أجراس
أنوار عبد العزيز
كان مركوناً في غرفته الصغيرة المنزوية في طرف الدار بشباكها المربع الصغير المطل علي ذلك الزقاق الضيق في المحلة المكتظة بالبيوت المتقاربة المتجاورة ، وبصخب وضجيج أصوات النساء العالية وزحمة حركة الصغار ولعبهم ولهوهم وعراكهم وزعيقهم الذي لا يهدأ طول النهار ليمتد الي جزء من الليل حتى في أيام الشتاء الباردة ، وإلي ساعات طويلة من ليالي الصيف القائظة الوخمة … لم ينم ليلة البارحة ، كامن لية متجمدة قاسية ببردها ، وبذلك الوجع المستديم في مفاصله زاده ضراوة شدة البرد كلما زاد الليل عمقاً … كان الوقت ضحي ، قطعت أغفاءته القصيرة أصوات النسوة وهن يساومن بائع النفط ، كان يكيل لهن بطريقة لصوصية وشحة واضحة مكشوفة ، وكن يستعطفنه أن يؤدي حق الكيل ، لكنه ما كان يلتفت لشئ ، حتي لأصوات بعضهن المشحونة بالأثارة والغنج ويبقايا من سهرة ليلتهن تلمحها في عيونهن وشعرهن وفساتين النوم …
سحب مفوض الشرطة العجوز رجليه الجامدتين من تحت البطانية الشحيحة بدفئها ، أتجه للشباك ، فتحه ، أطل علي الزقاق ، رأي عربة بائع نفط ، كانت قطرات مطر خفيف تنزاج علي السطح الأملس لبرميل النفط الأزرق مكونة خطوطاً تتسرب بنقط ملمتعة نحو الاسفل ، تأمل الحصان الرمادي الأغير الأعجف ، كان حصاناً مهزولاً مكدوداً ومجرحاً ، تحفر ظهره ورقبته وقوائمه ومؤخرته وحتى حول عينيه خطوط مشرطة من بقع سوداء داكنة ودم متجمد … كان المفوض العجوز يبحلق مكتئباً حزيناً في العينين الخامدتين ، وفي الجرس الكبير الصدئ الذي يطوق عنق الحصان …ذهبت النسوة ، كان صوت قطرات المطر يزداد قوة وتسارعاً ليكشف اللمعان الأزرق لبرميل النفط ، المطر المنهمر يسيح فوق ظهر الحصان ورقبته لينحدر الي بطنه ، ناصية الحصان كانت متسخة بطين متيبس وقد غلسها المطر .. لم تصدر عن الحصان أية حركة ، بائع النفط التجأ لواقية شباك مجاور مستمتعاً – بشراهة – بتدخين سيجارة ، ساقية الزقاق الموحلة الرفيعة امتلأت ماء وطفحت نحو الجوانب .. طالت وقفة المفوض .. أنبثق وأحتدم في رأسة وأذنيه ودمه صهيل حاد كاد أن يبصره بعينيه .. تراءي له ذلك المخفر الحجري الكبير بطابقه وحجراته الكثيرة ، أمتدت الصحراء هائلة واسعة أمام عينيه .. من الذي يبني ذلك المخفر ، لا أحد يعرف أو يتذكر ، كان المخفر بنا حجرياً تأكلت جدرانه ، صارت شقوقاً وأخاديد ، حتى الحجارة والجص بهت لونهما وتاكل بفعل سنوات حر لافحة مشتعلة كاوية بهجيرها وغبارها ورمالها النارية ، ويلفح رياح حارة ساخنة مسمومة ، ويرد صحراوي يزداد أذي وشراسة في ليالي الشتاء الطويلة المملة الممطوطة وهما يتدفئان علي ما تبقي من نفط قليل في قعر ذلك البرميل العتيق المنزوى في طرف من جدار قلعة المخفر علي ضوء فانوس معطل ومعتم ..
