أهمية فلسفة التاريخ …………………………علي بنحسين المفتاح

التاريخ .. وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق ، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق .        ( ابن خلدون في المقدمة )

التاريخ  :

يهدف – بحال من الأحوال – إلي الموعظة والعبرة أو المغزي والمعني .ودراسة التاريخ من وجهة نظر الفلسفة ، دراسة عقلية ناقدة ترفض لخرافات وتنقح التاريخ من الأساطير والمبالغات ، وهو في ذلك يعني كل رواية غير مقبولة لدي العقل أو محتملة الشك ،وتبدأ نقطة الأنطلاق في فلسفة التاريخ لدي فولتير من استنكاره ان تصبح دراسة التاريخ أكواماً مترامية من المعارك الحربية أو المعاهدات السياسية دون معني مفهوم أو حكمة بالغة أو بادية .. ومهمة النقد للتاريخ أن يحرر الفكر الإنساني من العبودية والخرافة والغباء من أجل نشر الحرية والتنوير والعقل . ومهمة فلسفة الحضارة أن تتسع دراسة التاريخ لما هو أهم من أخبار المعارك وسير الملوك وحواديت البلاط ، وأن تتبع سير العقل البشري ممثلاً في شتي مظاهر النشاط الإنساني .

أما نقطة الانطلاق في فلسفة التاريخ لدي ابن خلدون فهي التمييز بين الظاهر والباطن فالتاريخ في ظاهره أخبار عن الأيام والدول والسوابق في القرون الأولي وفي باطنه نظر الوقائع وأسبابها ..وعلي ذلك فلسفة التاريخ تتجاوز السرد والحشد لأخبار لا رابط بينها كما تهدف إلي التعليل .

إن معني التاريخ يكمن عند الفلاسفة في أنه تابع للفلسفة التي بواسطتها نستطيع أن نسأل التاريخ عن كيفية العمل للوصول إلي ما هو أفضل ومنذ أكثر من قرنين والمؤلفون يدعون أنهم وجدوا القانون الكامن وراء الحركة التاريخية وأن في استطاعتهم أن يتنبئوا للإسانية بحدود تلك الطريق وهذا ماركس قد رأي في المادية الجدلية محرك كل التاريخ ، وقد أوضح للإنسانية الصيغة التي ارتآها في النظام الاشتراكي ، ومن بعده جاء ” تويني ” يشرح تقدم الحوادث ،واصطدام الحضارات التي ذاب بعضها في أثر البعض الآخر في بوتقة الحضارة الغربية الكبري ، والمؤرخ يقتفي باهتمام سير هذه المحاولات ويستبقي عدداً كبيراًمن شروح التفاصيل .. هذه الشروح التي استحقت اهتمامه بما ألقت من ضوء علي بعض سياقات وقائع كانت حتي ذلك الحين مهملة بما حملت من مشاركة في جلاء الماضي لأن الماضي الإنساني لا ينضب نبعه ، والمؤرخ نفسه إذا ترك اشتغاله الجهد بالتاريخ كمهنة يستطيع هو أيضاً أن ينصرف إلي إكتشافات مماثلة يكون مخرجها هو لا سواه ، ولكن هذا المكتشف يبقي أكثر من سواه متمسكاً بالممايزة بين الوقائع الحاصلة التاريخ والافتراضات المفسرة فلسفة التاريخ .

وهذا البحث يتناول  ” فلسفة التاريخ ” من خلال بيان أهميتها لعلم التاريخ والاتجاهات المتميزة من قبل المؤرخين والفلاسفة نحو معالجتها من خلال التطور الحادث طبقاً لأهم هذه الاتجاهات والآراء ، ومن ثم بيان مقولات فلسفة التاريخ وصولاً لإيضاح طبيعة الاختلاف بين التاريخ وبين فلسفة التاريخ ، وبالتطبيق علي فلسفة تاريخ الإسلام الذي يبين إثباتاً مؤكداً لقوة وحقيقة الفلسفة للتاريخ .

