بناء الاختلاف واكتشاف الهوية في شعرغادة السمان .. خالد زغريت

بناء الاختلاف واكتشاف الهوية

في شعر غادة السمان

ــــــــــــــ

خالد زغريت(*)

في البدء كانت التفاحة :

فى البدء كانت التفاحة . . فى البدء كان الجمال . . فى البدء كانت الانثي . . إذا انشقت الحياة من ضلع آدم وتجسدت بتفاحة حواء ، البدء الأزلى لجمالية الوجود والسر المتغامض الذى مازال يحتاجه الكون فى سيرورته لتحقيق وجوده بموازاة هذه التفاحة ، ومازال حلمه اللامنتهى هو تحقيقه لهذه التفاحة ، للحضارة ، فى أروع صورها، لذلك كان بدء السر الكونى الغامض الذى يشغل الأداء الحضارى والوجود بهاجسه، ومازال النشيد الأول الذى يتصارع مع الوجود إلي تحقيقه مع جملة احتذاءات الحضارات لبلورة الجمالية المنشودة من مفهومية الحيل المثل ـ التفاحة ـ ولقد أدركت الأنثي منذ وجودها الأول ملكتها فى الإلهام الجمالى ، وكينونته الذرائعية لتحقيق سبل الخلود والمثل فظلت أمنية لجوهرها ، ذائبة علي تطوره والبحث عن صورة تجسيده حسب أداءاتها وفعلها ، ولم تبهت ألوان هذا الحلم رغم التراكمات التى طغت على جوهرها عبر السيرورة الوجودية . ولسنا بقصد العرض التاريخى لرصد التشوهات والترسبات التى لحقت بالقطب الجمال المكون للوجود . . هذا .

لقد أدركت الشاعرة بوصفها حامل لواء الهم الأنثوى أهمية استجلاء هويتها وتأصيلها وبناء الاختلاف لصيانة خصوصيتها ومصداقية ماهية ذاتها إنسانياً فى مواكبة التطورات الحضارية وسيرورة الحياة ولقد التزمت الشاعرة غادة السمان برسالة المرأة العربية وسعت لفك حصارها وقيودها ونفض الصدأ الذى تراكم علي وجودها فاعلنت حربها المقدسة فى الدفاع عن جوهر صورتها وأساسها الوجودى ، فاجتهدت فى مغالبة التفسيخ الذى ألحق بشخصيتها واستواءاتها الحضارية ، فقرأت تاريخ وجودها ، ماضيها ، وحاضرها، ومستقبلها, وأدركت ذاتها ومعني وجودها، فكانت امرأة شاعرة تستشف ذاتها ، وتجسدها بالقصيدة التى تؤديها بغنائية عنبة ، مرددة صداها الطبيعة التى لم تكن إلا قرينتها فى الوجود ، ولقد تجسدت هذه الرؤية فى شعر غادة السمان علي شكل ثنائيات مقترنة لإنبات المدلولات العميقة ، لصورة المرأة فى الطبيعة . . . ويمكن قراءة هذه الثنائيات التى تؤسس رؤية غادة السمان فى استجلاء الهوية وتأسيس الاختلاف علي المستويات التالية :

الكائن / الكون :

  • · لم تكن غادة السمان شعرياً منغلقة علي نرجسيتها فى الانتصار لجنسها وتمجيد كونيته ، لأن الكائن هو أداء الكون ، قطباً الوجود ، وهما علاقتان متواشجتان لتحقيق الوجود ، فالمرأة ليست رهينة الافتنان بكونها بقدر ما هى مشاركة فعلية فى حركية الكون وأداءاته الاجتماعية ، فالمرأة أحد أهم أقطاب القوي التى تجند فى سبيل بعث الوجود واستعمال حضارته لخدمة الكينونة وخلود الكون من صورة الخصب والجمال الذى تصبح المرأة مادتها :

(لا تباركنى بفتور

اقتلنى بحرارة

وفاء للحياة

بدلاًمن نذوى معاً ببطء

وفاء للموت

ها أنا أفتح صندوق الآثام

لأستعيد حصتى من النجوم والأزهار والفراشات والأكاذيب وأمضى هاربة من ميتم النساء اللطيفات الدامعات

إلي حيث أصنع فصولى وأختار رياحى وغاباتى وصقورى وأكسر إبرة بوصلتى التى لم تكن لتشير إلا صويك1)