كان شاباً جميلاً بعينين زرقاوين وفم صغير وشارب أشهب وقامة بديعة ، قالوا له : صحيح أنا هذا المخفر ضائع ووحيد ومعزول ، لكنة مهم ، قبله كان يدير المخفر عريف ، لكنهم رأوا أن يرفعوا دراجته فيكون هو المفوض امر له ، أمتعض أول ورأي أن في الأمر أستهانة بدرجته الوظيفية ، ومما زاد في حزنه ، عندما علم أنه سيكون برفقة شرطي واحد ، فالمخفر – رغم أهميته – لا يحتاج إلي أكثر من هذا العدد ، عندما أقتنع بكلامهم بأهمية المخفر وبأنه اختير خصيصاً له سكن في نفسه ذلك الرفض والاحتجاج الذي أبداه حين تبليغه بالأمر .. خمسة فقط وسط الخلاء الفسيح الموحش ، هو والشرطة وحصانان وكلب حراسة ، وعدد من قطط لا يعرفا كيف نبعث في هذا المكان وكان المخفر بقلعته الكبيرة وغرفة الكثيرة ورحبته الواسعة وسطوحه الكثيرة المتصلة – خاصة في أشهر الصيف العارية المفتوحة – يكفي ويتسع لأكثر من مائة
كان حصانه رشيقاً أشهب بنجمه ذهبية مشعة بطرة بهية بيضاء في جبهته ، وكان حصان الشرطي أسود كالليل .. الحصانات ساكنان هادئان في الاسطبل الذي في مؤخرة القلعة يقطعان ذلك الهدوء الساكن الرتيب بصهيل حاد تردد صداه جدران القلعة ودهاليزها خاصة في عمق الليل الطويل … كان الشرطي قد تجاوز عمراً كبيراً ، نحيلاً كمحراث ، وكان ما يلفت الأنتباه اليه أصابع يدية الرفيعة الطويلة الشبيهة بمذراة … لم يكن المفوض يدخن ، وكان الأصم مدخنة متقدة دائمة الأشتعال ، كانا يتناوبان أعداد الطعام ، يتناوبان أطعام الحصانين ، ويتناوبان السهر ، لم يكن ممكناً ومعقولاً ولم يستطيع – وهو في هذا المكان الموحش ، وفي تلك القلعة ، ومع كر الساعات والليالي والأيام والزمن الممدود – أن يكون أمراً .. لم يكن يغادر المخفر الا عند نهاية كل شهر ، عندما يذهب لسنجار لجلب الراتبين وراتبي الحصانين ، وليوصل للأصم أخر أخبار المنطقة والبادية والشرطة والمخافر ، وليؤمن له ذخيرته من التبغ ولفائف الورق … كان الأصم انسانا وديعاً هادئاً ، كان نسمة لم يكن يحزنه الا أن راتب الحصان وعلفه كان أكثر من راتبه كان قبل خمسين سنة وأكثر … شربا مئات الأقداح من الشاي ، ودخن الأصم الافاً من لفافات التبغ كانت تبرق ملتمعة وهما يتسامران – صمتاً – أو بحكايات المفوض الممتعة اللذيذة يوصلها بصوته العالي الي أذني الشرطي وقد تجمع لدية منها الكثير الكثير مما يقرأه لساعات طويلة من قصص الدين والتاريخ والحكايات ، وكانت طريقته القراءة بصوت مسموع ، يثير المفوض خيال الشرطي في ليالي الشتاء وهما يصطليان بما يتوفر لهما من دفء أو في أمسيات الصيف فوق ذلك السطح الشامخ للقلعة تحت شعلة من نجوم بضوء سحري أبيض متلألئ براق ، كان للشرطي يقول للمفوض أنها نجوم أخري ليست مما نراه في المدينة ، إنها أكثر قرباً وأشد لمعاناً ، وعندما كان المفوض يحاول أن يصحح له ، وأنها هي هي في كل مكان في الليل والنهار ، لم يكن يصدق ، أو يكون تصديقه ضعيفاً تكتنفه الشكوك والمجاملة بحياء …
