جسد مسروق بكامله -للشاعر : زهير أبو شايب
د . ضياء خضير *
أفتح باب المرآة
قليلا أفتح باب المرآة
وأطل على الغرقي المختبئين
وراء عيوني
في أي مقام تركوا أنفسهم خلف الليل
وجاؤوا ؟
في أي مقام خبزوا روحي السمراء
على حطب الزيتون
وجاؤوا تسبقهم نار أبي ،
وشرارة جدي
أفتح باب المرآة
إلي أن تتذكرني أحلامي المحبوسة في عتمتها
وأري ماء يسحر وجهي
ويفيض من المرآة
كفجر نديان
وأنا في الجهة الأخرى من جسدي
أسحب أعضائي كالكرسي
وأسهر فيها
خلفي روح الماء الزرقاء
وأصوات الغرقي المرفوعة كالأيدي
أعاروني لون الحنطةِ
والشيب المسترسلَ
والعينين الزاجلتين
وتدوير الوجه
ولغز الشفة السفلى
وخراب الصدر
أعاروني الضحك العابس
والريح البرية
والمشي مع العشب إلي أعلي
والخوف من العتمة والمرأة
واللغة الخرساء
فرض النسيان
أعروني جسداً واسماً وتعاليم مقدسة
واكتملوا ضدّي
أفتح باب المرآة
وأبحث عن شيء لي
في هذا الجسد المسروق بكامله
في هذي الأرض المحتلة
حجراً حجراً
أبحث
أبحثُ
أبحثُ
وأمامي فخارون كثيرون
أعاروني الطينة والفكر والظل
لا شيء سوى النظرات
تفيض من المرآة كفجر نديان
أتنفسه وحدي
واعلقه في سقف الغربة وحدي
وأعود به نحو المرآة ، أعود
كنهر عاص أنهكه التجوال
ليخطفه أبنائي بعدي
وقراءة قصيدة مثل جسد مسروق بكامله ) يمكن أن توقفنا هب الأخري على بعض الحقائق ذات الطابع الجوهري في تجربة ( زهير أبو الشايب ) لاسيما فيما يتصل بالبطانة الداخلية الشعورية والنفسية المكونة لهذه التجربة فهي تقدم لنا إنسانا يعيش داخل نفسه ، ولا يستطيع ، وهو ينظر إلي المرآة الموجودة بكثافة داخل النص ، أن يتحقق من وجود الآخرين إلي جانب وجوده ، إلا على شكل سابق وأسلاف غائبين أسهموا في صياغة روحه وجسده المسروق بكامله من أجسادهم ، ولكنهم غابوا وتركوه وحيداً ولذلك فإن معاودة النظر إلي المرآة ثانية وثالثة لا تظهر للشاعر غير صورته بكل ما تنطوي عليه هذه الصورة من ( أحلام محبوسة ) و ( مياه زرقاء ) و ( أصوات مرفوعة كالأيدي ) و ( شيب مسترسل ) و ( عينين زاجلتين ) الخ . أما ما عدا ذلك ، فلا شيء غير النظرات نفسها تقابله في زجاج هذه المرآة و ( تفيض عليه كفجر نديان ) كما يقول .
وهكذا ، هو لا ينظر إلي الآخرين ، في حين أنهم لا يكفون في مناطقهم الخيالية النائية عن النظر إليه وتشكيل وجوده وجعله موضوعا لرغباتهم ولون سحناتهم . وهو من جانبه يبدو دائما ممتلئا بهذه النظرات ، مطوقا بها ولكنه لا يجرؤ على مقابلتها بالمثل . وإذا ما حدث أن وجه نظرة من هذا النوع إلي هؤلاء الآخرين أو بعضهم ، فأنها ستكون مستعارة من نظراتهم أي أن عيونهم التي سرقت وحلت في جسده المسروق بكامله . وهو فيما عدا ذلك ، أعمي يخشي ( العتمة ) ولا بفعل شيء سوي تحسس ذاته وتلمس أقطار نفسه ولذلك فلا غرو أن تكون المرآة التي ينظر فيها الشاعر إلي الآخر ( عمياء ) هي بالأخري ، أو أنها غير موجودة ولا تقوم بوظيفتها طالما أنها لا تظهر للشاعر غير صورة وحيدة ، مكرّرة يطل منها على نفسه وعلى ماضيه . أي على أولئك الذين لا يدين لهم بوجوده فقط ، وإنما يشكل خلاصتهم ، وكل ما تبقي من رغباتهم وأحلامهم . فهم يدينون له هكذا ، بوجودهم بل لعل الدين الذي له عليهم أكثر من ذلك الذي لهم عليه .