إذ إن بلوغ المستوي الحضاري والمحافظة عليه أو تحطيمه يعتمد علي عدد من العوامل الأساسية والأضافية التي تختلف في أهميتها ، ولا يمكن أهمال أي من تلك العوامل فالأفكار وعظماء الرجال وألوان النشاط الاقتصادي والاختراعات الصناعية الفنية و الحقائق الجغرافي والذات الإلهية ، كل أولئك لها أثرها في سلوك الناس وبتناول هذه العوامل وما يتصل بها من مسائل تتشكل الفلسفة في التاريخ (1) .

أهمية فلسفة التاريخ لعلم التاريخ :

هناك أوجه قصور في الكتابة التاريخية ترجع إلي عيوب في طبيعة الدراسة فالتاريخ يعرض وقائع وحوادث لا حصر لها تشد الباحث إلي الماضي حتي لتجعله غريباً عن الحاضر كما أن التاريخ يجعل من الإنسان كائناً ينوءتحت عبء الماضي ، فضلاً عن أن الحالة التاريخية متعارضة بطبيعتها مع اللحظة الابتكارية هذه تشد إلي الماضي .. إلي الوراء بينما الأخيرة خطوة إلي المجهول .. إلي الأمام وفلسفة التاريخ تعوض في التاريخ كل أوجه القصور فهي تجعل لوقائعه المتراكمة المتتالية معني ومغزي فهي تبدأ من مشكلة قائمة في الحاضر وتقيم الإنسان دائماً فيه ، وتربطه به ومن ثم لا يغوص في أعماق الماضي السحيق فيكون غريباً عن حاضره وهي إذ تخالف التاريخ في تطلعها الدائم إلي المستقبل فإنها لا تجعل الإنسان ينوء تحت عبء الماضي ..فهو محصن ضد ما أسماه نيتشه داء التاريخ أي آفة العقل حين يغريه الماضي بالولاء له .

وفلسفة التاريخ لا تعوض قصور التاريخ فقط .. بل إنها تعوض قصور الفلسفة أيضاً .. إذ تعاني الفلسفة من قلق دائم مصدره اشتياق الفيلسوف إلي الوصول إلي الحقيقة فهو دائب البحث عنها ولكنه يخشي أن يضل السبيل في عالم المجردات .. لذلك فإن فيلسوف التاريخ يتلمس مادته من وقائع التاريخ فالتاريخ يشد الفلسفة حتي لا تحلق بعيداً في غير عالمنا . وترتفع الفلسفة بالتاريخ حتي لا يغوص في وحل الماضي وركامه .

يلتمس التاريخ من الفلسفة الحكمة والمغزي وتلتمس الفلسفة في التاريخ الواقعية كلاهما يكمل في الآخر قصوراً ومن ثم كان الزواج بينهما قائماً برغم معارضة البعض من الفلاسفة والمؤرخين .

فلسفة التاريخ لم تنشأ لأنها تعوض قصور كل من الفلسفة والتاريخ فحسب .. وإنما نشأت لتلبية احتياجات فكرية للإنسان .. فعهود النكبات في التاريخ الإنسان كانت دائماً حافزاً إلي التفكير في الماضي وفي المصيرة ومثيرة للأهتمام بتفسير التاريخ وتعليله ، فمثلاً وصول الحضارة الإسلامية مرحلة تدهورها ، ألهم ذلك ابن خلدون إلي أن يضع أول نظرية عربية إسلامية في فلسفة التاريخ (2) .