المخفر لم يكن يقع علي أي طريق ، منذ شهور لم يريا قافلة أو سيارة ، وحتى أعراب الصحراء لم يحظيا برؤية أحد منهم ، لم يبصرا – وقد تجاوزت إقامتهما سنوات وأشهر وليالي – أي دليل يقطع هذه الصحراء ، أي رجل تائه ، أي مهرب عاثر الحظ ، ولا حتى أي غزال أو بعير ضال ، فقد هذا العراء وهذا الأفق البعيد البعيد ، والأفاعي المتوثبة الشرسة والعقارب وقد حملتها الصحراء الملتهبة وشحنتها وخزنتها بسموم مميتة قاتلة ، وغير هذه الجرذان وقد بدأت أعدادها تتناقص منذ ظهور القطط ، وهذه الكثبان الرملية المتنقلة المتغيرة والريح العاوية برمالها المحرقة والتماعات الاف النجوم وأصوات الذئاب الجائعة المرتدة عن القلعة المحمية بيقظة انسانين يحبان الحياة وبندقيتين جاهزتين للأطراف يعاونهما ذلك الناطور الأسود بعدسته اللماعة اذ يرصد في النهارات مسافات بعيدة .. مرة التقط الأصم خبراً – وكان في أجازته – أن هذا المخفر مهم فعلاً ، وان المهربين لابد أن يطرقوا طريقة يومياً كان يحاول أن يقنع المفوض برفع دراجة يقظتهما ، وأن يكونا معاً عيناً حذرة مترقبة واعية ومنتبهة ، وأن تعوض أذنا الموفض صممه .. طمأنه المفوض : ( ألا شئ سيحدث ، ولا أحد يجئ ) وأنه عرف أن عدداً صغيراً من
( مبادلين ) بائسين بأسمالهم وحميرهم وخيبتهم ويلاهتهم مروا قبل سنين ، وربما يكررونها ويفعلونها مرة أخري ، وهم لا يستحقون ببضاعتهم الرخيصة التافهة ، وأكثر ما فيها أقمشة ملونة يجولون بها علي تجمعات الاعراب المتنقلة ، ، اذ تستهوي البدويات مثل هذه الألوان المبهرجة اللماعة .. لم يقتنع الشرطي بكلام أمرة ، وظل منتظراً يترقب وقد أزاداد شحوباً لسهرة المتواصل وكان أشد ما يحزنه ويوجعه ثقل سمعة وصمت إذنيه ، فكان كلما أوحي له سمعة الضعيف المخادع وهو لجسه أن أصوات أجراس تقترب ، أيقظ المفوض فيخرجان – مهما كانت قسوة البرد – بفانوسهما المتعم وبندقيتهما وكلبهما الذي لا يجيد النباح يجوسان الوادي القريب وخلف مرتفعات الكثبان وأخاديد الصحراء العميقة علهما يعثران علي ما يؤكد شكوك الشرطي ولطالما ابتعدا عن القلعة في ذلك الليل البهيم لمسافات طويلة ، قم يعودان ليهيئا عدة الشاي وأقداح الشاي ، وليحرق الأصم لفافات جديدة من تبغه القوي الحارق وكانت ليلة ، كان البرد فيها بلا رحمة ، وكان المفوض نائما ، وكان الشرطي يقظاً يجتاز ببندقيته ولفافته مدخل القلعة وجوانبها ، ثم ليصعد – رغم قهو البرد المجمد للجسم والروح – إلي برج المراقبة ، كان قوي البصر . شك أن عينية التقطتا التماعات ضوء أشبعة باشتعال عيدان كبريت أو سجائر ، ركز بصره ، لم يكن الأمر هواجس أو أشباحاً أو مرئيات ليل مظلم أنها التماعات مستمرة لا تنطفئ لابد أن يكون الأمر حقيقة – هذه المرة – وإذا خذلته أذناه ، فلا يمكن لبصرة أن يرواغه ، نزل مسرعاً ، يلهث بصدره المتعب واضطرابه وقلقة ، أيقظ المفوض بخشونة، حاول المفوض أن يصرفه ويعود لنومه ناصحاً إن أمر هؤلاء – حتى ان وقع حقيقة – لا يستحق التصدي ، فهم وكما قلت لك ألف مرة – من فقراء الصحراء المهتوكين وليسوا من المهربين المحترفين الخطرين لم ينفع ما قاله المفوض – وربما لم يسمع مالقاله – أسرع الأصم ، ولأول مرة يتخلي عن سيجارته الملفوفة محتضناً بندقيته غائراً وملتحماً في عمق وظلمة الليل ليرابط فوق تلة قريبة من منحدر الوادي ، ابتعدت رؤى وأحلام النوم وخدرة عن حواس المفوض ، أخذ يرهف سمعة ليتصيد