الكتاب : صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي .
الكاتب : صامويل هنتجتون .
الترجمة : طلعت الشايب .
التقديم : د. صلاح قنصوة .
الناشر : سطور سنة 1998 .
لم يترجم إلي اللغة العربية لصامويل هنتجتون سوي كتاب وحيد هو النظام السياسي لمجتمعات متغيرة عن دار الساقي في عام 1992 ، وهو نفس العام الذي نشرت فيه فصيلة Foreign Affairs مقالة الشهير عن صدام الحضارات ذلك المقال الذي أثار جدلاً مستمراً وترجم إلي غالبية اللغات الحية ومنها العربية .
وقد شجعت الأصداء الواسعة للمقال أن يعمل المؤلف علي توسيع أطروحته ويجيب عن كثير من الأسئلة التي أثارتها ويسد ما رآه من ثغرات ، ويرغم صدور الكتاب في سنة 1996 فإن أفكاره الأساسية والإشكالية التي تعرض لها ليست غريبة علي القارئ العربي فقد تحدث كثير من المفكرين العرب عن المقال وانشغلوا بالرد عليه .
لذلك لم يتورط المترجم طلعت الشايب في تقديم الكتاب وإنما أوكل هذه المهمة لإستاذ متخصص في الفلسفة د. صلاح قنصوة الذي ساهم بعدد من المقالات في الرد علي مقال صامويل هتنجتون بل والرد علي بعض فصول الكتاب بعد نشرها في الدوريات الأمريكية وكانت تقدمته نقاشاً مركزاً ودقيقاً يبغي تفنيد عدد من النقاط الجوهرية التي يقيم هنتنجتون أطروحته عليها مما يجعل د. قنصوه ينتهي بأن صدام الحضارات سلعة مطلوبة في سوق السياسة العالمية خاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي .
اكتفي المترجم إذن بأن يكون أميناً جداً للإصطلاحات التي دشنها هتنجتون وشاعت في العربية قبل ترجمة الكتاب كما حرص علي أن يلتزم ببساطة العبارة المتوقعة من كتاب في علم المستقبليات موجه بالأساس إلي القارئ العادي .
وتبدو أهمية الكتاب بل وخطورته من أن تسلط أو أغواء نظرية صدام والحضارات التي يطرحها يمكن أن يساهم فيما تحدث عنه ” إرنست ناجل ” عن التنبؤ المحقق لذاته وهو الذي يتألف من تنبؤات لا تصدق علي الوقائع الفعلية في الوقت الذي تصاغ فيه هذه التنبؤات غير أنها تصير صادقة بسبب الأفعال التي تتخذ كنتيجة مترتبة علي الاعتقاد بصحة تلك التنبؤات .
من خلال صدام الحضارات وفصوله الأثني عشر يقرأ هتنتجون الصراع في عالم ما بعد الحرب العالمية الباردة ذلك العالم الذي طوي سجله بانهيار الاتحاد السوفيتي وأصبح هذا النموذج للعالم تبعاً لتوماس كوهن مؤلف بنية الثورات العلمية نموذجاً قديماً اصبح عاجزاً عن تفسير حقائق جديدة أو مكتشفة حديثاً ولابد من إحلال نموذج جديد يفسر تلك الحقائق بطريقة أكثر قبولاً .
كتب ” كوهن ” : لكي تصبح النظرية مقبولة كنموذج لابد أن تبدو أفضل من النظريات التي تنافسها ولكنها ليست في حاجة إلي أن تفسر كل الحقائق التي يمكن أن تواجهها ولا هي تفعل ذلك في الواقع . وهذا هو ما حاوله هتنتجتون أثناء قراءته لخريطة العالم الناشئ ففي هذا العالم تكون السياسة المحلية هي السياسة العرقية والسياسة الكونية هي سياسة الحضارات ومحل المنافسة بين القوي الكبري يحل صدام الحضارات .
أولي الشواهد علي هذه الخريطة أن الغرب حالياً هو اقوي الحارات وسيظل كذلك لسنوات قادمة إلا أن قوته تتدهور بالنسبة للحضارات الأخري وبينما يحاول أن يؤكد قيمة ويحمي مصالحه تواجه المجتمعات غير الغربية خياراً البعض يحاول أن يحاكي الغرب وأن يلحق به أو ينحاز إليه المجتمعات الكونفوشية والإسلامية الأخري تحاول أن توسع قوتها الاقتصادية والعسكرية وأن تتوازن ضد الغرب ،وهكذا يكون تفاعل قوة وثقافة الغرب أمام قوة وثقافة الحضارات غير الغربية محوراً مركزياً للسياسة في العالم .