إن فكرة التطور التاريخي ستحتل مكاناً متزايد الأهمية في الرؤية الهيجلية نسبة لهيجل وما ستمثله علي وجه التقريب وحينما وطأت أقدام نابليون الأراضي الألمانية أمام نظر هيجل صدرت عبارته الشهيرة إن بومة منيرفا لا تحلق إلا عند الغسق . ( بومة منيرفا رمز الحكمة ) – أي أن أحكم الأقوال لا تصدر إلا في أحلك الأوقات فكانت نظريته في التاريخ .. ففي أعصب الفترات يطلعنا التاريخ علي إمكانية أن تصدر أسمي الفلسفات وليس التاريخ العادي ما يعني بذلك وإنما يعني فلسفة التاريخ (3) .

ضرورة فلسفة التاريخ :

إن المنطلق النهائي للأشياء لا يستوحي من التاريخ فلابد من أن نستبعد الفكرة القائلة بأننا نستطيع أن نجد في التاريخ التفسير النهائي للأشياء فحياة الإنسانية لا تستطيع أن تعطي من ذاتها قدرة علي التعلم إلا إذا أصبحت معروفة في حجمها وإذا كانت الرؤية الكلية تعطي مكانها الحقيقي لكل تفصيل وهذا بالضبط ما هو مفقود ثم أننا نجهل حكماً مستقبل حياة الإنسانية ولا نعرف ما فيها إلا معرفة غير تامة فعلي ذلك أي خلاصة ثابتة مقنعة يمكن أن تعطي اعتماداً علي نظرات ومشاهد هي في تحديدها مبتورة مجزأة .

وحتي لو كان في استطاعتنا مشاهدة مجري الأحداث البشرية الكاملة .. وأن نلم بأصل هذا المجري وصيغة نشأته .. فكيف نتمكن من معالجة هذا الوضع المدهش السعة لسنتخلص منه سبب وجوده ؟ والتاريخ كالعلم ، لايعطينا قطعاً إلا الكيف ..أما الواقع في طبيعته الاولي فليس لنا منه غير الملاحظة وما خلفه لنا ذلك الواقع من آثار وتفسيره يعني تعيين مكانه في تمثيل عالمي وإعطاءه أهمية وقيمة وهذا ما لا يتم إلا اعتماداً علي مبادئ أساسية وليس للتاريخ أن يستخلصهذه المبادئ ويصوغ التعبير عنها لتوضع موضع العمل .. فهذا شأن الفلسفة فالتاريخ أبعد مايكون عن أن يحل محل الفلسفة وأن يفرض علي الناس كلمة مستخلصة من الوقائع لأن الأمر علي العكس ، فالفلسفة هي التي  تنسق التاريخ وتبنيه .. وتعطيه مضمونه الذي يحتاجه ، وبلا فلسفة نستطيع أن نذكر وجود التاريخ ولذلك فإن المؤرخ كلما رأي أنه ارتفع فوق تتابع الأحداث وتلاحقها الزمني يعني فوق ذكر الحوادث المحفوظ اتفاقاً لا اختياراً وجد نفسه يعمل .. أو يتفلسف دون أن يعلم .. لكن من الأفضل أن يتفلسف وهو يعلم .. ومن أجل هذا كان لابد للمؤرخ من تنشئة فلسفية قوية ..وهناك مؤرخ مثل ” مارو ” الذي قال ” حقيقة التاريخ هي من اختصاص الفلسفة التي يعترف بها المؤرخ ، اعترافاً واضحاً أو غير واضح .. فالتاريخ لا يستطيع وحده ، وبكفاية من ذاته أن يغذي حياة داخلية وثقافة في الإنسان ولا يستطيع أن يصبح العنصر المدير بالنسبة إليها ولا روحها . فهذا الدور لا يقدر علي تمثيله غير الفكر المتحكم بالنظريات أي الفكر الفلسفي .

