تقديم :
لقد واجهتني صعوبة بالغة في إعداد هذه الورقة تتمثل في عدم توافر مراجع مكتوبة حول علاقة الأحزاب السياسية العربية بالثقافة ، أو علاقة الأحزاب بالمثقفين أو علاقة الاحزاب بأعضائها من المثقفين أو علاقة الأحزاب بأصدقائها والمتعاونين معها من المثقفين .
وبرغم وفرة الكتابات التي تبحث في علاقة السياسي بالثقافي أو علاقة المثقف بالسياسي فإن ما أطلعت عليه ظل يدور في الإطار النظري أو في إطار ما هو بعيد عن موضوع البحث وإن كان يفيده ويثريه .
وهذا ما دعاني إلي الاستعانة بعدد من الزملاء ممن أتيح لهم الأطلاع عن قرب علي نظرة الأحزاب إلي المثقفين وإلي الثقافة ، فأفادوني بتجاربهم وبآرائهم مما ساعد علي ظهور هذه الورقة واستكمالها علي هذا النحو وإعطائها هذا البعد الخارج عن حدود الفطر ، وإن كنت لا أدعي أنها حققت طموحها في الشمول الأوسع المنشود .
إشكالية عامة :
تكثر الاحزاب السياسية العربية من تأكيداتها علي دور الثقافة في تشكيل الوعي الجماهيري وعلي أهمية هذا الدور في وصول أهداف الحزب وغاياته إلي الناس وتشهد الأدبيات الحزبية زخماً وفيراً من هذه التأكيدات مما يدخل في نفس المتابع والقارئ والمهتم بأن الأحزاب تعرف دورها وتتفهم علاقتها بالمثقفين والثقافة غير أن واقع الممارسة الفعلية مجال ترجمة التأكيدات النظرية إلي واقع ملموس ولعل هذا التناقض يعود إلي جذره الأبعد ، وهو إشكالية الحزبي والثقافي التي ما فتئ المثقفون يطرحونها في كتاباتهم وفي أحاديثهم وفي مجالسهم وبالأخص أولئك المثقفون الملتزمون بمواقف أحزاب بعينها سواء أكان هذا الالتزام علي مستوي العضوي الكاملة أم علي مستوي المؤازرة ويمكن القول إن نظرة القيادات الحزبية إلي المثقفين المتعاطفين معها أ والمتعاونين معها أو حتي الملتزمين بسياستها ، لا نفرق بين العضو الحزبي العادي أو المتعاطف العادي مع الحزب وبين المثقف ،وتري في الجميع أعضاء يتوجب عليهم أن ينفذوا قرارات الحزب وأن يؤدوا الدور الذي تطلبه القيادات منهم ، وألا يكفوا عن الأنشطة الحزبية وتدفع المثقفين إلي التجمعات النقابية والثقافية ليس لمزاولة دور ثقافي ، بل لمزاولة دور حربي وبالتالي فإن مردود ذلك كله يعزز من مكانة الحزب ، لكنه لا يعزز من مكانة الثقافة .
وإزاء هذا الواقع المغلوط ، كان المثقفون – وما يزالون – يطالبون بمعاملة مختلفة ، ويوضع مختلف ، وضع يستفيد بالدرجة الأولي ، لا من إمكاناتهم التنظيمية الحزبية أو النقابية ، بل من إمكاناتهم الثقافية باعتبارهم مهيئين أساساً ككتاب وأدباء وفنانين … إلخ ، ومن هنا بدأ أولئك المثقفون يطالبون بما يخصهم ويدعون إلي أولوية الثقافي علي السياسي باعتبار أن المجال الثقافي هو المجال الذي يبرعون فيه أكثر وهو المجال الأقرب إلي اهتماماتهم ، وهو – بعد ذلك – المجال الذي يتيح لهم أن يلعبوا الدور المفيد أكثر ، ويري المثقفون أن العمل السياسي أو النضال الحزبي يقوم أساساً علي نوعين من الاعتبارات ، فهناك اعتبارات مرحلية تكتيكية أي اعتبارات سياسية آنية تلاحق الأحداث والمستجدات وتكيف نفسها وفق تلك الأحداث .
وهناك – من جهة ثانية – اعتبارت إستراتيجية طويلة الأمد ، لها مفعول بطئ قد لا يكون منظوراً لكنه مفعول تراكمي مستقبلي ، يبني أساساً راسخاً مغذياً للوعي والعقل ومفيداً للبنية التظيمية ويخدم أهدافها البعيدة دائماً وأهدافها القريبة أحياناً .
من تجارب المثقفين :
يقول أحد الكتاب من زملائنا الأردنيين إن مثل هذه الإشكالية في الأردن بالذات كانت قائمة ما بين الأحزاب وبخاصة الاحزاب اليسارية وبين مثقفي هذه الأحزاب ..
وهذه الإشكالية لم تكن محصورة داخل الأحزاب نفسها بل أنها أتخذت أشكالاً واضحة في المؤسسات الثقافية الموجودة .. وكلنا يعرف أن هذه الإشكالية كانت وما تزال من الإشكاليات الأساسية التي تعاني منها مؤسسة ثقافية مهمة مثل رابطة الكتاب الأردنيين.
وهذه الإشكالية من الأسباب الرئيسية التي حركت الصراعات داخل الرابطة ، وأعاقت إلي حد كبير من إمكانية قيامها بالدور المرجو منها علي الصعيد الثقافي .
ويضيف الزميل الكاتب قائلاً : وهكذا فبدلاً من أن تكون الخلفية الثقافية لأعضاء الرابطة سبباً لتجمعهم في خدمة هم موحد ، وقاعدة لأرضية مشتركة ، حددتها الأهداف النبيلة التي تضمنها النظام الداخلي للرابطة ، بدلاً من ذلك حصل أمر مخالف تماماً ، إذ أدت هيمنة الخلفية السياسية التنظيمية إلي أولوية السياسي أي السياسي بمعناه التنظيمي الحزبي الضيق إلي صراعات علي المقاعد والمراكز الإدارية ، جعلت من غالبية أعضاء الرابطة مجرد أصوات انتخابية وقلصت بالتالي من نشاطهم الثقافي الإبداعي أو أنها جعلته دون المستوي الإبداعي المطلوب علي الصعيد الفردي ، وقلصت من الدور الثقافي المطلوب علي الصعيد الاجتماعي العام .
