المقام العراقي بيت الماضي والحاضر ….. يحيي إدريس

المقام العراقي بيت الماضي والحاضر

يحيي إدريس

من الصعب بمكان أن نتحدث عن طبيعة وخصائص المقام العراقي بمعزل عن سياقات التدفق التاريخي والحضاري الذي روي أرض الرافدين ثقافة وعلماً وفكراً وتمييزاً … وهذا الفن الخالد شأنه شأن كل الفنون والاداب والعلوم والفلسفات التي تعرضت إلي أنواع وممارسات سعت إلي الحقائق التاريخية والتقليل من أهميتها ومنابعها الوطنية والقومية وليس غربياً أن تنبري الشعوبية وزعانقها ومخططاتها لابعاد النبوغان العربية في حقل الإبداع الموسيقي والثقافي عن موطنها في محاولة لا لباسها لبوسات غير عربية أو جعلها تمضي بتبعية مثقلة بافرازات الاحتلال والغزو التي شهدتها بلاد الرافدين منذ فئات السنين ومع هذا وذلك ظل فن الرافدين متجذراً في تربته وظلت ملامحه الوطنية تبهر الزائر والمغادر … إن عقدة الأخذ من العرب لا زالت قائمة في اذهان وكتابات الغربيين والشرقيين واستطاعوا من دفنها وابنات فكرة الأخذ من الغرب بعد مراحل الثورة الصناعية .. بيد أن الموسيقي والمقام يلاقيان تفسيرات وتعويقات وتشويهات … بسبب قلة

الانغام في بنية الكيان الموسيقي الأوروبي … فهذه البنية تعتمد علي مقامين موسيقيين رئيسيين هما ( المينز والمايجر ) أي المقام الصغير والمقام الكبير وفي المصطلح العربي النهاوند والعجم … وهما مقامات ( ربع توت ) أو ( ربع الصوت ) ويخلوان من شحنة التطريب والتعبير ويتوافقان مع التوزيع الهاروموني .. في حين أن الموسيقي العربية الشرقية تعتمد علي سبعة مقامات موسيقية ( سلالم ) هي ( الرست ، البيات ، الحجاز ، السيكاه ، الصبا ، النهاوند ، العجم ) وقبل الحديث عن مكونات المقامات العرقية واختلافها وتوافقها مع هذه السلالم الموسيقية وانفرادها بخصائص عراقية

نود تذكير  المتلقي بحالة واحدة تفضح نوايا بعض الباحثين الغربيين تجاه التقليل من الدور التاريخي لأهل العراقي في النبوغ والحضور الموسيقي والغنائي في الماضي البعيد والحاضر … إن المعلومات التاريخية المادية والعلمية تؤكد حقيقية نشوء الالات الموسيقية ( النفخية ، القوسية ، الوترية ، الإيقاعية ) في أرض الرافدين وفي زمن البابليين والسومريين مثل