اتجاهات المؤرخين ومعالجة فلسفة التاريخ :

زادت حرية البحث التاريخي وتوافرت وسائله في القرن التاسع عشر وكانت أهم ظاهرة في الدراسات التاريخية العصرية هي مجالها الضخم الاتساع إذ أن المعالجة التوليفية الشاملة من جميع الجوانب للحياة التاريخية أخذت تلقي تقديراً متزايداً بعد أن حلت محل التركيز والاهتمام علي نواح معينة أو أجزاء نوعية من التاريخ أو تلك المعالجات ذات وجهة لنظر الخاصة فمن خلال المؤلفات والكتابات التي تناولت أحقاباً تاريخية واسعة المدي والمضمون كانت هناك إمكانية تطوير فلسف ملموس للتاريخ فكانت هناك سلسلة من الدراسات التاريخية بعنوان عام هو ” تطور البشرية والتي افتتحها هـ . بر (1863 – 1942 ) في فرنسا والتي أدخلت بعض مجلداتها في الكتاب الإنجليزي المعنون التاريخ الحضارة ، وبرغم الصعوبة التي تتعلق بترتيب المعطيات الشديدة التنوع ..فإن هذا الكتاب موضع تقدير بحيث أنه لكي يتم فهم أهمية التاريخ أي لكي تتقوم منظورات صحيحة وتصور واف عن ماهية التاريخ في أوفي صورة فلابد من تناول ذلك الكتاب بالدرس إذ لن يتيسر تطوير فلسفة ملموسة للتاريخ إلا مع وجود أساس كهذا .

وقد تطورت نظرة المؤرخين إلي التاريخ ومن أبرز هذه الاتجاهات نجد وصف لورد بولنجبروك (1689 – 1751) للتاريخ بأنه تعلم الفلسفة بالأمثلة وأنه يؤدي إلي المعرفة بمبادئ وقواعد عامة معينة للحياة والسلوك لابد أن تكون صحيحة دائماً لأنها تتطابق وما للأشياء من طبيعة ثابتة لا تتغير ويستطيع المؤرخ أن يشكل نظاماً عاماً من السياسات والأخلاق بقيمة علي أقوي الأسس أي علي اختيار المبادئ والقواعد في جميع العصور وعلي توثيقها بالخبرة العامة .

وقد دعا جوزيف بريستلي (1733 – 1804 ) إلي دراسة التاريخ بوصفه عاملاً يؤدي إلي تقوية الفضيلة فالتاريخ يمكننا من تكوين أفكار عادلة حول ما تتصف به الطبيعة الإنسانية من كرامة وضعف .

وندد ليويولد فوت رانكه ( 1795 – 1886 ) والذي يعد أعظم مؤرخي زمانه بطريقة معالجة دراسة التاريخ من أي نقطة تنطوي علي التحيز الذاتي وأن هناك ضرورة اتباع طريقة البحث التاريخي غير المتحيز للهوي والمقترن بالموضوعية الهادئة ، والاعتماد علي مصادر معاصرة للمدة التي يدور بحثها وأكد علي أن الهدف الأقصي للمؤرخين هو التاريخ العام وأنه لا سبيل إلي أحتمال مواصلة الدراسة للتفاصيل إلا عن طريق الرؤيا الشاملة لكل شئ والمثل الأعلي الذي تطلع ببصره إليه هو النظر إلي العالم في ماضيه وحاضره .. لكي يري بعين محايدة غير منحازة تقدم للتاريخ العام .

أما الفرنسي ف . ب . ج جيزو ( 1787 – 1874 ) والذي كرس نفسه لدراسة خاصة في الحضارة وأشهر كتبه ( تاريخ الحضارة في أوربا ) فقال إن فلسفة التاريخ تقوم علي إظهار ما بين الإحداث من علاقات وأسباب تلك الأحداث وآثارها .

