما تصل بعض أصدائها إلى آذان المسئولين، فإن القاعدة الذهبية في التعامل معها هي قاعدة (أذن من طين، وأذن من عجين)، وربما كانت قرارات مجامع اللغة العربية، وتوصيات المجالس القومية المتخصصة هي خير شاهد على ذلك.
وفي غياب سياسة قومية لغوية، استشرت فوضى (التغريب) على كل المستويات بدءاً من تصريحات وخطب المسئولين في المحافل الإقليمية والدولية، والتي تجيء في كثير من الأحيان بلغات أجنبية على عكس الأعراف الدبلوماسية السائدة، والتي يحرص من خلالها كل مسئول عن الحديث بلغة قومه، فلا نجد دبلوماسياً إسرائيلياً يصرح بغير العبرية، ولا إيرانيا يتحدث بغير الفارسية، وتجيئ خطب الصينيين والروس بلغاتهم الأصلية، ومع أن العربية واحدة من لغات العالم الأساسية المعترف بها في المحافل الدولية، فإن المسئولين العرب هم أكثر الناس تطوعاً بالتخلي عن حقهم وحق لغتهم عليهم في هذا المجال.
وتبلغ الفوضى مداها في عالم التجارة والاقتصاد والسياحة، وعالم الأزياء والمأكولات والمشروبات، ويكفي أن ينظر الإنسان إلى أسماء محلات بيع المأكولات والمشروبات والملابس، ليبدو له وكأن العربية عاجزة عن أن تجد اسما لهذا النوع من النشاط، مع أن اللغات الأوروبية استعارت منها ي الأصل اسم المكان الذي يمارس فيه هذا النشاط فكلمة magazine في الفرنسية مأخوذة من كلمة (مخزن) العربية، وهي شديدة الشيوع في الفرنسية المعاصرة، أما نحن فقد فضلنا كلمات أخرى مثل (سوبر ماركت) و(مول) و(كوفي شوب) و (شوبنج سنتر) وغيرها من المصطلحات الوافدة، إضافة إلى آلاف الأسماء الأجنبية، التي تستخدم دون وعي، ودون حاجة.
وتجتاح هذه الظاهرة المدن العربية، حتى لتحس في كثير منها – إلا ما عصم الله – أنك تسير في مدن الرطانات والمحاكاة الساذجة، التي تختلط فيها الكلمات الأجنبية بالحروف العربية، وكأننا بمحاكة الكلمات تحاكي التقدم في ذاته، وإذا نظرنا إلى المجهودات الإيجابية المشكورة، فإننا نجدها تفتقد كثيراً من أوجه التنسيق والتنظيم بين المؤسسات والهيئات التي تقوم بها، في شرق العالم العربي أو غربه أو شماله أو جنوبه، سواء تمثلت في المجامع اللغوية أو في مكاتب تعليم اللغة للأجانب، أو جمع التراث العربي وتحقيقه، أو الدخول بذلك التراث إلى عالم شبكات المعلومات والأقراص المضغوطة، أو محاولات تيسير اللغة للتعامل مع عالم الحاسوب، وكلها مجهودات طيبة في ذاتها، لكن ينقصها هذا النمط من التنسيق الذي رأيناه في سياسة الفرانكفونية لحماية اللغة الفرنسية، ونستطيع بقدر ميسور من هذا التنسيق أن نضاعف من نتائجه الإيجابية، ونعمل على صد كثير من المخاطر عن اللغة العربية والهوية القومية.
وإذا أضفنا إلى ذلك، الجمود الشائع في طرق تعليم العربية لأبنائها()، وعد تطوير وسائل ترغيبهم فيها، أسوة بما تفعله اللغات الأخرى، أدركنا أن الدائرة تكاد تكوم مغلقة إذا لم نطور في أنفسنا الوعي بالمخاطر واتخاذ الحلول العملية لمواجهتها.
تجربة العبرية وإحياء اللغة للهوية:
وإذا كانت تجربة إنعاش الفرانكفونية، قد وضعت أمام أعيننا، تصوراً لإمكانية التخطيط العلمي وتشكيل الآليات التنفيذية لإنعاش لغة عريقة والمحافظة على مظلة ثقافية لغوية للمنتمين إليها، والأمل المستقبلي في أن يؤدي التخطيط المحكم والتنفيذ والمتابعة إلى تحقيق الأهداف المتوخاة، فإن الوقوف أمام تجربة إحياء اللغة العبرية في العصر الحديث يضعنا أمام أمل صعب تم إنجازه، وجهد بشري خارق يستحق كل التقدير والإعجاب، ويحق للذين ينتمون إلى هذه اللغة أن يصفوه بالمعجزة().
فلقد ظلت العبرية لغة شبه دينية على امتداد قرون طويلة، لا تستخدم إلا في أضيق نطاق حتى إن اليهودي الكبير موسى بن ميمون وضع جميع مؤلفاته باللغة العربية، فيما عدا مؤلفاً واحداً كبيراً وضعه بالعبرية، عن أصول الشريعة اليهودية وقواعدها.
لكنه منذ أواسط القرن التاسع عشر، برزت مجموعة من الشباب اليهود الأوربيين شكلت حركة لإحياء اللغة العبرية، كان من أبرز قادتها اليعازر بن يهودا، الذي أطلق شعاراً، ربما نكون في حاجة إلى التذكير به واعتناقه الآن، وهو شعار: ” لا حياة لأمة بدون لغة “، ودعا إلى إحياء اللغة العبرية لدى الأجيال الجديدة، من خلال جعلها لغة التخاطب في الحياة اليومية ()، ولكنه أمر بدا صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
حتى بالنسبة لغلاة المتشددين من اليهود، إذ كيف يمكن أحياء لغة ميتة قديمة لا يجيدها إلى قلة من المتخصصين، ولا تستخدم إلا في الشئون الدينية، وتفتقر إلى معظم مفردات الحياة المعاصرة، ولا يصبر على الكلام بها رجال الدين اليهودي أنفسهم، فكيف تصير لغة الأطفال والفتيان والفتيات والرجال والنساء، وتستخدم في الصحافة وتدريس فروع المعرفة وإجراء البحوث العلمية، وكيف يمكن تحقيق هذا الحلم الخيالي، بخاصة أن اليهود وقتها كانوا موزعين على نحو أكثر من مائة دولة على خريطة العالم، ويتكلمون نحو ثمانين لغة حية، ليس فيها العبرية إلا في الصلوات والشعائر الدينية لمن يتابعها منهم.
ومع ذلك كان أليعازر بن يهودا متمسكاً بفكرته رغم سخرية أصدقائه منه، وبدأ في اتخاذ الخطوات العملية لها، فقرر الهجرة إلى فلسطين، مع زوجته وأسرته سنة 1881م، وانشأ أول بيت يهودي، تفرض فيه اللغة العبرية لغة للتخاطب والحديث في كل الشئون لكل أفراد الأسرة، وساعده على ذلك أفراد أسرته، رغم سخرية كل الناس منه، ولكنه ظل متمسكاً برأيه، عاملاً على إنجاحه أربعين سنة متصلة.
أسس رابطة للمتكلمين بالعبرية في فلسطين، وصارت داره منتدى يلتقي فيها الشباب اليهودي، ويتحمسون للفكرة يوماً بعد يوم، ويمارسونها باستخدام اللغة في لقاءاتهم، وأصدر مجموعة من الصحف باللغة العبرية في القدس، وجعل بعضها مخصصًا للأطفال، وحرص على أن يسمى أبطال القصص بأسماء عبرية، وعكف على إنجاز مشروع كبير لقاموس اللغة العبرية القديمة والجديدة، فانكب ينقب عن كنوز اللغة في كتب الأقدمين في العهد القديم والتلمود، والأدب العبري في الأندلس، واللغات السامية، التي انتقى منها مواد طوعها للاستعمال الحي، وكان يلجأ إلى ابتكار المصطلحات الجديدة عندما لا تساعده كتب التراث، وقد استطاع في حياته أن ينجز تسعة مجلدات كبيرة من هذا المعجم وأكمله تلاميذه من بعده إلى ستة عشر مجلداً.
وأثمرت دعوته، فاستيقظ اليهود لإنشاء مدارس حديثه تدرس كل موادها بالعبرية، وتهتم بمراحل اللغة في العهد القديم والمراحل التالية له وتاريخ بني إسرائيل والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات وكلها بالعبرية، وقد كان حرصهم في كتب الجغرافيا، على ألا يذكر اسم أي مكان إلا باللغة العبرية، ويقول أحد الباحثين الإسرائيليين “تسيبورا شاروني” في كتاب التوجه القومي في برامج التدريس باللغة العبرية: “من منا يذكر كتابًا واحدًا في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية؟ الأسماء العربية لا وجود لها”، وهي نزعة لا تزال تشكل ركناً رئيسيًا من السياسة الإسرائيلية في تسمية الأماكن الفلسطينية بأسماء عبرية، والحرص على استخدام هذه الأسماء في كل مواقع الإعلام حتى تثبت في الأذهان ويتعود عليها الآخرون، حتى في المناطق التي لا يوجد فيها إلا العرب الذين يطلقون عليهم في أفضل الأحوال ” عرب إسرائيل “، ومن هنا فإن القدس هي أورشليم، والضفة الغربية هي السامرا، وغزة يهودا، والخليل حبرون، ونابلس شكيم وبئر سبع هي بئر شيفع.. وهكذا.
وانطلاقًا من دعوة أليعازر بن يهودا، بدأت الجماعات اليهودية، تصدر صحفاً بالعبرية في أوربا مثل صحيفة ” هاتسفير” و “هاميلتش” إلى جانب صحف، تصدر بلغة ” الإيديش” وهي اللغة التي يتداولها اليهود في أوربا الشرقية.
إن المحاولة العبرية الناجحة جسدت أبرز محاولة لتماسك الهوية من خلال لغة يتم إحياؤها من العدم، وتوجيهها نحو هدف معين، ولقد كان من الصعب إيجاد هوية متماسكة للمتفرقين في مائة دولة والمتحدثين بثمانين لغة، وكانت فكرة أليعازر مركزة في شعاره : ” لا حياة لأمة بدون لغة “، وقد وضع فكرته التي بدت خيالية في حينها موضع العزم والإصرار والتطبيق، فأصبحت العبرية الآن شديدة الحيوية، تدرس بها كل العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والصيدلة والطب والهندسة والإحصاء فضلاً عن العلوم الإنسانية بكل فروعها، وتعقد بها كل المؤتمرات العربية.
لا يتمحكون في الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية أو الإسبانية، مع أن كثيراً منهم يجيدون هذه اللغات، ويصلون في هذه العلوم إلى مدى متقدم، يجعل جامعاتهم في صدارة الجامعات المتقدمة في العالم، ويتركوننا نحن بإنجليزية عرجاء، بشهادة خبراء العالم، ندرس المعرفة المتقدمة فلا ندرك منها إلا القشور، ونعود إلى المعرفة الإنسانية، فلا نكلف أنفسنا بمجرد إجادة لغتنا، لكننا نقترح أن نعمل فيها معاول الهدم والتغيير، دون أي معرفة كافية ولا تقدير للعواقب الوخيمة على اللغة والهوية.
العربية واضطراب العلاقات بين اللغة والهوية:
يود البحث بعد استعراض العلاقة بين اللغة والهوية في الحالتين الفرنسية والعبرية وتأثيرها إنعاشا في الحالة الأولى، وإحياء في الحالة الثانية أن يقف أمام نمط هذه العلاقة في الحالة العربية المعاصرة والتأثيرات السلبية التي تركتها على واقع الحياة التعليمية وما يتفرع عنها وعن نتائجها في مختلف مجالات الحياة.