وتؤكد تجربة كاتب هذه السطور ، أن ما ذهب إليه الزميل مستخلص من واقع المعيشة و المعاينة كعضو في الرابطة وكمثقف متميز ، وكعضو ملتزم بأحد حزبين كانا يقودان صراعات الرابطة الانتخابية والإدارية فقد كنت متعاوناً أو متعاطفاً مع الحزب نفسه ، وأرشح نفسي علي قائمته ، وأقبل ما تتوصل إليه قيادة الحزب من تفاهم علي قائمة موحدة مع الحزب المنافس الآخر ، وأري في النجاح مهمة حزبية ، وأري في الفشل أيضاً مهمة حزبية ، لا علاقة لي بها ، يتحمل الحزب نتيجتها ، لأنه لم يكن مؤهلاً لحشد العدد الكافي من الأصوات !
فالحزب كان يحب أن يستفيد من نجاح المثقف المعروف ، أو المبدع المعروف ، لأن اسمه سوف يرتبط في المخيلة العامة باسم الحزب ، ولأن المبدع يؤثر في متابعيه ومعجبيه ، فإنه بالضرورة سوف يؤثر فيهم باتجاه اختياره لحزب معين ويؤدي هذا إلي تعزيز سمعة الحزب وإثراء موقعه الجماهيري أي أن الحزب يستفيد من المثقف ويستثمر صيته وطاقاته ويوظفها لخدمة أغراض انتشاره والترويج لبرامجه ، لكن ما يستفيده المثقف بالمقابل ، لا يزيد عن الاهتمام به في أدبيات الحزب وفي أحاديث الرفاق ، ولا تكون في العادة أدبيات الحزب ذات رواج وانتشار كما لا يكون عدد الرفاق كبيراً ومؤثراً .
وقد أدرك الكتاب خطورة تغليب السياسي علي الثقافي وأنتبهوا متأخرين إلي ضرورة تغليب الثقافي علي السياسي وهذا ما أكدته انتخابات التسعينيات في الرابطة ، حيث لم تكن فيها سيطرة لأي من الحزبين المتنافسين وهذا معناه ، أن
( الحزب ) قد خسر موقعاً ويرهن علي أن سياسته السابقة أو نظرته السابقة إلي المثقف لم تكن صحيحة وأستطيع أن أجزم اليوم أن الذين يقودون الرابطة جميعاً ليست لهم ارتباطات حزبية ، ولا يعبر نجاحهم عن نجاح حزب بعينه ، بل لا يعبر نجاح أي عضو في الهيئة الإدارية عن نجاح وحزب أو تنظيم .
وهذا يقودنا إلي القول ، إن كل الصراعات الماضية لم يكن لها مبرر ، ولا تتحلي بالوجاهة والتقيدر ، وأنها كانت مضيعة للوقت والجهد ، ومضيعة لأغراض الأحزاب وهدراً لأغراض المثقفين ، كما يقودنا هذا إلي القول إن تراكم الخبرات والتجارب نبه المثقفين إلي عدم جواز استخدامهم من قبل الأحزاب ، كما لو كانوا أعضاء أو متعاونين أو متعاطفين عاديين ، ونبه الأحزاب أيضاً إلي ضرورة معاودة النظر إلي المثقف علي أنه كائن غير قابل للتكتيل والاستخدام وأنه جدير بالدعم والتشجيع والمؤازرة من الحزب لا لغايات تكبير الحزب ، بل لغايات تكبير دور الثقافة ، بعيداً عن تفاصيل المعتقد الحزبي .
تجارب عربية :
وعلي الرغم من قدم التجربة الحزبية في الأردن وتداخلها في التجربة الحزبية في فلسطين ، وامتدادها وتشابكها مع التجربة الحزبية في أقطار عربية أخري وخاصة في سوريا ولبنان والعراق ، فإنها لم تستطع التوصل إلي صيغة ناضجة ومقبولة لحل إشكالية الحزبي والثقافي أو أشكالية السياسي والثقافي خارج الإطار النظري كما لم تستطع التوصل لأسباب ذاتية وموضوعية – إلي صيغة برامجية واقعية يقدم فيها الحزب خدمة ملحوظة للمثقف ومن المفيد أن نطل علي بعض التجارب العربية علي هذا الصعيد ، ونذكر علي سبيل الحصر أن المؤسسة التنظيمية العربية الوحيدة في الوطن العربي التي أولت للفن السابع (السينما) اهتماماً يستحق التنويه ، هي فصائل الثورة الفلسطينية فقد أسست حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في عام 1969 ، وحدة للسينما في قسم التصوير التابع للإعلام في الأردن ، وهي الوحدة التي تحولت فيما بعد إلي مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت وأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قسما للسينما في بيروت وكذلك أسست الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين قسماً للسينما في بيروت أيضاً ، وكان هناك قسم للسينما في دائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية ونشأت كثافة هذا الاهتمام بالسينما نتيجة لحاجة الثورة الناشئة إلي الإعلام ، وعزز هذا الاهتمام توافر الأموال اللازمة ، إذ إن تكلفة الإنتاج السينمائي في العادة تكون باهظة ، وقد أنتجت الجبهة الشعبية فيلماً روائياً عن قصة الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني ، عائد إلي حيفاء عام 1982 ، وأنتجت الجبهة الديمقراطية فيلماً روائياً باسم ” مائة وجه ليوم واحد ” عام 1971.