إن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم مكون من سبع أو ثماني حضارات هي : الصينية – اليابانية – الهندية – الإسلامية – الغربية – الأمريكية اللاتينية – الإفريقية (احتمال) ، من هذا الرصد يقفز هنتنجتون إلي مجموعة من النتائج وهي أن أهم دول العالم جاءت من حضارات مختلفة الصراعات الأكثر ترجيحاً أن تمتد إلي حروب أوسع هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول وحضارات مختلفة وأشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة لأخري كما أن القضايا الرئيسية علي أجندة العالم تتضمن الاختلافات بين الحضارات ولا يخفي أيضا أن القوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً إلي الحضارات غير الغربية بمعني أن السياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات .
إن تقسيم العالم القائم علي الحرب الباردة قد انتهي وانقسامات البشرية علي اساس العرف والدين والحضارة تظل كما هي وتفرخ صراعات جديدة فخلال العقود الأخيرة من القرن العشرين زاد عدد كل من المسلمين والمسيحيين في إفريقيا وحدث تحول رئيسي في المسيحية في كوريا الجنوبية وفي المجتمعات سريعة التحديث عندما لا يكون الأديان أو العقائد الشعبية قادرة علي التأقلم مع متطلبات التحديث توجد الإمكانية لانتشار المسيحية الغربية والإسلام .
وفي تلك المجتمعات يظل أكثر أبطال الثقافة الغربية نجاحاً ليسوا طبقة الاقتصاديين المحدثين ، ولا دعاة الديمقراطية المتحمسين ولا كبار موظفي المؤسسات متعددة الجنسيات .. الأكثر نجاحاً هم المبشرون المسيحيون .. والمرجح أن يظلوا كذلك لا آدم سميث ولا توماس جيفرسون سيفي بالاحتياجات النفسية و العاطفية والأخلاقية للمهاجرين الجدد إلي المدينة أو للجيل الأول من خريجي المدارس الثانوية ولا المسيح قد يفي بها وإن كانت فرصته أكبر علي المدي الطويل محمد سينتصر .
وهنا يفرق هنتجتون بين التحديث والتغريب ويري أن المجتمعات بين التحديث والتغريب ويري أن المجتمعات غير الغربية يمكن أن تتحدث وقد حدث ذلك بالفعل دون أن تتخلي عن ثقافتها المحلية الخاصة كما تبنت القيم والمؤسسات والممارسات الغربية بالجملة .
أما التغريب فإنه قد يكون من المستحيل حدوثه نظراً للعراقيل التي تضعها الحضارات غير الغربية أمامه وربما من الحماقة – كما يقول برودل أن نعتقد أن التحديث أو انتصار الحضارة بالمفهوم المفرد قد يؤدي إلي نهاية تعددية الثقافات التاريخية التي تسجدت في حضارات العالم الكبري علي مدي قرون التحديث بدلاً من ذلك يقوي من تلك الحضارات ويقلل من القوة النسبية للغرب والعالم إذن يصبح أكثر حداثة وأقل غربية في أمور أساسية فخريطة العالم تحدثنا بأن هناك هوة كبيرة ما زالت تفصل بين الصينيين والهنود والعرب الأفارقة عن الغربيين واليابانيين والروس إلا أنها تضيق بسرعة وفي نفس الوقت هناك هوة أخري مختلفة تتفتح متوسط العمر عند الغربيين واليابانيين والروس يزيد باضطراد والنسبة الأكبر من السكان الذين لم يعودوا يعملون نفرض عبئاً كبيراً علي أولئك الذين ما زالوا يعملون وينتجون الحضارات الأخري مثقلة بأعداد كبيرة من الأطفال ، ولكن الأطفال هم عمال وجنود الغد …
كذلك انتشار التكنولوجيا والنمو الاقتصادي للدول غير الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين يؤديان الآن إلي عودة النموذج التاريخي وهذه ستكون عملية بطيئة ولكن في منتصف القرن الواحد والعشرين – إن لم تكن قبل ذلك – يحتمل أن يمائل توزع النتاج الاقتصادي والنتاج الصناعي بين الحضارات الرئيسية ما كان عليه في سنة 1800 أي أن الضغطة الغربية التي استمرت مائتي عام علي الاقتصادي العالمي سوف تنتهي وبالطبع فأن هذا التوازن الذي ستحدثه الحضارات الأخري يتبع من قبولها الحداثة والأخذ بشروطها ووفي الآن نفسه رفض للغرب وللثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة بها إنها رفض لما يطلق عليه التسمم بالغرب الذي يصيب المجتمعات غير الغربية ، وهي إعلان استقلال ثقافي عن الغرب إعلان يقول : ستكون حديثين ولكننا لن تكون أنتم ، إن حضارات التحدي لغرينة العالم باسم الكونية والعولمة تمارس العداء للغرب بنفس الطريقة التي ظل الغرب يمارسها نحوها تحت مسمي الاستشراق الغربي للشرق عند الشرق آسيويين مثلاً : الرخاء الاقتصادي دليل علي التفوق الأخلاقي تبعاً لقاعدة أن التوكيد الثقافي يتبع النجاح المادي في حين أن النجاح المادي عند الغرب ساهم في التردي الأخلاقي .