من خلال مناقشة نظرية ” توطين المعرفة ” وعلاقتها الضرورية بتداول المعرفة عبر ” لغة الأم ” وما أدى إليه فقدان هذه الخاصية لدينا على مستويات رأسية وأفقية متعددة من تدهور في استيعاب التاريخ القومي للمعرفة ومن اكتفائنا بمساهمات متواضعة في نادي المعرفة الدولية في معظم الأحيان راضين بموقع المستهلك أو المشاهد دون أن نتطلع إلى موقع المحاور أو المنتج.
ومن خلال التعرض لبعض التجارب العربية والنتائج الحية في هذا المجال والوقوف أمام بعض أوجه القصور التي تجعل العربية المعاصرة مكبلة بالقيود عاجزة عن التغلغل إلى نفوس الراغبين من أبنائها في تشربها ومزجها بهويتهم.
اللغة القومية وتوطين العلم:
تمثل قضية العلاقة الكائنة بين اللغة العربية وواقع تلقي المعرفة لدى أبنائها واحدا من أبرز مظاهر الاضطراب في العلاقة بين اللغة العربية والهوية، وذلك لأن اللغة تحتل بعداً شديد الأهمية في التكوين العلمي الفردي والجماعي للأمة، ولا يقف دور اللغة في تلقي العلم أو توصيله، عند مجرد دور الأداة الناقلة أو القناة الموصلة، تعبر خلالها (المعلومة) إرسالا أو استقبالا، وإنما يمتد دور اللغة، ليشكل ضفيرة قوية مع المعرفة ومع الهوية، تتبادل فيما بينها وسائل التغذية والتنمية، فتقوى اللغة بقوة العلم المتشكل من خلالها، والذي يبحث لنفسه خلال تشكله وتمدده وتفرعه عن أوعية لغوية ملائمة، وخلال هذا البحث تجدد خلايا اللغة التي يتعامل معها، فتعرف إحياء الخلايا الضامرة، وتنشيط الخلايا الحية، وتوليد خلايا أخرى مناسبة، وتزداد صلتها قوة بالحياة وبالأحياء.
وفي الوقت ذاته يقوى العلم خلال انتشاره وتمكنه في النفوس عندما يتحرك في هذه النفوس باللغة التي تألفها، وتتصل بها اتصال الوجود وتتكون فيها مع تكون الحواس، فيصادف العلم خلال مسيرته في هذه النفوس مرايا من شانها أن تكون أكثر صفاء وجلاء، وأن تنعكس عليها أشعته بطريقة أكثر تألقا، وأن تتسرب هذه الأشعة إلى مناطق أكثر عمقاً وأبعد غوراً، وأن تستقر بها وتتفاعل فتولد دورة للامتزاج بين اللغة القومية والعلم الذي يصاغ بها تتوالد عنها دورات لا نهاية لها في نفوس الأفراد والجماعات، ويتشكل من خلال هذا كله ما يعرف بتوطين العلم.
إن “توطين العلم” هو وحده الذي يستطيع أن يتيح أمام الفرد وأمام الأمة فرصة المشاركة الفعالة في العملية العلمية “إنتاجاً واستهلاكاً”، وهي مرحلة ضرورية لكل الأمم، التي تود أن تشارك في صنع الحضارة الإنسانية أو تنتسب إليها انتساباً فاعلا، وتلك مرحلة تختلف عن مراحل أخرى في العملية، كالتي يعيشها العالم العربي الآن، ويمكن أن يكون هدفها في أحسن الأحوال “استهلاك” العلم أو تعلم مبادئه، لكنها لا يمكن ابداً أن ترقى إلى مرحلة الإنتاج أو المشاركة الفاعلة، في غياب الصلة القوية بين اللغة القومية والعلم، أي في غياب الأساس الأول لتوطين المعرفة.
وقد استوعب كل الحضارات هذا الدرس الأولى، ففكرت وأنتجت بلغاتها دون أن تغلق الباب أبدا أمام الاستفادة والاستيعاب والهضم، بل والاقتراض من الثقافات الأخرى، ولم يكن متصورا أن يصوغ الفراعنة تقدمهم المعرفي في الطب والتحنيط وهندسة البناء والحكمة وغيرها من فروع المعرفة، بلغة اليونان، ولا أن يصوغ اليونان انجازاتهم في الفلسفة والمسرح وعلوم السياسة والاجتماع بغير لسانهم القومي، ولا أن يستوعب الرومان حضارة اليونان التي تأثروا بها، وحاولوا الإفادة منها والإضافة إليها بغير لغتهم اللاتينية، وكذلك كان الشأن بالنسبة لحضارات الشرق التي نقلت ميراث الحكمة الإنسانية بلغاتها المتألقة على صفحة الحضارة الإنسانية والتي تسجل إسهامات كل أمة في رصيد العلم من خلال لغتها.
وقد استوعبت الحضارة العربية الإسلامية هذا الدرس الخالد، عندما آلت إليها تركة الثقافة الإنسانية المتراكمة عبر العصور، فأزاحت أولا من طريقها معوقات الاستقبال والتحصيل، من خلال فتح النوافذ الواسعة، وإلغاء الحواجز، حتى ما كان يظن انه ضروري لحماية العقيدة، ثم من خلال خلق الوسائل وتشجيع تفعيلها، فكانت حركة الترجمة العظيمة التي عرفتها هذه الحضارة في العصر العباسي وما بعده، وكانت حركة النهم التي قادتها الخلافة الإسلامية والعلماء المسلمون، ممثلة في الحصول على تراث الأوائل بكل ثمن.
يقول العالم الكبير أبو الريحان البيروني (ت1048) “وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم، فازدانت وحلت في الأفئدة”. وعبارة البيروني ذات مغزى عميق، فصب العلم في اللغة الأم يحقق هدفين رئيسيين أولهما أن تزدان اللغة وتتألق وتصبح حيوية جذابة، وثانيهما أن يحل العلم المنقول بها في الأفئدة، فيستقر في النفوس والعقول تعمقا وأخذا وعطاء، ولا يظل قشوراً ورطانات على النحو الذي يكون عليه العلم في الأمم غير المتقدمة. (1)
لقد كانت الدقة العلمية البالغة للعلماء عاملا هاماً في إثراء لغتهم العربية، التي صبوا فيها معارفهم، وتحولت هي بدورها إلى وسيلة معرفية ليس لأبنائها فقط، ولكن لأبناء الإنسانية كلها، تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه، وهي تعلق على نص كتبه بالعربية الطبيب المصري على بن رضوان في القرن الحادي عشر، منذ نحو ألف عام : “يخيل إلينا ونحن نسمع ما قاله ابن رضوان، أننا أمام أستاذ في الطب في عصرنا الحاضر”.
إن تعليق المستشرقة على تاريخ العلوم عند العرب يثير في النفس آلاما مريرة، عندما نتساءل عن حجم الدارسين العرب في هذه التخصصات العلمية، الذين يملكون اهتمامات عميقة بالتراث العربي العلمي.
ولا ينبغي أن يتسرب إلى الأذهان أن الدعوة إلى دراسة الكتب على يد العلماء وتحقيقها وتحليل محتوياتها، يعني بالضرورة الدعوة إلى تجميد تحصيلهم العلمي في فروع تخصصاتهم عند محتوياتها، بل إن دراستها ينبغي أن تكون مقترنة باليقين بأنها جزء من تاريخ العلم، وهو على أهميته جزء قد تم تجاوزه، ولكنه مع ذلك جزء ينبغي الاهتمام به لسببين رئيسيين :
الأول : غرس الثقة بالعقلية العلمية الحضارية التي ننتمي إليها، وتأكيد القناعة بأن هذه الشريحة التي استطاعت جذورها أن تتفاعل مع فلسفة العلم ودقائقه، وتستجيب لحاجات الإنسانية فيه، يمكن لفروعها أيضا أن تواصل العطاء، إذا أعادت تكوين نفسها، واستطاعت أن تصحح مواقع خطواتها ؟، وهذه الثقة في مجال العطاء العلمي شديدة الأهمية.
الثاني : هو المساعدة في اختيار كثير من المصطلحات التي أثبتت دراسات المدققين في تاريخ العلوم وحاضرها، أن التراث اللغوي فيها شديد الفائدة، وأن محاولة البحث الدائم عن اصطيادها من خارج المياه الإقليمية غالباً ما يحمل معه من المحارات والطحالب والأعشاب الضارة، أضعاف ما يحمل من بعض اللآلئ المتفرقة.
ولعل هذه القضية تكون من أكثر القضايا التي أسيء استخدامها لتعويق عملية تعريب العلم، زعماً بأن العلم الحديث مصطلحات معظمها باللغات الأوروبية، وأن ذلك يقتضي دراسته وتدريسه بهذه اللغات، ويحول دون تعريبه، فقد أثبتت دراسات وإحصاءات كثير من العلماء المتخصصين في فروع تعريب العلوم، عدم دقة هذا الزعم، مثل ذلك البحث الذي أجراه الدكتور مصطفى بن يخلف، وانتهى فيه إلى أن نسبه الكلمات المصطلحية في المادة العلمية لا تجاوز 25% منها، في حين تحتل الكلمات العامة 75% من لغة تلك المادة، وفي هذا الإطار يرى الدكتور حسني سبح الرئيس السابق لمجمع دمشق أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على اللغة الوسيطة بنفس الأهمية التي يعيرها للمصطلحات، وأن مقاومة الكثيرين للتعريب ما هي إلا لتدنى القدرة على استعمال لغة وسيطة رصينة، مع أن اللوم ينصب في معظم الأحيان على المصطلحات والرموز.. إن قضية المصطلح ليست بصميم المشكلة، وإنما صميم المشكلة هو الاقتدار على وعي المعاني العلمية، وتصورها ثم الإبانة عنها.(1)
تبقى الصورة في مجملها بعيدة عن تحقيق هدف توطين المعرفة او الربط بينها وبين اللغة القومية، وتبقى الصورة المضطربة المشوشة واحدة من أهم عوامل إضعاف العلم واللغة معاً في وطننا العربي (2).
يحدث هذا رغم أن القرن العشرين شهد، على مستوى العالم، كثيرا من مظاهر التقدم في الربط بين اللغات القومية وتوطين العلم، لدى شعوب كنا قد سبقناها في خوض التجربة بقرون طويلة، ومع ذلك فقد استطاعت أن تعقد بين العلم ولغتها مواءمة رائعة، ومنها اللغة العبرية التي كانت في عداد الموتى عندما بدأ محمد على تجربته في تدريس الطب بالعربية سنة 1827، قبل أكثر من خمسين عاماً من صيحة اليعازر بن يهوداً ” لا حياة لأمة بدون لغة”. وقد أصبحت اليوم كل فروع المعرفة العلمية الدقيقة تدرس من الألف إلى الياء باللغة العبرية التي تم إحياؤها من العدم، ومنها الشعوب التي لا تنتشر لغاتها إلا على مناطق محدودة من الأرض والناس، كما هو الشأن في اللغة الكورية، التي لا وجود لها خارج شبه الجزيرة الكورية بملايينها السبعين، ومع ذلك فقد تم تطويعها لكل فروع المعرفة الدقيقة وتقنياتها، وحتى القوميات الصغيرة الناهضة في شرق أوربا أو في أرجاء آسيا، أصبحت لها لغاتها التي تطوعها للعلم، وتطوع العلم لها، حتى وإن بدا البون شاسعا والعقبات كثيرة كما حدث مع اللغة الصينية بأبجديتها المعقدة العملاقة والتي تم في النهاية تذليلها لشاشة الحاسب الآلي المحمول، في الوقت الذي لا نستثمر فيه الإمكانيات الهائلة الكامنة في اللغة العربية لتعاملها مع ثورة الاتصال اللغوي في عصر المعلومات كما يقول الخبراء(). لقد أصبح من الممكن القول بأنه لا توجد أمة متحضرة في العالم تدرس العلوم بغير لغتها ولا توائم بالقدر الكافي بين لغتها ولغة عصر ثورة المعلومات فيما عدا الأمة العربية.
