جيل التسعينات الشعري في سوريا
ـــــــ
د . أديب حسن محمد*
في البداية لابد من الإشارة إلى المصطلح (جيل التسعينات) والذي نعني به جميع الشعراء الذين أصدروا بواكير مجامعهم الشعرية في عقد التسعينات من القرن المنصرم، ولا نحسب أنه من المفبد إدراج القصائد التي لم يزل أصحابها مستنكفين عن نشرها ولأسباب مختلفة ، وذلك لصعوبة التتبع، وعدم وجود نماذج كافية نستطيع من خلالها استقراء تجربة ما من خلال قصائد قليلة.
يمكنناً تلمس بعض السمات المميزة ، وبعض المظاهر اللافتة في قصائد هذا الجيل الذي جاء في مرحلة تاريخية برزخية تميزت بسقوط الإيديولوجيات جنباً إلى جنب مع السقوط المريع للقيم الروحية وتراجع دور الشعر ومكانته على المستوى العالمي ، وسادت الصورة البصرية ، وتقانات المعلومات ، والوسائل التكنولوجية التي أحالت الحياة إلى خمول وكسل امتدا ليشملا العقل البشري الذي استكان لمنجزات الحضارة المادية ، وترك الروح منسية ومهملة في زوايا النسيان مثل هذه الظروف مجتمعة أدت إلى ظهور اتجاهات شعرية جديدة في المنحيين الشكلي والموضوعي..
- حيث بدأت قصائد هذا الجيل تنأى شيئاً فشيئاً عن محاكاة سابقيهم، وصولاً إلى موضوعات عاشقة لتفصيلات الحياة وجزئياتها المهمشة والتي قلما التفت إليها شعر السابقين ، هذه التفاصيل الحياتية الدقيقة التي نكاد نجزم بحساسيتها الخاصة ، وقدرتها لتأثيرية البالغة على المتلقي، واقترابها من نبض الداخل الشعري وتكوينه، وانشغالها بإعادة الاعتبار للمهمل والمتروك في حالته الشعرية المكثفة . وذلك لإيمانها بأن في التفاصيل الصغيرة والهامشية كنه الوجود في النهاية وجوهره ، هذا الشعر الذي لا يكف عن التقاط الفتنة الكامنة تحت هامش التفاصيل نجده بكثرة عند شعراء هذا الجيل ولاسيما (ايمن معروف، فراس
محمد ………….)
* ظهرت عند أبناء هذا الجيل نزعات موضوعية جاءت كرد فعل على الجفاف الروحي القاحل لعصرهم ، ووسيلة تحصين وجداني في وجه التردي السائد لمنتجات الروح اللانفعية، فعادت الرومانسية الحالمة للظهور في بعض التجارب (منيرخلف ، عيس إسماعيل،محمد خير داغستاني ، نصرت حبش ) والرومانسية المغلقة دي ( طالب هماش ) وصولاً إلي استقطار البصيرة من البصر والدخول في غيبيات العالم وما ورائيته التي تتحدي أعتي الأفئدة ، أي الدخول إلي مدارات الصوفية وحنينها الرامي إلي التغلب علي الفناء وعلي تصرم الأزمان كما في تجرب الشعراء ( عيسي الشيخ حسن ، أيمن مهعروف ) .
ويلاحظ بروز ظاهرة الاغتراب في قصائد هذا الجيل بكثافة عالية .. شعور الروح بمفارقته عن المادة ، أو بتناقضه معها ، بحيث تتبدي المسافة الشاسعة بين الذات وبين بقية الكائنات ، وبحيث يعمل هذا الاغتراب الطوعي علي انتشال الإنسان من حصار التنبؤ ، أو من الاستحالة إلي جماد .
وتتبدي كذلك في قصائد هذا الجيل ( خاصة قصائد النفعيلة ) نزعة حنين إلي اللامرئي الأعظم ،وهذا ما تدل عليه كثيرة ورود الجمل الاستفهامية التي تطغي علي كل ما سواها ، والتي تعكس قلقاً متأصلاً ، وتوراً متنامياً بحيث يتبدي الإنسان في قصائد هذا الجبل حنيناً لا إشابع له ، ولوعة تناسبها الذات بسبب افتقار الوجود إلي الأنس وهو افتقار لا ينتجه شئ إلا تعرض القيم الروحية للانخفاض .
بيد أن الكثير من شعراء هذا الجيل استطاعوا أن يحيلوا الحزن الذي أفرزته الغربة إلي نشوية غنائية حملتها لة عذراء شديدة التأثير في الروح لما تتمتع به من تلقائية وعفوية ( تمام تلاوي ، كمال جمال بك ) رغم انخراط البعض الآخر في هاجس الإدهاش المجاني الذي يتسم بخشونة الدفقة وافتقارها إلي المسحة العفوية ( ماجد قاروط ، عباس حيروقة ) .
