القمر المكتمل) نموذج للرواية الاسبانية المعاصرة …. د. ميلاغروس نوين )

(( القمر المكتمل ))

نموذج للرواية الاسبانية المعاصرة

بقلم : د. ميلاغروس نوين (*)

انتهى قبل أيام قليلة معرض الكتاب الاسبانى الذى يجرى عقده سنويا فى شهر مايو بحدائق الرتيرو بالعاصمة مدريد ويعتبر المعرض حدثا ثقافيا مهما ليس فقط من حيث عدد الكتب المعروضة أو التى تباع خلاله بل بسبب العدد الضخم من الزوار الذين يستغلون فرصة اقامته فى الهواء الطلق للاطلاع على المطبوعات المتعددة .

الكاتب (انطونيو مونيوث مولينا) اعتاد حضور المعرض للتوقيع على نسخ من كتبه المباعة لجمهور القراء لكنه خلال هذا المعرض لم تكن كتبه من بين الكتب الاكثر مبيعا ومع ذلك حصل على جائزة مكتبة كرسول التى قامت باجراء  استفتاء بين جماهير القراء فى برشلونة وفالنسيا ومدريد وكانت نتيجة الاستفتاء أن حصل الكاتب على جائزة أفضل عمل خلال هذا العام انطونيو مونيوث مولينا المولود1956 بقرية أوبيدا أو عبيدة بمقاطعة خايين الاندليسية يعتبر واحدا من افضل الروائين الاسبان فى الوقت الحاضر نشر روايته الاولى بعنوان (ايلى الطوباوى)عام1986 وفى العام التالى خرجت روايته الثانية (شتاء فى لشبونة) والتى حصل بسببها على الجائزة الوطنية للادب عام1991 عن روايته(الفارس البولندى ) وروايته الاخيرة(القمر المكتمل ) التى صدرت قبل أيام طبعتها الثامنة وهو بأكاديمية اللغة الاسبانية انه كاتب يهتم فى أعماله بتناول موضوعات متعددة ويبدأ عادة موضوعاته من خلال تجاربه الشخصية اى يضع فى المقام الاول الاحداث التى تمربها اسبانيا المعاصرة منذ الستينيات حتى الان رواية (القمر المكتمل) تعتبر من اعماله الناضجة وتدور احداثها فى اسبانيا اليوم وتعتبر نوعا من القاء نظرة على الاحداث التى يعيشها مجتمعنا تنقسم الرواية الى ثلاثة وثلاثين فصلا مختلفة الطول وتجرى أحداثها كما تجرى احداث الذاكرة الانسانية بالحدث الحاضر والعودة الى الماضى تحاول من ناحية ان تستعيد اجزاء من احداث وقعت فى الماضى القريب تنتهى الى الضياع فيما وراء الذاكرة ومن ناحية أخرى هناك  الزمن والتجربة الحاضرة يتقدمان باضافة معلومات جديدة الى الوقائع تلك الوقائع التى تبدأ فى الاتضاح أو الغموض كاشفة عن موضوعية الواقع الحوارات تتداخل دائما فى تعبيرات بطل الرواية وهو رئيس مفتشى بوليس مضيفة حيوية الى الاوصاف والوقائع تقنية القص التى يستخدمها المؤلف كما فى الروايات السابقة تعتبر تقنية محكمة وأيضا اللغة التى يستخدمها لغة محددة ومتكاملة يستخدم المؤلف راويا ممايسمح له بالابتعاد عن العاطفية التى يمكن ان تصف الوقائع المؤلمة التى تضمها الرواية وهى وقائع مطلوب وصفها بموضوعية شدشدة الرواى الذى يبدو متفقا مع رؤية الكاتب نفسه يعتبر صوتا  غير مكترث وغائب  يقود القارئ من خلال وصف خارجى وداخلى لكل شخصية من شخصيات الرواية البطل الرئيسى للرواية مفتش بوليس ينتمى فى الاصل الى مدينة اندليسية يعود الى مدينته بعد ان مارس المهنة خلال خمسة عشر عاما فى بلاد الباسك وبالتحديد فى العاصمة الباسكية بلبلو بعودته الى مدينته يلتقى من جديد بأصوله الاولى ويحاول ان ينسى تلك السنوات من خلال عملية غسيل مخ نفسية تفشل حياته العائلية ونتعلق حياته المهنية بطرف خيط يحاول من خلاله البحث عن مخرج لانقاذ حياته اى الانتقال الى مدينة اخرى تنقذه من رعب مطاردة ارهابى منظمة ايتا الانصالية ووفائه تجاه زملائه من رجال البوليس الذين يواجهون هذا الرعب كما كان يواجهه هو نفسه  بداية الرواية فى رأينا تعتبرمن اهم ماتمكن الكاتب من انجازه منذ الصفحات الاولى يمكن تبين الضغوط الطويلة المكثفة التى تخضع لها شخصية البطل ضغوط تستهلكه وتضعه فى حالة قلق داخلى مرعبة مع ذلك فان هذه الحالة ليست سوى احد المستويات التى يعتمد عليها واقع الرواية منذ الصفحة الثانية عشره يمكن تبين انه من خلال مكانه الجديد يتحول مفتش البوليس الى مطارد لقاتل ومغتصب طفلة فى الثالثة عشرة من عمرها الخوف والرعب يسيطران على الشخصيات وتصنع النص الروائى والمشاهد التى تجرى فى الرواية كلها تقريبا تنقل هذه المشاعر بشكل محكم تصف تدنى الوضع المادى للمدينة التى لايذكر اسمها لكن يمكن أن توحى الرواية بانها مسقط رأس الكاتب عبيدة الحدائق العامة مهملة مليئة ببقايا السهرات التى