ونجحت السينما الفلسطينية في استقطاب الكفاءات والطاقات والخبرات العربية في المجال السينمائي فلوافد إليها السينمائيون العرب والفلسطينيون ، وتشارك الجميع في النضال من أجل صنع سينما فلسطينية تنقل الثورة إلي الجماهير في العالم العربي والعالم أجمع ، وهذا أدي بدوره إلي استقطاب عدد كبير من سينمائي العالم وبوجه الخصوص التقدميون منهم وقفزت السينما الفلسطينية إلي مراتب متقدمة ، بحيث صارت ذات حضور متميز ، وقادرة علي المشاركة في المهرجانات الدولية ، والتنافس مع أحدث النتاجات السينمائية في العالم .
وربما كان الأساس في النجاح الذي حققته السينما الفلسطينية هو أستقلالية المبدعين السينمائين وعدم تعامل فصائل الثورة الفلسطينية معهم ككوادر حزبية تقع في خانة الخدمة المباشرة للتنظيم فالهدف العريض لا خلاف عليه وهوامش الحركة الحرة في مثل هذه الحالة تصبح واسعة ومحفرة علي العطاء والإبداع ويعود المردود المعنوي في النهاية لصالح الثورة الفلسطينية ولصالح أهدافها في التحرير والعودة .
وهناك تجارب عربية أخري مقيدة في مجال تنظيم العلاقة بين المثقف والحزب وتصحيحها ، وفي تجربة بعض الأحزاب اليسارية ما تتجلي فيه هذه الفائدة علي نحو أوضح من غيرها ونذكر هنا لمحة عن تجربة الحزب الشيوعي اللبناني وهو الحزب الذي استقطب أكبر عدد من المثقفين ممن كانت لهم أدوارهم المهمة في الحياة الثقافية والسياسية في لبنان ومن هؤلاء من كان ملتزماً حزبياً ، ويؤدي وظائفه الحزبية التنظيمية دون أن تكون لها الأولوية علي الوظائف الفكرية والإبداعية أو علي حسابها من أمثال حسين مروة ومهدي عامل ومحمد دكروب وغيرهم ومن هؤلاء أيضاً من ارتبط بالحزب من غير تنظيم أو التزام تنظيمي وبقي ملتزماً من الناحية الأدبية والمعنوية وهنا سمح بوجود بعض التعارضات في المواقف لكنها تعارضات تدل علي وجود هامش من الحرية لا غني للمبدع عنه وفي حالتي هؤلاء وأولئك ، كان الحزب يقدر الجميع ، ويتعامل معهمو كثقفين لا كأعضاء في الحزب ويطلب منهم ما يستطيعون عمله ، وما يجيدونه كمثقفين والأهم من ذلك أن الحزب لم يكتف بأن يطلب منهم أن يلعبوا دورهم بل خلق مناخاً ملائماً لذلك ، إذ أنشأ المؤسسات الثقافية التي دعمت جهدهم عملياً ، فالحزب ملك دار الفارابي للنشر والتوزيع وهي من دور النشر والتوزيع العربية البارزة والحزب يملك مجلة الطريق ، وهي أيضاً من المجلات العربية الكبري المعروفة وهو الذي دعم فرقة الفنان مارسيل خليفة وشجعها وهو الذي طور المسرح اللبناني من خلال الفنان جلال خوري ! وهو الذي دعم حركة الفن التشكيلي وشجع عدداً من الفنانين مثل التشكيلي المعروف المرحوم بول غيراغوسيان وغيره والحزب هو الذي أصدر جريدة الأخبار الأسبوعية وأصدر جريدة النداء اليومية .
في مواجهة الغزو الثقافي :
قبل سنوات عرضت شاشات التلفزة برنامجاً وثائقياً أميركياً عن الإعلام المرئي وتأثيره في الشعوب وظهر في البرنامج مشهد في كوخ مقام من القش ، فوق أرض ترابية جافة في قرية إفريقية شديدة التخلف .. وفي داخل الكوخ عائلة إفريقية شديدة الفقر والبؤس تتابع باهتمام البرنامج الأميركي الشهير ، الذي غزا العالم لسنوات طوال : ” دالاس” . وفي هذه الفترة لو ذهب الفريق التليفزيوني نفسه وإلي الكوخ الإفريقي نفسه لوجد العائلة نفسها منكبة علي برنامج الجرئ والجميلة الذائع الصيت في كل أرجاء المعمورة وهذه الملاحظة تصور لنا أن هناك حقيقة ملموسة أوامراًُ واقعياً يدل علي النقطة التي وصل إليها الغزو الثقافي الإمبريالي وهي نقطة شديدة الحساسية ، لأنها تكمن في صميم عقول الشعوب .. وهذا بلا شك يترك تاثيراته التقنية والنفسية والفكرية والاجتماعية ، ويشير بسطوع إلي دور الثقافة الخطير في إعادة تشكيل شخصيات الأفراد علي مستوي العالم بعامة ، وعلي مستوي بلدان العالم الثالث بخاصة .
وفي ظني أن أكثر الأحزاب العربية وفي مقدمتها الأحزاب اليسارية قد تجالهت هذا الخطر ، واكتفت بالخوض فيه من الناحية النظرية فقط أي أن أدبيات هذه الأحزاب تكثر من الحديث عن خطر الثقافة الإمبريالية ، وعن ضرورة مواجهتها ، إلا أنها تتوقف عند هذا الحد ولا تنتقل إلي الممارسة الفعلية بل أن بعض أدبيات هذه الأحزاب ، كانت تحث المثقفين علي أخذ دورهم النضالي والتصدي للثقافة الوافدة الاستهلاكية وضرورة التغلغل بين الجماهير ولعب دور مضاد وتعبئتها باتجاه المحافظة علي شخصيتها ووعيها وتراثها واصالتها و..غلخ وفي الوقت نفسه فإن المثقفين لم يكونوا في حاجة لمن يحثهم علي لعب هذا الدور لأنه يقع في صلب اهتمامهم ، وقد بذلوا جهوداً فردية قصوي إلا أنهم لم يتمكنوا من التصدي للهجمة بسبب ضخامة الاستعدادات والإمكانات المتوافرة للغزو وضآلة هذه الاستعدادات والإمكانات لدي المثقفين وغياب الحياة المؤسسية التي يفترض بالأحزاب أن تتولي إنشاءها ودعمها وتشجيعها وليس السلطات الرسمية التي دأبت علي تهيئة الأجواء لدخول الغزو الأجنبي إلينا بليونة ويسر .