د. أحمد درويش: :إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية. دار نهضة مصر- القاهرة- ط2- 2007م.
:إنقاذ اللغة من أيدي النحاة. دار الفكر – دمشق- 1999م.
د. أحمد فؤاد باشا: :أساسيات العلوم المعاصرة في التراث الاسلامي. دار الهداية 1997.
د. جابر عصفور (إشراف وتقديم) :التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية”. المجلس الأعلى للثقافة، مصر- 1997م.
الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): :البيان والتبين، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي 1985، الجزء الأول.
د. سليمان المالكي: :العرب وتأثيرهم في شرق أفريقيا، بحث في كتاب “العرب وأفريقيا”، دار الثقافة العربية، القاهرة ، 1987.
د. ضياء الدين الريس: :عبد الملك بن مروان. سلسلة أعلام العرب، القاهرة، 1962م.
عباس محمود العقاد: الثقافة العربية أقدم من الثقافتين العبرية واليونانية. الأعمال الكاملة- بيروت- 1974م.
د. محمود المناوي: :في التعريب والتغريب. مركز الأهرام للترجمة والنشر 2005.
د. نبيل على: :الثقافة العربية وعصر المعلومات. عالم المعرفة- الكويت- 2001م.
يهو شواع بلاو: :إحياء اللغة العبرية وإحياء العربية الفصحى. مجلة لقاء- 1985م.
أهم المراجع:
A short History of the Herbew Language. New York 1998. Hoffman. Loeul:

اللغة والهويةمقارنة بين الحالة العبرية والفرنسية والعربيةالدكتور أحمد درويشناقدوأكاديمي  من مصر يسعى هذا البحث إلى دراسة علاقة التأثير المتبادل بين اللغة والهوية في أشكالها المختلفة إحياء أو إنعاشاً أو إضعافاً، وتنبع الصور المتولدة عن كل علاقة من هذه العلاقات على مختلف مستويات التجربة الحضارية في مجالات مختلفة مثل التعليم والاقتصادية وحالة الروح القومية للأمة وما يترتب عليها من تماسك أو تفكك، وما يؤدي إليه هذا كله من تقدم أو جمود أو تخلف ومن قوة أو ضعف. ويتخذ البحث مجالاً له، التجارب الحية الكبرى في العصر الحديث، عبر القرنين التاسع عشر والعشرين ممثلة في ثلاث لغات، هي العبرية ودورها في إنشاء الوطن القومي لليهود، والفرنسية ودورها في إنعاش المكانة المتميزة لفرنسا بعد سقوط الإمبراطوريات التقليدية إبان حرب السويس، ثم اللغة العربية التي نود الوقوف أمام علاقاتها المضطربة بالهوية في العصر الحديث والآثار المترتبة على ذلك الاضطراب في المجالات المختلفة. مدخل إلى اللغة والهوية:يقول الشاعر الصقلي إجنازيا بوتينا من قصيدة جميلة تحمل عنوان ( لغة وحوار): ضع شعباً في السلاسل جردهم من ملابسهم سد أفواههم. لكنهم يمكن أن يظلوا أحراراً خذ منهم أعمالهم.. وجوازات سفرهم والموائد التي يأكلون عليها والأسرَّة التي ينامون عليها لكنهم يمكن أن يظلوا أغنياء إن الشعب يَفتقر ويُستعبد عندما يُسْلبُ اللسان الذي تركه له الأجداد وعندها يضيع للأبد نعم فالدور الذي تلعبه اللغة في حياة الفرد والجماعة، يتجاوز بكثير مجرد كونها أداة ناقلة ومجسدة لما يدور في الذهن من معان مجردة، يراد لها أن تنتقل من مرحلتها التجريدية، إلى مرحلة التجسيد لتنقل الرغبة أو الأمر أو النهي أو الرجاء، أو تفتح باب التواصل والحوار. فكل هذه الأهداف، على اختلاف درجاتها، يمكن أن تتحقق للكائن الحي، وليس للكائن البشري وحده، بوسائل تعبيرية متعددة وهي ليست بالضرورة وسائل لغوية، فالحيوان الأعجم ينقل حاجته إلى الطعام أو الري أو الإشباع، وينقل مشاعره خوفاً وتهديداً وترحيباً، من خلال تنوع في درجات الصوت، وحركات الوجه، وتقلص الأعضاء أو تهللها، وهز الذيل أو سكونه، وغير ذلك من الوسائل التي ندركها وقد تعارفنا على فك شفرتها، ومن الوسائل الكثيرة الأخرى التي لا ندركها والتي تشكل في ذاتها شفرة بين الجماعات المتجانسة، ومجالاً لاجتهاد الإنسان للتعرف على خفاياها. ولا ريب أن الأمر لا يقف عند عالم الحيوان، وإنما يتعداه إلى عالم النبات، بل وإلى الظواهر الطبيعية، التي لا شك أنها تمتلك وسائلها الخاصة في التعبير عن حاجاتها ورغباتها، وفق سنن الكون الدقيقة، وأن جزءاً من أسرار عمار الكون يكمن في محاولة التعرف على هذه الوسائل وتشكيل رد الفعل الملائم لها من الإنسان سيد الكون وخليفة الله في أرضه. وإذا انتقلنا إلى عالم الإنسان نفسه، فإننا نجد أن اللغة ليست هي المعبر الوحيد عن حاجاته ومشاعره وأفكاره، وأنه يستطيع أن يمارس حياته كلياً أو جزئياً، في غياب اللغة المؤقت أو الدائم، مستعيناً بوسائل التعبير الأخرى التي تتاح للكائنات الحية، التي يشترك معها في صفة الحياة، والحاجة للتعبير، ويتفوق عليها في مراحل أخرى، بامتلاك ” اللغة ” والصعود درجات متفاوتة في تحقيق مفهوم إنسانيته، وانتمائه من خلال عنايته بها، فالطفل يقطع فترة من عمره تمتد للعامين أوتتجاوزهما – وهي فترة تكاد توازي في حياة بعض الكائنات الأخرى، عمراً كاملاً – يقطع هذه الفترة مستعيناً بالأصوات والإيماءات، والتعبيرات الحركية الغريزية للتعبير عن الحاجة، ويكاد يتساوى في شفرات الرموز والحركات في هذه الحالة كل الأطفال من كل اللغات التي سينتمون إليها لاحقاً وهم يجتازون مرحلة ما قبل اللغة. والذين يحرمون نعمة النطق من البشر، ويعيشون في حالة لا يكلمون الناس فيها إلا رمزاً، يطورون وسائلهم غير اللغوية في الاتصال، بطريقة تشكل لهم شبكة متكاملة من الرموز تفي باحتياجاتهم من ناحية، وتشكل الشبكات العالمية، لهذه الفئة، من ناحية أخرى، ما يمكن أن يكون لغة موازية للغات الأخرى في مرحلة الحياة ” خارج اللغة “. وحتى الأسوياء من البشر الذين اجتازوا مرحلة الطفولة وما “قبل اللغة”، ونجوا من مرحلة الحياة الصامتة “خارج اللغة” – هذه الفئة التي ينتمي إليها أغلب البشر، في مراحل نضجهم، لا تعد اللغة عندهم هي الأداة الوحيدة الناقلة للمشاعر والأفكار، بل إنهم يلجؤون إلى وسائل أخرى كثيرة، للإبانة عما لديهم، وتحقيق “بيان” ما في نفوسهم. وقديمًا كان الجاحظ شديد الدقة وهو يعبر عن هذه الأدوات البيانية المستغنية عن اللغة أو المتعاونة معها حين قال في كتابه الشهير “البيان والتبيين”، “والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجرى القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع “. ثم يوضح الجاحظ بعد ذلك خمساً من وسائل الدلالات على المعاني، فيها وسيلتان لغويتان هما اللفظ والخط، وثلاث غير لغوية، وهي الإشارة والعقد والحال الدالة. ويقف الجاحظ في مواطن كثيرة عند بلاغة الإشارة باعتبارها مكملاً لبلاغة العبارة فضلاً عن كونها وسيلة تعبيرية في غياب اللفظ والخط، ويقف كذلك عند فن العَقْد، وهو ضرب من الحساب يكون بأصابع اليدين، وله كتب في فك رموزه في التراث العربي، وقد وردت الإشارة إليه في الأحاديث النبوية، وكذلك فن دلالة الحال التي كانت تسمى بالنَّصْبَة، ويغنى فيها الحال عن المقال().  ليس الدور الذي تلعبه اللغة – إذن – في حياة الفرد والجماعة، منحصراً في القدرة على الإفهام وتوصيل المعاني المجردة، فتلك أهداف يمكن أن تؤدى حتى في غياب اللغة، ولكن اللغة هبة، تمثل أول درجات تميز الكائن البشري على ما عداه من الكائنات، ولعل هذا يبدو في عدها الميزة الأولى التالية لخلق الإنسان نفسه، في التعبير القرآني في الآيات الأولى لسورة الرحمن حيث يقول سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ (4)، فالامتنان بالبيان يأتي مباشرة بعد نعمة الخلق ذاتها، وهذه الهبة يتم اكتسابها التدريجي مع النمو الأول لخلايا الطفل في شهور عمره الأولى، من خلال لبن الأم وصوتها، ومن هنا جاء مصطلح ” لغة الأم ” الذي نطلقه دائماً على اللغة التي تلقاها الإنسان بفطرته وغريزته، وتعلمها كما تعلم الأكل والشرب والمشي، ربما بدون جهد إرادي منه، ولكن من خلال الاستجابة الغريزية لدوافع البقاء والتحضر، ولغة الأم هذه تكاد تعاصر في تخلقها في نفس الكائن البشري مرحلة تخلق خلايا المخ والذاكرة، وأوعية الاحتفاظ بالمشاعر ذاتها، ولهذا فإن لغة الأم، تصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصية صاحبها، وتظل حتى وإن زاحمتها لغات أخرى فيما بعد، هي أقرب اللغات للتعبير عن الخلجات الدقيقة إرسالاً واستقبالاً، على اختلاف ميادين الإرسال والاستقبال. وهذه اللغة هي التي تختزن المشاعر الأولى، والأفكار الأولى، والتشكيلات الأولى للكون من حول الإنسان، وفيها ومن خلالها يتشكل معنى ولفظ البهجة والحزن والانتصار والانكسار والحب والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور والملاطفة والمخاشنة والرضا والإنكار، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاق مفاتيحه، وإلى هذه المفاهيم الأولى، ترتد أية مفاهيم تالية يمكن للإنسان أن يحصلها من اللغات المكتسبة في مراحل تالية من العمر، فيترجمها المرء دون إرادة إلى مفاهيم لغة الأم، أو يتقرب منها لكي تزداد وضوحاً أمام خلاياه الذهنية والنفسية. ويقول علماء النفس : إن هذا النمط من البناء اللغوي هو القادر وحده على تشكيل ما يسمى بالذاكرة الطويلة الأمد، في مقابل الذاكرة القصيرة الأمد، التي قد نحتاج إليها لفترة عابرة، ثم ننساها. فنحن عندما نواجه مهمة طارئة في حياتنا، تحتاج إلى حشد طاقة الذاكرة، لحفظ أرقام معينة، أو الإلمام بتفاصيل خريطة مكان معين، أو الإلمام بخصائص شيء معين، فإن الذاكرة غالباً ما تحتفظ بهذه الأشياء المؤقتة في أدراج الذاكرة القصيرة