- ظلت قصيدة النثر فيه لتجارب السابقين لجهة التركيز علي المفارقات ، وخلق الإدهاش عن طريق العزف علي وتر التضاد ، والصنعة اللغوية ، وجنححت في بعض التجارب صوب العقلانية التفكيرية التي أحالت الشعر إلي أفعال لغوية ، وصور تركيبية ، فيما حافظ البعض الآخر علي التلقائية التي نأت عن الصنعة والتكلف ، وخلط البعض الأسلوبيين فتراوحت القصدية بين الذهنية والوجدانية ، وتلاحظ وفرة في أسماء كانت قصيدة النثر ( إن صحت التسمية ) من أبناء هذا الجيل ، وأن اتجهت الغالبية منهم إلي نحت اللغة واستقطارها بغية الحصول علي الكثافة المطلوبة لتعويض الغياب الإيقاعي فإن نصوصهم بدت ذات عمارة شكلية متهالكة تفتقر إلي اللمسة الحسية التي عادة ما تجعل من النصوص في الجفاف النثري وفي الكلام اليومي العادي ، وفي أفضل الحالات تقترب من السرد الفني عن طريق توظيف تقنيات : المقابلة والتضاد ، والتكرار، وتوزيع الفضاء الأبيض .. هذه التقنيات اللغوية التي تعمل علي رفع السوية الفنية للنص ، وإبعاده قدر المستطاع عن الرتابة النثرية ، وهذا لا ينفي تميز بعض التجارب النثرية التي استطاعت امتلاك ود القارئ دون أن تخل بمعايير جودة النص
( فراس محمد ، محمد الحموي ، أوس أسعد ، لقمان محمود ، محمد المطرود ، عبدالبر كو ، مروان شيخي ) .
- ندرة الأصوات الأنثوية في هذا الجيل ، رغم كثرة التجارب الانثوية الجنينية التي لم يقيض لها الاستمرار في الإبداع ولأسباب مختلفة ( ميساء ماضي ، رولا حسن ، ميادة لبابيدي …… ) بحيث لم يبق من المواظبات علي الكتابة الإبداعية من بنات هذا الجيل سوي غالبة خوجة التي تتالت مجموعاتها الشعرية وواظبت علي الحضور والنثر في الدوريات المحلية والعربية ، رغم ما تعانيه قصيدتها من تهافت علي الشكل وإقحام لمفردات غريبة عن حقول الدلالة العامة لفكرة النص ، مما أصاب قصائدها بالتليف نتيجة شح التلقائية والشحنة الوجدانية لحساب تراكم الجمل والتراكيب الذهنية المكتفية بالرتوش الشكلية دون ان نخوض في أعماق المعني الثري بما فيه الكفاية .
- غياب النقد المنهجي والموضوعي عن كتابات هذا الجيل ساهم في إغفال خصوصيته ، وأدي إلي تصدي بعض من شعراء هذا الجيل لمهمة نقد تجارية ، وغربلة الاعمال الكثيرة التي صدرت خلال عقد من الزمن ، وهذا الأمر أعاق ظهور بعض الأصوات التي أقتلعت بالظل وامتنعت عن التلاقح ، وعن الاندماج في الحركة الشعرية لهذا الجيل بفاعلية ، كما ساهم هذا الغياب النقدي في حدوث فوضي شعرية تجاور فيها النغل والأصيل ، وتسربت الكثير من الأعمال المنصفة – زوراً – بالشعرية .
- أما القصائد الكلاسيكية المكتوبة علي عمود الشعر فقد ضاقت كثيراً علي أفكار شعراء هذا الجيل الذين لم يجدوا فيها الشكل الملائم لصياغة مواقفهم من العالم لمتغير من حولهم ، وإن جرب البعض منهم كتابة بعض النصوص المتفرقة في ثنايا مجامعيهم ، ربما لرغبة في داخلهم للإشارة إلي أن هذا الشكل لم يزل حياً يرزق ، ويستطيع أن يستوعب توتراتهم ، والهاماتهم التي تشدهم ببعض الوشائج الغامضة إلي ذلك التراث الفذ الذي تركه الأسلاف ولاسيما قصائد المتنبئ والمعري ، وأبي تماما والمنصرفة .. وقد نجحت بعض هذه النصوص في استمالة الموضوع للكشل ، بحيث حقق التوازن الدقيق المطلوب بينهما ، دون أن يطغي أحدهما علي الآخر ( منير خلف ، عبدالناصر حداد ، عيسي إسماعيل ، مالك الرافعي … ) .
- ولابد من الإشارة في نهاية هذه العجالة النقدية إلي بروز عدة أسماء نشرت قصائدها في عقد التسعينات ولم يتسن لها نشر مجموعاتها الشعرية إلا بعد انصرام العقد الأخير من الألفية الثانية أمثال ( د. حمزة رستناوي ، سامر رضوان ، عمر أدلبي ، أنور عمران ، تمام التلاوي ) وغيرهم ممن نضجت أدواتهم في نهاية عقد التسعينات ولسهولة التصنيف تم اعتماد الشعراء الذين أصدروا أولي مجموعاتهم في فترة عقد أولي التسعينات .