عملية التاريخ :

ومع التقدم الهائل في العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر كان هناك تصور بإمكان ظهور علم للتاريخ يستخدم مناهج تماثل ا يستخدم في العلوم الطبيعية وقد أكد ج . زرفي (1821 -1892) إمكانية إخضاع جميع ظواهر التاريخ بواسطة منهج علمي دقيق لقوانين العلية السببية وصرح بأن الدراسة العلمية للتاريخ مستحيلة لو فرضنا وجود عامل الصدفة والقدر المحتوم وحرية الاختيار .. وقال حول علم التاريخ أن أهم ما يجب علي المؤرخ أداؤه أن يظهر بصورة مقنع أن الحقائق لم يكن في الإمكان حدوثها بطريقة مخالفة لما حدثت بها ، وأنه لو أن الأسباب نفسها عملت عملها ، لأدت دون مناص إلي إحداث نفس النتائج للمرة الثانية .

وقد أظهر المؤرخ الأمريكي ج. ب . آدمز (1851 – 1925 ) قبوله لفكرة علم التاريخ وبأنه يماثل العلوم الطبيعية وقال : ” علم الحقائق الموضوعية التي يتولي المؤرخ معالجتها وهي الأعمال الماضية التي قام بها الجنس البشري يحدد حدوثها قوي تعمل في فلك العلوم الطبيعية والفيزيائية وأني لمقتنع بأن التاريخ يعتبر بهذا المعني علماً .

كما تحدث ج.ب.بيوري (1861 – 1927) عن أن الطريقة التي يصبح بها التاريخ علماً هي التحليل المنظم النسقي والدقيق للمصادر مع وجود منظور كاف يدخل في اعتباره المستقبل فضلاً عن الماضي وهذا يؤدي إلي تقدير لوحدة التاريخ واستمراه .

هناك العديد من الأمريكين دافعوا عما أسموه بـ التاريخ الجديد ويؤكدون علي ما حدث من تقدمجديد في علوم النفس والسلالات الأثنولوجيا والبشريات الأنثروبولوجيا وعلوم الاجتماع والسياسة ويدفعون بأن التاريخ يعد من حيث الجوهر بمثاب تنسيق وتآلف بين نتائج هذه الأمور جميعاً .

وثمة محاولات للعثور علي علم للتاريخ يستند تفسيره إلي علم النفس الاجتماعي فقد حاول هـ أ تين (1828 – 1893) كشف طبيعة التاريخ بدراسة السيكولوجيا القومية كما يعكسها إلينا الفن والأدب بوجه خاص كما أكد ك . لامبرخت (1865 – 1915 ) بأن علم التاريخ الحديث إنما هو في المقام الأول علم السيكولوجيا الاجتماعي ودعا إلي استخدام التاريخ الثقافي علي نهج علم النفس الاجتماعي .

وعن نوع التوليف العام الذي مكن أن يوجد في التاريخ جاء د. د. هل ليؤكد علي ما عليه التوليف في التاريخ من طابع كيفي في جوهره تمييزاً له عن الطابع الكمي وطبيعة ذلك التوليف باعتباره نظاماً وعملية عقلاقنية وليس تكرراً عاماً فإن حياة الإنسان الاجتماعية وتقدم الحضارة وتكوين النظم السياسية وتطورها وقيام الإمبراطوريات وسقوطها والعلاقة بين الدول المستقلة كل هذه التحولات تنتسب إلي دائرة التغيير الكيفي كما أنها تتحدي العد الرياضي والأرقام الرياضية وتطالب بأداة جديدة من الموازنة والتفهم .. ولما كان التاريخ هو سجل الأحداث الخاصة التي ليس لأي واحدة منها صفة الضرورة العامة الشاملة ولماكانت ظواهر التاريخ البشري – علي العكس من ظواهر الطبيعة – لا يمكن تكرارها بالضبط فهي لا تحتوي علي أي معطيات تكفل تعميمات أحكام عامة مطلقة فهي بالتالي لا تكشف عن أي قوانين ضرورية تعمل بمقتضاها .