مقاومة التطبيع الثقافي :
ويظهور مصطلح التطبيع إثر التوقيع علي اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ، بدأت الأحزاب العربية تتحمل مسئولية جديدة إضافية وهي مسئولية تعبئة الجماهير نحو مقاطعة العدو بكل الصور والأشكال وخاصة علي الصعيد الثقافي ، وفي هذا الشأن ، عادت الأحزاب إلي نقل المسئولية إلي المثقفين وشرعت في حثهم علي مقاومة التطبيع الثقافي في حين أن للأحزاب دوراً أوسع من ذلك وهو مقاومة التطبيع علي أصعدة أخري ، مثل التطبيع التجاري والصناعي والزراعي .
وعلي الرغم من أهمية الدور المطلوب من المثقفين وأهمية مقاومة التطبيع الثقافي علي وجه الخصوص ، فإن التقليل من شأن التطبيع علي الجبهات الأخري، أعني الجبهات غير الثقافية ليس لصالح الصراع العربي الصهيوني وليس لصالح القضية الفلسطينية ، وأعتقد أن اكتفاء الأحزاب بالبيانات والتصريحات ونشر المقالات في صفحاتها وهي صحافة محودة الانتشار كما أسلفنا ، ليس هو الدور المطلوب من الأحزاب ، وما دامت هذه الأحزاب تطرح نفسها كمعارضة أو كبديل للسلطات الحاكمة ، فإن من واجبها أن تعمل علي إنشاء مؤسساتها وأن تعمل علي إنشاء كل الوسائل التي تمكنها من نشر أهدافها وبرامجها ، وتمكنها من مواجهة وسائل السلطة وهي في العادة وسائل ضخمة تقف من ورائها إمكانات ضخمة .
ويبدو أن الأحزاب معنية في هذه المرحلة بالدعوة إلي مقاومة التطبيع الثقافي والاكتفاء بأن أعضاءها أو المتعاطفين معها صمدوا ولم يقترفوا إثم التطبيع في حين أن هناك اختراقات تطبيعية في أواسط إعلامية وصحفية وأدبية وفنية لم تقف الأحزاب منها موقفاً حاسماً أو موقفاً رادعاً تحت ذريعة أن المطيعين ليسوا من كواد الحزب أو تحت ذريعة أن المطيعين من أعوان السلطات الحاكمة ولم يلتفت أحد إلي أن المصالح الحياتية الأعتيادية المقرونة بنقض الثقافة النضالية هي التي تدفع بالمطيعين إلي التعامل – بشكل أو بآخر – مع العدو . ومن المفترض أن تصل الأحزاب إلي هذه المواقع وأن تبذل جهوداً أكبر في سبيل منع التطبيع الثقافي وفي سبيل منع أشكال التطبيع الأخري ، وفي سبيل إبقاء جذوة الصراع مع العدو متأججة ، إلي أن تحين فرصة مواتية لتصعيد هذا الصراع الذي يقوم علي صراع الوجود وليس صراع الحدود .
ملاحظــات أخيرة :
نحن لا نقسو علي الأحزاب رغبة منا في القسوة بل رغبة منا في تطوير نفسها نحو الأفضل بحيث تصل إلي أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة وإلي أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة ، وإلي أوسع تأثير ممكن في زمن قوة السلطة الحاكمة وفي زمن انتشار الثقافة الاستهلاكية وهذا يدعو إلي أخذ القضية – أي قضية – علي نحو أكثر شمولاً ، والإيمان بالتأثير القوي للثقافة عبر التاريخ كله ، في تشكيل حياة المجتمعات وفي توجيه مسيرتها نحو التقدم والنمو ، ومن المؤكد أن أرقي نشاط إنساني هو النشاط الثقافي لأنه يعبر عن الوجدان والروح ، وهو ما لا تستطيع الأنشطة الإنسانية الأخري أن تعبر عنه أو تقوم مقامه .
يقول الناقد السينمائي المعروف عدنان مدنات : في حين كان المثقفون يجاهدون فرادي أي بقواهم الذاتية كأفراد في معظم الأحيان فقد كانوا في الحقيقة محتاجين لقوي تدعمهم قوي يرتبطون بها بهذا الشكل أو ذاك ويجمعهم معها أهداف وتطلعات وهموم ومشتركة هذه القوي هي الأحزاب الوطنية ، ( من قومية ويسارية ) التي كانت تلقي المهمات علي عاتق المثقفين دون أن تبذل من جهتها مما يساعد في دعم المثقفين ، ودون أن تسعي إلي تأسيس دعامة لهم علي المستوي المادي .
ويضيف مدنات قائلاً : إن تلك الأحزاب كانت تلقي الكرة في ملعب المثقفين ، وهي إذ تفعل ذلك لا تغفر لهم أي خطأ أو قصور وبخاصة حينما يتعلق ذلك الخطأ أو القصور بالعلاقة التنظيمية مع الحزب أو باختلاف بعض المواقف علي الصعيد السياسي أو الفكري .
خاتمــة :
هذه أفكار عاملة تحاول تصوير واقع العلاقة بين الأحزاب العربية والمثقفين العرب وتحاول تصوير العلاقة بين الحزبي والمثقف وتسعي إلي شد الانتباه إلي قضايا الأمة التي تحتاج إلي جهود المثقفين ولا أدعي أنني قدمت مقترحات أو توصيات بشأن رفع سوية العلاقة بين الحزب والمثقف وهو ما أتطلع إلي استخلاصه وطرحه من خلال النقاش .