ما يلتقطه من أصوات لليل … أنها فعلاً أصوات وشبيهة أن تكون نبرات أجراس ، ويبدو أنها متعددة بفضح رنينها صمت الليل وسكونه ، ليحم الشرطي من الغدر وقد قدر أنه يترصدهم فوق التلة القريبة … ظهر من خلف الوادي مار قمئ صغير ، تبعه ثان … كان صوت الأجراس يعلو مع خافته خائفتة حذرة لأشباح متسللة تختفي بين الحمير ، ولعلعت رصاصات طال انتظارها ، كانت زخات الرصاص تنهمر بكثافة مبرقة بأضوائها النارية ، لم يستغرق الأمر لحظات وسكن كل شئ ، إذ تكرمت الأشباح على بعضها وحميرها مرتعبة صارخة مستسلمة طالبة الرحمة والأمان … كانوا ثلاثة وحمارين ، كان أحدهم جريحا ، تساقطت لفافات الأقمشة ، تناثر بعضها دون أن يبين لها لون … جاء الأصمّ مهرولاً – وكان فمه هذه المرة أيضا خالياً من سيجارة – جاء الى المفوّض منطلقاً كقذَيفة ليقول : أننى اصطدتهم وقبل أن بفتحوا أعينهم أو يضع أحدهم أصبعه على زناد ، فقد واجهتهم كصاعقة من جهنم ، أنظر إليهم وكأنهم موتي ، أذهلتهم وأعمتهم مفاجأتي فشلَت أيديهم وأصابعهم وأعينهم …
كان الشرطي يكرر – فرحاً ومتحمساً –واقعته ومأثرته وأسبقيته في الرمي أعاد أكثر من مرة أنه لم يمنحهم ومضة من وقت تتيح لهم منتعشاً منتشياً بأحساسه ، وعندما هدأ قليلا ، قدمت لهم بنادقهم ليشمّها .. علا وجهه الشحوب وتاه في صمت عميق ، كانت رائحة البارود – وقد ملأت أنفه – قد أكدت له أنهم رموه بكل أطلاقاتهم ، كانت رائحة البارود – ما تزال تنشر في المكان وتملأ الأنوف .. سار الركب المخذول بأجاه القلعة ، وكانوا وجوهاً ممصوصة مهزولة حفاة يحملون جريحهم ويسوقون حميرهم نحو باب القلعة وبلملمون ما تناثر من أشلاء بضاعتهم الملونة المبهرجة ، وكانت تلمع بينها مرايا صغيرة وأكياس حناّء وأساور دملج وأمشاط خشبية وقلائد من خرز زجاجى ملون وأساور ومراود وأقراط ..عندما احتوتهم القلعة وجلسوا يستريحون ، وقد بعث أجراس الحمير وكلام الغرباء وأنين الجريح أصواتا نبهت الحصانين وقد أنتصبت آذانهما قصيرة مستنفزة وهي تتسمعهذا النهيق الكريه المزعج تردد صداه الجدران والحجرات الفارغة ، زاد صهيلهما وراح يحمحمان بتواصل ، فقد كانت تلك الأجراس وذلك النهيق نغمات جديدة غريبة في صمت هذا المكان منذ سنين ..
بعد أن هدأت النفوس واستقر كل شئ ، لم يصدق الشرطي ما حدث ورغم أنه كان يبدو ما يزال منتشياً بسرعة اقتناصهم ، إلا أنه كان مصعوقا شاحباً وهو يعد الخراطيش الفارغة التى استطاع المفوّض جمع عدد منها على ضوء الفانوس وقد تأكد إلا أنَ الأمر لم يعدمفاجأة ، مع ذلك ظل مدهوشا كيف أفلت رأسه أو قلبه من واحدة من عشرات الطلقات – التي يقول المفوّض – أنها كانت تزخَ عليه كالمطر … كان الكل هادئين صامتين – وقد سكن وهدأ أنين الجريح أيضاً – منقوعين بمطر ثلجي ، كان الشرطي يسحب أنفاساً من لفافة جديدة وهو يتأمل المفوّض – بأمتنان وحنان ومحبة – ببسمة شاكرة فقد كان له ستاراً وجداراً واقياً وحامياً بمشاغلته الباسلة السريعة لهم والتي أنهت المسألة في لحظات لتنقذه من موت أكيد وكان المفوض راضياً عن نفسه وقناعته ، وقد صار شكه يقيناً أن أمثال هؤلاء ليسوا لصوصا أو مهربين ، بل هم من فقراء الصحراء وكان دائما يكرر الشرطي : أرايت مهرّباً محرفاً يعلّق أجراساً فاضحة الرنين في منتصف الليل ، أسمعت – وأنت لا تسمع – أن مهرّباً محترفاً يكشف عن مكمنه – وفي عتمة الليل – بأشعال هزالهم وهزال حميرهم وستعرف كل شيء …