أما الآخرون الموجودون على مستوي الحاضر والواقع المعيش ، فقد رأينا أنهم غير موجودين في المشهد الذي تعكسه مرآة ( زهير أبو شايب ) أو أنهم لا يحتلون مكانا يمكن أن يقارن بمكان الشاعر حتى إذا كان هذا المكان مجاورا ومكملا .
وهو أمر يتشابه في تأثير الغرور ورغبة المرء في أن ينظر إلي نفسه وأن ينظر إليه دون أن ينظر هو إلي أحد ، اللهم إلا إذا كانت هذه النظرة تذكره بنفسه وتعيد اهتمام الآخرين به وتعزز شعوره واحساسه بوجوده الخاص وتسهم في تكوين هويته . وذلك فليس غريبا أن نرى صورة الأخر في شعر ( زهير شايب ) خالية من كل قوام بشري اجتماعي وواقعي . أنها مأوي للظلال الجافة والأجداد الغائبين وموضوع العائلة المتخيلة ومكان الأب الذي يحتل في اطار هذه الصورة أهمية خاصة تشبه في بعض جوانبها تلك التي نجدها في النظرية الفرويدية . وهو ما يشير إلي تعقيد بالغ إلي ما يتصل بموضوعات الرغبة كما تظهر في النص بوصفها علامة دالة على الغربة الموجودة في قلب الذات .
وحين يزعم الشاعر أن لا أحد يراني ) لأن ( ظلي كفيف ) و ( عتمة أنا ) فذلك لأنه يريد المزيد من نظرات الآخرين واهتماماتهم ، لأن اللاشعور ومحتواه الكامن هو الخطاب الذي يمكن لمرآة مثل تلك التي يحملها ( زهير أبو شايب ) أن تظهره إلي الملأ في صورة ذات مغلوبة على أمرها ، ومصنوعة من قبل الآخرين . وذلك يعني أن الخطاب الحر غير موجود ، والذي يوجد فقط هو صورة الذات أمام ذاتها ، وفقا للآليات المكونة لهذا الخطاب ، كما تظهر في تحليلنا لها .
وحينما يكرر الشاعر في أكثر من موضع في ديوانه بأنه ( عبد حريته ) كما في قصيدة (كلما في الأعالي ) الذي يرد فيها مثلا :
” عبد حريتي أنا
هذا التراب ليسجد لي
وليحمل عرشي
عبد حريتي
وعلى الماء أمشي “
فإن الأمر يظل محكوما بنوع خاص من هذه الحرية التي تتراجع إلي الداخل ولا تري في الوجود الخارجي للآخر أية ضرورة توقف هذه الحرية الخيالية عند حدود أو تجذبها إلي الهواء الطلق ، وتحد من التصاقها بنفسها ، وحينما يراد من التراب أن يسجد ويحمل عرش الشاعر ومن الماء أن يكون طريقا لعبوره ، فلابد من التفكير بوجود نوع من القلب والاستبدال الذي لا يكتفي صاحبه بالباعث الإنساني المتمثل في نظرة رانية ومحدقة في كيان الشاعر وإنما بنوع من الاهتمام ( الكوني ) الذي تشارك فيه الأشياء كلها لإعادة توجيه الانتباه إلي الذات المفردة والوحيدة وحدة مطلقة ، وهذه الذات التي تشبه في حالها تلك طيور ( فريد الدين العطار ) التي لا تري بعد رحلة العذاب وأهوال الطريق الطويل الذي قطعته في المرآة غير صورتها ولا تشاهد غير نفسها .