لقد أبدي العلماء قدراً كبيراً من الشك حول طبيع التوليف الممكن ومداه وقال المؤرخ الإنجليزي هـ . أ . ل فيشر ( 1865 – 1940 ) : إن علي المؤرخ أن يدرك في تطور المصائر البشرية دور العامل الطارئ والعامل غير المتوقع والتقدم ليس قانوناً مضطرداً فالأرض التي يكسبها جيل من الاجيال قد يسخرها الجيل التالي كما أن أفكار الناس قد تصب في مسارب وقنوات تؤدي إلي الكوارث والهمجية .

لم يستطع أحد أن يؤكد أن الشكل العصري لفلسفة التاريخ قدبلغ مداه من التطور ولكن طابعه واضح يتجلي في عدد من الاعمال التي مهدت السبيل له .

وقد أشار العلام الإيطالي أنطونيو لابريولا (1843- 1904 ) بوضوح إلي بعض الاتجاهات التي ينبغي انتهاجها في كتاب مشكلات فلسفة التاريخ فليست فلسفة التاريخ تاريخاً عاماً كتب من وجهة نظر الأفكار الفلسفية المتصورة مسبقاً وإنما هي قبل كل شئ بحث في مناهج العلوم التاريخية ومبادئها ونظمها ولا يمكن اعتبار التاريخ علي خط يجري في محاذاة العلوم الطبيعية إذ أن تلك العلوم الطبيعية ليست بحاجة إلي بحث المحددات القضائية والزمانية للأشياء التي تعالجها ولكن تلك الأوضاع الخاصة تعتبر جوهرية بالنسبة للتاريخ ونحن نحتاج إلي نظرية التخلق التعاقبي للحضارة في التأريخ مميزة تماماً عن النظرة التكوينية السيكولوجية ..وقد أصر علي ضرورة التحليل والتمييز بين مختلف تيارات التاريخ .. وقد ظن لابريولا فيما بعد أنه وجد المبدأ للتاريخ الرئيسي في التتابعات والعلاقات المتبادلة بين الظروف الاقتصادية فيما أسماه تماشياً منه مع ماركس وأنجلز باسم المذهب المادي للتاريخ .

أما المؤرخ الروماني زينويول فقد أكد علي بعض نواح مهمة في التاريخ ذات دلالة خاصة بالنسبة لفلسفة التاريخ إذ قال إن وقائع التاريخ المتعاقبة مرتبطة بعضها ببعض علياً ( سببياً ) وإن هناك فكرة جوهرية اختص بها التاريخ وحده هي أنه لا يمكن اعتبار الحدث التاريخي نتيجة لسبب إلا بعد حدوث ذلك الحدث .

ذهب ديكارت (1863- 1936) إلي أن منطلق العلوم التاريخية هو نقطة البدء في فلسفة التاريخ .. فكل موضوع من موضوعات المعرفة يمكن النظر إليه نظرة عامة شاملة ، علي اعتبار الخصائص المشتركة التي يسهم بها مع غيره من نفس الصنف والطبقة والنظر إليه من الناحية الفردية علي اعتبار ما يمكن التكهن به استنتاجاً منه وحده ، والتاريخ يحتاج إلي بعض التعميمات ومنهجه المنطقي يقوم قبل كل شئ علي التفرد فعليه أن يعالج شخصاً أو أمة أو جماعة أو عصراً أو حقبة من الزمن في حدود صفته الخاصة كفرد فالشئ العام في التاريخ ليس هو نفسه العام التجريدي للعلوم الطبيعية ولكن كل تكون للجزئيات فيه له أهمية فالعام المتعلق بالترابط التاريخي إن هو إلا الكل التاريخي نفسه والنطورالتاريخي ينطوي ضمناً علي ظهور شئ جديد فهو مختلف عن التكرار .