تجرى عادة فيها فى عطلة نهاية الاسبوع مهملات وبقايا زجاجات وقئ الخ أشياء معتادة فى بعض مناطق المدن الاسبانية يمكن مشاهدتها بعد عطلة اى نهاية اسبوع وايضا انعدام الامن والاخطار التى تواجه المارة فى الشوارع الجانبية المنعزلة الرواية تعتمد ايضا على اشياء وقعت فى الماضى القريب حيث تظهر شخصية هامشية  على جانب كبير من الاهمية شخصية راهب جيزويتى الاب (أوردونيا)معلم وأستاذ مفتش البوليس فى سنوات حياته الاولى ومن خلال مسيرة حياة هذا الراهب يتم اظهار مسيرة المجتمع الاسبانى خلال العقود الاخيرة يتوقف الكاتب امام بعض التفصيلات عن بعض المظاهر الخارجية لشخصياته وفى حالة الاب أوردونيا يكون المظهر الخارجى هويداه التى تجذب انتباه المؤلف والقارئ يدان تتحولان عبر فترات مختلفة يدان ناعمتان لراهب محترم ومخيفتان فى زمن فرانكو بدأ عامل بناء فى سنوات الستينيات والسبعنينيات يعى الراهب أن العمل الاجتماعى يمكن ان يكون مجديا وأخيرا يدا راهب عجوز تحتفظان برائحة الفترة الاولى وخشونة الفترة الثانية الموزنة النسوية المقابلة لشخصية مفتش البوليس تلعبها شخصية مهمة معلمة الفتاة القتيلة تلك المعلمة (سوسانا غريى) شخصيتها مرسومة كامرأة استقلالية ونشطة تواجه الحياة بشجاعة بعد زواج فاشل العلاقة العاطفية فى الرواية تربط بين  المعلمة ومفتش البوليس ويقصها الراوى بعاطفية مشبوبة ونعومة ظاهرة مع ذلك فان الزمن الحاضر الذى تقدمه الرواية يبدو زمنا منتهيا والشخصيات الرئيسيه تبدو كما لو كانت بقايا كوارث عديدة بعضها وقع فى حياة هذه الشخصيات الخاصة وبعضها الاخر وقعت كوارثها بعيدة عن تلك الشخصيات فى خلفية تلك المشاهد تبدو اشياء متعلقة بالارهاب واغتصاب وقتل الطفلة البريئة انها احداث تذكر بأحداث اخرى مؤلمة بشكل حاد  وواقعية حدثت فى المجتمع الاسبانى خلال السنوات الاخيرة يشعر القارئ بأنه معنى بتلك الاحداث التى تعيشها الشخصية الرئيسية مفتش البوليس من خلال الرواية يمكن تبين ان اسبانيا تقف فى منتصف الطريق بين ماض يفتقد للعدالة والظلم الاجتماعى والفقر والفوضى واخرحيث الثراء النسبى ليس كافيا للتغطية على البؤس الذى عاشته طوال أجيال عديدة والذى تعى وجوده فجاءة اكن المثر للقلق والاكثر قيمة فى كل هذا من وجهة نظرنا الرؤية التى يقدمها المؤلف عن الاخر ذلك الاخر الحاضر دائما دون أن يذكره وان كان واضحا من خلال الاحداث الاخر يمكن ان يكون فقط ملمح ولكنه مقتنع ولايشك لحظة فى اطلاق النار على رأس رجل مجرد من السلاح انه الارهابى الذى ينبع من ظل ضحيته عند أدنى اهمال فى الاحتراس الارهابى الذى يحصى خطوات الضحية احتراسها يقوم الارهابى بالطريقة اوحيدة التى يعرفها القتل الاخر يمكن أن يكون أيضا تلك الشخصية التى لا أسم لها لكنها مرسومة بالتفصيل وتصف الرواية كل ملامحها الجسدية المقززة انها شخصية المغتصب تمارس فعلها أيضا كذئب بشرى وتدمر بلا أدنى شفقة كل مقاومة للضحية هذه الشخصية يصفها الكاتب أيضا بشكل متقن من خلال وصف أيدى ونظرات القاتل انها شخصية طبيعية ، طبيعته تسمح له أن يمارس اجرامه فى المجتمع ويعود الى مخدعه العائلى حلل انطونيو موننيوث مولينا هذه الشخصية من خلال تحديد المحيط العائلى حيث كان ميلاد والحياة التى عاشها القاتل وصف الاشياء والاشارات التى تصدر عن الشخصيات وبعض عاداتها اليومية يبدو كاشفا عن تحليل نفسى عميق وهنا لتقديم مثل هذا الوصف لابد للكاتب أن يتمتع بقدرة فائقة فى الملاحظة وتققم الامكانيات التعبيرية للاشياء العادية مثلا يذكر عن ام القاتل أنها استبدلت المسبحة بأداة التحكم عن بعد فى جهاز التليفزيون والذى تستخدمه بسرعة كبيرة دون تمييزبين الاجزاء فتحقق كوارث حقيقية فى الصوت والصورة اختار المؤلف عنوانا موحيا لروايته ( القمر المكتمل ) وهذا يوحى للقارئ بالعديد من المشاهد المختلطة بين الوضوح والغموض المحددين لانه من الممكن أن تكون المشاهد متعلقة بوضوح كامل لكن ضوء القمر ليس كضوء الشمس المشهد المضاء بضوء القمر المكتمل تكون جوانب المشهد المظللة أكبر من الجوانب المضيئة كما فى الرواية وايقاع القص فى الجوانب المظلمة التى تقصها الرواية يسير بايقاع متكرر رتيب ودائرى كما لو كان يعكس التغيير فى الدوائر القمرية تلك التغييرات التى ارتبطت منذ القدم بأحداث تهرب من دائرة التفسير…..