أبريل 17 2011
جسد مسروق بكامله -للشاعر : زهير أبو شايب د . ضياء خضير
جسد مسروق بكامله -للشاعر : زهير أبو شايب
د . ضياء خضير *
أفتح باب المرآة
قليلا أفتح باب المرآة
وأطل على الغرقي المختبئين
وراء عيوني
في أي مقام تركوا أنفسهم خلف الليل
وجاؤوا ؟
في أي مقام خبزوا روحي السمراء
على حطب الزيتون
وجاؤوا تسبقهم نار أبي ،
وشرارة جدي
أفتح باب المرآة
إلي أن تتذكرني أحلامي المحبوسة في عتمتها
وأري ماء يسحر وجهي
ويفيض من المرآة
كفجر نديان
وأنا في الجهة الأخرى من جسدي
أسحب أعضائي كالكرسي
وأسهر فيها
خلفي روح الماء الزرقاء
وأصوات الغرقي المرفوعة كالأيدي
أعاروني لون الحنطةِ
والشيب المسترسلَ
والعينين الزاجلتين
وتدوير الوجه
ولغز الشفة السفلى
وخراب الصدر
أعاروني الضحك العابس
والريح البرية
والمشي مع العشب إلي أعلي
والخوف من العتمة والمرأة
واللغة الخرساء
فرض النسيان
أعروني جسداً واسماً وتعاليم مقدسة
واكتملوا ضدّي
أفتح باب المرآة
وأبحث عن شيء لي
في هذا الجسد المسروق بكامله
في هذي الأرض المحتلة
حجراً حجراً
أبحث
أبحثُ
أبحثُ
وأمامي فخارون كثيرون
أعاروني الطينة والفكر والظل
لا شيء سوى النظرات
تفيض من المرآة كفجر نديان
أتنفسه وحدي
واعلقه في سقف الغربة وحدي
وأعود به نحو المرآة ، أعود
كنهر عاص أنهكه التجوال
ليخطفه أبنائي بعدي
وقراءة قصيدة مثل جسد مسروق بكامله ) يمكن أن توقفنا هب الأخري على بعض الحقائق ذات الطابع الجوهري في تجربة ( زهير أبو الشايب ) لاسيما فيما يتصل بالبطانة الداخلية الشعورية والنفسية المكونة لهذه التجربة فهي تقدم لنا إنسانا يعيش داخل نفسه ، ولا يستطيع ، وهو ينظر إلي المرآة الموجودة بكثافة داخل النص ، أن يتحقق من وجود الآخرين إلي جانب وجوده ، إلا على شكل سابق وأسلاف غائبين أسهموا في صياغة روحه وجسده المسروق بكامله من أجسادهم ، ولكنهم غابوا وتركوه وحيداً ولذلك فإن معاودة النظر إلي المرآة ثانية وثالثة لا تظهر للشاعر غير صورته بكل ما تنطوي عليه هذه الصورة من ( أحلام محبوسة ) و ( مياه زرقاء ) و ( أصوات مرفوعة كالأيدي ) و ( شيب مسترسل ) و ( عينين زاجلتين ) الخ . أما ما عدا ذلك ، فلا شيء غير النظرات نفسها تقابله في زجاج هذه المرآة و ( تفيض عليه كفجر نديان ) كما يقول .
وهكذا ، هو لا ينظر إلي الآخرين ، في حين أنهم لا يكفون في مناطقهم الخيالية النائية عن النظر إليه وتشكيل وجوده وجعله موضوعا لرغباتهم ولون سحناتهم . وهو من جانبه يبدو دائما ممتلئا بهذه النظرات ، مطوقا بها ولكنه لا يجرؤ على مقابلتها بالمثل . وإذا ما حدث أن وجه نظرة من هذا النوع إلي هؤلاء الآخرين أو بعضهم ، فأنها ستكون مستعارة من نظراتهم أي أن عيونهم التي سرقت وحلت في جسده المسروق بكامله . وهو فيما عدا ذلك ، أعمي يخشي ( العتمة ) ولا بفعل شيء سوي تحسس ذاته وتلمس أقطار نفسه ولذلك فلا غرو أن تكون المرآة التي ينظر فيها الشاعر إلي الآخر ( عمياء ) هي بالأخري ، أو أنها غير موجودة ولا تقوم بوظيفتها طالما أنها لا تظهر للشاعر غير صورة وحيدة ، مكرّرة يطل منها على نفسه وعلى ماضيه . أي على أولئك الذين لا يدين لهم بوجوده فقط ، وإنما يشكل خلاصتهم ، وكل ما تبقي من رغباتهم وأحلامهم . فهم يدينون له هكذا ، بوجودهم بل لعل الدين الذي له عليهم أكثر من ذلك الذي لهم عليه .