سمتان رئيسيتان :

يمكن تمييز سمتين رئيستين في فلسفة التاريخ هما :

أولاً : الكلية :

إن نقطة البدء في فلسفة التاريخ تكامل بين الأجزاء وترابط بين الوقائع ويتشكل من ذلك كله ما يسمي بالتاريخ العالمي الذي يصبح مادة الفيلسوف ففلسفة التاريخ لا تقف عند عصر معين ولا تكتفي بمجتمع خاص وإنما تضم العالم كله في إطار واحد من الماضي السحيق حتي اللحظة التي يدون فيها الفيلسوف نظريته بل قد لا يقنع بذلك فيمتد تفسيره إلي المستقبل فالمؤرخ يتجاوز في فلسفة التاريخ الوقائع الجزئية إلي التاريخ العام .

ثانياً : العلية ( السببية ) :

يلجأ المؤرخ في التاريخ العادي إلي التعليل ولكنه يتقيد دائماً في استنباطه للأسباب بواقعية جزيئة ملتزماً بأطر التاريخ أو مقولاته من فردية وزمان ومكان أما فليسوف التاريخ فيختزل العلل الجزئية للحوادث الفردية إلي علة واحدة أو علتين علي أكثر تقدير يفسر في ضوئها التاريخ العالمي وهذاا يقتضي منه إعادة تشكيل وقائع التاريخ ليقدم منها صورة عقلية .

طبيعة الاختلاف بين التاريخ وفلسفة التاريخ :

تختلف مقولات فلسفة التاريخ عن مقولات التاريخ اختلافاً جوهرياً فلقد استبدلت الكلية بالفردية وتجاوزت فلسفة التاريخ مقولتي الزمان والمكان إل يما وراء الزمان و المكان ..وحلت الوحدة محل الكثرة ويلزم عن هذا الاختلاف الجوهري بين مقولات كل منهما أن تختلف طبيعة الدراسة في فلسفة التاريخ عن طبيعة التاريخ ومن ثم استنكربعض المؤرخين فلسفة التاريخ ورفضوها بل وجهوا الانتقادات إليها وأنصب النقد علي فكرتي التاريخ العلمي والتعليل التاريخي .

أما انتقادهم للتاريخ العالمي كمادة لفلاسفة التاريخ فقد رأوا أنهم يقيمون أبنية ضخمة لا تمكن المادة التاريخية من تحقيقها ومثلهم كمثل من يريد تشييد برج ايفل بأحجار قليلة .

كذلك كيف يتأتي لجهد فرد واحد أن يعرف تاريخ العالم ففلاسفة التاريخ يتصورون نموذجاً مثالياً صالحاَ لجميع الشعوب في كل العصور كذلك فلاسفة التاريخ في تأريخهم العالمي يضعون تاريخاً لكل المجتمعات في الأزمان .. إن فلسفة التاريخ مزيج من التصور والخيال .. وإن فلاسفة التاريخ يطلبون كشف النقاب عن التصميم الذي يقوم عليه تاريخ العالم من البداية إلي النهاية .

وجه تشارلز أومان وصفاً لفلاسفة التاريخ بأنهم أعداء التاريخ اللاجئون إلي التعميم ليستروا جهلهم الفاضح بتفصيلات الوقائع التاريخية ثم يقيمون تركيباً فلسفياً مسبقاً يلتمسونه من خصائص العصور الماضية حسبما يتخيلونه .ز فهم يستخلصون من سلسلة الوقائع المضطربة المتباعدة شيئاً منطقياً موحداً مدعين للتاريخ غاية سموها التقدم أو التطور ..يأتون بأدلة من سجلات الماضي تلائم حججهم . أما ما لا يتفق مع تصوراتهم فإنهم يتجاهلونه ويعلون عدم جدواه .