الأمد، لكي تفرغ منها أو تنساها بعد انتهاء المهمة المؤقتة، فنرى أنفسنا بعد حين قد تخلينا عن الاحتفاظ بهذه المعلومات لانتهاء الحاجة إليها، وليس الأمر كذلك بالنسبة للذاكرة الطويلة الأمد التي تحتفظ بالمعلومات أو المفاهيم أو الخصائص الدائمة، فنحن لا نحتفظ بأسماء الألوان فترة ثم ننساها، ولا بأبعاد الجهات الأربع أو الست، لمدة قصيرة، ولا بمعايير الصواب والخطأ واللياقة والخروج عليها في فترة دون غيرها. وفي هذه الذاكرة الطويلة التي يتشكل وعاؤها الأول من لغة الأم، تدخل كثير من أنواع العلوم والمعارف، وهو ما يدعو كثيراً من الباحثين الجادين إلى الحديث عن أن توطين المعرفة بالمعنى الحقيقي لا يمكن أن يتم في غياب لغة الأم، وتلك نقطة سنعود إلى الحديث عنها بالتفصيل عند إثارة قضية اللغة القومية وتوطين المعرفة(). ولعل هذا هو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني هيدجر (ت 1889 م) حين قال: (إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها من خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع”. إن الإنسان مهما تأثر في مراحل تالية بلغات أجنبية – ومن حقه أن يستفيد منها ويتأثر بها – سوف يجد نفسه في اللحظة الحميمة، أو لحظة الغفلة عن التصنع، يعود إلى لغة الأم من تلقاء نفسه، وتلك خاصة يستغلها علماء النفس وخبراء التجسس في كشف لحظات التصنع المحكمة، وفي أدبيات الحرب العالمية الثانية يدور الحديث عن جاسوس ألماني، استطاع أن يتقن اللغة الفرنسية إتقانًا كاملاً، بحيث لا تبدو في نطقه أية لكنه أجنبية، واستطاع من خلال ذلك أن يتسرب إلى أكثر الأوساط خصوصية في عالم السياسة والحرب، حتى شك خبراء مكافحة الجاسوسية أنفسهم في ظنونهم المثارة حوله، وأخيراً، دلهم أحد الخبراء اللغويين على إمكانية استثارة لغة الأم في لحظة انفعال مفاجئ فتعقبه أحد المراقبين أثناء سفره في القطار وهو منهمك في قراءة الجريدة، ووجه إليه صفعة مباغته أغضبته فرد عليه بعبارة استنكار بالألمانية قبل أن يشتبك معه، وكان هذا وحده كافياً لإثارة لغة الأم عنده، ولإدراك أن لغته الفرنسية المتقنة، إنما هي لغة مكتسبة، وأنه في نهاية المطاف جاسوس، وذلك ما أراد خبير اللغة أن يكشفه، من خلال استثارة لغة الأم، وعلاقتها الحميمة بهوية الفرد. لغة الأم تشكل عاملاً رئيسيًا في هوية الفرد المنتمي إليها، وهي من خلال هذا تؤهل الفرد لكي يلتحق بجماعة أكبر تنتمي إلى نفس اللغة، بدءًا من الجماعة الصغيرة في الأسرة الواحدة وامتداداً إلى الجماعات الأكبر في القرية أو الإقليم أو القبيلة أو المنطقة أو الولاية أو الدولة أو غيرها من مسميات التجمعات البشرية، ونحن جميعاً نستشعر أنه – حتى داخل اللغة الواحدة – تتشكل ملامح للهويات الجماعية الصغيرة من خلال الملامح اللهجية والخصائص الصوتية، التي تمثل ملامح ” لغة الأم ” ويجرى الاعتزاز بها والتعرف على الهوية من خلالها، ومن منا لم يستشعر في القرى والتجمعات الصغيرة درجات الاعتزاز بهذه الخصائص التي تتميز بها قرية عن قرية أخرى لا يفصل بينهما سوى جدول ماء صغير، أو طريق زراعي يعبره المسافرون، ومع ذلك فإن الخلاف في التفخيم أو الترقيق أو الإشباع أو الترخيم أو نطق الجيم أو القاف أو الهمزة أو الراء أو استخدام مفردة هنا لا تشيع هناك، كل ذلك يتحول إلى ملامح في الهوية تكون مصدر اعتزاز وتفاخر، ولا يُسلم أحد أبداً بأن خصائصه اللغوية المميزة أقل قدراً من خصائص الآخرين، وكم من المفارقات الاجتماعية تحدث، عندما تتزوج فتاة في قرية أخرى، ويحدث بالتدريج تقارب الخصائص أو الخضوع للخاصية الغالبة، واستغلال الفروق في تشكيل النكات الاجتماعية الطريفة، واتساعها عندما تبتعد لغة الأعمام عن لغة الأخوال، ومن منا لا يدرك على الفور بصمة أهل الصعيد، أو أهل الوديان أو أهل المدن الساحلية أو الصحراوية أو البدوية أو الحضرية وغيرها من المناطق الأخرى، من خصائصهم اللهجية المتميزة، وهي بصمات لا تتصل فقط في وجداننا بكيفية النطق والتعبير ولكن أيضاً بكيفية التصرف والتدبير، وهذه المفارقات هي المجال الأوسع لإبداع الأعمال الأدبية، والحكايات الاجتماعية، والنكات الفكاهية، وهذا لا يحدث في لغتنا فقط، وإنما في كل اللغات الأخرى، تجاه شرائح المتحدثين بها وخصائصهم اللهجية، سواء في إنجليزية شمال المملكة المتحدة وجنوبها، أو في فرنسية سكان بلجيكا أو سكان جنوب فرنسا أو غربها، مع تنوعات متعددة في الأقاليم، أو في إسبانية القارة الأوربية وأمريكا اللاتينية وهكذا في بقية اللغات. ولعله من أجل جمع شتات هذه الهويات الصغيرة المتقاربة والمختلفة في آن واحد، اهتدت اللغات منذ القدم إلى فكرة ” اللغة المكتوبة ” التي تشكل ” بؤرة ” تلتقي فيها أشعة ” الهويات ” اللغوية الصغيرة مكونة منها ” هوية ” لغوية كبيرة لجميع المنتمين إليها، تاركة في الوقت ذاته جانباً من حرية الحركة، والتطور يختلف من لغة إلى لغة، وهو يبدأ عادة في اللغة المنطوقة الحية، ويمتد أثره شيئاً فشيئاً إلى بؤرة التجمع الكبرى في اللغة المكتوبة، فتتطور بدورها إلى آماد مطلقة في بعض اللغات، وإلى آماد محدودة نسبياً في لغات أخرى كالعربية التي تملك أقدم هجائية كتابية في تاريخ اللغات الحية()، لارتباطها بنص ديني مقدس، يحفظها ويمنعها من التغير الكلي ويحميها من الزوال، ولكنها في نهاية المطاف، شهدت وتشهد تطوراً كبيراً على مختلف مستوياتها، لا ينكره إلا الذين لم يعطوا لأنفسهم فرصة التأهيل والنظر والتأمل، قبل إطلاق الأحكام غير الدقيقة. إن هذه اللغة المكتوبة، وما يتبعها من ثقافات وتقاليد، لا تساعد فقط على مزج الهويات الصغيرة في ” هوية ” واحدة، ولكنها قد تعمل أيضاً على توسيع حدود الهوية اللغوية، لكي تضم إليها أتباع لغات أخرى، تقلص دورها التاريخي أو ضعف، من خلال الدخول في حوار أو تنافس حضاري بين اللغات، ويشهد التاريخ العلمي أن اللغة العربية قد كسبت كثيراً من الجولات، في مجال الحوار أو التنافس مع اللغات الأخرى، سواء في جولات الانتشار والتوسع، أو في جولات وقف الانحسار وصد الهجوم. ولقد عرفت العربية موجات الانتشار والتوسع منذ عهد ما قبل الإسلام، حيث تدل كثير من الآثار المتناثرة على نمط من انتشار العربية بدرجة أو بأخرى خارج دائرة الجزيرة العربية، سواء في المناطق الواقعة على تخوم الإمبراطوريتين الكبيرتين للفرس والروم، أو في السواحل الشرقية لإفريقيا، حيث تشكلت إمارات عربية هناك منذ القرن الميلادي الأول في بعض الجزر الساحلية في زنجبار وما حولها، وسجل المؤرخون الإغريق أن ساحل شرق إفريقيا كان يزدحم بالسفن العربية القادمة من شمال إفريقيا، وكان يكثر الاختلاط والتزاوج بين العرب والأفارقة ()، ولذلك لم يكن من المستبعد مع بدء الدعوة الإسلامية أن يلجأ عرب مكة من المسلمين المضطهدين إلى أصدقائهم في بلاط النجاشي ملك الحبشة ( وهو مصطلح كان يطلق على معظم شرق إفريقيا ). والحوارات التي تدور بينهم وبين مطارديهم من قريش أمام النجاشي، وتنتهي بأن يحمي الملك وفادتهم، ويمنع تسليمهم ويتأثر بالقرآن الذي سمعه منهم – تدل في مجملها على عدم غرابة العربية في هذه البلاد، إن لم تكن تدل على شيوعها، وليس أقل منها دلالة في الزمن الأكثر قدماً، وفود الأعشى على بلاط كسرى إمبراطور فارس وتغنيه بقصائده هناك، ولا وفود امرئ القيس من قبله على بلاط قيصر إمبراطور الروم طالباً للنجدة والحماية. والذي لا شك فيه أن العربية قد عرفت لوناً من موجات الانتشار خارج الجزيرة العربية، مهدت للانتشار والاستقرار الواسع العظيم بعد الدعوة الإسلامية، حيث تغلبت على بقايا اللغات المنافسة، وقُدر لها أن تستقر إلى الأبد في جانب كبير من الأرض التي انتشرت فيها في البقعة الجغرافية المتصلة التي تسمى بالعالم العربي الآن، وأن تنحسر جزئياً أو كلياً عن جانب آخر منها. ولا شك أن ارتباط العربية بالدين الإسلامي ساعد كثيراً على سرعة وازدياد رقعة هذا الانتشار، لكن مبدأ معيناً من مبادئ هذا الدين، يندرج في إطار التسامح واتساع النظرة، أوجد رابطة قوية بين اللغة والهوية الثقافية، ويتمثل ذلك المبدأ في الأثر النبوي الشريف : ( ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمه، وإنما العربية لسان فمن تكلم العربية فهو عربي “. ولقد حول هذا المبدأ صفة ” العربية” من كونها صفة تنتمي إلى مجال العصبية والقبلية والنسب، إلى كونها صفة تنتمي إلى مجال الثقافة واللغة، وليس بالضرورة إلى مجال الدين، وفتح المجال أمام شعوب كثيرة لكي تدخل طواعية تحت مظلة هذه الهوية الجديدة، دون أن تكون مضطرة إلى تغيير عقائدها، مع الاحتفاظ بكل مزايا الانتماء إلى ” هوية ” نبيلة، والتمتع بحقوق المواطنة. وكان أبرزها في المجال الثقافي الذي نحن بصدد الحديث عنه، فتح الأبواب على مصاريعها أمام المشاركة في التغيير الثقافي الكبير الذي شهده العالم من خلال اللغة العربية، من خلال المنتمين ( الجدد ) إليها، سواء عبر الوظائف الكبرى للكتاب والوزراء أو الإنتاج الغزير للمترجمين والعلماء والمبدعين في شتى المجالات، بلسان عربي مبين، أصبح يشكل الهوية والموروث الثقافي والفكري، أياً كانت الأصول العرقية للمشاركين فيه. على أنه من الحق أن يقال : إن هذه الموجه الواسعة من تشكيل الهوية من خلال اللغة مثلث ظاهرة تاريخية فريدة، كادت العربية أن تتميز بها على كل اللغات، على الأقل في مجال اللغات القديمة، فهذا النمط من الوحدة اللغوية الكبيرة المستمرة لم تستطع أن تخلقه لغة عالمية كبرى كاللغة اليونانية، مع أن رقعة نفوذها السياسي، امتد فيما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد إلى مناطق واسعة عبر البحار. فانتشر الإغريق على شواطئ البحر الأسود والبسفور وبحر مرمرة والدردنيل، وجنوب إيطاليا وصقلية، وجنوب فرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا، وأنشأوا عدداً من الحواضر الثقافية كانت الإسكندرية في طليعتها، وتركوا بصماتهم الثقافية، حتى على من هزموهم عسكرياً، كما حدث مع الرومان الذين غزوا اليونان عسكرياً عام 146 ق.