يوليو 16 2010
الاحزاب العربية والثقافية………………………… فخري قعوار
تقديم :
لقد واجهتني صعوبة بالغة في إعداد هذه الورقة تتمثل في عدم توافر مراجع مكتوبة حول علاقة الأحزاب السياسية العربية بالثقافة ، أو علاقة الأحزاب بالمثقفين أو علاقة الاحزاب بأعضائها من المثقفين أو علاقة الأحزاب بأصدقائها والمتعاونين معها من المثقفين .
وبرغم وفرة الكتابات التي تبحث في علاقة السياسي بالثقافي أو علاقة المثقف بالسياسي فإن ما أطلعت عليه ظل يدور في الإطار النظري أو في إطار ما هو بعيد عن موضوع البحث وإن كان يفيده ويثريه .
وهذا ما دعاني إلي الاستعانة بعدد من الزملاء ممن أتيح لهم الأطلاع عن قرب علي نظرة الأحزاب إلي المثقفين وإلي الثقافة ، فأفادوني بتجاربهم وبآرائهم مما ساعد علي ظهور هذه الورقة واستكمالها علي هذا النحو وإعطائها هذا البعد الخارج عن حدود الفطر ، وإن كنت لا أدعي أنها حققت طموحها في الشمول الأوسع المنشود .
إشكالية عامة :
تكثر الاحزاب السياسية العربية من تأكيداتها علي دور الثقافة في تشكيل الوعي الجماهيري وعلي أهمية هذا الدور في وصول أهداف الحزب وغاياته إلي الناس وتشهد الأدبيات الحزبية زخماً وفيراً من هذه التأكيدات مما يدخل في نفس المتابع والقارئ والمهتم بأن الأحزاب تعرف دورها وتتفهم علاقتها بالمثقفين والثقافة غير أن واقع الممارسة الفعلية مجال ترجمة التأكيدات النظرية إلي واقع ملموس ولعل هذا التناقض يعود إلي جذره الأبعد ، وهو إشكالية الحزبي والثقافي التي ما فتئ المثقفون يطرحونها في كتاباتهم وفي أحاديثهم وفي مجالسهم وبالأخص أولئك المثقفون الملتزمون بمواقف أحزاب بعينها سواء أكان هذا الالتزام علي مستوي العضوي الكاملة أم علي مستوي المؤازرة ويمكن القول إن نظرة القيادات الحزبية إلي المثقفين المتعاطفين معها أ والمتعاونين معها أو حتي الملتزمين بسياستها ، لا نفرق بين العضو الحزبي العادي أو المتعاطف العادي مع الحزب وبين المثقف ،وتري في الجميع أعضاء يتوجب عليهم أن ينفذوا قرارات الحزب وأن يؤدوا الدور الذي تطلبه القيادات منهم ، وألا يكفوا عن الأنشطة الحزبية وتدفع المثقفين إلي التجمعات النقابية والثقافية ليس لمزاولة دور ثقافي ، بل لمزاولة دور حربي وبالتالي فإن مردود ذلك كله يعزز من مكانة الحزب ، لكنه لا يعزز من مكانة الثقافة .
وإزاء هذا الواقع المغلوط ، كان المثقفون – وما يزالون – يطالبون بمعاملة مختلفة ، ويوضع مختلف ، وضع يستفيد بالدرجة الأولي ، لا من إمكاناتهم التنظيمية الحزبية أو النقابية ، بل من إمكاناتهم الثقافية باعتبارهم مهيئين أساساً ككتاب وأدباء وفنانين … إلخ ، ومن هنا بدأ أولئك المثقفون يطالبون بما يخصهم ويدعون إلي أولوية الثقافي علي السياسي باعتبار أن المجال الثقافي هو المجال الذي يبرعون فيه أكثر وهو المجال الأقرب إلي اهتماماتهم ، وهو – بعد ذلك – المجال الذي يتيح لهم أن يلعبوا الدور المفيد أكثر ، ويري المثقفون أن العمل السياسي أو النضال الحزبي يقوم أساساً علي نوعين من الاعتبارات ، فهناك اعتبارات مرحلية تكتيكية أي اعتبارات سياسية آنية تلاحق الأحداث والمستجدات وتكيف نفسها وفق تلك الأحداث .
وهناك – من جهة ثانية – اعتبارت إستراتيجية طويلة الأمد ، لها مفعول بطئ قد لا يكون منظوراً لكنه مفعول تراكمي مستقبلي ، يبني أساساً راسخاً مغذياً للوعي والعقل ومفيداً للبنية التظيمية ويخدم أهدافها البعيدة دائماً وأهدافها القريبة أحياناً .
من تجارب المثقفين :
يقول أحد الكتاب من زملائنا الأردنيين إن مثل هذه الإشكالية في الأردن بالذات كانت قائمة ما بين الأحزاب وبخاصة الاحزاب اليسارية وبين مثقفي هذه الأحزاب ..
وهذه الإشكالية لم تكن محصورة داخل الأحزاب نفسها بل أنها أتخذت أشكالاً واضحة في المؤسسات الثقافية الموجودة .. وكلنا يعرف أن هذه الإشكالية كانت وما تزال من الإشكاليات الأساسية التي تعاني منها مؤسسة ثقافية مهمة مثل رابطة الكتاب الأردنيين.
وهذه الإشكالية من الأسباب الرئيسية التي حركت الصراعات داخل الرابطة ، وأعاقت إلي حد كبير من إمكانية قيامها بالدور المرجو منها علي الصعيد الثقافي .
ويضيف الزميل الكاتب قائلاً : وهكذا فبدلاً من أن تكون الخلفية الثقافية لأعضاء الرابطة سبباً لتجمعهم في خدمة هم موحد ، وقاعدة لأرضية مشتركة ، حددتها الأهداف النبيلة التي تضمنها النظام الداخلي للرابطة ، بدلاً من ذلك حصل أمر مخالف تماماً ، إذ أدت هيمنة الخلفية السياسية التنظيمية إلي أولوية السياسي أي السياسي بمعناه التنظيمي الحزبي الضيق إلي صراعات علي المقاعد والمراكز الإدارية ، جعلت من غالبية أعضاء الرابطة مجرد أصوات انتخابية وقلصت بالتالي من نشاطهم الثقافي الإبداعي أو أنها جعلته دون المستوي الإبداعي المطلوب علي الصعيد الفردي ، وقلصت من الدور الثقافي المطلوب علي الصعيد الاجتماعي العام .