كان المفوض يعدّ الشاي للجميع ليدفيء ويخفف قليلاً من برد تلك الليلة الثلجية المؤسبة الموجعة …
أبريل 10 2011
أجراس ……………………………….. أنوار عبد العزيز
أجراس
أنوار عبد العزيز
كان مركوناً في غرفته الصغيرة المنزوية في طرف الدار بشباكها المربع الصغير المطل علي ذلك الزقاق الضيق في المحلة المكتظة بالبيوت المتقاربة المتجاورة ، وبصخب وضجيج أصوات النساء العالية وزحمة حركة الصغار ولعبهم ولهوهم وعراكهم وزعيقهم الذي لا يهدأ طول النهار ليمتد الي جزء من الليل حتى في أيام الشتاء الباردة ، وإلي ساعات طويلة من ليالي الصيف القائظة الوخمة … لم ينم ليلة البارحة ، كامن لية متجمدة قاسية ببردها ، وبذلك الوجع المستديم في مفاصله زاده ضراوة شدة البرد كلما زاد الليل عمقاً … كان الوقت ضحي ، قطعت أغفاءته القصيرة أصوات النسوة وهن يساومن بائع النفط ، كان يكيل لهن بطريقة لصوصية وشحة واضحة مكشوفة ، وكن يستعطفنه أن يؤدي حق الكيل ، لكنه ما كان يلتفت لشئ ، حتي لأصوات بعضهن المشحونة بالأثارة والغنج ويبقايا من سهرة ليلتهن تلمحها في عيونهن وشعرهن وفساتين النوم …
سحب مفوض الشرطة العجوز رجليه الجامدتين من تحت البطانية الشحيحة بدفئها ، أتجه للشباك ، فتحه ، أطل علي الزقاق ، رأي عربة بائع نفط ، كانت قطرات مطر خفيف تنزاج علي السطح الأملس لبرميل النفط الأزرق مكونة خطوطاً تتسرب بنقط ملمتعة نحو الاسفل ، تأمل الحصان الرمادي الأغير الأعجف ، كان حصاناً مهزولاً مكدوداً ومجرحاً ، تحفر ظهره ورقبته وقوائمه ومؤخرته وحتى حول عينيه خطوط مشرطة من بقع سوداء داكنة ودم متجمد … كان المفوض العجوز يبحلق مكتئباً حزيناً في العينين الخامدتين ، وفي الجرس الكبير الصدئ الذي يطوق عنق الحصان …ذهبت النسوة ، كان صوت قطرات المطر يزداد قوة وتسارعاً ليكشف اللمعان الأزرق لبرميل النفط ، المطر المنهمر يسيح فوق ظهر الحصان ورقبته لينحدر الي بطنه ، ناصية الحصان كانت متسخة بطين متيبس وقد غلسها المطر .. لم تصدر عن الحصان أية حركة ، بائع النفط التجأ لواقية شباك مجاور مستمتعاً – بشراهة – بتدخين سيجارة ، ساقية الزقاق الموحلة الرفيعة امتلأت ماء وطفحت نحو الجوانب .. طالت وقفة المفوض .. أنبثق وأحتدم في رأسة وأذنيه ودمه صهيل حاد كاد أن يبصره بعينيه .. تراءي له ذلك المخفر الحجري الكبير بطابقه وحجراته الكثيرة ، أمتدت الصحراء هائلة واسعة أمام عينيه .. من الذي يبني ذلك المخفر ، لا أحد يعرف أو يتذكر ، كان المخفر بنا حجرياً تأكلت جدرانه ، صارت شقوقاً وأخاديد ، حتى الحجارة والجص بهت لونهما وتاكل بفعل سنوات حر لافحة مشتعلة كاوية بهجيرها وغبارها ورمالها النارية ، ويلفح رياح حارة ساخنة مسمومة ، ويرد صحراوي يزداد أذي وشراسة في ليالي الشتاء الطويلة المملة الممطوطة وهما يتدفئان علي ما تبقي من نفط قليل في قعر ذلك البرميل العتيق المنزوى في طرف من جدار قلعة المخفر علي ضوء فانوس معطل ومعتم ..