وعلي صعيد الحضارة الإسلامية نجد الجيل الجديد من قيادات الصحوة الإسلامية ستخلف شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل التجمعات التي تمتد إليها ستكون الصحوة قد أثبتت أن الإسلام هو الحل لمشكلات الأخلاق والهوية والمعني والاعتقاد ولكن ليس لمشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري .
ونتيجة لذلك فإن السنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين من المرجح أن تشهد صحوة مستمرة في القوة والثقافة غير الغربية ، وفي الصراع بين شعوب الحضارات غير الغربية والحضارات الغربية وبين بعضها البعض .
وبالطبع فإن الغرب يحاول وسوف يواصل محاولاته للحفاظ علي وضعه المتفوقف والدفاع عن مصالحه بتعريفها علي أنها مصالح المجتمع العالمي فالغرب مثلاً يحاول أن يجمع اقتصاد المجتمعات غير الغربية في نظام اقتصادي عالمي يسيطر عليه وعن طريق صندوق النقد الدولي IMF والمؤسسات الاقتصادية الدولية الأخري ينمي الغرب مصالحه الاقتصادية ويفرض علي الدول الأخري السياسات الاقتصادية التي يراها ملائمة .
وبالمقابل لا يتردد غير الغربيين في الإشارة إلي الفجوات بين المبادئ والتصرفات الغربية وإزدواجية المعايير في الممارسة العملية هي الثمن الذي لا يمكن تجنبه في مستويات المبادئ العالمية وينتج عن ذلك أن تكون علاقات الغرب بالإسلام والصين متوترة علي نحو ثابت وعدائية جداً في معظم الأحوال .
ويشبه هتنجتون الحضارات بالقبائل الإنسانية النهائية من حيث العلاقات المتبادلة فيما بينها وصدام الحضارات هو الصراع القبلي علي نطاق الكون .
الثقة و الصداقة ستكون عملة نادرة ، وستأخذ الصراعات بين الحضارات شكلين : علي المستوي المحلي أو الصغير تحدث صراعات خطوط التقسيم بين دول الجوار المنتمية إلي حضارات مختلفة وبين جماعات تنتمي إلي حضارات مختلفة داخل دولة ما وبين جماعات تحاول إقامة دول جديدة علي أنقاض الدول القديمة كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق ويوغسلافيا صراعات خطوط التقسيم متفشية خاصة بين المسلمين وغير المسلمين .
علي المستوي الكوني الكبير تحدث صراعات دول المركز بين الدول الرئيسة في الحضارات المختلفة و القضايا في هذه الصراعات هي القضايا الكلاسيكية في الصراعات الدولية ولكنها علي المستوي الحضاري سوف تأخذ أبعاد أخري .
إن حروب خطوط التقسيم الحضاري تمر بعمليات حدة واتساع واحتواء وتوقف نادراً ما تصل إلي حل وتبدأ هذه العمليات عادة متوالية ولكنها غالباً ما تتراكم وقد تتكررر . وبمجرد أن تبدأ حروب خطوط التقسيم فإنها مثل غيرها من الصراعات الطائفية يصبح لها شكلها الخاص وتتطور بأسلوب الفعل ورد الفعل والهويات التي كانت في الماضي متعددة وعرضية تصبح مركزة ومتصلبة فالصراعات الطائفية تسمي حروب هوية وهي تسمية ملائمة . ومع إزدياد العنف فإن القضايا المتنازع عليها يعاد تحديدها علي وجه الحصر بـ ” نحن ” حيث يتعزز تماسك الجماعة والتزامها حيث القادة السياسيون يوسعون ويعمقون توسلاتهم بالولاءات الإثنية والدينية كما يقوي الوعي بالحضارة في علاقتها بالهويات الأخري .