وتؤكد تجربة كاتب هذه السطور ، أن ما ذهب إليه الزميل مستخلص من واقع المعيشة و المعاينة كعضو في الرابطة وكمثقف متميز ، وكعضو ملتزم بأحد حزبين كانا يقودان صراعات الرابطة الانتخابية والإدارية فقد كنت متعاوناً أو متعاطفاً مع الحزب نفسه ، وأرشح نفسي علي قائمته ، وأقبل ما تتوصل إليه قيادة الحزب من تفاهم علي قائمة موحدة مع الحزب المنافس الآخر ، وأري في النجاح مهمة حزبية ، وأري في الفشل أيضاً مهمة حزبية ، لا علاقة لي بها ، يتحمل الحزب نتيجتها ، لأنه لم يكن مؤهلاً لحشد العدد الكافي من الأصوات !
فالحزب كان يحب أن يستفيد من نجاح المثقف المعروف ، أو المبدع المعروف ، لأن اسمه سوف يرتبط في المخيلة العامة باسم الحزب ، ولأن المبدع يؤثر في متابعيه ومعجبيه ، فإنه بالضرورة سوف يؤثر فيهم باتجاه اختياره لحزب معين ويؤدي هذا إلي تعزيز سمعة الحزب وإثراء موقعه الجماهيري أي أن الحزب يستفيد من المثقف ويستثمر صيته وطاقاته ويوظفها لخدمة أغراض انتشاره والترويج لبرامجه ، لكن ما يستفيده المثقف بالمقابل ، لا يزيد عن الاهتمام به في أدبيات الحزب وفي أحاديث الرفاق ، ولا تكون في العادة أدبيات الحزب ذات رواج وانتشار كما لا يكون عدد الرفاق كبيراً ومؤثراً .
وقد أدرك الكتاب خطورة تغليب السياسي علي الثقافي وأنتبهوا متأخرين إلي ضرورة تغليب الثقافي علي السياسي وهذا ما أكدته انتخابات التسعينيات في الرابطة ، حيث لم تكن فيها سيطرة لأي من الحزبين المتنافسين وهذا معناه ، أن
( الحزب ) قد خسر موقعاً ويرهن علي أن سياسته السابقة أو نظرته السابقة إلي المثقف لم تكن صحيحة وأستطيع أن أجزم اليوم أن الذين يقودون الرابطة جميعاً ليست لهم ارتباطات حزبية ، ولا يعبر نجاحهم عن نجاح حزب بعينه ، بل لا يعبر نجاح أي عضو في الهيئة الإدارية عن نجاح وحزب أو تنظيم .
وهذا يقودنا إلي القول ، إن كل الصراعات الماضية لم يكن لها مبرر ، ولا تتحلي بالوجاهة والتقيدر ، وأنها كانت مضيعة للوقت والجهد ، ومضيعة لأغراض الأحزاب وهدراً لأغراض المثقفين ، كما يقودنا هذا إلي القول إن تراكم الخبرات والتجارب نبه المثقفين إلي عدم جواز استخدامهم من قبل الأحزاب ، كما لو كانوا أعضاء أو متعاونين أو متعاطفين عاديين ، ونبه الأحزاب أيضاً إلي ضرورة معاودة النظر إلي المثقف علي أنه كائن غير قابل للتكتيل والاستخدام وأنه جدير بالدعم والتشجيع والمؤازرة من الحزب لا لغايات تكبير الحزب ، بل لغايات تكبير دور الثقافة ، بعيداً عن تفاصيل المعتقد الحزبي .
تجارب عربية :
وعلي الرغم من قدم التجربة الحزبية في الأردن وتداخلها في التجربة الحزبية في فلسطين ، وامتدادها وتشابكها مع التجربة الحزبية في أقطار عربية أخري وخاصة في سوريا ولبنان والعراق ، فإنها لم تستطع التوصل إلي صيغة ناضجة ومقبولة لحل إشكالية الحزبي والثقافي أو أشكالية السياسي والثقافي خارج الإطار النظري كما لم تستطع التوصل لأسباب ذاتية وموضوعية – إلي صيغة برامجية واقعية يقدم فيها الحزب خدمة ملحوظة للمثقف ومن المفيد أن نطل علي بعض التجارب العربية علي هذا الصعيد ، ونذكر علي سبيل الحصر أن المؤسسة التنظيمية العربية الوحيدة في الوطن العربي التي أولت للفن السابع (السينما) اهتماماً يستحق التنويه ، هي فصائل الثورة الفلسطينية فقد أسست حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) في عام 1969 ، وحدة للسينما في قسم التصوير التابع للإعلام في الأردن ، وهي الوحدة التي تحولت فيما بعد إلي مؤسسة السينما الفلسطينية في بيروت وأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قسما للسينما في بيروت وكذلك أسست الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين قسماً للسينما في بيروت أيضاً ، وكان هناك قسم للسينما في دائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية ونشأت كثافة هذا الاهتمام بالسينما نتيجة لحاجة الثورة الناشئة إلي الإعلام ، وعزز هذا الاهتمام توافر الأموال اللازمة ، إذ إن تكلفة الإنتاج السينمائي في العادة تكون باهظة ، وقد أنتجت الجبهة الشعبية فيلماً روائياً عن قصة الكاتب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني ، عائد إلي حيفاء عام 1982 ، وأنتجت الجبهة الديمقراطية فيلماً روائياً باسم ” مائة وجه ليوم واحد ” عام 1971.