م. ولكن ثبت فيما بعد أن اليونان هم الذين غزوهم ثقافياً من خلال تأثيرهم البالغ في الثقافية اللاتينية، ومع ذلك فمل تنجح اللغة اليونانية في أن تستقر في المناطق التي بلغتها، وأن تشكل منها هوية ثقافية لغوية واحدة كما صنعت العربية فيما بعد. ومع ذلك فلم تنجح اللغة اليونانية في أن تستقر في المناطق التي بلغتها، وأن تشكل منها هوية ثقافية لغوية واحدة كما صنعت العربية فيما بعد. وكذلك الشأن مع اللغة اللاتينية، التي بلغت شأواً واسعاً في التطور، انتقل بها من كونها لغة محلية لروما القديمة، إلى كونها لغة نموذجية لمعظم مناطق الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك فقد بدأت تتراجع أمام عامياتها منذ القرن الثامن الميلادي، وتفتت إلى لغات من خلال تطور هذه العاميات، مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية، وتراجعت اللاتينية القديمة إلى ردهات الكنائس، وقاعات ترتيل الصلوات الدينية. على أنه من الحق أن يقال أيضاً : إن هذا النجاح الكبير للعربية في مرحلة الاتساع والانتشار، كانت تقف وراءه جهود مخلصة، وخطط علمية محكمة، إذا كانت كثير من تفاصيلها غائبة عنا، فإن نتائجها الباهرة تدل عليها، وينبغي أن تكون داعية لنا لبذل مزيد من الجهود في التعرف عليها والتأسي بها في المحافظة على الإرث العظيم الذي تركه لنا السلف، ونحن لا نكتفي فقط بالتفريط فيه، ولكن يحرص بعضننا على المشاركة في إضاعته وتبديده. إن خطوة هامة مثل “تعريب الدواوين”() في عصر عبدالملك بن مروان تكاد تمثل النقيض الإيجابي لخطة ” تغريب المعاملات الدولية والمحلية ” في عصرنا، ولنا أن نتصور مدى الجهد الذي يتطلب قيام آلاف الموظفين في أرجاء الإمبراطورية الواسعة وملايين المتعاملين معهم بتغيير لغة التعامل، من لغات قديمة ذات مصطلحات وظيفية راسخة، ونظم حسابية متداولة، إلى لغة كالعربية لم يكن لها تاريخ في الوظائف والدواوين قبل سنوات قليلة معدودة، ولنا أن نتصور أيضاً مدى الفائدة التي تعود على اللغة العربية من ذلك الانتشار الواسع، والتعود على الاستجابة للمطالب الديوانية وللحياة اليومية، بدءاً من تحرير رواتب الموظفين، وشكاوى المتظلمين إلى توقيع الوثائق والمعاهدات بين الدولة الإسلامية وأقاليم الأرض المتسعة، وكيف ستنشط جيوش من شباب المتعلمين من الأصول غير العربية لإتقان العربية، للحصول  من خلال ذلك على وظائف مرموقة في الدولة،  خاصة أن الأبواب كانت مفتوحة أمامهم دون حواجز عنصرية، وقد وصل بعضهم إلى منصب الوزارة ذاتها، مثل عبدالله بن المقفع، ورأس بعضهم جهاز الترجمة، مثل حنين بن إسحاق، بل كيف نشط آلاف المترجمين في البلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية الإسلامية، لكي يتعلموا العربية ويتعاملوا معها، باعتبارها ” اللغة الرسمية ” لدولة الخلافة الإسلامية. ولم يكن أمر التعريب سهلاً أمام منافسة لغات قوية عريقة مثل الفارسية والسريانية، خاصة أن بعضها كان قد ارتبط بممارسة الشعائر الدينية، ولا شك أن هناك كثيراً من وقائع الحوار أو المقاومة بين اللغات الآفلة واللغة الصاعدة، ويذكر ابن النديم في كتاب ” الفهرست ” واحدة من هذه الوقائع تتصل بوقائع ” تعريب الدواوين” في العراق في العصر الأموي، وكانت لغة التعامل به من قبل، هي الفارسية، فيقول : ” ثم نُقل الديوان، وكان باللغة الفارسية إلى العربية أيام الحجاج، والذي نقله صالح بن عبدالرحمن مولى بني تميم، وكان والده من سجستان يعمل في بلاط الحجاج، يخط بين يدي كاتبه ( واسمه زاد انفروج ) بالفارسية والعربية، فقال صالح له يوماً : والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته. فقال له : فحَوَّلْ منه أسطراً حتى أرى. ففعل، فلما مات زاد انفروج. ولَّى الحجاج صالحاً مكانه، وأمره بأن يواصل محاولة التعريب، وعلمت الفرس بذلك، فأغروه ببذل مائة ألف درهم له، على أن يظهر العجز عن نقل الديوان إلى العربية، فأبى، وقال له أحدهم : ” قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية “. ولا شك أن حوارات مماثلة خلال المواجهات الحضارية بين العربية واللغات الأخرى في أقاليم الخلافة الإسلامية الواسعة، ونقول : إنها مواجهات حضارية، لأنها كانت تتم من خلال التفاعل، وليس من خلال قوانين الإجبار، وكان التحول عندما يتم يأتي استجابة لواقع الحال، كما حدث مع اللغة القبطية في مصر، التي تراجعت بعد الفتح الإسلامي شيئاً فشيئاً عن أن تكون لغة التخاطب والثقافة، وحلت محلها العربية، حتى برزت الحاجة إلى ترجمة الإنجيل للغة العربية لتسهيل أداء المواعظ الدينية به، ثم انتهى الأمر بأن أصدر البطريرك القبطي غبريال بن تريك، في القرن الثاني عشر الميلادي ( 1131 – 1145 ) بعد نحو ستة قرون من دخول العربية إلى مصر، أصدر أول قرار يقضي باستخدام اللغة العربية في الخدمة الكنسية وتلاوة القداس، استجابة لحاجة المصلين الأقباط في الكنائس، الذين لم يعودوا قادرين على متابعة الشعائر الدينية باللغة القبطية. إن هذه التحولات اللغوية لم تعمل أبداً على محو الخصائص الثقافية أو الدينية أو الفكرية لمن انضوى تحت لوائها ممن كانوا ينتمون إلى لغات أخرى، وإنما خلقت هوية ثقافية كبرى من خلال اللغة العربية. وهي هوية تفاعلت داخلها، وزادت من تماسكها كل ألوان الحوارات والخلافات داخلها، فكتب بها علماء وأدباء ومفكرون من كل الأجناس والديانات، واتسعت لآرائهم جميعاً، ولم تعجز عن رصد حماس المؤيدين، وشك المترددين، وتجديف المنكرين، وإغراق الصوفية، ورموز الشعراء ومحاورات الفلاسفة، ومعادلات الرياضيين والكيمائيين والصيادلة والأطباء، وعقائد أتباع ومفكري الديانات، وكانت قادرة، من خلال هذه الروح الجماعية، أن تواصل مسيرتها فتستوعب وتتغذى وتتمثل، وتسقط الأوراق الذابلة لتخلفها أوراق أخرى أكثر ملاءمة وحيوية ونضارة، ولكنها تحافظ على صلابة الجذور وسلامة الهيكل، معتمدة على جهود حملة هذه الهوية الثقافية العريقة في حمايتها من الأعشاب الضارة، والحشرات الزاحفة أو الطائرة، والإهمال القاتل. وفي الوقت الذي يحرس فيه حملة هذه الهوية شجرتهم، فإنها تظلهم وتحميهم وتمنحهم من الشخصية الثقافية ما يعطيهم كياناً جديراً بالاحترام والثقة في عيون الآخرين، ويبعد عنهم شبح التسكع أو التطفل تحت أشجارهم، بوهم أننا سنصير منهم، عندما نفرط في لغتنا، ونحاول التحدث بلغتهم، أو نتنازل عن هويتنا، ونحاول تقليد هويتهم، وهُو وَهْمُ يدفعه كبار مفكري الغرب أنفسهم وفي مقدمتهم المفكر الشهير صموئيل هنتجتون صاحب نظرية صدام الحضارات، فقد نشر سنة 1996 دراسة له بعنوان ” الغرب متفردٌ وليس عالمياً  West unique not universal ”  يقول فيها : “إن شعوب العالم غير الغربية، لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمتعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين، والقيم والتقاليد والعادات، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والمسيحية الغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون، والتعددية في ظل المجتمع المدني والهياكل النيابية، والحرية الفردية”(). ليس أمامنا مفرُّ إذن من العودة إلى إدراك أهمية الربط بين اللغة والهوية، وإدراك أن المحافظة على إحداهما محافظة على الأخرى، وأن إنقاذ إحداهما إنقاذ للأخرى، ولابد أن ندرك أن الضعف والتراخي إذا كانا نتيجة طبيعة لظروف تاريخية وحضارية متراكمة، فإن التنشيط والتجديد واستعادة التوازن إنما يتم من خلال العزم والتخطيط، ورسم السياسات، وإصدار القرارات وتنفيذها، على مختلف المستويات العلمية والتعليمية والاقتصادية والإعلامية والإعلانية، وتنسيق الجهود المتناثرة، وليس من المحال، عندما يتم بذل الجهد المناسب، أن تعود حالة القوة والانتعاش لكل من اللغة والهوية، حتى وسط أجواء سيطرة ثقافة العولمة، ونزعة الحرب المعلنة ضد اللغات الأخرى، وفي مقدمتها اللغة العربية، رمز الهوية التي يراد ألا تقوم لها قائمة قد تهدد مصادر الثروة، أو تحد من حرية الحركة المطلقة أمام مطامع الصهيونية العالمية وحمايتها المتطرفين. تجربة الفرنكفونية وإنعاش اللغة: إن تجربة إنعاش الفرنسية وربطها بنمط من الكيانات الثقافية والمعنوية والاقتصادية والسياسية، لا تزال قيد التشكيل أمام أعيننا، ولهذا فإن من المفيد أن نتأمل في بعض جوانب التجربة، لنرى كيف يخطط الآخرون لإنقاذ لغتهم وهويتهم، وكيف يتقدمون خطوة خطوة وفقاً لتصور مدروس، وهدف واضح. ومن المعروف أن اللغة الفرنسية كانت مع الإنجليزية إحدى اللغتين الكبيرتين اللتين كادتا تقتسمان النفوذ في العالم، في فترة المد الاستعماري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأن الفرنسية خلال هذه الفترة سادت في