أما انتقاداتهم للتعليل في فلسفة التاريخ فكانت تمييزهم بين التعليل التاريخي والتعليل في فلسفة التاريخ أما الأول فتجريبي بعدي ، أي أن المؤرخ يستخلص الأسباب بعد دراسة منهجية تفصيلية للواقعة التاريخية موضوع دراسته أما الثاني فتأملي قلبي ففلسفة التأريخ تأليف وتركيب أكثر منها تسجيل وتقرير ، فهم لديهم عادة فكر مسبقة لحل مشكلة طارئة معاصرة لزمن الفليسوف ثم يسخر التاريخ كله ماضيه وحاضره بل ومستقبله من أجل تأييد فرضه الذي وضعه لحل هذه المشكلة.

والتعليل في التاريخ يكثر بكثرة الحوادث وتعددها بل قد يثبت المؤرخ للحادث الواحدة مجموعة من الأسباب أو العلل أما فلاسفة التاريخ فليست مادتهم وقائع ملموسة أنهم خلفوا الوقائع ورائهم وأقاموا إدعاء مسبقاً اعتبروه علة مختزلين سائر العلل ولما كانت علة واحدة لا تصلح لتفسير وقائع التاريخ فإن هؤلاء الفلاسفة يحاولون سد الثغرات بفرض تعسفي إذا كانت الواقعة تتعلق بعصر ما قبل التاريخ ..أما إذا كانت تتعلق بالمستقبل ولما كان التاريخ لا يتعلق بالمستقبل فإنه يسدها بتنبؤات .. ( مثل التأويل الديني للتاريخ المتضمن للواقع من بداية الخلق إلي يوم القيامة كذلك تفسير ” ماركس “للمجتمعات البدائية في الماضي السحيق بنفس العلة التي تنبأ فيها بالفردوس الأرضي ممثلاً في المجتمع اللاطبقي في المستقبل .

إن التاريخ دراسة الماضي .. والماضي يتوقف عند اللحظ الأولي للحاضر ولكن فلاسفة التاريخ قد تجاوزوا نطاقه إلي المستقبل بل جعلوا المستقبل هدفه ، ومن ثم ألغوا واقعية التاريخ واستبدلوا بها جانباً شاعرياً ميتافيزيقياً . إن فلسفة التاريخ بحث عن المطلق اللامحدود فيما هو محصور محدد إن فلاسفة التاريخ يلتمسون اللانهائية في المتناهي ، والمفارق في الواقعي إذ يلتمسون العالمية والشمول فيما هو محصور مقصود  .. فإذا ارتبط التاريخ بالفلسفة فقد ألغي ذاته وذلك لاختلاف طبيعة كل منهما الفكر للفلسفة .. والواقع للتاريخ ..

وهذه الانتقادات والاختلافات تعني تعذر أن تندرج فلسفة التاريخ ضمن موضوع علم التاريخ وصعوبة اعتراف المؤرخين بها ..ولكن هذا لا يعني علي الأطلاق أن فلسفة التاريخ غير ذات موضوع . أو أن دراسة التاريخ يمكن أن تستغني عنها .

الهوامش

1-  أ.هـ .جونسون : فلسفة وايتهيد في الحضارات ، ترجمة : عبدالرحمن باغي ، بيروت : المكتبة العصرية ، 1965 .

2-  د. أحمد محمود صبحي في فلسفة التاريخ الإسكندرية : مؤسسة الثقاف الجامعي 1975 ، ص 129 – 131.

3-  جان هيبوليت مدخل إلي فلسفة هيجل ترجمة انطون حمص ، دمشق ، مطابع وزارة الثقافة ، 1969 ، ص 76 .

4-  جوزف هورس : قيمة التاريخ ، ترجمة تسيم نصر ، بيروت منشورات عويدات ، 1994 ، ص 114 – 117 .

5-  آلبان . ج . وبرجري : التاريخ وكيف يفسرونه ، ترجمة عبدالعزيز توفيق جاويد ، القاهرة : الهيئ المصرية العامة للكتاب 1972 ،
ص 213 – 228 .

أحمد محمود صبحي : في فلسفة التاريخ ، مرجع سابق ، ص 124 .