إن التاريخ ينتهي مرة علي الأقل في تاريخ كل حضارة وأحياناً أكثر من مرة وعندما تنشا دولة الحضارة العالمية يغشي بصر شعبها ما يطلق عليه توينبي سراب الخلود ويصبح مقتنعاً بأن ما لديه هو الشكل النهائي للمجتمع الإنساني هكذا كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الرومانية و الخلافة العباسية والإمبراطورية المغولية والإمبراطورية العثمانية مواطنوا مثل هذه الدول العالمية في تحد للحقائق المجردة الواضحة يميلون إلي اعتبارها أرض الميعاد وهدفاً للسعي الإنساني وليس مجرد مأوي ليلي في البرية هكذا كان الأمر في أوج السلم البريطاني بالنسبة للطبقة المتوسطة الإنجليزية في سنة 1897 حيث كانوا يرون أن التاريخ بالنسبة لهم قد انتهي وكان لديهم من الأسباب ما يكفي ليجعلهم يهنئون بعضهم علي الحالة الدائمة من السعادة العظيمة التي خلعتها عليهم نهاية التاريخ .
المجتمعات التي تفترض أن تاريخها قد أنتهي هي دائماً مجتمعات يكون تاريخها علي حافة الانهيار فهل الغرب استثناء من هذا النمط ؟
يجيب هتنتجتون بحذر عن هذا السؤال بالايجاب فمن الواضح وبرأيه أن الغرب يختلف عن جميع الحضارات التي كانت قائمة في أن تأثيره طاغ علي جميع الحضارات الأخري التي وجدت منذ سنة 1500 كما أنه هو الذي دشن عملية التحديث التي أصبحت عالمية وكنتيجة لذلك كانت المجتمعات في الحضارات الأخري كلها تحاول اللحاق به في الثروة والحداثة .
في ظل هذه الخريطة التي حاول هنتجتون رصد ملامحها بامتداد الكتاب بدت القلاقل واضحة من الحضارة سائدة وتملك أسباب السيادة في المستقبل المنظور وهي الحضارة الغربية وحضارات أخري تحاول اللحاق والقفز فرق حواجز الزمن وحقائق التاريخ لذلك وبدا بديهياً أن يبزغ سؤال عن مستقبل الحضارات في ظل هذا الموقف المخيف ويحاول المؤلف أن يجيب عنه في فصله الأخير .
فإذا أخذنا في الاعتبار أن النظام و القانون هما المطلب والأول للحضارة وفي أنحاء كثيرة من العالم – إفريقيا أمريكا اللاتينية الاتحاد السوفيتي السابق جنوب آسيا الشرق الأوسط – يبدو أن القانون والنظام يتلاشيان بينما يتعرضان أيضاُ لهجوم خطير في الصين واليابان والغرب وعلي مستوي عالمي تبدو الحضارات وكأنها تستسلم للبربرية في جوانب كثيرة مخلفة صورة لظاهرة غير مسبوقة وربما تنزل الإنسانية إلي عصور كونية مظلمة . وفي صدام الحضارات سوف نتساند أوروبا وأمريكا معاً أو تتساند كل منهما علي حدة في الصدام الأكبر الصدام الكوني الحقيقي بين الحضارة والبربرية وحضارات العالم الكبري بكل إنجازاتها في الدين والأدب والفن والفلسفة والعلم والتكنولوجيا والأخلاق والتراحم .. سوف تتساند أيضاً معاً أو تتساند فرادي في الحقبة الناشئة صدام الحضارات هو الخطر الأكثر تهديداً للسلام العالمي ومن ثم يري صامويل هنتجتون في نهاية كتابة أن الأمل الوحيد والضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم علي الحضارتا ويستفيد من منجزاتها بالرغم من أنه هو نفس المؤلف الذي أكد حتي آخر صفحة في كتابه أن هذا الأمل الوحيد لن يمنع سوء الفهم والتوتر بين الحضارات وبالتالي الصدام والكارثة والضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم علي الحضارات .
يوليو 16 2010
صدام الحضارات : الإغواء الأخير للغرب …………………………محمود حامد
الكتاب : صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي .
الكاتب : صامويل هنتجتون .
الترجمة : طلعت الشايب .
التقديم : د. صلاح قنصوة .
الناشر : سطور سنة 1998 .