تستحضر غادة السمان الأنثي فيها صورة للطبيعة فى ألق خلقها وفرادة خصوبتها وكونيتها لتأصيل جوهرها وتأكيده، ونشر آليته الجمالية التى تمنح الوجود جناحه الآخر للتحليق والمثابرة علي تحقيق أفقه ، وهى تستبصر كينونتها فى ضوء حركتها المتفاعلة مع الوجود ، وطبيعتها وخصوصيتها وإيحاءات هذه الخصوصية فى إشاعة الوجه الجمالى المتجسد فى كينونتها؛ أى تصير المرأة وجوداً بالآخر ليشف عن الكون:

(لو لم أكن حرة كالأمواج

لما استطعت اختيار شطآنك لأروح

وأجىء عليها ليلاً

أسامر الرمال والقواقع والنجوم وضوء القمر منشدة بصوت عرائس البحر لو لم أكن حرة لعجزت عن حبك2)

لاتنشد غادة السمان المغايرة إلا لتحديد موقفها تجاه القطب الآخر الرجل بأداء بحصن خصوصيتها وجوهرها ، ويصون حريتها كمشارك غير مصفد بالعرف الشرقى الأبوى، لذلك تحاول الشاعرة اختراق النص الأنثوى السائد وإبداع نص جديد مبدع بموازاة جوهرها وحقيقتها ، لقد آمنت الشاعرة بضرورة التغيير، وتأصيل شخصيتها بوصفها مشاركاً محرراً من الوصاية ، فانطلقت تبحث عن أجنحة تليق بأفقها وخرجت عن النص الذى رسخته التراكمات المضادة لحقيقتها ، فأبدعت النص المضاد “نصها الآخر،.

(لا أريد أن أحبك ولا أنساك

أريد أن أظل علي حافة ذلك الوجع الغامض الملقب حباً

كى أظل أكتبك حتى النفس الأخير لمحبرتى وبين آن وآخر

ضمنى إلي جناحيك وحلق بى

لنحتفى بأمسيات

كنت أزورك فيها شرنقة

وأغادرك فجراًفراشة)3

تولدت المواجهة بين غادة السمان والنصية القديمة المرسومة لها ـ موضوعياً ـ فلم تأخذها الحماسة لبناء وضع الهجوم إذ القصيدة النسائية لم تتذرع بجملة هجومية بقدر ما كانت فى وضع الدفاع عبر استيصارات واعدة مسترشدة بحركية الكون وسيرورته وفهم موقعها بوصفها قطباً أساسياً فى تنشئة الكون وديمومته لذلك حققت الانقلاب علي المساكنة التى فرضها الآخر لا حتوائها مكسورة الجناح ، فسعت الشاعرة لإلغاء هذه المساكنة مجاهدة فى سببل فتح فضائها المغاير والمشروع بحثاً عن التوزان الوجودى وتفسيخ القواقع المتكلسة التى تصنعت لتغييب حقانيتها فى ممارسة قطبيتها الوجودية .

الجسد / الأرض

تنشأ هذه الثنائية فى شعر غادة السمان استجابة لنداءات الذات قصد الانبثاق من خفائها والأندساس فى أصقاع الحياة ـ الشعر ـ حيث تستقصى الشاعرة من خلالها كينونتها، وذلك بمقارنة دلالات الجسد ـ الخصوصية ـ (ولادة ـ عطاء ـ حياة) مع دلالة الأرض التى تماثلها ، وتلتقى الدلالتان فى دلالة كلية هى (الأم) ولا تحتاج دلالات الأمومة لكثير من التشريحات ، لاستشراف هويتها الكلية ورصيدها الكونى ومركزيتها للحياة ، لذلك أصبحت الكتاب الأنثوية توجهاً حيوياً حلولياً ، يساكن الأشياء لإيقاظ قوانين الحياة فيها وبلورتها خصوبياً .