كان شاباً جميلاً بعينين زرقاوين وفم صغير وشارب أشهب وقامة بديعة ، قالوا له : صحيح أنا هذا المخفر ضائع ووحيد ومعزول ، لكنة مهم ، قبله كان يدير المخفر عريف ، لكنهم رأوا أن يرفعوا دراجته فيكون هو المفوض امر له ، أمتعض أول ورأي أن في الأمر أستهانة بدرجته الوظيفية ، ومما زاد في حزنه ، عندما علم أنه سيكون برفقة شرطي واحد ، فالمخفر – رغم أهميته – لا يحتاج إلي أكثر من هذا العدد ، عندما أقتنع بكلامهم بأهمية المخفر وبأنه اختير خصيصاً له سكن في نفسه ذلك الرفض والاحتجاج الذي أبداه حين تبليغه بالأمر .. خمسة فقط وسط الخلاء الفسيح الموحش ، هو والشرطة وحصانان وكلب حراسة ، وعدد من قطط لا يعرفا كيف نبعث في هذا المكان وكان المخفر بقلعته الكبيرة وغرفة الكثيرة ورحبته الواسعة وسطوحه الكثيرة المتصلة – خاصة في أشهر الصيف العارية المفتوحة – يكفي ويتسع لأكثر من مائة
كان حصانه رشيقاً أشهب بنجمه ذهبية مشعة بطرة بهية بيضاء في جبهته ، وكان حصان الشرطي أسود كالليل .. الحصانات ساكنان هادئان في الاسطبل الذي في مؤخرة القلعة يقطعان ذلك الهدوء الساكن الرتيب بصهيل حاد تردد صداه جدران القلعة ودهاليزها خاصة في عمق الليل الطويل … كان الشرطي قد تجاوز عمراً كبيراً ، نحيلاً كمحراث ، وكان ما يلفت الأنتباه اليه أصابع يدية الرفيعة الطويلة الشبيهة بمذراة … لم يكن المفوض يدخن ، وكان الأصم مدخنة متقدة دائمة الأشتعال ، كانا يتناوبان أعداد الطعام ، يتناوبان أطعام الحصانين ، ويتناوبان السهر ، لم يكن ممكناً ومعقولاً ولم يستطيع – وهو في هذا المكان الموحش ، وفي تلك القلعة ، ومع كر الساعات والليالي والأيام والزمن الممدود – أن يكون أمراً .. لم يكن يغادر المخفر الا عند نهاية كل شهر ، عندما يذهب لسنجار لجلب الراتبين وراتبي الحصانين ، وليوصل للأصم أخر أخبار المنطقة والبادية والشرطة والمخافر ، وليؤمن له ذخيرته من التبغ ولفائف الورق … كان الأصم انسانا وديعاً هادئاً ، كان نسمة لم يكن يحزنه الا أن راتب الحصان وعلفه كان أكثر من راتبه كان قبل خمسين سنة وأكثر … شربا مئات الأقداح من الشاي ، ودخن الأصم الافاً من لفافات التبغ كانت تبرق ملتمعة وهما يتسامران – صمتاً – أو بحكايات المفوض الممتعة اللذيذة يوصلها بصوته العالي الي أذني الشرطي وقد تجمع لدية منها الكثير الكثير مما يقرأه لساعات طويلة من قصص الدين والتاريخ والحكايات ، وكانت طريقته القراءة بصوت مسموع ، يثير المفوض خيال الشرطي في ليالي الشتاء وهما يصطليان بما يتوفر لهما من دفء أو في أمسيات الصيف فوق ذلك السطح الشامخ للقلعة تحت شعلة من نجوم بضوء سحري أبيض متلألئ براق ، كان للشرطي يقول للمفوض أنها نجوم أخري ليست مما نراه في المدينة ، إنها أكثر قرباً وأشد لمعاناً ، وعندما كان المفوض يحاول أن يصحح له ، وأنها هي هي في كل مكان في الليل والنهار ، لم يكن يصدق ، أو يكون تصديقه ضعيفاً تكتنفه الشكوك والمجاملة بحياء …