لم يترجم إلي اللغة العربية لصامويل هنتجتون سوي كتاب وحيد هو النظام السياسي لمجتمعات متغيرة عن دار الساقي في عام 1992 ، وهو نفس العام الذي نشرت فيه فصيلة Foreign Affairs مقالة الشهير عن صدام الحضارات ذلك المقال الذي أثار جدلاً مستمراً وترجم إلي غالبية اللغات الحية ومنها العربية .
وقد شجعت الأصداء الواسعة للمقال أن يعمل المؤلف علي توسيع أطروحته ويجيب عن كثير من الأسئلة التي أثارتها ويسد ما رآه من ثغرات ، ويرغم صدور الكتاب في سنة 1996 فإن أفكاره الأساسية والإشكالية التي تعرض لها ليست غريبة علي القارئ العربي فقد تحدث كثير من المفكرين العرب عن المقال وانشغلوا بالرد عليه .
لذلك لم يتورط المترجم طلعت الشايب في تقديم الكتاب وإنما أوكل هذه المهمة لإستاذ متخصص في الفلسفة د. صلاح قنصوة الذي ساهم بعدد من المقالات في الرد علي مقال صامويل هتنجتون بل والرد علي بعض فصول الكتاب بعد نشرها في الدوريات الأمريكية وكانت تقدمته نقاشاً مركزاً ودقيقاً يبغي تفنيد عدد من النقاط الجوهرية التي يقيم هنتنجتون أطروحته عليها مما يجعل د. قنصوه ينتهي بأن صدام الحضارات سلعة مطلوبة في سوق السياسة العالمية خاصة بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي .
اكتفي المترجم إذن بأن يكون أميناً جداً للإصطلاحات التي دشنها هتنجتون وشاعت في العربية قبل ترجمة الكتاب كما حرص علي أن يلتزم ببساطة العبارة المتوقعة من كتاب في علم المستقبليات موجه بالأساس إلي القارئ العادي .
وتبدو أهمية الكتاب بل وخطورته من أن تسلط أو أغواء نظرية صدام والحضارات التي يطرحها يمكن أن يساهم فيما تحدث عنه ” إرنست ناجل ” عن التنبؤ المحقق لذاته وهو الذي يتألف من تنبؤات لا تصدق علي الوقائع الفعلية في الوقت الذي تصاغ فيه هذه التنبؤات غير أنها تصير صادقة بسبب الأفعال التي تتخذ كنتيجة مترتبة علي الاعتقاد بصحة تلك التنبؤات .
من خلال صدام الحضارات وفصوله الأثني عشر يقرأ هتنتجون الصراع في عالم ما بعد الحرب العالمية الباردة ذلك العالم الذي طوي سجله بانهيار الاتحاد السوفيتي وأصبح هذا النموذج للعالم تبعاً لتوماس كوهن مؤلف بنية الثورات العلمية نموذجاً قديماً اصبح عاجزاً عن تفسير حقائق جديدة أو مكتشفة حديثاً ولابد من إحلال نموذج جديد يفسر تلك الحقائق بطريقة أكثر قبولاً .
كتب ” كوهن ” : لكي تصبح النظرية مقبولة كنموذج لابد أن تبدو أفضل من النظريات التي تنافسها ولكنها ليست في حاجة إلي أن تفسر كل الحقائق التي يمكن أن تواجهها ولا هي تفعل ذلك في الواقع . وهذا هو ما حاوله هتنتجتون أثناء قراءته لخريطة العالم الناشئ ففي هذا العالم تكون السياسة المحلية هي السياسة العرقية والسياسة الكونية هي سياسة الحضارات ومحل المنافسة بين القوي الكبري يحل صدام الحضارات .
أولي الشواهد علي هذه الخريطة أن الغرب حالياً هو اقوي الحارات وسيظل كذلك لسنوات قادمة إلا أن قوته تتدهور بالنسبة للحضارات الأخري وبينما يحاول أن يؤكد قيمة ويحمي مصالحه تواجه المجتمعات غير الغربية خياراً البعض يحاول أن يحاكي الغرب وأن يلحق به أو ينحاز إليه المجتمعات الكونفوشية والإسلامية الأخري تحاول أن توسع قوتها الاقتصادية والعسكرية وأن تتوازن ضد الغرب ،وهكذا يكون تفاعل قوة وثقافة الغرب أمام قوة وثقافة الحضارات غير الغربية محوراً مركزياً للسياسة في العالم .
