قراءة في رواية الصحراء لجون ماري لكليزيو ……. المبارك الغروسي

قراءة في رواية الصحراء

لجون ماري لكليزيو

(صاحب نوبل للآداب لسنة 2008)

مقال : جان ميشيل مولبوا

العدد 326 من مجلة

La Quinzaine littéraire

ترجمة : المبارك الغروسي

كاتب من المغرب

تمثل رواية ( الصحراء) لجان ماري لوكليزيو  دونما شك – لحظة حاسمة في مسار أعمال الكاتب الغنية. فقبل عامين من صدوره كان كتاب موندو وقصص أخرى يرحل بنا إلى جوار أطفال هنود يمتلئون سعادة، والذين أنستنا بهجتهم البينة وأناشيدهم الجميلة بعض  الشيء  -الغم والقلق الذي عم  كتاب (الحرب) والتيه الذي يمتلئ به كتاب (الهروب). فهذه المرة تبلور المعطيان المتناقضان لعوالم لوكليزيو بطريقة مبهرة. كتاب (الصحراء) في الآن ذاته قصيدة منظومة ومسرحية مأساة، ورواية عجيبة ورواية سوداء، ومملكة ومنفاها، إنها استخدام متناول لمظهري الحياة.

بناء ثنائي الأقطاب:

يؤكد البناء ثنائي الأقطاب هذا المنحى المزدوج في كتاب (الصحراء)، فهنالك جزءان : “السعادة” و” حياة بين العبيد”، ومكانان : أفريقيا (المملكة) ومدينة مرسيليا (المنفى)، وزمنان: سنوات 1909-1912 (مجزرة الرجال الزرق في الصحراء على يد المسيحيين) والزمن الحاضر (زمن بؤس المهاجرين)؛ وهناك طفلان بطلان: ولد شاب اسمه نور، وبنت شابة، اسمها لالة. هذه البنية الواضحة الجلية التي تكاد تكون تلقينية تترجم إرادة المؤلف في إدراج أكثر جزما لكتابته على مسارات الحكاية الرمزية المبينة.

” لقد ظهروا مثل حلم على قمة التل وقد كادوا يختفون وراء ضباب الرمل الذي تنثره أرجلهم”. تفتتح الرواية مع الوصول إلى وادي الساقية الحمراء خلال شتاء 1909-1910 لقافلة طوارق منهوكين وقد طردتهم من الجنوب عساكر المسيحيين. فيبدو هذا الموكب الطويل الذي يمشي على الرمل وكأنه يخرج من العالم غير المنتهي : ” لقد ولدوا من الصحراء، فليس هناك طريق يمكن أن يقودهم إلى هنا. لم يكونوا يقولون شيئا؛ لم يكونوا يريدون شيئا. كانت الريح تمر فوقهم، وعبرهم، كما لو أن لا أحد يوجد فوق التل”.

من وسط القافلة يراقب ولد، يسمى نور،  كل ما يجري. ينتقل من مجموعة إلى أخرى، ينظر وينصت. إنه يحمل إلى قلب المنفى حماسه ورجاءه.

شيئا فشيئا تصل المواكب أكثر عددا إلى وادي  الساقية الحمراء. تمتد المخيمات مثلما ستفعل لاحقا مدن الصفيح حول الحواضر الكبرى. لقد امتلأ الرجال غضبا، إنهم يريدون مباشرة الجهاد المقدس خلف شيخهم ضد المحتل الغازي. كانت ” نظرتهم خاوية وبراقة من الحمى والجنون”، ونور قبالتهم يتعلم الإخلاص.

عندما استأنف الطوارق مسيرهم نحو الأبعد إلى الشمال، صار نور مرشدا لمحارب شيخ أعمى. لكنه كان هو من يتعلم النظر: ” كانت كل خطوة يخطوها أشبه بموت شخص يمحي ذكرياته؛ وكأنه من المفروض أن تدمر رحلة عبور الصحراء كل شيء، وأن تحرق كل شيء في ذاكرته، وتجعل منه ولدا آخر. كانت يد المحارب الشيخ تدفعه إلى الأمام..”.