المخفر لم يكن يقع علي أي طريق ، منذ شهور لم يريا قافلة أو سيارة ، وحتى أعراب الصحراء لم يحظيا برؤية أحد منهم ، لم يبصرا – وقد تجاوزت إقامتهما سنوات وأشهر وليالي – أي دليل يقطع هذه الصحراء ، أي رجل تائه ، أي مهرب عاثر الحظ ، ولا حتى أي غزال أو بعير ضال ، فقد هذا العراء وهذا الأفق البعيد البعيد ، والأفاعي المتوثبة الشرسة والعقارب وقد حملتها الصحراء الملتهبة وشحنتها وخزنتها بسموم مميتة قاتلة ، وغير هذه الجرذان وقد بدأت أعدادها تتناقص منذ ظهور القطط ، وهذه الكثبان الرملية المتنقلة المتغيرة والريح العاوية برمالها المحرقة والتماعات الاف النجوم وأصوات الذئاب الجائعة المرتدة عن القلعة المحمية بيقظة انسانين يحبان الحياة وبندقيتين جاهزتين للأطراف يعاونهما ذلك الناطور الأسود بعدسته اللماعة اذ يرصد في النهارات مسافات بعيدة .. مرة التقط الأصم خبراً – وكان في أجازته – أن هذا المخفر مهم فعلاً ، وان المهربين لابد أن يطرقوا طريقة يومياً كان يحاول أن يقنع المفوض برفع دراجة يقظتهما ، وأن يكونا معاً عيناً حذرة مترقبة واعية ومنتبهة ، وأن تعوض أذنا الموفض صممه .. طمأنه المفوض : ( ألا شئ سيحدث ، ولا أحد يجئ ) وأنه عرف أن عدداً صغيراً من
( مبادلين ) بائسين بأسمالهم وحميرهم وخيبتهم ويلاهتهم مروا قبل سنين ، وربما يكررونها ويفعلونها مرة أخري ، وهم لا يستحقون ببضاعتهم الرخيصة التافهة ، وأكثر ما فيها أقمشة ملونة يجولون بها علي تجمعات الاعراب المتنقلة ، ، اذ تستهوي البدويات مثل هذه الألوان المبهرجة اللماعة .. لم يقتنع الشرطي بكلام أمرة ، وظل منتظراً يترقب وقد أزاداد شحوباً لسهرة المتواصل وكان أشد ما يحزنه ويوجعه ثقل سمعة وصمت إذنيه ، فكان كلما أوحي له سمعة الضعيف المخادع وهو لجسه أن أصوات أجراس تقترب ، أيقظ المفوض فيخرجان – مهما كانت قسوة البرد – بفانوسهما المتعم وبندقيتهما وكلبهما الذي لا يجيد النباح يجوسان الوادي القريب وخلف مرتفعات الكثبان وأخاديد الصحراء العميقة علهما يعثران علي ما يؤكد شكوك الشرطي ولطالما ابتعدا عن القلعة في ذلك الليل البهيم لمسافات طويلة ، قم يعودان ليهيئا عدة الشاي وأقداح الشاي ، وليحرق الأصم لفافات جديدة من تبغه القوي الحارق وكانت ليلة ، كان البرد فيها بلا رحمة ، وكان المفوض نائما ، وكان الشرطي يقظاً يجتاز ببندقيته ولفافته مدخل القلعة وجوانبها ، ثم ليصعد – رغم قهو البرد المجمد للجسم والروح – إلي برج المراقبة ، كان قوي البصر . شك أن عينية التقطتا التماعات ضوء أشبعة باشتعال عيدان كبريت أو سجائر ، ركز بصره ، لم يكن الأمر هواجس أو أشباحاً أو مرئيات ليل مظلم أنها التماعات مستمرة لا تنطفئ لابد أن يكون الأمر حقيقة – هذه المرة – وإذا خذلته أذناه ، فلا يمكن لبصرة أن يرواغه ، نزل مسرعاً ، يلهث بصدره المتعب واضطرابه وقلقة ، أيقظ المفوض بخشونة، حاول المفوض أن يصرفه ويعود لنومه ناصحاً إن أمر هؤلاء – حتى ان وقع حقيقة – لا يستحق التصدي ، فهم وكما قلت لك ألف مرة – من فقراء الصحراء المهتوكين وليسوا من المهربين المحترفين الخطرين لم ينفع ما قاله المفوض – وربما لم يسمع مالقاله – أسرع الأصم ، ولأول مرة يتخلي عن سيجارته الملفوفة محتضناً بندقيته غائراً وملتحماً في عمق وظلمة الليل ليرابط فوق تلة قريبة من منحدر الوادي ، ابتعدت رؤى وأحلام النوم وخدرة عن حواس المفوض ، أخذ يرهف سمعة ليتصيد ما يلتقطه من أصوات لليل … أنها فعلاً أصوات وشبيهة أن تكون نبرات أجراس ، ويبدو أنها متعددة بفضح رنينها صمت الليل وسكونه ، ليحم الشرطي من الغدر وقد قدر أنه يترصدهم فوق التلة القريبة … ظهر من خلف الوادي مار قمئ صغير ، تبعه ثان … كان صوت الأجراس يعلو مع