إن عالم ما بعد الحرب الباردة هو عالم مكون من سبع أو ثماني حضارات هي : الصينية – اليابانية – الهندية – الإسلامية – الغربية – الأمريكية اللاتينية – الإفريقية (احتمال) ، من هذا الرصد يقفز هنتنجتون إلي مجموعة من النتائج وهي أن أهم دول العالم جاءت من حضارات مختلفة الصراعات الأكثر ترجيحاً أن تمتد إلي حروب أوسع هي الصراعات القائمة بين جماعات ودول وحضارات مختلفة وأشكال التطور السياسي والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة لأخري كما أن القضايا الرئيسية علي أجندة العالم تتضمن الاختلافات بين الحضارات ولا يخفي أيضا أن القوة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلاً إلي الحضارات غير الغربية بمعني أن السياسة الكونية أصبحت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات .
إن تقسيم العالم القائم علي الحرب الباردة قد انتهي وانقسامات البشرية علي اساس العرف والدين والحضارة تظل كما هي وتفرخ صراعات جديدة فخلال العقود الأخيرة من القرن العشرين زاد عدد كل من المسلمين والمسيحيين في إفريقيا وحدث تحول رئيسي في المسيحية في كوريا الجنوبية وفي المجتمعات سريعة التحديث عندما لا يكون الأديان أو العقائد الشعبية قادرة علي التأقلم مع متطلبات التحديث توجد الإمكانية لانتشار المسيحية الغربية والإسلام .
وفي تلك المجتمعات يظل أكثر أبطال الثقافة الغربية نجاحاً ليسوا طبقة الاقتصاديين المحدثين ، ولا دعاة الديمقراطية المتحمسين ولا كبار موظفي المؤسسات متعددة الجنسيات .. الأكثر نجاحاً هم المبشرون المسيحيون .. والمرجح أن يظلوا كذلك لا آدم سميث ولا توماس جيفرسون سيفي بالاحتياجات النفسية و العاطفية والأخلاقية للمهاجرين الجدد إلي المدينة أو للجيل الأول من خريجي المدارس الثانوية ولا المسيح قد يفي بها وإن كانت فرصته أكبر علي المدي الطويل محمد سينتصر .
وهنا يفرق هنتجتون بين التحديث والتغريب ويري أن المجتمعات بين التحديث والتغريب ويري أن المجتمعات غير الغربية يمكن أن تتحدث وقد حدث ذلك بالفعل دون أن تتخلي عن ثقافتها المحلية الخاصة كما تبنت القيم والمؤسسات والممارسات الغربية بالجملة .
أما التغريب فإنه قد يكون من المستحيل حدوثه نظراً للعراقيل التي تضعها الحضارات غير الغربية أمامه وربما من الحماقة – كما يقول برودل أن نعتقد أن التحديث أو انتصار الحضارة بالمفهوم المفرد قد يؤدي إلي نهاية تعددية الثقافات التاريخية التي تسجدت في حضارات العالم الكبري علي مدي قرون التحديث بدلاً من ذلك يقوي من تلك الحضارات ويقلل من القوة النسبية للغرب والعالم إذن يصبح أكثر حداثة وأقل غربية في أمور أساسية فخريطة العالم تحدثنا بأن هناك هوة كبيرة ما زالت تفصل بين الصينيين والهنود والعرب الأفارقة عن الغربيين واليابانيين والروس إلا أنها تضيق بسرعة وفي نفس الوقت هناك هوة أخري مختلفة تتفتح متوسط العمر عند الغربيين واليابانيين والروس يزيد باضطراد والنسبة الأكبر من السكان الذين لم يعودوا يعملون نفرض عبئاً كبيراً علي أولئك الذين ما زالوا يعملون وينتجون الحضارات الأخري مثقلة بأعداد كبيرة من الأطفال ، ولكن الأطفال هم عمال وجنود الغد …
كذلك انتشار التكنولوجيا والنمو الاقتصادي للدول غير الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين يؤديان الآن إلي عودة النموذج التاريخي وهذه ستكون عملية بطيئة ولكن في منتصف القرن الواحد والعشرين – إن لم تكن قبل ذلك – يحتمل أن يمائل توزع النتاج الاقتصادي والنتاج الصناعي بين الحضارات الرئيسية ما كان عليه في سنة 1800 أي أن الضغطة الغربية التي استمرت مائتي عام علي الاقتصادي العالمي سوف تنتهي وبالطبع فأن هذا التوازن الذي ستحدثه الحضارات الأخري يتبع من قبولها الحداثة والأخذ بشروطها ووفي الآن نفسه رفض للغرب وللثقافة العلمانية النسبية المتفسخة المرتبطة بها إنها رفض لما يطلق عليه التسمم بالغرب الذي يصيب المجتمعات غير الغربية ، وهي إعلان استقلال ثقافي عن الغرب إعلان يقول : ستكون حديثين ولكننا لن تكون أنتم ، إن حضارات التحدي لغرينة العالم باسم الكونية والعولمة تمارس العداء للغرب بنفس الطريقة التي ظل الغرب يمارسها نحوها تحت مسمي الاستشراق الغربي للشرق عند الشرق آسيويين مثلاً : الرخاء الاقتصادي دليل علي التفوق الأخلاقي تبعاً لقاعدة أن التوكيد الثقافي يتبع النجاح المادي في حين أن النجاح المادي عند الغرب ساهم في التردي الأخلاقي .