ونجحت السينما الفلسطينية في استقطاب الكفاءات والطاقات والخبرات العربية في المجال السينمائي فلوافد إليها السينمائيون العرب والفلسطينيون ، وتشارك الجميع في النضال من أجل صنع سينما فلسطينية تنقل الثورة إلي الجماهير في العالم العربي والعالم أجمع ، وهذا أدي بدوره إلي استقطاب عدد كبير من سينمائي العالم وبوجه الخصوص التقدميون منهم وقفزت السينما الفلسطينية إلي مراتب متقدمة ، بحيث صارت ذات حضور متميز ، وقادرة علي المشاركة في المهرجانات الدولية ، والتنافس مع أحدث النتاجات السينمائية في العالم .
وربما كان الأساس في النجاح الذي حققته السينما الفلسطينية هو أستقلالية المبدعين السينمائين وعدم تعامل فصائل الثورة الفلسطينية معهم ككوادر حزبية تقع في خانة الخدمة المباشرة للتنظيم فالهدف العريض لا خلاف عليه وهوامش الحركة الحرة في مثل هذه الحالة تصبح واسعة ومحفرة علي العطاء والإبداع ويعود المردود المعنوي في النهاية لصالح الثورة الفلسطينية ولصالح أهدافها في التحرير والعودة .
وهناك تجارب عربية أخري مقيدة في مجال تنظيم العلاقة بين المثقف والحزب وتصحيحها ، وفي تجربة بعض الأحزاب اليسارية ما تتجلي فيه هذه الفائدة علي نحو أوضح من غيرها ونذكر هنا لمحة عن تجربة الحزب الشيوعي اللبناني وهو الحزب الذي استقطب أكبر عدد من المثقفين ممن كانت لهم أدوارهم المهمة في الحياة الثقافية والسياسية في لبنان ومن هؤلاء من كان ملتزماً حزبياً ، ويؤدي وظائفه الحزبية التنظيمية دون أن تكون لها الأولوية علي الوظائف الفكرية والإبداعية أو علي حسابها من أمثال حسين مروة ومهدي عامل ومحمد دكروب وغيرهم ومن هؤلاء أيضاً من ارتبط بالحزب من غير تنظيم أو التزام تنظيمي وبقي ملتزماً من الناحية الأدبية والمعنوية وهنا سمح بوجود بعض التعارضات في المواقف لكنها تعارضات تدل علي وجود هامش من الحرية لا غني للمبدع عنه وفي حالتي هؤلاء وأولئك ، كان الحزب يقدر الجميع ، ويتعامل معهمو كثقفين لا كأعضاء في الحزب ويطلب منهم ما يستطيعون عمله ، وما يجيدونه كمثقفين والأهم من ذلك أن الحزب لم يكتف بأن يطلب منهم أن يلعبوا دورهم بل خلق مناخاً ملائماً لذلك ، إذ أنشأ المؤسسات الثقافية التي دعمت جهدهم عملياً ، فالحزب ملك دار الفارابي للنشر والتوزيع وهي من دور النشر والتوزيع العربية البارزة والحزب يملك مجلة الطريق ، وهي أيضاً من المجلات العربية الكبري المعروفة وهو الذي دعم فرقة الفنان مارسيل خليفة وشجعها وهو الذي طور المسرح اللبناني من خلال الفنان جلال خوري ! وهو الذي دعم حركة الفن التشكيلي وشجع عدداً من الفنانين مثل التشكيلي المعروف المرحوم بول غيراغوسيان وغيره والحزب هو الذي أصدر جريدة الأخبار الأسبوعية وأصدر جريدة النداء اليومية .
في مواجهة الغزو الثقافي :
قبل سنوات عرضت شاشات التلفزة برنامجاً وثائقياً أميركياً عن الإعلام المرئي وتأثيره في الشعوب وظهر في البرنامج مشهد في كوخ مقام من القش ، فوق أرض ترابية جافة في قرية إفريقية شديدة التخلف .. وفي داخل الكوخ عائلة إفريقية شديدة الفقر والبؤس تتابع باهتمام البرنامج الأميركي الشهير ، الذي غزا العالم لسنوات طوال : ” دالاس” . وفي هذه الفترة لو ذهب الفريق التليفزيوني نفسه وإلي الكوخ الإفريقي نفسه لوجد العائلة نفسها منكبة علي برنامج الجرئ والجميلة الذائع الصيت في كل أرجاء المعمورة وهذه الملاحظة تصور لنا أن هناك حقيقة ملموسة أوامراًُ واقعياً يدل علي النقطة التي وصل إليها الغزو الثقافي الإمبريالي وهي نقطة شديدة الحساسية ، لأنها تكمن في صميم عقول الشعوب .. وهذا بلا شك يترك تاثيراته التقنية والنفسية والفكرية والاجتماعية ، ويشير بسطوع إلي دور الثقافة الخطير في إعادة تشكيل شخصيات الأفراد علي مستوي العالم بعامة ، وعلي مستوي بلدان العالم الثالث بخاصة .
وفي ظني أن أكثر الأحزاب العربية وفي مقدمتها الأحزاب اليسارية قد تجالهت هذا الخطر ، واكتفت بالخوض فيه من الناحية النظرية فقط أي أن أدبيات هذه الأحزاب تكثر من الحديث عن خطر الثقافة الإمبريالية ، وعن ضرورة مواجهتها ، إلا أنها تتوقف عند هذا الحد ولا تنتقل إلي الممارسة الفعلية بل أن بعض أدبيات هذه الأحزاب ، كانت تحث المثقفين علي أخذ دورهم النضالي والتصدي للثقافة الوافدة الاستهلاكية وضرورة التغلغل بين الجماهير ولعب دور مضاد وتعبئتها باتجاه المحافظة علي شخصيتها ووعيها وتراثها واصالتها و..غلخ وفي الوقت نفسه فإن المثقفين لم يكونوا في حاجة لمن يحثهم علي لعب هذا الدور لأنه يقع في صلب اهتمامهم ، وقد بذلوا جهوداً فردية قصوي إلا أنهم لم يتمكنوا من التصدي للهجمة بسبب ضخامة الاستعدادات والإمكانات المتوافرة للغزو وضآلة هذه الاستعدادات والإمكانات لدي المثقفين وغياب الحياة المؤسسية التي يفترض بالأحزاب أن تتولي إنشاءها ودعمها وتشجيعها وليس السلطات الرسمية التي دأبت علي تهيئة الأجواء لدخول الغزو الأجنبي إلينا بليونة ويسر .