خافته خائفتة حذرة لأشباح متسللة تختفي بين الحمير ، ولعلعت رصاصات طال انتظارها ، كانت زخات الرصاص تنهمر بكثافة مبرقة بأضوائها النارية ، لم يستغرق الأمر لحظات وسكن كل شئ ، إذ تكرمت الأشباح على بعضها وحميرها مرتعبة صارخة مستسلمة طالبة الرحمة والأمان … كانوا ثلاثة وحمارين ، كان أحدهم جريحا ، تساقطت لفافات الأقمشة ، تناثر بعضها دون أن يبين لها لون … جاء الأصمّ مهرولاً – وكان فمه هذه المرة أيضا خالياً من سيجارة – جاء الى المفوّض منطلقاً كقذَيفة ليقول : أننى اصطدتهم وقبل أن بفتحوا أعينهم أو يضع أحدهم أصبعه على زناد ، فقد واجهتهم كصاعقة من جهنم ، أنظر إليهم وكأنهم موتي ، أذهلتهم وأعمتهم مفاجأتي فشلَت أيديهم وأصابعهم وأعينهم …
كان الشرطي يكرر – فرحاً ومتحمساً –واقعته ومأثرته وأسبقيته في الرمي أعاد أكثر من مرة أنه لم يمنحهم ومضة من وقت تتيح لهم منتعشاً منتشياً بأحساسه ، وعندما هدأ قليلا ، قدمت لهم بنادقهم ليشمّها .. علا وجهه الشحوب وتاه في صمت عميق ، كانت رائحة البارود – وقد ملأت أنفه – قد أكدت له أنهم رموه بكل أطلاقاتهم ، كانت رائحة البارود – ما تزال تنشر في المكان وتملأ الأنوف .. سار الركب المخذول بأجاه القلعة ، وكانوا وجوهاً ممصوصة مهزولة حفاة يحملون جريحهم ويسوقون حميرهم نحو باب القلعة وبلملمون ما تناثر من أشلاء بضاعتهم الملونة المبهرجة ، وكانت تلمع بينها مرايا صغيرة وأكياس حناّء وأساور دملج وأمشاط خشبية وقلائد من خرز زجاجى ملون وأساور ومراود وأقراط ..عندما احتوتهم القلعة وجلسوا يستريحون ، وقد بعث أجراس الحمير وكلام الغرباء وأنين الجريح أصواتا نبهت الحصانين وقد أنتصبت آذانهما قصيرة مستنفزة وهي تتسمعهذا النهيق الكريه المزعج تردد صداه الجدران والحجرات الفارغة ، زاد صهيلهما وراح يحمحمان بتواصل ، فقد كانت تلك الأجراس وذلك النهيق نغمات جديدة غريبة في صمت هذا المكان منذ سنين ..
بعد أن هدأت النفوس واستقر كل شئ ، لم يصدق الشرطي ما حدث ورغم أنه كان يبدو ما يزال منتشياً بسرعة اقتناصهم ، إلا أنه كان مصعوقا شاحباً وهو يعد الخراطيش الفارغة التى استطاع المفوّض جمع عدد منها على ضوء الفانوس وقد تأكد إلا أنَ الأمر لم يعدمفاجأة ، مع ذلك ظل مدهوشا كيف أفلت رأسه أو قلبه من واحدة من عشرات الطلقات – التي يقول المفوّض – أنها كانت تزخَ عليه كالمطر … كان الكل هادئين صامتين – وقد سكن وهدأ أنين الجريح أيضاً – منقوعين بمطر ثلجي ، كان الشرطي يسحب أنفاساً من لفافة جديدة وهو يتأمل المفوّض – بأمتنان وحنان ومحبة – ببسمة شاكرة فقد كان له ستاراً وجداراً واقياً وحامياً بمشاغلته الباسلة السريعة لهم والتي أنهت المسألة في لحظات لتنقذه من موت أكيد وكان المفوض راضياً عن نفسه وقناعته ، وقد صار شكه يقيناً أن أمثال هؤلاء ليسوا لصوصا أو مهربين ، بل هم من فقراء الصحراء وكان دائما يكرر الشرطي : أرايت مهرّباً محرفاً يعلّق أجراساً فاضحة الرنين في منتصف الليل ، أسمعت – وأنت لا تسمع – أن مهرّباً محترفاً يكشف عن مكمنه – وفي عتمة الليل – بأشعال هزالهم وهزال حميرهم وستعرف كل شيء …
كان المفوض يعدّ الشاي للجميع ليدفيء ويخفف قليلاً من برد تلك الليلة الثلجية المؤسبة الموجعة …
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : أنوار عبد العزيز, العدد السادس