وعلي صعيد الحضارة الإسلامية نجد الجيل الجديد من قيادات الصحوة الإسلامية ستخلف شبكة من المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية داخل التجمعات التي تمتد إليها ستكون الصحوة قد أثبتت أن الإسلام هو الحل لمشكلات الأخلاق والهوية والمعني والاعتقاد ولكن ليس لمشكلات الظلم الاجتماعي والقمع السياسي والتخلف الاقتصادي والضعف العسكري .
ونتيجة لذلك فإن السنوات الأولي من القرن الواحد والعشرين من المرجح أن تشهد صحوة مستمرة في القوة والثقافة غير الغربية ، وفي الصراع بين شعوب الحضارات غير الغربية والحضارات الغربية وبين بعضها البعض .
وبالطبع فإن الغرب يحاول وسوف يواصل محاولاته للحفاظ علي وضعه المتفوقف والدفاع عن مصالحه بتعريفها علي أنها مصالح المجتمع العالمي فالغرب مثلاً يحاول أن يجمع اقتصاد المجتمعات غير الغربية في نظام اقتصادي عالمي يسيطر عليه وعن طريق صندوق النقد الدولي IMF والمؤسسات الاقتصادية الدولية الأخري ينمي الغرب مصالحه الاقتصادية ويفرض علي الدول الأخري السياسات الاقتصادية التي يراها ملائمة .
وبالمقابل لا يتردد غير الغربيين في الإشارة إلي الفجوات بين المبادئ والتصرفات الغربية وإزدواجية المعايير في الممارسة العملية هي الثمن الذي لا يمكن تجنبه في مستويات المبادئ العالمية وينتج عن ذلك أن تكون علاقات الغرب بالإسلام والصين متوترة علي نحو ثابت وعدائية جداً في معظم الأحوال .
ويشبه هتنجتون الحضارات بالقبائل الإنسانية النهائية من حيث العلاقات المتبادلة فيما بينها وصدام الحضارات هو الصراع القبلي علي نطاق الكون .
الثقة و الصداقة ستكون عملة نادرة ، وستأخذ الصراعات بين الحضارات شكلين : علي المستوي المحلي أو الصغير تحدث صراعات خطوط التقسيم بين دول الجوار المنتمية إلي حضارات مختلفة وبين جماعات تنتمي إلي حضارات مختلفة داخل دولة ما وبين جماعات تحاول إقامة دول جديدة علي أنقاض الدول القديمة كما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق ويوغسلافيا صراعات خطوط التقسيم متفشية خاصة بين المسلمين وغير المسلمين .
علي المستوي الكوني الكبير تحدث صراعات دول المركز بين الدول الرئيسة في الحضارات المختلفة و القضايا في هذه الصراعات هي القضايا الكلاسيكية في الصراعات الدولية ولكنها علي المستوي الحضاري سوف تأخذ أبعاد أخري .
إن حروب خطوط التقسيم الحضاري تمر بعمليات حدة واتساع واحتواء وتوقف نادراً ما تصل إلي حل وتبدأ هذه العمليات عادة متوالية ولكنها غالباً ما تتراكم وقد تتكررر . وبمجرد أن تبدأ حروب خطوط التقسيم فإنها مثل غيرها من الصراعات الطائفية يصبح لها شكلها الخاص وتتطور بأسلوب الفعل ورد الفعل والهويات التي كانت في الماضي متعددة وعرضية تصبح مركزة ومتصلبة فالصراعات الطائفية تسمي حروب هوية وهي تسمية ملائمة . ومع إزدياد العنف فإن القضايا المتنازع عليها يعاد تحديدها علي وجه الحصر بـ ” نحن ” حيث يتعزز تماسك الجماعة والتزامها حيث القادة السياسيون يوسعون ويعمقون توسلاتهم بالولاءات الإثنية والدينية كما يقوي الوعي بالحضارة في علاقتها بالهويات الأخري .