مقاومة التطبيع الثقافي :
ويظهور مصطلح التطبيع إثر التوقيع علي اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل ، بدأت الأحزاب العربية تتحمل مسئولية جديدة إضافية وهي مسئولية تعبئة الجماهير نحو مقاطعة العدو بكل الصور والأشكال وخاصة علي الصعيد الثقافي ، وفي هذا الشأن ، عادت الأحزاب إلي نقل المسئولية إلي المثقفين وشرعت في حثهم علي مقاومة التطبيع الثقافي في حين أن للأحزاب دوراً أوسع من ذلك وهو مقاومة التطبيع علي أصعدة أخري ، مثل التطبيع التجاري والصناعي والزراعي .
وعلي الرغم من أهمية الدور المطلوب من المثقفين وأهمية مقاومة التطبيع الثقافي علي وجه الخصوص ، فإن التقليل من شأن التطبيع علي الجبهات الأخري، أعني الجبهات غير الثقافية ليس لصالح الصراع العربي الصهيوني وليس لصالح القضية الفلسطينية ، وأعتقد أن اكتفاء الأحزاب بالبيانات والتصريحات ونشر المقالات في صفحاتها وهي صحافة محودة الانتشار كما أسلفنا ، ليس هو الدور المطلوب من الأحزاب ، وما دامت هذه الأحزاب تطرح نفسها كمعارضة أو كبديل للسلطات الحاكمة ، فإن من واجبها أن تعمل علي إنشاء مؤسساتها وأن تعمل علي إنشاء كل الوسائل التي تمكنها من نشر أهدافها وبرامجها ، وتمكنها من مواجهة وسائل السلطة وهي في العادة وسائل ضخمة تقف من ورائها إمكانات ضخمة .
ويبدو أن الأحزاب معنية في هذه المرحلة بالدعوة إلي مقاومة التطبيع الثقافي والاكتفاء بأن أعضاءها أو المتعاطفين معها صمدوا ولم يقترفوا إثم التطبيع في حين أن هناك اختراقات تطبيعية في أواسط إعلامية وصحفية وأدبية وفنية لم تقف الأحزاب منها موقفاً حاسماً أو موقفاً رادعاً تحت ذريعة أن المطيعين ليسوا من كواد الحزب أو تحت ذريعة أن المطيعين من أعوان السلطات الحاكمة ولم يلتفت أحد إلي أن المصالح الحياتية الأعتيادية المقرونة بنقض الثقافة النضالية هي التي تدفع بالمطيعين إلي التعامل – بشكل أو بآخر – مع العدو . ومن المفترض أن تصل الأحزاب إلي هذه المواقع وأن تبذل جهوداً أكبر في سبيل منع التطبيع الثقافي وفي سبيل منع أشكال التطبيع الأخري ، وفي سبيل إبقاء جذوة الصراع مع العدو متأججة ، إلي أن تحين فرصة مواتية لتصعيد هذا الصراع الذي يقوم علي صراع الوجود وليس صراع الحدود .
ملاحظــات أخيرة :
نحن لا نقسو علي الأحزاب رغبة منا في القسوة بل رغبة منا في تطوير نفسها نحو الأفضل بحيث تصل إلي أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة وإلي أوسع قاعدة جماهيرية ممكنة ، وإلي أوسع تأثير ممكن في زمن قوة السلطة الحاكمة وفي زمن انتشار الثقافة الاستهلاكية وهذا يدعو إلي أخذ القضية – أي قضية – علي نحو أكثر شمولاً ، والإيمان بالتأثير القوي للثقافة عبر التاريخ كله ، في تشكيل حياة المجتمعات وفي توجيه مسيرتها نحو التقدم والنمو ، ومن المؤكد أن أرقي نشاط إنساني هو النشاط الثقافي لأنه يعبر عن الوجدان والروح ، وهو ما لا تستطيع الأنشطة الإنسانية الأخري أن تعبر عنه أو تقوم مقامه .
يقول الناقد السينمائي المعروف عدنان مدنات : في حين كان المثقفون يجاهدون فرادي أي بقواهم الذاتية كأفراد في معظم الأحيان فقد كانوا في الحقيقة محتاجين لقوي تدعمهم قوي يرتبطون بها بهذا الشكل أو ذاك ويجمعهم معها أهداف وتطلعات وهموم ومشتركة هذه القوي هي الأحزاب الوطنية ، ( من قومية ويسارية ) التي كانت تلقي المهمات علي عاتق المثقفين دون أن تبذل من جهتها مما يساعد في دعم المثقفين ، ودون أن تسعي إلي تأسيس دعامة لهم علي المستوي المادي .
ويضيف مدنات قائلاً : إن تلك الأحزاب كانت تلقي الكرة في ملعب المثقفين ، وهي إذ تفعل ذلك لا تغفر لهم أي خطأ أو قصور وبخاصة حينما يتعلق ذلك الخطأ أو القصور بالعلاقة التنظيمية مع الحزب أو باختلاف بعض المواقف علي الصعيد السياسي أو الفكري .
خاتمــة :
هذه أفكار عاملة تحاول تصوير واقع العلاقة بين الأحزاب العربية والمثقفين العرب وتحاول تصوير العلاقة بين الحزبي والمثقف وتسعي إلي شد الانتباه إلي قضايا الأمة التي تحتاج إلي جهود المثقفين ولا أدعي أنني قدمت مقترحات أو توصيات بشأن رفع سوية العلاقة بين الحزب والمثقف وهو ما أتطلع إلي استخلاصه وطرحه من خلال النقاش .
بواسطة admin • 09-متابعات ثقافية • 0 • الوسوم : العدد الثانى, فخري قعوار