أما الآخرون الموجودون على مستوي الحاضر والواقع المعيش ، فقد رأينا أنهم غير موجودين في المشهد الذي تعكسه مرآة ( زهير أبو شايب ) أو أنهم لا يحتلون مكانا يمكن أن يقارن بمكان الشاعر حتى إذا كان هذا المكان مجاورا ومكملا .
وهو أمر يتشابه في تأثير الغرور ورغبة المرء في أن ينظر إلي نفسه وأن ينظر إليه دون أن ينظر هو إلي أحد ، اللهم إلا إذا كانت هذه النظرة تذكره بنفسه وتعيد اهتمام الآخرين به وتعزز شعوره واحساسه بوجوده الخاص وتسهم في تكوين هويته . وذلك فليس غريبا أن نرى صورة الأخر في شعر ( زهير شايب ) خالية من كل قوام بشري اجتماعي وواقعي . أنها مأوي للظلال الجافة والأجداد الغائبين وموضوع العائلة المتخيلة ومكان الأب الذي يحتل في اطار هذه الصورة أهمية خاصة تشبه في بعض جوانبها تلك التي نجدها في النظرية الفرويدية . وهو ما يشير إلي تعقيد بالغ إلي ما يتصل بموضوعات الرغبة كما تظهر في النص بوصفها علامة دالة على الغربة الموجودة في قلب الذات .
وحين يزعم الشاعر أن لا أحد يراني ) لأن ( ظلي كفيف ) و ( عتمة أنا ) فذلك لأنه يريد المزيد من نظرات الآخرين واهتماماتهم ، لأن اللاشعور ومحتواه الكامن هو الخطاب الذي يمكن لمرآة مثل تلك التي يحملها ( زهير أبو شايب ) أن تظهره إلي الملأ في صورة ذات مغلوبة على أمرها ، ومصنوعة من قبل الآخرين . وذلك يعني أن الخطاب الحر غير موجود ، والذي يوجد فقط هو صورة الذات أمام ذاتها ، وفقا للآليات المكونة لهذا الخطاب ، كما تظهر في تحليلنا لها .
وحينما يكرر الشاعر في أكثر من موضع في ديوانه بأنه ( عبد حريته ) كما في قصيدة (كلما في الأعالي ) الذي يرد فيها مثلا :
” عبد حريتي أنا
هذا التراب ليسجد لي
وليحمل عرشي
عبد حريتي
وعلى الماء أمشي “
فإن الأمر يظل محكوما بنوع خاص من هذه الحرية التي تتراجع إلي الداخل ولا تري في الوجود الخارجي للآخر أية ضرورة توقف هذه الحرية الخيالية عند حدود أو تجذبها إلي الهواء الطلق ، وتحد من التصاقها بنفسها ، وحينما يراد من التراب أن يسجد ويحمل عرش الشاعر ومن الماء أن يكون طريقا لعبوره ، فلابد من التفكير بوجود نوع من القلب والاستبدال الذي لا يكتفي صاحبه بالباعث الإنساني المتمثل في نظرة رانية ومحدقة في كيان الشاعر وإنما بنوع من الاهتمام ( الكوني ) الذي تشارك فيه الأشياء كلها لإعادة توجيه الانتباه إلي الذات المفردة والوحيدة وحدة مطلقة ، وهذه الذات التي تشبه في حالها تلك طيور ( فريد الدين العطار ) التي لا تري بعد رحلة العذاب وأهوال الطريق الطويل الذي قطعته في المرآة غير صورتها ولا تشاهد غير نفسها .
بواسطة admin • 09-متابعات ثقافية • 0 • الوسوم : العدد السادس, ضياء خضير