إن التاريخ ينتهي مرة علي الأقل في تاريخ كل حضارة وأحياناً أكثر من مرة وعندما تنشا دولة الحضارة العالمية يغشي بصر شعبها ما يطلق عليه توينبي سراب الخلود ويصبح مقتنعاً بأن ما لديه هو الشكل النهائي للمجتمع الإنساني هكذا كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الرومانية و الخلافة العباسية والإمبراطورية المغولية والإمبراطورية العثمانية مواطنوا مثل هذه الدول العالمية في تحد للحقائق المجردة الواضحة يميلون إلي اعتبارها أرض الميعاد وهدفاً للسعي الإنساني وليس مجرد مأوي ليلي في البرية هكذا كان الأمر في أوج السلم البريطاني بالنسبة للطبقة المتوسطة الإنجليزية في سنة 1897 حيث كانوا يرون أن التاريخ بالنسبة لهم قد انتهي وكان لديهم من الأسباب ما يكفي ليجعلهم يهنئون بعضهم علي الحالة الدائمة من السعادة العظيمة التي خلعتها عليهم نهاية التاريخ .
المجتمعات التي تفترض أن تاريخها قد أنتهي هي دائماً مجتمعات يكون تاريخها علي حافة الانهيار فهل الغرب استثناء من هذا النمط ؟
يجيب هتنتجتون بحذر عن هذا السؤال بالايجاب فمن الواضح وبرأيه أن الغرب يختلف عن جميع الحضارات التي كانت قائمة في أن تأثيره طاغ علي جميع الحضارات الأخري التي وجدت منذ سنة 1500 كما أنه هو الذي دشن عملية التحديث التي أصبحت عالمية وكنتيجة لذلك كانت المجتمعات في الحضارات الأخري كلها تحاول اللحاق به في الثروة والحداثة .
في ظل هذه الخريطة التي حاول هنتجتون رصد ملامحها بامتداد الكتاب بدت القلاقل واضحة من الحضارة سائدة وتملك أسباب السيادة في المستقبل المنظور وهي الحضارة الغربية وحضارات أخري تحاول اللحاق والقفز فرق حواجز الزمن وحقائق التاريخ لذلك وبدا بديهياً أن يبزغ سؤال عن مستقبل الحضارات في ظل هذا الموقف المخيف ويحاول المؤلف أن يجيب عنه في فصله الأخير .
فإذا أخذنا في الاعتبار أن النظام و القانون هما المطلب والأول للحضارة وفي أنحاء كثيرة من العالم – إفريقيا أمريكا اللاتينية الاتحاد السوفيتي السابق جنوب آسيا الشرق الأوسط – يبدو أن القانون والنظام يتلاشيان بينما يتعرضان أيضاُ لهجوم خطير في الصين واليابان والغرب وعلي مستوي عالمي تبدو الحضارات وكأنها تستسلم للبربرية في جوانب كثيرة مخلفة صورة لظاهرة غير مسبوقة وربما تنزل الإنسانية إلي عصور كونية مظلمة . وفي صدام الحضارات سوف نتساند أوروبا وأمريكا معاً أو تتساند كل منهما علي حدة في الصدام الأكبر الصدام الكوني الحقيقي بين الحضارة والبربرية وحضارات العالم الكبري بكل إنجازاتها في الدين والأدب والفن والفلسفة والعلم والتكنولوجيا والأخلاق والتراحم .. سوف تتساند أيضاً معاً أو تتساند فرادي في الحقبة الناشئة صدام الحضارات هو الخطر الأكثر تهديداً للسلام العالمي ومن ثم يري صامويل هنتجتون في نهاية كتابة أن الأمل الوحيد والضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم علي الحضارتا ويستفيد من منجزاتها بالرغم من أنه هو نفس المؤلف الذي أكد حتي آخر صفحة في كتابه أن هذا الأمل الوحيد لن يمنع سوء الفهم والتوتر بين الحضارات وبالتالي الصدام والكارثة والضمان الأكيد ضد حرب عالمية هو نظام عالمي يقوم علي الحضارات .
بواسطة admin • 09-متابعات ثقافية • 0 • الوسوم : العدد الثانى, محمود حامد