تحولت حرب الجهاد المقدس إلى آلام وعذابات ستنتهي إلى مجزرة عندما سيرش رجال العقيد مانغان آخر الفرسان المسلمين. لن يبقى لنور ولباقي الناجين من الصحراء غير السكون والتيه…

تختلط بقصة نور والطوراق الماضية قصة حاضرة: قصة لالة. في حقيقة الأمر تتداخل القصتان وتمتزجان ، وتشكل إحداها الخلفية الملحمية للثانية. لالة، الوريثة اليتيمة للرجال الزرق ولنساء الصحراء.

قصة لالة:

تسكن لالة في حيٍّ صفيحي، سقوف بيوته من صفيح معدن مموج ومن ورق مزفت، وحيث ” الجميع شديد الفقر وحيث لا يشتكي أبدا أحد “؛ إنها سعيدة وتتجول وسط الحرارة وتحت الضوء. تدندن وتتابع :” تراقب الأشياء فوق الأرض دونما أن تفكر في شيء آخر”، تلعب بالنمل والذباب وتتمدد فوق التل لتنصت إلى نفس البحر وتنظر إلى السماء: ” تحب لالة أن تكون  قريبة من البحر”،  تبحث عنده عن الريح القوية التي تجفف جيوب الأنف وتشقق الشفاه. إنها تعشق الصحراء.

إن ما يصنع سعادة لالة  هي بكل بساطة مشاهد: هناك النزهة وماء  النبع والنار والحمام والسوق والحفل. وتقطع  هذه المشهديات حكايات وأغان.

أحيانا تمضي لالة فوق هضاب بيضاء بجانب الصحراء بحثا عن من تسميه (السر) وهي شخصية ملغزة وخرافية ترتدي معطفا كبيرا أبيض اللون وذات وجه بعينين تحترقان يحجبه خمار أزرق. ترى لالة الصحراء من خلال هذه العين، وتدخل في تواصل مع كل ماضي بني جنسها كما رواه لها الشيخ الصياد نانيمان.

وهناك أيضا ذلك الراعي الحرطاني الذي لا يريد أن يتكلم لغة البشر ويعلم لالة كيف تبقى جامدة لا تتحرك، وكيف تنظر إلى العالم من حولها وكيف ترى ضوء النهار. معه ستحاول الفرار ذات صباح نحو الصحراء، ومنه ستنجب في نهاية الرواية ولدا.

ومن الجهة الأخرى:

زمن السعادة يليه زمن العبودية: تعبر لالة البحر المتوسط على متن قارب للصليب الأحمر وسط جمهور المهاجرين وتكتشف  مدينة مرسيليا، بلاد الجهة الأخرى.

في أول الأمر تكون لالة تلك الغريبة المذعورة التي تحتجب وتراقب، خصوصا عند مداخل محطة المسافرين؛ لأن “هاهنا تكون المدينة الكبيرة كما لو أنها ليست منتهية تماما، وكأنه مايزال هناك ذلك الثقب الكبير الذي يسترسل الناس في الوصول والذهاب عبره”. هاهنا يختلط الفقراء من كل البلدان؛ هاهنا يصرخ البؤس ملء صوته.

لالة التي اعتادت الارتواء بالضوء والريح، عليها أن تتعلم أن تتنفس ببطء وبجرع صغيرة مقفولة الفم لكي تتحمل الروائح الكريهة ” للفقر والمرض والموت”.