( العود ، السنطور ، القيثارة ، الجوزة ، المزامير ، النايات ، الايقاعات ) ومن الطبيعي أن تأتي مرحلة الكتابة الموسيقية ( نوته ) ثم باقي دور الحنجرة البشرة لتواكب عطاء الالة الموسيقية وينشأ فن موسيقي وغنائي يجسد الحياة العراقية في تعاملها وتعاطفها الوجداني والفكري وفي أفراحها وأتراحها .. ولكي يبعد الغربيون الدور العراقي في هذا العطاء البشري المبكر … أخذ بعضهم يمارس خلط الأوراق ويطرح دراسات أكاديمية مفادها أن مقام النهاوند ( الماينز )ظهر في بلاد الاغريقيين وأن أول نوته موسيقية ظهرت في اليونان أو في جنوب إيطاليا وراح بعض الضرقيين يفتري في هذه اللعبة بيقول أن أول نوته ظهرت في بلاد الهند أو في الصين .. وهذه التكهنات عملت علي تفعيل خلط الأوراق ومزج الألوان .. لكن الحقيقية التاريخية غير ذلك كما اشرنا قبل قليل والدليل النوعي والمادي كشفته لجنة مشكلة في البرازيل تابعة لمنظمة اليونسكو مهمتها البحث والتنقيب عن إبتكارات الشعوب في الميادين الموسيقية والنغمية حيث اكتشفت هذه اللجنة رقيمات طينية مملوءة بالكتابات والرموز وبعد عناء وشقاء استطاعت من فك وحل الرموز البابلية فظهر أن البابلين أول من اكتشف مقام النهاوند مع تنويته بالحروف الموسيقية وقدمت اللجنة اكتشافها في ندوة بابل الدولية التي انعقدت ببغداد 1989 ووزع الباحث الأثري فاروق العمري نشرة اللجنة علي المشاركين كما ارسلت هيئة الندوة نشرات إلي كل المؤسسات الموسيقية في العالم ومنذ ذلك التاريخ غابت بعض الافتراءات والتشويهات في الدراسات الأكاديمية ولعل الغربيين في هذا المجال عادت إلي مخابئها ريثما يحين زمن الاشهار والتجريح والتمزيق . هذه حالة واحدة من حالات الطعن بعبقرية العراقيين والعرب والغاء موقهم الرائد في الابتكار والإبداع … والمقام العراقي جزء نم هذه الحالات وفيما يلي توضيح لماهية المقام … المقام العراقي أسلوب غنائي كامل متكامل بني علي مكونات السلالم الموسيقية لصياغة الحنجرة البشرية باتجاه الغناء والطرب ولكنه تميز بخصوصيته العراقية … وللمقام أصول أصبحت ثوابت في الشخصية العراقية لا تقبل التغيير والتلاعب لكنها تستوعب محاولات التجديد في التلاحين المؤداة من صلب المقامات من صلب المقامات …. وهناك مقامات تقبل الاضافة ولكنها ترفض الحذف والاختصار … إذن فالمقام العراقي شكل غنائي اشبه ما يكون باللوحة التشكيلية … ففي المقام تمتزج الأنغام لتكون شخصية المقام وفي اللوحة تمتزج الألوان لتكون الفكرة أو رؤية الفنان إنه أسلوب خاص بالعراقيين وحدهم … وما تؤدي من مقامات في البلدان الإسلامية يختلف تمام الاختلاف عن المقامات العراقية فشعوب هذه البلدان تعرفن علي المقام بعد إسلامها في حين أن المقامات العراقية تمتد إلي ما قبل المرحلة الاسلامية بمئات السنين … وصاحبت المقامات الات موسيقية تقليدية هي السنطور والجوزة والنقارة والطلبة ونشأتها بابلية ..

وفي العراق أكثر من أربعين مقماً الأمر الذي يثير حفيظة الغربيين والشرقيين وأكثر من ستة وثلاثين طوراً ريفياً نشاطها من طبيعة المقامات من الناحية النغمية والانشادية وللمقام اركان ثابتة هي التحرير أي بداية نطق النغم المقام (2) الجلسة وهي مجموعة أنغام منسجمة مع طبيعة النغم المقامي وتكون تمهيداً هندسياً نغمياً للصعود بالصوت إلي لحظات التجلي ويسمي الصعود بـ ( الميانه ) أي الصحيات العالية ثم النزول من الميانة الي مجموعة أنغام أخري وصولاً الي محطة التسليم المقامي لتأتي ( البستة ) الأغنية الملحنة من المقام ذاته .. وهناك مقامات تخلو من التحرير وتسمي مقمات ( البدوة ) مثل المحمودى .. ومقامات تغني فيها القصائد العربية النصيحة مثل الرست ، البيات ، الحجاز ديوان ، السيكاه ، الصبا ، النوي ، العجم عشرات … وغيرها … ومقامات تغني فيها الموالات ( الزهيريات ) مثل الجبورى ، شرتي رست ، شرقي دوكاه ، قطر ، حجاز كاركرد ، ، حجاز كار ، بهيرزاوي وغيرها وهناك مقامات تصاحبها الإيقاعات منها الراشدي ، الشرقي دوكاه ، اللحليلاوي ، وغيرها ومقامات لاتصاحبها الايقاعات (صولو) منها ( الأوج ، الأوشار ، البنجكاه ) … ومقمات مستقلة السلوب والشخصية الوطنية منها اللامي الكرد ، المخالف ، الككلي ، السعيدي ، الباجلان ، البشيري ، الحجاز اجغ ، دشتعرب ، القزاز ، التفليس الجمال ، المثنوي .. وبعض هذه المقامات عبارة عن قطع نغمية داخلية في صلب المقامات المعروفة حولها الرواد الي مقامات مستقلة الاداء وفيما يلي جدول بالمقامات وفروعه والكلام المغني والايقاع ليكون واضحا أمام الجميع ويسلط الضوء علي أهمية التعددية المقامية

وللمقام العراقي مدارس وأساليب وخصوصيات إقليمية واتجاهات أدائية نستعرضها في مقال لا حي ونتوقف عند أصحابها وروادها .. كما أننا سنقدم أهداف بين المقام العراقي منذ النشأة والي يومنا هذا وبعض المؤسسات الموسيقية المعنية بشئون المقام والغناء .. وللموضوع صلة