كثير من الدول التي كانت تحتلها فرنسا في إفريقيا وآسيا وبعض مناطق القارة الأمريكية وجزر المحيط، لكنها سادت كذلك كلغة ثقافة وفنون، وكلغة للطبقات الراقية والمنتمين إلى البلاط في كثير من البلاد الأخرى التي لم تكن خاضعة للنفوذ الاستعماري الفرنسي المباشر، ومن بينها مصر التي كسبت فيها الثقافة الفرنسية جولات كثيرة للمنافسة قبل البعثات التي أرسلها محمد علي في نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر، حيث كانت حملة العلماء الفرنسيين المرافقة لنابليون، والتي يقودها مؤلفو كتاب “وصف مصر” الشهير ومكتشفو رموز لغة الفراعنة، قد مهدت للتأثير الثقافي الفرنسي في مصر على امتداد القرن التاسع عشر، وهو تأثير لم يتمكن الاستعمار الإنجليزي من إيقافه فامتد إلى مرحلة التأثير على خريطة القرن العشرين مع نفر من الساسة والأدباء المشهورين من أمثال مصطفى كامل، وهيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وتيمور، وشوقي، وحافظ، والمنفلوطي، وغيرهم من مشاهير العصر. لقد بدأ مد النفوذ السياسي والثقافي الفرنسي في التوقف والتراجع، بعد ظهور القوة الأمريكية بشكل واضح في النصف الثاني من القرن العشرين، مما جعل كفة اللغة الإنجليزية وتأثيرها الثقافي أكثر رجحاناً، ومع الانكماش الواضح للمستعمرات الفرنسية، وعودة الجنود الفرنسيين إلى بلادهم بدأ التخوف من تخلخل الرابطة اللغوية الفرنسية بين فرنسا الأم ومناطق نفوذ اللغة والثقافة الفرنسية، وازداد الأمر وضوحاً مع بداية ظهور ثقافة العولمة والرغبة في فرض الثقافة الأمريكية ولغتها على أرجاء العالم، وفي هذا المناخ تم إنعاش مصطلح فرنسي قديم، كانت قد عرفته الفرنسية في القرن التاسع عشر وهو مصطلح الفرنكفونية ”  la francophonie  وعاد إلى الظهور في فترة الستينات في القرن العشرين على يد مجموعة من المتكلمين بالفرنسية خارج فرنسا، من أمثال سنجور في السنغال، وسيهانوك في كمبوديا، وبورقيبة في تونس، ودعوا إلى تشكيل هوية لغوية ثقافية من المتحدثين بالفرنسية في أرجاء العالم، وأسفرت المناقشات عن عقد أول مؤتمر للفرنكفونية سنة 1969 في نيامي الإفريقية، برئاسة وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التخطيط الدقيق لتحديد أبعاد المشكلة اللغوية الفرنسية وأماكن المتحدثين بها، ومواطن استخدامها الكلي أو الجزئي، المفرد أو المشترك، وأسفرت الإحصاءات عن أن الفرنسية يتم استخدامها في إحدى وخمسين دولة وتسعة وثلاثين إقليماً في أرجاء العالم، وهي بذلك تأتي تالية للإنجليزية التي يتم استخدامها في تسع وخمسين دولة وخمسين إقليماً، ومواطن الفرنسية موزعة على كل القارات في بلجيكا وبنين وسويسرا وبوركينافاسو وشمال إفريقيا وجزر القمر والكنغو وجيبوتي ولوكسمبورج والنيجر ومصر والجابون وساحل العاج.. الخ، وصنفت الاستخدامات بين بلاد تستخدم فيها الفرنسية باعتبارها لغة الأم مثل فرنسا وكندا وبلجيكا وسويسرا، والمتحدثون بالفرنسية من هذه الفئة حوالي ثمانين مليوناً، يمثلون 82% من السكان في فرنسا و 23%  في كندا و 41 % في بلجيكا و 18% في سويسرا و 58 % في موناكو، وإذا أضيف إليهم من ينتمون إلى هذه الفئة في المستعمرات القديمة، في إفريقيا وآسيا وجزر المحيط، يصل العدد إلى نحو مائة وعشرة ملايين ولنلاحظ أن الذين يتحدثون العربية كلغة أم يقتربون من ثلاثة أضعاف هذا العدد. ثم تقف الإحصاءات الدقيقة أمام الذين يتلقون تعليمهم بالفرنسية، جزئياً أو كلياً في أرجاء العالم، فتصل بهم إلى نحو مائة وخمسين مليوناً، ثم تتبع الذين يستخدمون الفرنسية في الحياة التجارية أو الفنية أو القضائية أو العسكرية أو غيرها من مجالات الحياة، فتصل بهم إلى نحو 500 مليون متكلم للفرنسية بدرجة أو بأخرى (). ولا تقف الجهود التخطيطية عند مجرد الإحصاءات، وإنما تتتبع كل فئة من حيث درجة الزيادة أو النقصان، فترصد زيادة إقبال الطلاب على دراسة الفرنسية كلغة أجنبية في كل من فنلندا وإيرلندا والنرويج والسويد والنمسا وبلغاريا ومصر وتركيا وإسرائيل والإمارات وبيرو وأمريكا وكندا، وتصل الزيادة ذروتها في إفريقيا الفرنسية، والمغرب رغم جهود التعريب بها، وعلى هذا النحو يتم رصد الحالة الواقعية للظاهرة من خلال الدقة الإحصائية، ليتم وضع الحلول، على أساس التشخيص العلمي. ولا أدري إن كانت لدينا نحن إحصاءات دقيقة مماثلة بالنسبة للغة العربية، وإذا كنا نعلم كم عدد الذين يتحدثونها كلغة أم أو لغة دينية، أو الذين يدرسونها أو يدرسون بها في مختلف أرجاء العالم، وكم عدد المتعاملين معها على مستويات مختلفة وأماكن مختلفة. وعندما انتهى حماة الفرانكفوية من تجسيد الظاهرة أمامهم بدأوا يشرعون في إتخاذ الوسائل والخطط اللازمة لمعالجتها، والاهتمام بها على أعلى المستويات، فدعا رئيس جمهورية فرنسا ميتران إلى عقد أول مؤتمر لرؤساء الدول الفرانكفونية في باريس سنة 1986، وتتابعت بعده مؤتمرات القمة الفرانكفونية لتعقد في كندا والسنغال وبنين وفيتنام ولبنان وبوركينافاسو، وتشكلت من خلال هذه المؤتمرات مؤسسات فعالة في مختلف المجالات لحماية اللغة الفرنسية، والعمل على انتشارها ودفع المخاطر عنها. مثل : المركز الفرانكفوني لتوطين  استخدام الفرنسية في البحوث العلمية. المؤسسة الفرانكفونية الإعلامية المرئية T.V.5. هيئة مؤتمر وزراء الرياضة والشباب للدول الفرانكفونية. هيئة مؤتمر وزراء التعليم العالي، والبحث العلمي. الجمعية الدولية للبرلمانيين المتحدثين بالفرنسية. الاتحاد الدولي للصحافة الناطقة بالفرنسية. اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية والعمل على توسيع انتشارها. الاتحاد الدولي للمدرسين الناطقين بالفرنسية. المجلس الأعلى للفرانكفونية، وهو مؤسسة تعمل على رصد نقاط التلاقي بين المجتمعات الناطقة بالفرنسية، وهي ذات صوت بارز في الحوار العالمي. وكان يتولى رئاستها منذ سنة 1997 سكرتير عام الأمم المتحدة الأسبق الدكتور بطرس غالي.إن مثل هذه المؤسسات التي تنتشر فروعها في أكثر من خمسين دولة تحرص على سياسة مركزية واحدة، قائمة على التخطيط وعدم إهدار الجهود الفردية أو تكرارها، وتكتسب قراراتها سلطة التنفيذ، كما حدث مع القرار الذي تبنته الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1994، والذي ينص على عدم السماح بعقد المؤتمرات العلمية المتحدثة بالإنجليزية على الأرض الفرنسية، كما وضع البرلمان قائمة بالكلمات السوداء التي يحظر استخدامها في لغة الإعلام والإعلان. ويثور التساؤل من جديد : إلى أي مدى نمتلك نحن جانباً من المؤسسات التي تعمل على خدمة اللغة، وتكتسب قراراتها قوة التنفيذ، مقارنة بما يحدث في التجربة الفرانكفونية ؟ وهل يمكن أن يحل عندنا التخطيط  والتنسيق العلمي، في مواجهة المشكلة، محل اللامبالاة، او جهود النوايا الطيبة غير المنسقة في أحسن الأحوال؟ وهل يمكن أن نعمل على إنقاذ هويتنا من خلال لغتنا كما يحاول أصحاب الفرنكفونية ؟ إن انعدام الدراسات التشخيصية العلمية الدقيقة عن حالة اللغة العربية ودارسيها في الداخل والخارج – بشكل الخطوة الأولى في تشكيل تصور غامض ومشوش حول هذه القضية الخطيرة في حياتنا، والمتصلة اتصالاً مباشراً بهويتناً وموقعنا على خريطة العالم المعاصر، ومستقبلنا الذي نتحرك في اتجاه مخاطرة دون وعي كاف بجبال الثلج الضخمة التي تترصد مجرى السفينة المندفعة، وتتداخل ألوانها مع ألوان المياه التي تجري فوقها السفينة، والدراسات القليلة التي تحاول أن ترصد واقع الحال، كثيراً ما تقع في المجاملة ومحاولة (ستر العيوب) وعدم كشف المستور، خاصة إذا كانت تتم تحت إشراف جهات رسمية يهمها أن يبدو الأمر في قطاعاتها وكأن كل شيء (على ما يرام) وحتى عندما تصدر الدراسات وبها بعض الإشارات إلى المخاطر المحتملة وبعض التوصيات المفيدة، فإن الهوة الواسعة بين التوصيات وبين مجرد التفكير في قراءتها من المسئولين التنفيذيين – تبدو هوة شديدة الاتساع، وحتى عندما تصل بعض أصدائها إلى آذان المسئولين، فإن القاعدة الذهبية في التعامل معها هي قاعدة (أذن من طين، وأذن من عجين)، وربما كانت قرارات مجامع اللغة العربية، وتوصيات المجالس القومية المتخصصة هي خير شاهد على ذلك.وفي غياب سياسة قومية لغوية، استشرت فوضى (التغريب) على كل المستويات بدءاً من تصريحات وخطب المسئولين في المحافل الإقليمية والدولية، والتي تجيء في كثير من الأحيان بلغات أجنبية على عكس الأعراف الدبلوماسية السائدة، والتي يحرص من خلالها كل مسئول عن الحديث بلغة قومه، فلا نجد دبلوماسياً إسرائيلياً يصرح بغير العبرية، ولا إيرانيا يتحدث بغير الفارسية، وتجيئ خطب الصينيين والروس بلغاتهم الأصلية، ومع أن العربية واحدة من لغات العالم الأساسية المعترف بها في المحافل الدولية، فإن المسئولين العرب هم أكثر الناس تطوعاً بالتخلي عن حقهم وحق لغتهم عليهم في هذا المجال.وتبلغ الفوضى مداها في عالم التجارة والاقتصاد والسياحة، وعالم الأزياء والمأكولات والمشروبات، ويكفي أن ينظر الإنسان إلى أسماء محلات بيع المأكولات والمشروبات والملابس، ليبدو له وكأن العربية عاجزة عن أن تجد اسما لهذا النوع من النشاط، مع أن اللغات الأوروبية استعارت منها ي الأصل اسم المكان الذي يمارس فيه هذا النشاط فكلمة magazine في الفرنسية مأخوذة من كلمة (مخزن) العربية، وهي شديدة الشيوع في الفرنسية المعاصرة، أما نحن فقد فضلنا كلمات أخرى مثل (سوبر ماركت) و(مول) و(كوفي شوب) و (شوبنج سنتر) وغيرها من المصطلحات الوافدة، إضافة إلى آلاف الأسماء الأجنبية، التي تستخدم دون وعي، ودون حاجة.