(هل تذكر كيف كنا نمشى فوق رؤوس أشجار الصنوبر والتلال ونتعثر بالنجوم

وكيف كنا نمد أيدينا إلي القمر ونلاطفه كقط وكيف كنا نغمس أقلامنا بالغيوم

ونكتب بحبرها الشفاف علي صفحة الأفق حتي فجر الأوراق الساخنة

هل تذكر كيف كنا ننفض التثاؤب عن وجه المدينة

قبل أن نذهب إلي النوم والشمس تقهقه تصيريدك بجعة

وأنت تمدها صوبى لتحتوى وجهى بكفك علي ارتفاع ثلاثين ألف قدم من الذكريات4) تبنى غادة السمان تفاصيل صورة المرأةمن خلال التشكيل الحيوى للهوية الأنثوية قصد استكشاف بناء الاختلاف فى هوية المرأة العربية لكونها شاعرة لم تعد مجرد أنثي تصارع لتحديد جنسيتها المطابقة لجنسية الأرض وحسب ،لذلك ركزت فى جهادها لتحقيق ذاتها بوصفها بنية كونية لا تحجمها الأسلاك والحدود ، مما يفتحها علي تحقيق بهاءات إضافية يستدعيها الاختلاف فى تشكيل الأنوثة :

(إذا التقينا

واستيقظت الغجرية فى أعماقى

من سباتها الاجتماعى الطويل

وعادت تخاطبها العناصر

ينادينى النهر الشهى : تعالى وأغرقى. .

لتتعلمى

كيف تتنفسين ملء رئتيك

تنادينى الريح : أنا صوت القادرات المجهولة

ألم تفتقدى الرحيل إليها

تنادينى الشمس : تعلمى حكمة الغصافير الإقامة فى العش طقس عابر

والطيران وحده هو الحقيقة)5

تتركز المغايرة التى تنشدها الشاعرة فى بنا مجري لذاتها فى جغرافيا الوجود الكونى فى صورة اندساس ذكى فى السيرورة الحضارية ، لقد راحت الشاعرة تنشد أفقها المطلق ، مكسرة النص المحنط لكونيتها وإشراقاتها ، وتجدد فى ألوانها التى بهتت بفعل الصدأ الذى فرضته التراكمات المتولدة عن الانحدار الفكرى الحضارى، اللذين طبعاً المراحل الظلامية التى تشكل عنوانات واقعنا، ونتيجة إحساس الشاعرة بةطأة هذه التراكمات والحيف الذى يلحق بها من جرائها، راحت تحدد موقفها وتستحلى موقعها مجترحة المفهومات والأدبيات المتداولةعن كيانها لخلق مفهومات جديدة تليق بكينونتها ، وهذا ما حتم عليها ابتكار الآفاق الاختراقية باستجلاء جمالية أخري لمفهوم الجسد/ المرأة ، وتحليقات إبداعية خارجة عن قانون الرؤية الجمالية السائدة:

(أعيش حباًعلي غيرهدي

حباً ماكر الأفراح ، متأرجحاً داخل مراياه

كالمدن المشيدة فوق الماء

فهل تجرؤ علي أن نمد يديك

وتفتح ظل الباب المتماوج فوق صفحة المياه

وتقبله منى … ذلك الحب الضل..

وردة سواء

فى ليل المخاطر الشهية لا مرأة ونبقية الأمزجة وتعشق الحب وتكره الحبيب6)

إن نص الأنثي مضاد للثبات ومرفى عمقه

الشعرى نص خلق وتجلى لذاتهاعبر

جغرافيتها الداخلية ، فالشاعرة تنشد أغنيةخصوبتها الوجودية فر أرجاء محيط الكون” :

(عصفور ينقر حبة قمح من يدل

ثم يعاود طيرانه

فىالمدي

هكذا الحب

لحظة فرح كونية هاربة ،

كنجم اشتعل ثم هوي8)

الحب / الفصول :

تأسست رؤية غادة السمان الشعرية علي فضاء الهاجس الأنثوى وطاقاته ، فإذا كان الحب أنوثة الأشياء لخصوبته وجماليته فإنه فى الشعر يصبح إعادة بناء للعالم جمالياً وخصوبياً ، لذلك لم تعد الشاعرة تري الحب وفق الفرالب المنجزة أطراً تراجيدية تتغناه الأساطير والتراث الوجدانى بمنتجاته المأساوية، فالحب هوأداء خلقى حمالى متمايز بحضاريته ويساعديته الكونية، وليس علي الشاعرة أن تجعل من صورتها ترجيعة لبكاءات ليلى العامرية . . ونواحات بثينة . . فالحب فصول من ماقبة، تشكل فى هذا التعاقب دورة الحياة ، دورة البناء الحضارى وإنشادات خلوده ، وهذا ما يستدعى الأداء الجديد وطقوسه الخلقية المتمايزة : (منذ ألف عام كان ربيع وأحببتك