تحصل على عمل كخادمة بفندق بائس يجاور دكان جنائز. عندما تنتهي من عملها تمضي للحلم على طول رصيف الميناء. “الجوع للهدوء” والجوع لما لا يدرك يمزقان أحشاءها. تتجول بين الشوارع :”مثل كلب مسن أسود بشعر أشعث دونما أن تجد لها مكانا”. لكن لالة حامل من الحرطاني، تحمل في أحشائها طفلا مضيئا منيرا في هذه المدينة الخاوية حيث مات الجمال.

تحــول:

ذات يوم غادرت لالة الفندق حيث تشتغل. طلبت مستحقاتها وراحت تنفقها صحبة متسول شاب. تحت نشوة حرية جديدة لكنها مزيفة، تحولت لالة. تتسارع خطوات قدرها؛ صارت فجأة فتاة أغلفة مجلات (Cover-girl) مشهورة بفضل مصور مغمور خجول ذي نظرة وديعة وبراقة.. لكن لالة تسخر من الصور ومن المال.

ستهرب إلى إفريقيا حيث ستضع مولودها وحدها عند مطلع الفجر على الشاطئ قرب القرية. ستلد ناصبة جسدها إلى جذع شجرة التين، كما فعلت أمها قبلها، مسترجعة بالفطرة حركات الأجداد وإيماءاتهم…

كيف لنا أن لا نذكر عند قراءة هذه الرواية ما كتبه ألبير كامي في تصدير كتاب (المقلوب والمكان): “بالرغم من أني ولدت فقيرا في حي عمالي، فإني لم أعرف ما هو البؤس الحقيقي قبل أن أعرف ضواحينا الباردة. فحتى أقصى البؤس العربي لا يمكن أن يقارن بها؛ لاختلاف السماوات فوقهما. فحينما يعرف المرء سكان الضواحي الصناعية من العمال، يحس أنه مدنس إلى الأبد  وأنه مسئول عن حياتهم”.

أكيد أن الكلمات تختلف هنا؛ لأن لوكليزيو يتبنى وجهة نظر الطفل الأمازيغي الذي يرى أن ضفتي البحر المتوسط يشكلان عالمين متقابلين متناقضين.  فالحقيقة في صحراء الرمال يقابلها الخواء في صحراء الحجر؛ و”آخر بلاد الحرية” و”العالم الحقيقي” تقابله العزلة والعبودية؛ والمحنة الجسدية تقابلها المعاناة النفسية.

الصحراء باعتبارها مجازا ورمزا:

إن صحراء شعب الطوارق تصير بحكم التضاد مع صحراء المدينة مكانا مختصا بالحياة، ومكانا نموذجيا؛ لأن حرية الإنسان فيه بشساعة الفضاء وببساطة الرمل.  الصحراء أشبه ما تكون بمجاز مرسل لحضور خالص للإنسان، ولارتجاج خالص للكينونة، ارتجاج بدائي سابق لكل خطاب، وفطري متواطئ مع “العالم الحي”. الصحراء ليست منظرا أو مشهدا، بل موقعا هو في الآن نفسه حد ومكان؛ إنه فضاء لأسطورة لا فضاء لرواية، شيء كوني وحميمي : الصحراء مجاز ورمز.

يبحث لوكليزيو عن فلسفة وجود؛ إنه يمجد البساطة وعيش اللحظة. إنه يكتب عن متع مشحونة لكنه لا ينسى ما لا يحتمل: إن فضاء روايته ممزق. بعض المشاهد التي لا تنسى، مثل رقصة لالة، وموت المحارب الشيخ أو موت أحد المتسولين، لها قيمة الصور المقدسة: فيها تجري أمور سحرية أو لا تحتملها سريرة البشر.

منتقلا بين الملحمة والنشيد والمأساة، يكون كتاب (الصحراء) للوكليزيو قصيدة الأمل والبؤس، قصيدة يتغنى بها صوت هادئ (صوت الناس المتواضعين) لكنه صوت مهول في العذوبة والعصيان الذي يحتويه.

مقال : جان ميشيل مولبوا

ترجمة : المبارك الغروسي