وتجتاح هذه الظاهرة المدن العربية، حتى لتحس في كثير منها – إلا ما عصم الله – أنك تسير في مدن الرطانات والمحاكاة الساذجة، التي تختلط فيها الكلمات الأجنبية بالحروف العربية، وكأننا بمحاكة الكلمات تحاكي التقدم في ذاته، وإذا نظرنا إلى المجهودات الإيجابية المشكورة، فإننا نجدها تفتقد كثيراً من أوجه التنسيق والتنظيم بين المؤسسات والهيئات التي تقوم بها، في شرق العالم العربي أو غربه أو شماله أو جنوبه، سواء تمثلت في المجامع اللغوية أو في مكاتب تعليم اللغة للأجانب، أو جمع التراث العربي وتحقيقه، أو الدخول بذلك التراث إلى عالم شبكات المعلومات والأقراص المضغوطة، أو محاولات تيسير اللغة للتعامل مع عالم الحاسوب، وكلها مجهودات طيبة في ذاتها، لكن ينقصها هذا النمط من التنسيق الذي رأيناه في سياسة الفرانكفونية لحماية اللغة الفرنسية، ونستطيع بقدر ميسور من هذا التنسيق أن نضاعف من نتائجه الإيجابية، ونعمل على صد كثير من المخاطر عن اللغة العربية والهوية القومية. وإذا أضفنا إلى ذلك، الجمود الشائع في طرق تعليم العربية لأبنائها()، وعد تطوير وسائل ترغيبهم فيها، أسوة بما تفعله اللغات الأخرى، أدركنا أن الدائرة تكاد تكوم مغلقة إذا لم نطور في أنفسنا الوعي بالمخاطر واتخاذ الحلول العملية لمواجهتها.تجربة العبرية وإحياء اللغة للهوية: وإذا كانت تجربة إنعاش الفرانكفونية، قد وضعت أمام أعيننا، تصوراً لإمكانية التخطيط العلمي وتشكيل الآليات التنفيذية لإنعاش لغة عريقة والمحافظة على مظلة ثقافية لغوية للمنتمين إليها، والأمل المستقبلي في أن يؤدي التخطيط المحكم والتنفيذ والمتابعة إلى تحقيق الأهداف المتوخاة، فإن الوقوف أمام تجربة إحياء اللغة العبرية في العصر الحديث يضعنا أمام أمل صعب تم إنجازه، وجهد بشري خارق يستحق كل التقدير والإعجاب، ويحق للذين ينتمون إلى هذه اللغة أن يصفوه بالمعجزة(). فلقد ظلت العبرية لغة شبه دينية على امتداد قرون طويلة، لا تستخدم إلا في أضيق نطاق حتى إن اليهودي الكبير موسى بن ميمون وضع جميع مؤلفاته باللغة العربية، فيما عدا مؤلفاً واحداً كبيراً وضعه بالعبرية، عن أصول الشريعة اليهودية وقواعدها. لكنه منذ أواسط القرن التاسع عشر، برزت مجموعة من الشباب اليهود الأوربيين شكلت حركة لإحياء اللغة العبرية، كان من أبرز قادتها اليعازر بن يهودا، الذي أطلق شعاراً، ربما نكون في حاجة إلى التذكير به واعتناقه الآن، وهو شعار: ” لا حياة لأمة بدون لغة “، ودعا إلى إحياء اللغة العبرية لدى الأجيال الجديدة، من خلال جعلها لغة التخاطب في الحياة اليومية ()، ولكنه أمر بدا صعباً إن لم يكن مستحيلاً.    حتى بالنسبة لغلاة المتشددين من اليهود، إذ كيف يمكن أحياء لغة ميتة قديمة لا يجيدها إلى قلة من المتخصصين، ولا تستخدم إلا في الشئون الدينية، وتفتقر إلى معظم مفردات الحياة المعاصرة، ولا يصبر على الكلام بها رجال الدين اليهودي أنفسهم، فكيف تصير لغة الأطفال والفتيان والفتيات والرجال والنساء، وتستخدم في الصحافة وتدريس فروع المعرفة وإجراء البحوث العلمية، وكيف يمكن تحقيق هذا الحلم الخيالي، بخاصة أن اليهود وقتها كانوا موزعين على نحو أكثر من مائة دولة على خريطة العالم، ويتكلمون نحو ثمانين لغة حية، ليس فيها العبرية إلا في الصلوات والشعائر الدينية لمن يتابعها منهم. ومع ذلك كان أليعازر بن يهودا متمسكاً بفكرته رغم سخرية أصدقائه منه، وبدأ في اتخاذ الخطوات العملية لها، فقرر الهجرة إلى فلسطين، مع زوجته وأسرته سنة 1881م، وانشأ أول بيت يهودي، تفرض فيه اللغة العبرية لغة للتخاطب والحديث في كل الشئون لكل أفراد الأسرة، وساعده على ذلك أفراد أسرته، رغم سخرية كل الناس منه، ولكنه ظل متمسكاً برأيه، عاملاً على إنجاحه أربعين سنة متصلة. أسس رابطة للمتكلمين بالعبرية في فلسطين، وصارت داره منتدى يلتقي فيها الشباب اليهودي، ويتحمسون للفكرة يوماً بعد يوم، ويمارسونها باستخدام اللغة في لقاءاتهم، وأصدر مجموعة من الصحف باللغة العبرية في القدس، وجعل بعضها مخصصًا للأطفال، وحرص على أن يسمى أبطال القصص بأسماء عبرية، وعكف على إنجاز مشروع كبير لقاموس اللغة العبرية القديمة والجديدة، فانكب ينقب عن كنوز اللغة في كتب الأقدمين في العهد القديم والتلمود، والأدب العبري في الأندلس، واللغات السامية، التي انتقى منها مواد طوعها للاستعمال الحي، وكان يلجأ إلى ابتكار المصطلحات الجديدة عندما لا تساعده كتب التراث، وقد استطاع في حياته أن ينجز تسعة مجلدات كبيرة من هذا المعجم وأكمله تلاميذه من بعده إلى ستة عشر مجلداً. وأثمرت دعوته، فاستيقظ اليهود لإنشاء مدارس حديثه تدرس كل موادها بالعبرية، وتهتم بمراحل اللغة في العهد القديم والمراحل التالية له وتاريخ بني إسرائيل والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات وكلها بالعبرية، وقد كان حرصهم في كتب الجغرافيا، على ألا يذكر اسم أي مكان إلا باللغة العبرية، ويقول أحد الباحثين الإسرائيليين “تسيبورا شاروني” في كتاب التوجه القومي في برامج التدريس باللغة العبرية: “من منا يذكر كتابًا واحدًا في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية؟ الأسماء العربية لا وجود لها”، وهي نزعة لا تزال تشكل ركناً رئيسيًا من السياسة الإسرائيلية في تسمية الأماكن الفلسطينية بأسماء عبرية، والحرص على استخدام هذه الأسماء في كل مواقع الإعلام حتى تثبت في الأذهان ويتعود عليها الآخرون، حتى في المناطق التي لا يوجد فيها إلا العرب الذين يطلقون عليهم في أفضل الأحوال ” عرب إسرائيل “، ومن هنا فإن القدس هي أورشليم، والضفة الغربية هي السامرا، وغزة يهودا، والخليل حبرون، ونابلس شكيم وبئر سبع هي بئر شيفع.. وهكذا. وانطلاقًا من دعوة أليعازر بن يهودا، بدأت الجماعات اليهودية، تصدر صحفاً بالعبرية في أوربا مثل صحيفة ” هاتسفير” و “هاميلتش” إلى جانب صحف، تصدر بلغة ” الإيديش” وهي اللغة التي يتداولها اليهود في أوربا الشرقية. إن المحاولة العبرية الناجحة جسدت أبرز محاولة لتماسك الهوية من خلال لغة يتم إحياؤها من العدم، وتوجيهها نحو هدف معين، ولقد كان من الصعب إيجاد هوية متماسكة للمتفرقين في مائة دولة والمتحدثين بثمانين لغة، وكانت فكرة أليعازر مركزة في شعاره : ” لا حياة لأمة بدون لغة “، وقد وضع فكرته التي بدت خيالية في حينها موضع العزم والإصرار والتطبيق، فأصبحت العبرية الآن شديدة الحيوية، تدرس بها كل العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والصيدلة والطب والهندسة والإحصاء فضلاً عن العلوم الإنسانية بكل فروعها، وتعقد بها كل المؤتمرات العربية.لا يتمحكون في الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية أو الإسبانية، مع أن كثيراً منهم يجيدون هذه اللغات، ويصلون في هذه العلوم إلى مدى متقدم، يجعل جامعاتهم في صدارة الجامعات المتقدمة في العالم، ويتركوننا نحن بإنجليزية عرجاء، بشهادة خبراء العالم، ندرس المعرفة المتقدمة فلا ندرك منها إلا القشور، ونعود إلى المعرفة الإنسانية، فلا نكلف أنفسنا بمجرد إجادة لغتنا، لكننا نقترح أن نعمل فيها معاول الهدم والتغيير، دون أي معرفة كافية ولا تقدير للعواقب الوخيمة على اللغة والهوية.العربية واضطراب العلاقات بين اللغة والهوية:يود البحث بعد استعراض العلاقة بين اللغة والهوية في الحالتين الفرنسية والعبرية وتأثيرها إنعاشا في الحالة الأولى، وإحياء في الحالة الثانية أن يقف أمام نمط هذه العلاقة في الحالة العربية المعاصرة والتأثيرات السلبية التي تركتها على واقع الحياة التعليمية وما يتفرع عنها وعن نتائجها في مختلف مجالات الحياة. من خلال مناقشة نظرية ” توطين المعرفة ” وعلاقتها الضرورية بتداول المعرفة عبر ” لغة الأم ” وما أدى إليه فقدان هذه الخاصية لدينا على مستويات رأسية وأفقية متعددة من تدهور في استيعاب التاريخ القومي للمعرفة ومن اكتفائنا بمساهمات متواضعة في نادي المعرفة الدولية في معظم الأحيان راضين بموقع المستهلك أو المشاهد دون أن نتطلع إلى موقع المحاور أو المنتج. ومن خلال التعرض لبعض التجارب العربية والنتائج الحية في هذا المجال والوقوف أمام بعض أوجه القصور التي تجعل العربية المعاصرة مكبلة بالقيود عاجزة عن التغلغل إلى نفوس الراغبين من أبنائها في تشربها ومزجها بهويتهم.