وباركتنا البراعم وعصافير الفجر

اليوم

إينما كنت وكيفما كنت أتذكرك مع الربيع

تهب رائحة زهر الليمون علي

حتي وأنا فى عرض البحر

فهى عبير أيامنا معاً)8

أيقظ الوعى الجديد المتسرب إلي الشاعرة الحديثة من الثقافات المعاصرة المرتبطة بماهية العصرـ الإدراك بحتمية اختراق النص الموميائى للحب ، وترسيم آفاق ملائمة لوجودها وقيمتها الحضارية وماهيتها الإنسانية، فاجتهدت فى قراءة نصية الحب بأصابع مغايرة ، قرأتع فصولاً ، لانصاً ، فصولاً تتعاقب وتتداخل لتشكل كونيتها الجديدة ودورتها التصاعدية ، وأنجز هذا الحب حركية إنتاجية خصبة فى سيرورة الاختراق الحضارى ، وهذا ما دعا الشاعرة أن تنطلق فى مغايرتها من تحديد موقعها بوصفها فرداً مشاركاً فى بنية الحضارة ، وتحقيق السمات اللازمة لهذه المشاركة ومايستلزمها من تحرير وانطلاق وتجديد لغة الأنوثة وأغنيتها المتخاصبة :

(منذ عصور وأنا أتوغل فى حبك

آملة أن أتعرف علي نفسى

فى حبك شىء من حرارة أهل دمشق

وياسمين دمشق وعذوبة دمشق

وخرير مياهها وزمنى الغابر

اللامنسى فى بلاطها

أتوغل فى خضرة حبك

أخطو إلي أحشاء الأشجار

لعلنى أتعلم الاستقرار

لكننى حجر لاينمو عليه العشب إلا إذا تدحرج)9

إن ثقافة التجديد التى تتلبس الشاعرة تفرض علي الشعر النسوى أن يتحول إلي تقصيات رؤيوية تجترح الأنوثة من الظلامات المتمكنة من الواقع ، والظرمية السيدة له ، مما يحيل النص الأنثوى إلي اختراقات للنص المألوف والقاعدة المتآكلة والمترسبة فى حركية الواقع وإجراءاته الاجتماعية لذلك تصر غادة السمان علي تحقيق كيانها من دون أن تمكن الآخر من ابتلاعه وتذويبه، فتسعي إلي تحصين هذا الكيان بالدفاع عن جوهره وأحقيته ومشروعيةنورانيته الحضارية ، فالحب ليس إجهاضاً للجوهر الأنثوى لأنه تأصبله وتأكيده

واستمراريته:

(تسألنى عمن عرفت قبلك

هل أنت ترتدى ذاكرتى

كقميص خش مطرز بالأشواك

تركض به بعيداً لتتعذب

لن أقف أمامك مذنبة مثل منبه رن قبل الأوان

لن أهرب من الصدق إلي الشعر

نعم أحببت قبلك

وسأحب بعد

ذلك لا ينفى أننى أحبك10)

ثقافة الاختلاف

فى ختام هذه القراءة شعر غادة السمان لابد من التأكيد علي أن تجلى مقولة اكتشاف الهوية وبناء الاختلاف فى شعر غادة السمان ينفتح دائماً علي فضاءات مضاعفة كون غادة السمان تبنى فى شعرها ثقافة الاختلاف قبل كل شىءوهى تمارس هذه الثقافة فى شعرها علي مستوي الشكل والمحتوى اللذين يخرجان علي النص القديم للأنثي العربية لذلك فنصها الشعرى الجديد والعابر للنص الشعرى العربى يطرح إشكالاته وصدامه المميز فى الثقافة العربية معرفة وفناً ورؤية مما يجعل صورة هوية الأنثي العربية فى شعرها محيطاً شائكاً من اختلاف الكتابة المختلفة .

الهوامش

1-  غادة السمان : رسائل الحنين إلي الياسمين : منشورات غادة السمان ،بيروت لبنان ،1996،ص 74-84.

2-  غادة السمان : عاشقة فى محبرة منشورات غادة السمان بيروت ، لبنان 1995، ص142.

3-    غادة السمان : رسائل الحنين إلي الياسمين ، مصدر سابق ص29-30.

4-    المصدر السابق ، ص32.

5-    غادة السمان : عاشقة فى محبرة ،مصدر سابق ،ص62.

6-    المصدر السابق ،ص101.

7-    المصدر السابق ،ص138.

8-    غادة السمان : رسائل الحنين إلي الياسمين ،مصدر سابق ص121.

9-    المصدر السابق ،161.

10-المصدر السابق ،ص23.