- شكلت الجوائز الأدبية حالة من التعويض لدي الكثير من شعراء هذا الجيل ، حيث ساهمت هذه الجوائز في التعريف يشعرهم وتقديمه إلي القارئ العربي ، وأثبتت من جهة أخري وجود تجارب ااصيلة وجادة تستحق نيل نصيبها من الاهتمام ، فنال جائزة د. سعاد الصباح كل من الشعراء ، نصرت حبش ، ركان الصفدي ، منير خلف ، أيمن معروف ، عيسي إسماعيل ، عبدالناصر حداد ، غانية خوجة ، أديب حسن محمد .عمر أدلبي ، تمام التلاوي ، أنور عمران .. فيما نال جائزة الشارقة الشاعران : أيمن معروف عمر أدلبي .
- ونال جائزة عبدالوهاب البياني كل من الشاعرين عيسي الشيخ ، أديب حسن محمد هذه الجوائز الأدبية وإن كانت لا تعني معياراً أو أمتيازاً إلا أنها تشكل مؤشراً مهماً علي سعي أبناء هذا الجيل للارتقاء بتجاربهم .
مايو 2 2015
جيل التسعينات الشعري في سوريا ….. د. أديب حسن محمد
جيل التسعينات الشعري في سوريا
ـــــــ
د . أديب حسن محمد*
في البداية لابد من الإشارة إلى المصطلح (جيل التسعينات) والذي نعني به جميع الشعراء الذين أصدروا بواكير مجامعهم الشعرية في عقد التسعينات من القرن المنصرم، ولا نحسب أنه من المفبد إدراج القصائد التي لم يزل أصحابها مستنكفين عن نشرها ولأسباب مختلفة ، وذلك لصعوبة التتبع، وعدم وجود نماذج كافية نستطيع من خلالها استقراء تجربة ما من خلال قصائد قليلة.
يمكنناً تلمس بعض السمات المميزة ، وبعض المظاهر اللافتة في قصائد هذا الجيل الذي جاء في مرحلة تاريخية برزخية تميزت بسقوط الإيديولوجيات جنباً إلى جنب مع السقوط المريع للقيم الروحية وتراجع دور الشعر ومكانته على المستوى العالمي ، وسادت الصورة البصرية ، وتقانات المعلومات ، والوسائل التكنولوجية التي أحالت الحياة إلى خمول وكسل امتدا ليشملا العقل البشري الذي استكان لمنجزات الحضارة المادية ، وترك الروح منسية ومهملة في زوايا النسيان مثل هذه الظروف مجتمعة أدت إلى ظهور اتجاهات شعرية جديدة في المنحيين الشكلي والموضوعي..
محمد ………….)
* ظهرت عند أبناء هذا الجيل نزعات موضوعية جاءت كرد فعل على الجفاف الروحي القاحل لعصرهم ، ووسيلة تحصين وجداني في وجه التردي السائد لمنتجات الروح اللانفعية، فعادت الرومانسية الحالمة للظهور في بعض التجارب (منيرخلف ، عيس إسماعيل،محمد خير داغستاني ، نصرت حبش ) والرومانسية المغلقة دي ( طالب هماش ) وصولاً إلي استقطار البصيرة من البصر والدخول في غيبيات العالم وما ورائيته التي تتحدي أعتي الأفئدة ، أي الدخول إلي مدارات الصوفية وحنينها الرامي إلي التغلب علي الفناء وعلي تصرم الأزمان كما في تجرب الشعراء ( عيسي الشيخ حسن ، أيمن مهعروف ) .
ويلاحظ بروز ظاهرة الاغتراب في قصائد هذا الجيل بكثافة عالية .. شعور الروح بمفارقته عن المادة ، أو بتناقضه معها ، بحيث تتبدي المسافة الشاسعة بين الذات وبين بقية الكائنات ، وبحيث يعمل هذا الاغتراب الطوعي علي انتشال الإنسان من حصار التنبؤ ، أو من الاستحالة إلي جماد .
وتتبدي كذلك في قصائد هذا الجيل ( خاصة قصائد النفعيلة ) نزعة حنين إلي اللامرئي الأعظم ،وهذا ما تدل عليه كثيرة ورود الجمل الاستفهامية التي تطغي علي كل ما سواها ، والتي تعكس قلقاً متأصلاً ، وتوراً متنامياً بحيث يتبدي الإنسان في قصائد هذا الجبل حنيناً لا إشابع له ، ولوعة تناسبها الذات بسبب افتقار الوجود إلي الأنس وهو افتقار لا ينتجه شئ إلا تعرض القيم الروحية للانخفاض .
بيد أن الكثير من شعراء هذا الجيل استطاعوا أن يحيلوا الحزن الذي أفرزته الغربة إلي نشوية غنائية حملتها لة عذراء شديدة التأثير في الروح لما تتمتع به من تلقائية وعفوية ( تمام تلاوي ، كمال جمال بك ) رغم انخراط البعض الآخر في هاجس الإدهاش المجاني الذي يتسم بخشونة الدفقة وافتقارها إلي المسحة العفوية ( ماجد قاروط ، عباس حيروقة ) .
( فراس محمد ، محمد الحموي ، أوس أسعد ، لقمان محمود ، محمد المطرود ، عبدالبر كو ، مروان شيخي ) .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الحادى عشر, د. أديب حسن محمد