اللغة القومية وتوطين العلم:تمثل قضية العلاقة الكائنة بين اللغة العربية وواقع تلقي المعرفة لدى أبنائها واحدا من أبرز مظاهر الاضطراب في العلاقة بين اللغة العربية والهوية، وذلك لأن اللغة تحتل بعداً شديد الأهمية في التكوين العلمي الفردي والجماعي للأمة، ولا يقف دور اللغة في تلقي العلم أو توصيله، عند مجرد دور الأداة الناقلة أو القناة الموصلة، تعبر خلالها (المعلومة) إرسالا أو استقبالا، وإنما يمتد دور اللغة، ليشكل ضفيرة قوية مع المعرفة ومع الهوية، تتبادل فيما بينها وسائل التغذية والتنمية، فتقوى اللغة بقوة العلم المتشكل من خلالها، والذي يبحث لنفسه خلال تشكله وتمدده وتفرعه عن أوعية لغوية ملائمة، وخلال هذا البحث تجدد خلايا اللغة التي يتعامل معها، فتعرف إحياء الخلايا الضامرة، وتنشيط الخلايا الحية، وتوليد خلايا أخرى مناسبة، وتزداد صلتها قوة بالحياة وبالأحياء. وفي الوقت ذاته يقوى العلم خلال انتشاره وتمكنه في النفوس عندما يتحرك في هذه النفوس باللغة التي تألفها، وتتصل بها اتصال الوجود وتتكون فيها مع تكون الحواس، فيصادف العلم خلال مسيرته في هذه النفوس مرايا من شانها أن تكون أكثر صفاء وجلاء، وأن تنعكس عليها أشعته بطريقة أكثر تألقا، وأن تتسرب هذه الأشعة إلى مناطق أكثر عمقاً وأبعد غوراً، وأن تستقر بها وتتفاعل فتولد دورة للامتزاج بين اللغة القومية والعلم الذي يصاغ بها تتوالد عنها دورات لا نهاية لها في نفوس الأفراد والجماعات، ويتشكل من خلال هذا كله ما يعرف بتوطين العلم. إن “توطين العلم” هو وحده الذي يستطيع أن يتيح أمام الفرد وأمام الأمة فرصة المشاركة الفعالة في العملية العلمية “إنتاجاً واستهلاكاً”، وهي مرحلة ضرورية لكل الأمم، التي تود أن تشارك في صنع الحضارة الإنسانية أو تنتسب إليها انتساباً فاعلا، وتلك مرحلة تختلف عن مراحل أخرى في العملية، كالتي يعيشها العالم العربي الآن، ويمكن أن يكون هدفها في أحسن الأحوال “استهلاك” العلم أو تعلم مبادئه، لكنها لا يمكن ابداً أن ترقى إلى مرحلة الإنتاج أو المشاركة الفاعلة، في غياب الصلة القوية بين اللغة القومية والعلم، أي في غياب الأساس الأول لتوطين المعرفة. وقد استوعب كل الحضارات هذا الدرس الأولى، ففكرت وأنتجت بلغاتها دون أن تغلق الباب أبدا أمام الاستفادة والاستيعاب والهضم، بل والاقتراض من الثقافات الأخرى، ولم يكن متصورا أن يصوغ الفراعنة تقدمهم المعرفي في الطب والتحنيط وهندسة البناء والحكمة وغيرها من فروع المعرفة، بلغة اليونان، ولا أن يصوغ اليونان انجازاتهم في الفلسفة والمسرح وعلوم السياسة والاجتماع بغير لسانهم القومي، ولا أن يستوعب الرومان حضارة اليونان التي تأثروا بها، وحاولوا الإفادة منها والإضافة إليها بغير لغتهم اللاتينية، وكذلك كان الشأن بالنسبة لحضارات الشرق التي نقلت ميراث الحكمة الإنسانية بلغاتها المتألقة على صفحة الحضارة الإنسانية والتي تسجل إسهامات كل أمة في رصيد العلم من خلال لغتها. وقد استوعبت الحضارة العربية الإسلامية هذا الدرس الخالد، عندما آلت إليها تركة الثقافة الإنسانية المتراكمة عبر العصور، فأزاحت أولا من طريقها معوقات الاستقبال والتحصيل، من خلال فتح النوافذ الواسعة، وإلغاء الحواجز، حتى ما كان يظن انه ضروري لحماية العقيدة، ثم من خلال خلق الوسائل وتشجيع تفعيلها، فكانت حركة الترجمة العظيمة التي عرفتها هذه الحضارة في العصر العباسي وما بعده، وكانت حركة النهم التي قادتها الخلافة الإسلامية والعلماء المسلمون، ممثلة في الحصول على تراث الأوائل بكل ثمن. يقول العالم الكبير أبو الريحان البيروني (ت1048) “وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم، فازدانت وحلت في الأفئدة”. وعبارة البيروني ذات مغزى عميق، فصب العلم في اللغة الأم يحقق هدفين رئيسيين أولهما أن تزدان اللغة وتتألق وتصبح حيوية جذابة، وثانيهما أن يحل العلم المنقول بها في الأفئدة، فيستقر في النفوس والعقول تعمقا وأخذا وعطاء، ولا يظل قشوراً ورطانات على النحو الذي يكون عليه العلم في الأمم غير المتقدمة. (1)لقد كانت الدقة العلمية البالغة للعلماء عاملا هاماً في إثراء لغتهم العربية، التي صبوا فيها معارفهم، وتحولت هي بدورها إلى وسيلة معرفية ليس لأبنائها فقط، ولكن لأبناء الإنسانية كلها، تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه، وهي تعلق على نص كتبه بالعربية الطبيب المصري على بن رضوان في القرن الحادي عشر، منذ نحو ألف عام : “يخيل إلينا ونحن نسمع ما قاله ابن رضوان، أننا أمام أستاذ في الطب في عصرنا الحاضر”. إن تعليق المستشرقة على تاريخ العلوم عند العرب يثير في النفس آلاما مريرة، عندما نتساءل عن حجم الدارسين العرب في هذه التخصصات العلمية، الذين يملكون اهتمامات عميقة بالتراث العربي العلمي. ولا ينبغي أن يتسرب إلى الأذهان أن الدعوة إلى دراسة الكتب على يد العلماء وتحقيقها وتحليل محتوياتها، يعني بالضرورة الدعوة إلى تجميد تحصيلهم العلمي في فروع تخصصاتهم عند محتوياتها، بل إن دراستها ينبغي أن تكون مقترنة باليقين بأنها جزء من تاريخ العلم، وهو على أهميته جزء قد تم تجاوزه، ولكنه مع ذلك جزء ينبغي الاهتمام به لسببين رئيسيين : الأول : غرس الثقة بالعقلية العلمية الحضارية التي ننتمي إليها، وتأكيد القناعة بأن هذه الشريحة التي استطاعت جذورها أن تتفاعل مع فلسفة العلم ودقائقه، وتستجيب لحاجات الإنسانية فيه، يمكن لفروعها أيضا أن تواصل العطاء، إذا أعادت تكوين نفسها، واستطاعت أن تصحح مواقع خطواتها ؟، وهذه الثقة في مجال العطاء العلمي شديدة الأهمية. الثاني : هو المساعدة في اختيار كثير من المصطلحات التي أثبتت دراسات المدققين في تاريخ العلوم وحاضرها، أن التراث اللغوي فيها شديد الفائدة، وأن محاولة البحث الدائم عن اصطيادها من خارج المياه الإقليمية غالباً ما يحمل معه من المحارات والطحالب والأعشاب الضارة، أضعاف ما يحمل من بعض اللآلئ المتفرقة. ولعل هذه القضية تكون من أكثر القضايا التي أسيء استخدامها لتعويق عملية تعريب العلم، زعماً بأن العلم الحديث مصطلحات معظمها باللغات الأوروبية، وأن ذلك يقتضي دراسته وتدريسه بهذه اللغات، ويحول دون تعريبه، فقد أثبتت دراسات وإحصاءات كثير من العلماء المتخصصين في فروع تعريب العلوم، عدم دقة هذا الزعم، مثل ذلك البحث الذي أجراه الدكتور مصطفى بن يخلف، وانتهى فيه إلى أن نسبه الكلمات المصطلحية في المادة العلمية لا تجاوز 25% منها، في حين تحتل الكلمات العامة 75% من لغة تلك المادة، وفي هذا الإطار يرى الدكتور حسني سبح الرئيس السابق لمجمع دمشق أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على اللغة الوسيطة بنفس الأهمية التي يعيرها للمصطلحات، وأن مقاومة الكثيرين للتعريب ما هي إلا لتدنى القدرة على استعمال لغة وسيطة رصينة، مع أن اللوم ينصب في معظم الأحيان على المصطلحات والرموز.. إن قضية المصطلح ليست بصميم المشكلة، وإنما صميم المشكلة هو الاقتدار على وعي المعاني العلمية، وتصورها ثم الإبانة عنها.(1)تبقى الصورة في مجملها بعيدة عن تحقيق هدف توطين المعرفة او الربط بينها وبين اللغة القومية، وتبقى الصورة المضطربة المشوشة واحدة من أهم عوامل إضعاف العلم واللغة معاً في وطننا العربي (2). يحدث هذا رغم أن القرن العشرين شهد، على مستوى العالم، كثيرا من مظاهر التقدم في الربط بين اللغات القومية وتوطين العلم، لدى شعوب كنا قد سبقناها في خوض التجربة بقرون طويلة، ومع ذلك فقد استطاعت أن تعقد بين العلم ولغتها مواءمة رائعة، ومنها اللغة العبرية التي كانت في عداد الموتى عندما بدأ محمد على تجربته في تدريس الطب بالعربية سنة 1827، قبل أكثر من خمسين عاماً من صيحة اليعازر بن يهوداً ” لا حياة لأمة بدون لغة”. وقد أصبحت اليوم كل فروع المعرفة العلمية الدقيقة تدرس من الألف إلى الياء باللغة العبرية التي تم إحياؤها من العدم، ومنها الشعوب التي لا تنتشر لغاتها إلا على مناطق محدودة من الأرض والناس، كما هو الشأن في اللغة الكورية، التي لا وجود لها خارج شبه الجزيرة الكورية بملايينها السبعين، ومع ذلك فقد تم تطويعها لكل فروع المعرفة الدقيقة وتقنياتها، وحتى القوميات الصغيرة الناهضة في شرق أوربا أو في أرجاء آسيا، أصبحت لها لغاتها التي تطوعها للعلم، وتطوع العلم لها، حتى وإن بدا البون شاسعا والعقبات كثيرة كما حدث مع اللغة الصينية بأبجديتها المعقدة العملاقة والتي تم في النهاية تذليلها لشاشة الحاسب الآلي المحمول، في الوقت الذي لا نستثمر فيه الإمكانيات الهائلة الكامنة في اللغة العربية لتعاملها مع ثورة الاتصال اللغوي في عصر المعلومات كما يقول الخبراء(). لقد أصبح من الممكن القول بأنه لا توجد أمة متحضرة في العالم تدرس العلوم بغير لغتها ولا توائم بالقدر الكافي بين لغتها ولغة عصر ثورة المعلومات فيما عدا الأمة العربية.
د. أحمد درويش: :إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية. دار نهضة مصر- القاهرة- ط2- 2007م.    :إنقاذ اللغة من أيدي النحاة. دار الفكر – دمشق- 1999م.   د. أحمد فؤاد باشا: :أساسيات العلوم المعاصرة في التراث الاسلامي. دار الهداية 1997.   د. جابر عصفور (إشراف وتقديم) :التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية”. المجلس الأعلى للثقافة، مصر- 1997م.   الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): :البيان والتبين، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي 1985، الجزء الأول.   د. سليمان المالكي: :العرب وتأثيرهم في شرق أفريقيا، بحث في كتاب “العرب وأفريقيا”، دار الثقافة العربية، القاهرة ، 1987.   د. ضياء الدين الريس: :عبد الملك بن مروان. سلسلة أعلام العرب، القاهرة، 1962م.   عباس محمود العقاد: الثقافة العربية أقدم من الثقافتين العبرية واليونانية. الأعمال الكاملة- بيروت- 1974م.   د. محمود المناوي: :في التعريب والتغريب. مركز الأهرام للترجمة والنشر 2005.   د. نبيل على: :الثقافة العربية وعصر المعلومات. عالم المعرفة- الكويت- 2001م.   يهو شواع بلاو: :إحياء اللغة العبرية وإحياء العربية الفصحى. مجلة لقاء- 1985م.  أهم المراجع: A short History of the Herbew Language. New York 1998. Hoffman. Loeul: