بين الرمز والواقع …………………..د. مصطفي أبو العلا

بين الرمز والواقع

———

د./ مصطفي أبو العلا (*)

مقدمـة :

هذه رؤية واحد من المعنيين بشعر المتنبي وما فيه من عبقرية وتفرد فضلاً عما فيه من غموض يؤدي إلي تباين المفاهيم وتعدد مستويات المعني لدي نقاده ودارسيه ، فقد تحققت مقولته في شعره :

أنام ملء جفوني عن شوارها

ويسهر القوم جراها ويختصم

فهي زاوية رأي فيها المؤلف أن الشاعر عندما تحدث عن المرأة جاء حديثه متميزاً مما يحتم علي الدارس لشعره عامة ولهذا الجانب بصفة خاصة التريث عند الحكم عليه ، أهو العاشق المحب الذي عير عن حبه وولعه بالمرأة غزلاً وهياماً ولوعة وغراماً ، أم الشاعر الذي استخدم المرأة أداة لكي يتكئ عليها ، رمزاً إلي أشياء أخري يتمناها ويخشي زوالها ويألم لفراقها ويطمئن لقربها ويسعد بدوالها .

أنستطيع أن نحكم عليه بأنه محب للنساء أو لامرأة بعينها دون غيرها أم هو الرجل الذي شغلته طموحاته عن حب الغيد الأماليد وجعلته يحتقر التعلق بالنساء ويأبي الضعف والذلة من أجلهن .

هذا ما سيجيب هذا البحث علي كثير منه .. بعد قرائتي لشعر المتنبيبصفة عامة ولما جاء حول المرأة فيه بصفة خاصة ، أستطيع أن أزعم زعماً لا دخل فيه لأقوال الدارسين والباحثين لشعر المتنبي ، بقدر ما هو إستنتاج شخصي قد اختلف فيه مع بعضهم أحياناً وأتفق مع البعض الآخر أحياناً ، إلا أنه في النهاية وترجمة حقيقية لما جاء من شعر حول هذا الموضوع وفي ديوانه – من وجهة نظري علي الأقل – هذا الاستنتاج يتلخص في أن للمرأة في شعر المتنبي استخداماً دلالياً جاء هذا في جل شعره حول المرأة ، كما جاء الحديث عنها حقيقياً في بعض هذا الشعر علي الرغم من محاولاته إخفاء هذه الحقيقة لأمور تتعلق بشخصيته وحياته معاً . كما أن هذا التناول حقيقياً أم دلالياً – جاء في بعض الأحيان بمعزل عن الآخر وفي الكثير منها متداخلاً معه دونما انفصال ، وسوف نعالج هذا المعني كما جاء عند المتنبي جاعلين ديوان الشاعر هو الحكم في كل ما نقول والقاعدة والأساس لكل استنتاج .

فهو ينكر ويبرئ نفسه وقلبه من التعلق بالمرأة فما عشقهن إلا غرة وطماعة ، ولذلك فهو لا يحبهن ، ويبتعد عنهن بما هو خير لأطراف القنا ولمعارك وساحة القتال.

وللخـود منـي ساعة ثم بيننا

فلاة إلي غير اللقاء تجاب

وما العشق إلا غرة وطماعة

يعرض قلب نفسه فيصاب

وغير فؤادي للغواني رميـة

وغير بناني للزجاج ركاب

تركنا لأطراف القنا كل شهوة

فليس لنا إلا بهن لعـــاب

وهذا في رأيي – امتداد لما كان عليه المتنبي من كبرياء وعظمة ، يجد أنه من العيب بمكان أن يتعلق بالنساء ويمارش عشقهن بما فيه من ضعف يخور يصيبالعاشق ، وما فيه من قهر وظلم للمحبوب ، وهذا ما لا يتفق وشخصه الذي لا يقبل بالقوة بديلاً ، ولا عن الكبرياء والعزة تحويلاً ، حتي ولو كان الحب ، أو المرأة المحبوبة له فعلاً ، فهو يفرض على نفسه الصوم عن ممارسة هذا الحب ، أو الظهور بمظهر       المحب الوامق الولهان ، المعني بحبيبه ، فهذا هو الضعف بعينه ، فهو الرجل ذو الشخصية الفولاذية ، والقلب الصخري ، شهوته الرماح وحبه للمعارك والقتال ، ومن هنا يتضح لي موقف الشاعر من المرأة ، وأستطيع أن أوجزه – علي ضوء شعره – في هذا المفهوم وهو أن المتنبي إنسان ذو شخصية ونفس طموح ، لها أهدافها العبقرية السامية، رأي أن العشق للمرأة فيه ما يعوقه عن تحقيق مجده المأمول ، والذي لا يرضي به بديلاً ، فصام عن هواها وابتعد عن مزاولة عشقها – كلما أمكنه ذلك جل حياته – غير أنه كإنسان – وهذا زعمي – تورط في المحظور من حيث لا يدري في بعض مراحل حياته – لا سيما في شبابه – فإذا أفاق من غفوته عاد إلي سيرته الأولي صائماً عن حبها رافضاً لها ، وعلي هذا فموقفه من المرأة مزدوج .

شطر صريح معلن وهو المسيطر علي حياته وشعره ، وشطر خفي داخلي لا يظهر إلا في بعض شعره ، وجاء هذا الجانب الأخير صادق التعبير متأجج العاطفة وشاركه في هذه السمة غزله الرمزي ،الذي استخدمه للتعبير عن عاطفة صادقة تصور للجو النفسي الخاص به أثناء عملية النظم .

وباستعراض لما جاء في مقدمات المتنبي التي يتغزل فيها بالمرأة أحسست بأن هذه الغزليات إنما تعبر عن ذاته وعن حياته وخلجاته ، والمتأمل والمتتبع لما تتضمنه هذه الغزليات من رموز ، يستطيع أن يضع يده ونظره وسمعه علي كثير مما أشار به المتنبي عن طريق هذه الرموز مما تعرض له من بؤس وآلام ، وأفراح ، وأتراح ، وما عرض له من خطوب ونواتب ، وما عاناه من مشاعر اليأس والقنوط ، أو مشاعر الرضا والسرور أو السخط والفتور ، فلم تتحول هذه المقدمات التقليدية ومنها المقدمة الغزلية إلي تقليد فني فارغ من المشاعر والأفكار كان علي الشاعر أن يحرص عليه ، ويتمسك به علي كره منه ، فقد ظل هذا التقليد مرتبطاً بالبيئة نابضاً بالحياة ، كما عمل الشعراء علي أن تستمر للأشكال الموروثة والمستخدمة منه حيويتها ، وأن تبقي موصولة بحياتهم معبرة عن تجاربهم (1) .

ومما لا شك فيه أن لغة الشعر منذ القدم اتخذت من المرأة دلالة تشير إلي ما هو أشمال وأعمق وأبعد من مجرد التغزل بالمرأة ، أو الحديث حول العشق ” فليس مستحدثاً اتخاذه الأداء المتكئ علي المرأة وعاطفة الحب ليبين عن دلالات أخري بل أننا نجد القضية قديمة جداً ولعل أقدم نموذج لذلك هو ( نشيد الإنشاد ) المنسوب إلي سليمان الحكيم (2) .

فنري الشاعر بألم ويأرق إذا افتقده محبوبته ، وليست محبوبت – في رأينا- سوي الدنيا وتحقيق ذاته فيها ، وفي المناصب العالية لملاءمتها لنفسه الطموحم ، وللثروة ، وسيلة للعز ، وللنصر ، وسيلة للمجد والسؤدد ، كما أراه يسعد وينعم إذا توقع الوصول إلي بغيته ، وإذا وجد سبيلاً إلي ذلك وفي الحالين ، حال الألم والأرق ، وحال السعادة والأمل ، نجد له شعراً صادق الغناء مصوراً لدخائله ، ومعبراً عن نفسه بكل آلامها بكل جموحها وطموحها ، بكل فشلها ونجاحها . ولكن في إبهام وغموض يحتاج كشفه وحل رموزه إلي معرفة واعية بمن هو أبو الطيب ، ومن تكون شخصيته ، فمنهج الحب الرامز قديم تتقبله اللغة في أدائها العرفي ، ولا تجد غضاضة في كونه يتجاوز هذا الأداء حدود لها ليخلق – بواسطتها أيضاً – لغته الدلالية الخاصة ، وهذا ما يفسر (3) ، أبياته في العشق التي يقول فيها :

أرق علي أرق ومثلي بأرق

وجوي يزيد وغبرة تترقرق (4)

جهد الصبابة أن تكون كما

أري عين مسهدة وقلب يخفق

ما لا ح برق أو ترنم طائر

إلا انثنيت ولي فؤاد شيق

فعامة الناس يفهمون من هذا الشطر الأول ، شدة العشق ، وحدة الحب ،وأما العارفون بأمر المتنبي يفهمون من هذا الشطر هم ” الشاعر الذي يطيل ليله ويضاعف أرقه ، وأمل الشاعر الذي يملأ قلبه ، ويبعد عن متناوله ” (5) ، وأعتقد أن هذا المعني يؤكد ما ذهبت إليه في الحكم علي – عشق الشاعر وطبيعة هذا العشق ، فغناؤه كما ذكر صادق اللهجة ، قوي النغمة، ويصدر عن قلب حزين – وهذا شأن الشاعر في جل شعره – إذا استخدم الغزل الرامز وتحدث عن عشقه الخاص به – وليس العشق المألوف – أما إذا حاول الحديث عن المرأة وعشقه لها ، وتغزله فيها لمجرد تقليد لتغزل الشعراء وذكرهم للمرأة في مقدماتهم ، أو تضاعيف شعرهم ، حينئذ يقع في التكلف وتبدو في شعره الصنعة لفظاً ومعني ، ذلك كقوله في نفس القصيدة :

جربت من نار الهوي ما تنطفي

نار الغضا وتكل عما يحرق

وعزلت أهل العشق حتي ذقنه

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

وهنا يلوح لنا تساؤل : كيف كانت المرأة في شعر المتنبي ؟ أهي وسيلة أم غاية يسعي لها ؟ ولكي نجيب علي هذا التساؤل علينا أن نستقرئ ما جاء عن المرأة في شعره وأن نتعمق ونستبطن ما دار حول المرأة من معان ودلالات استخدمها الشاعر للتعبير والتلويح لما يريد .

ونستيطع تلمس الجذور الأولي لإحلال المرأة رمزاً إسقاطياً يكثف الدلالة ويؤطر المضمون في شعرنا التراثي إذا نحن أعدنا قارءته من جديد ، حيث نلمح من خلال عطائه صورة لقناع يشف عما تحته ، وقد ندرك بتأمل متواضع ما يوده صاحبه ، ولكنه علي كل حال يمثل إحساساً قديماً بحاجة الشاعر الفنية لإتخاذ منحني آخر بواسطة الإنكاء علي الدلالات المستنبتة من عطائه اللغوي المتخذ من المرأة صورة فنية “(6).

وقد أتاحت – لي – قراءة المتنبي الوصول إلي حقيقة مؤداها أن الشاعر استخدم المرأة في جل شعره عنها كمعادل رمزي , فرأيناها معادلاً لأخلاقه ومعادلاً لقصته في الحياة ،ومعادلاً لانتمائه السياسي إلي غير ذلك من الدلالات التي ذكرنا أهمها ، وقد تأتي كل دلالة من هذه الدلالات مستقلة عن الأخريات ،وقد تأتي ممتزجة بعضها ببعض في تركيب واحد لا يستطيع النفاذ إلي أبعاده ، إلا البصير باستخدام الشاعر لهذه الأداة وهو حين يتحدث عن الحب كمعادل لمعان متعددة تختلف قليلاً أو كثيراً عما قد يفهم من التركيب المطروح في الشعر أو التعبير المباشر .

فقد رأي دانتي أن الحادث أو القصة التي توحي بالقريض لها في نفس الشاعر مغزي خلاف ما يفهم من الوقائع العادية التي تضمنتها فذلك الحادث قد تملك عقل الشاعر ، لأنه رأي فيه رمزاً لوحي باطني يدل علي أدق وأعمق معاني الحياة (7).

فلو تأملنا ما جاء عن حديثه عن المرأة والعشق في مقدمة هذه القصيدة لأدركنا استخدامها كمعادل رمزي حيث يقول :

ليالي يعد الطاعنين شكول

طوال وليل العاشقين طويلة

يبن لي البدر الذي لا أريده

ويخفين بدراً ما إليه سبيل

وما عشت من بعد الأحبة سلوة

ولكنني للنائبات حمول

وما شرقي بالماء إلا تذكرا

لماء به أهل الحبيب نزول

بحرمه لمع الأسنة فوقه

فليس لظمآن إليه وصول

أما في النجوم السائرات – وغيرها

لعيني علي ضوء الصباح دليل

فهل البدر الذي أخفته الليالي عنه هي المحبوبة كما فهم البعض ؟ أري أن الشاعر قد استخدم هنا البدر وتلك الليالي كمعادل رمزي لحياته ، وما فيها من ملل ويأس من تحقيق الآمال ، ولم لا يكون هذا البدر شيئاً آخر غير هذه الفتاة الإعرابية ؟ ..لم لا يكون البدر رمزاً لهذه الآمال النائية ، وهذه الهموم البعيدة التي تاقت إيها نفس الشاعر منذ أحس الحياة ، وقدر علي النشاط ، والتي أنفق ما أنفق من حياته دون أن يبلغها ، أو يدون منها (8) فهي معادل لقصة حياته وما كابده فيها من عناء وراء طموحاته قلما ظفر  ليفتقد جلها ، مما جعل اليأس والملل يجثم علي نفسه ، كما أن ليل العاشقين الطويل هو ليل عاشقي المجد والآمال والكبار .. الكبار ، وهذا يعني نفسه الطموح ، التي تكابد الكثير من أجل الوصول إلي بغيتها ، مهما طال ليلها وكثرت العوائق في طريقها ، وقد جاءت هذه المعاني متداخلة بمعني آخر وهو التعبير عن بعض الاغتباط بسبب بعض الانتصارات التي كان يحققها جيش سيف الدولة ، غير أن هذه الانتصارات وذلك للشعور بالاغتباط يحوطه أيضاً خوف من المستقبل بل يشك في استمرار هذه الأفراح ويتوقع للأتراح ، هذا ما عناه الشاعر ( بالماء الذي ينزل به أهل الحبيب ) .

وعن طريق المعادل الرمزي نستطيع أن تلمح كيف كانت المقدمة الغزلية تعبيراً عما يجول بنفس الشاعر وعقله، وكيف اجتمعت عنده البادية والحضر ، وما وراء هذه وتلك من أثر في حياته ووجدانه كتغزله بالإعرابيات والبدويات والذي جعله – عادة – في القصائد التي مدح بها الأعاجم دون غيرهم من العرب مما يشير إلي حنينه لما في بيئته العربية ، فالتشبيب بالبدويات كان رمزاً اتخذه أبو الطيب ليمارس فيه رحلة ذهنية تنقله إلي صحاري العرب وبواديهم وقيمهم  وأعرافهم (9) ، نلمح ذلك في مثل هذه القصيدة التي يقول فيها :

من الجأذر في زي الأعاريب

حمر الحلي والمطايا والجلابيب

ما اوجه الحضر المستحسنات به

كأوجه البدويات الرعابيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجب

ولا برزن من الحمام مائلة

أوراكهن ، صقيلات العراقيب

هذا القول وما فيه من أداء وجداني مفعم بحرارة العاطفة وصدق المشاعر ما هو إلا معادل رمزي لدلالات متعددة ومتداخلة كان يعيشها ويهرب إليها بهذه الرمزية ، نتيجة للظروف النفسية التي كان يعانيها تحت قهر كافور بمصر ، فهو يشير إلي حاليه في الماضي والحاضر . معتزاً بهذا الماضي واصالته ، نادماً عليه ، رافضاً لحاضره بما فيه من زيف وغدر وخداع ، كما أن ( أوجه البدويات ) رمز لبادية الحجاز ومالها من تبجيل في قلب ووجدان كل شيعي ، فتشبيهه بالبدويات يعيد إلي الذاكرة الحجاز وأماكنه المقدسة ، ويكثر في شعر الشيعة والمتصوفة “(10) ، ومن هنا كان تشبيهه بالبدويات معادلاً لانتمائه السياسي ، كما أن العرب وباديتهم التي يذكرها ويستعذب ذكرها بين الحين والحين لاسيما عن طريق التغزل بالمرأة العربية البدوية ، وما هي إلا أخلاقيات وأعراف هؤلاء القوم التي يتحلي بها ويعتز بانصافه بها ويرفض أن يرسم إلا بها سواء شرق أو غرب . ذهب إلي مصر أو رجل إلي شيراز ، فالشاعر مهما يتنوع المكان ويختلف الزمان ، يحمل همومه وطموحاته التي تنتصب أمامها العقبات الحياتية ، مما يجعل أداءه الشعري يكتنز في داخله ، تلك الهموم وهذه الطموحات ، ويدفع لغة الشعر لتصبح معادلة نفسية تمتد جذورها فيتربة هموم الذاتية ، فكأن حديث الحب إنما هو حب تلك الطموحات التي تنتصب أمامها تلك المعوقات ، ولذلك سرعان ما يمتزج هذا الحب بالحزن مباشرة في نقله الأداء من الغزل اللاهي إلي تعرية باطنة للشاعر ، وما يثقله من متاعب ويدميه من مصاعب (11)  .

ويقول في مطلع قصيدة بعث بها إلي سيف الدولة من العراق :

ما لنا كلتا جويا رسول ؟

أنا أهوي وقلبك المتبول

كلما عاد من بعثت إليها

غار مني وخان فيما يقول

لأفسدت بيننا الأمانات عيناها

وخانت قلوبهن العقول

زودينا من حسن وجهك ما دام

فحسن الوجود حال تحول

وصلينا نصلك في هذه الدنيا

فإن المقام فيها قليل

من رآها بعينه شاقه القطآن

فيها كل تشوق الحمول

أما عن رؤيتي لهذه البداية الغزلية لقصديته التي كتب بها إلي سيف الدولة من الكوفة سنة 352 هـ ، بعد أن وصلته هديته هي في ظني نوع من العتاب الممزوج بالأمل فيما أمل فيه سالفاً في كنف سيف الدولة ، ولم يظفر به لا عنده ولا عند كافور ، فالمرأة هنا معادل لآماله التي خابت وخبت ، غير أنه ما زال يخشي حساده الذين يقفون له بالمرصاد في كل مكان يحولون بينه وبين رفد سيف الدولة ، وأزعم أن هذا المعني يبين عن موقف الشاعر من الأيام المتقبلة .

” ولعل المتنبي قد أبان موقف الإنسان وحيرته تجاه المستبطن في غوره وكيف يتكفئ الإنسان علي نفسه ، خائر الحس أمام ما يود ولا يتحقق ،وما لا يود وهو متحقق (12) ، هذا المعني جاء في قوله :

أود من الأيام مـــالا توده

وأشكو إليها بيننا وهي جنده

يباعدن حباً يجتمعن ووصله

فكيف بحب يجتمعن وصـده

أبي خلق الدنيا حبيبا توده

فما طلبي منها حبيباً ترده

فهو في الواقع لا يقصد المرأة المحبوبة وإنما يقصد تلك الآمال التي يتطلع إليها دون جدوي ، حيث تعترضها العقبات والمخاطر لتحول بينه وبين الوصول إليها مما أشاع الحزن والأسي في نفسه .

وإذا نظرنا بعمق في تغزلة في هذه المقدمة نلمح كيف يستخدم الشاعر المرأة المحبوبة للتعبير الرمزي عن آماله وطموحاته ، كما أنها الدنيا ، دنياه التي لا يفوز فيها بما يأمل ، إلي غير ذلك مما سنتبينه بعد القراءة الواعية لهذه المقدمة .

فديناك من ريع وإن زدتنا كريا

فإنك كنت الشرق للشمس والغربا

وكيف عرفنا رسم من لم يدع لنا

فؤاداً لعرفان الرسوم ولا لبا

نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة

لمن بان عنه أن نلم به ركبا

نذم السحاب الغر في فعلها به

ونعرض عنها كلما طلعت عتباً

ومن صحب الدنيا طويلاً تقلبت

علي عينيه حتي يري صدقها كذباً

وكيف التذاذي بالأصائل والضحي

إذا لم يعد ذاك النسيم هبــــا

ذكرت به وصلاً كأن لم أفز به

وعيشاً كأني كنت أقطعـه وثباً

وفتانة العينين قتالة الهــوي

إذا نفحت شيخاً روائحها شبـا

لها بشر الدر الذي قلدت به

ولم أر بار قبلها قلد الشهبا

فيا شوق ما أبقي ويالي من النوي

ويا دمع ما أجري ويا قلب ما أصبي

لقد لعب البين المشت بها وبي

وزودني في السير ما زود الضبـا

فشمسه التي كانت وتبدلت هي آمالة التي خابت وليست – المرأة – كما يفهم ولا نفاجأ بتقلب الدنيا وأحوالها واختلافها من الصدق إلي الكذب ، فهذا في الواقع هو ما يعنيه من قتالة العينين ، وقتالة الهوي في الدنيا التي صرح بها تارة ،واستخدم المرأة كمعادل رمزي لها تارة أخري ، وأما وصاله بها هو هذا الأمل الذي لاح له أحياناً وسرعان ما اختفي ، وليس البدر الذي قلد الشهبا هو المرأة ، بل هي آماله الكبار وهدفه العظيم الذي يسعي من أجله  ، ثم يؤكد معانيه السابقة في قوله ( لقد لعب البين المشت بها وبي وزودني في السير ما زود الضبا ) فهو يصف حاله مع آماله ،وليس مع محبوبته ، فقد عاني الكثير وما زال ، ووقع في حيرة مع آماله وليس مع محبوبته ، فقد عاني الكثير وما زال .

ووقع في حيرة من أمره كلفته الكثير دون جدوي ، فهو عاجز عن تحقيق مأربه وبهذه الطريقة استطاع أن يجعل المرأة والحب معادلاً لما يعيشه من حيرة وتمزق ويأس، وبهذا أيضاً ” اكتسبت المرأة – شعراً – بعداً فنياً حيث توحدت مع مشاعر الإسقاط النفسي لتصبح تعبيراً عن موقف الغربة أو الحزن ، أو القلب الوجودي بأشكاله المتعددة، أو تناظر مع التمزق الذاتي تجاه الاستلاب الجمعي (13)  .

وله قصيدة لأمية قالها في عضد الدولة يمدحه وقد ورد عليه الخبر بانهزام وهشوذان الكردي (14) .

أثلث فــانا أيها الطلل

نبكي وترزم تحتــنا الإبـل

ثم يقول في :

إن الذين أقــمت وارتحلوا

أيامهـــم لديارهم دول

الحسن يرحل كلما رحلــوا

معهم وينزل حيثما نزلوا

في مقلتي رشأ تديرهمـــا

بدوية فتنت بهـا الحلل

تشكو المطاعم طول هجرتــها

وصدودها ومن الذي تصل

ما أسارت في القعب من لبن

تركته وهو المسك والعسـل

قالت ، ألا تصحــو ؟ فقلت لها

أعلمتني أن الهوي ثمــــل

فهو في رأيي يندب مجد الرب الغابر ومعه آماله وأحلامه التي ارتحلت رغم شغفه بها ، وهذه المحبوبة الراحلة عن المكان هي أيام العرب وأمجادهم ، فرحل معها كل سرور وتغيرت الحال بأفول نجمهم ، لأنه لا حسن ومسرة إلا بعودة هذه الأيام وتحقيق هذه الأحلام ، والبؤس والتعاسة في رحيلها ، رحيل آمالهخ وتطلعاته نحو دولة عربية قوية ، وما البدوية الحسناء إلا العروبة بكل معانيها ، وبما يرتبط بها من أمجاد وآمال هجرت المكان ، ولم يبق منها سوي الذكريات فما تركته فهو المسك والعسل ، أما هو فغارق في أحلامه وفي رحلته الذهنية التي هرب بها إلي عروبته وأحلامه ، ثمل بهواها لاسيما وهو بين الأعاجم يحس بغربة نفسية عمر عنها بهذه المعادلات الرمزية وكثيراً ما يعبر عن طموحاته وآماله بالمرأة أو النساء الحسناوات حيث ، يتخذ من المرة منطلقاً فكرياُ يصب من خلاله هموم ذاته ولواعج نفسه (15) ، والتي سببتها تلك العوائق التي حالت دون الوصول إلي الهدف وذلك كما في قوله :

بأبي الشموس الجائحات غواريا

اللابسات من الحرير جلابيا

الناعمات القاتلات المحييات

المبديات من الدلال غرائبا

حاولن تفديني وخفن  مراقباً

فوضعن أيديهن فوق ترائباً

كيف الرجاء من الخطوب تخلصا

من بعد أنشبن في مخالبا

وإذا نظرنا إلي قوله في أحد المطالع الغزلية :

كم زورة لك في الإعراب خافية

أدهي وقد رقدوا من زورة الذيب

أزورهم ، وسواد الليل يشفع لي

وأنثني وبياض الصبح يغري بي

فهي لم تكن زورة للمحبوبة ليلاً حيث

يستره الليل ومغادرة لمكانها وقت الصبح ، بل يتضمن هذا المعني غزلاً رمزياً بعيداً كل البعد عن المرأة ، وليس له فيها سوي الرمز ، فالمرأة المحبوبة هي آماله المرجوة التي يعمل من أجلها ليل نهار ، مع ما في ذلك من مخاطرة قد تكون هذه الآمال الثورة ، وقد تكون الهروب من مصر ، وهو في كل أحواله يري في الليل ستراً له ولخططه عن الرقباء ، وفي النهار خوف إفشاء لسره . وهذا قد يعني حنينه إلي حياته في شمال الشام حيث البداوة أغلب من الحضارة وحيث البأس أظهر من اللين ، وحيث المخاطرة والمغامرة والتعرض للمكروه ، وكأن الشاعر قد ضاق بهذه النعمة الهادئة وهذا الخفض الآن في مصر ، وشاقه صليل السيوف وصهيل الجياد ، ولكنه لم يستطع أن يجهر بما يجد من ذلك (16) .

والمقدمة الغزلية التالية تشي بما في نفس المتنبي من حيرة ويأس في الوصول إلي بغيته مستخدماً في ذلك المرأة والحب كمعادل موضوعي لما يقصد إليه ، حيث يقول في مقدمة مدحته لعضد الدولة أبي شجاع ، ويذكر هزيمته وهشودان :

أزائر يا خيــال أم عائــد

أم عند مولاك أنني راقد

ليس كما ظن غشية عرضت

فجئتي في خلالها قاصد

إذا خيالاته أطفن بنـــا

أضحكه أنني لها حامد

لا تعرف العين فرق بينهما

كل خيال وصاله نافذ

زيدي أـذي مهجتي أودك هوي

فأجهل الناس عاشق حاقد

ما بال هذي النجوم حائرة

كأنها العمي ما لها قائد

فهو ليس كما يقول بعض النقاد بأنه تشبيب وغزل وأقبح  الغزل ما وعظ فيه وذكر بالموت في أثنائه ( وكل خيال وصاله نافذ ) – فهو في ظني – لم يخرج عن جوه النفسي الذي ضمنه سائر مقدمته الغزلية ، والذي تمثل في حيرة نفس الشاعر الدائمة وراء أمل ، ووراء حقيقة يائس من الوصول إليها ، فطموحاته كبيرة وليله طويل ، ووراء حقيقة يائس من الوصول إليها ، فطموحاته كبيرة وليلة طويل ، لا يستطيع الوصول إلي شئ سوي الطيف والخيال الذي سوف ينفذ ويتلاشي أمله فنجومه حائرة ، لا  تتقدم ولا تتحرك كطموحاته اليائس من تحقيقها وآراءه اليائس من وصولها ، وفي هذا البيت القائل فيه :

كئيباً توقاني العوازل في الهوء

كما يتوقي ريض الخيل حازمه

فليس المقصود – في ظني – أنه عاشق

عنيف ، محب خشن في حبه ، لا يحفل بتقصير صاحبيه عن إعانته – فقط – بل يصور نفسه لسيف الدولة مستخدماً الحب رمزاً لما يبغي ، ويعطيه فكرة عن أخلاق هذا الشاعر الذي يقف الآن بين يديه مادحاً ، ويريد أن يكون أثيراً عنده ، ومقصوراً – كما أنه ينذر أصحاب سيف الدولة هؤلاء الشعراء والأدباء وينبئهم بأنه ليس من اليسر والسهولة بحيث ينتظرون أو يرجون ، وإنما هو فرس جامح عنيف ، وهذا يعني أنه برغم حرصه علي الاتصال بسيف الدولة لا يلقي نفسه عليه إلقاء ولا يظهر التهالك علي القرب منه ، وإنما هو يدنو حذراً محتاطاً مشترطاً لنفسه (17) .

وتستخدم المرأة أيضاً في بعض شعره بمدلولها المألوف ومعناها الصريح : فعلي الرغم من انتشار وشيوع استخدام للمرأة والحب استخداماً رامزاً في شعره ، إلا أنني لست مع من يعمم مثل هذا الحكم علي كل شعره حول المرأة ، ويجعل من المرأة وسيلة فقط للتعبير عن غيرها من المعاني والدلالات ، كما أنني لست مع من يعمم الحكم بتكلف المتنبي في تغزله بالمرأة ، وتغلب المنطق والعقل عنده في هذا الجانب علي العاطفة – إن وجد ما يبرر هذا الحكم في القليل من شعره – حيث أري عكس هذه الأحكام في حديثه وتغزله بالمرأة فيحس القارئ لمثل هذا الشعر بحرارة العشق والوقوع فيه ، وصدق مشاعر المحب وممارسته كقوله (18) :

شامية طالما خلوت بها

نبصر في ناظري محياها

فقبلت ناظري تغالطني

وإنما قبلت به فاهــــا

فليتـــها لا تزال وآية

وليتـــه لا يزال مأواها

كل جريح ترجي سلامته

إلا فؤاد دهته عينـــاها

وهذا – في رأيي – لا يتعارض مع القول بأن ” غزل أبي الطيب من النوع الوقور المقرون بالعقل والشعور العميق ، لأنه تعبير عن عاطفة إنسانية عريقة ولدت مع أول إنسان في الوجود ويكاد تكون سر العالم ، ومن حق هذه العاطفة أن يمارس التعبير عنها كل ذي شعور وخاصة الشعراء (19) .

ومما يشير بوضوح لممارسته لحب حقيقي وعفيف ما جاء علي لسانه معبراً عن مشاعر حبق عذري طاهر ، يربطه بمحبوبته طالما أضنته بحبها ، يقول :

جهـد الصبابة أن تكون كما أري

عين مسهدة وقلب يخفق

ما لاح برق أو ترنم طائر

إلا أنثنيت ولي فؤاد شيق

جريت من نار الهوي ما تنطفي

نار الغضـا وتكل عما يحرق

وعزلت أهل العشق حتي ذقته

فعجبت كيف يموت من لا يعشق

فإذا أمعنا النظر في هذه الأبيات لتبين لنا أنها صادرة عن تجربة حقيقية عبر عنها بصدق ، ولأتضح لنا بجلاء أن المتنبي ( شاعر غزل من الطراز الأول صادق الحب لطيف التعبير ، يحلل وفاقاً لعلم النفس التحليلي خواطره وشعوره ويمارس مع أحبائه ضرباً من الهوي الصافي العفيفي الأفلاطوني )(20) ، وكيف إذن نفسر هذا الغزل :

الأم طماعيـة العـاذل

ولا أري في الحب للعاقل

يراد  من القلب نسيانكم

ويأبي الطبـاع علي الناقل

وإني لأعشق من عشقكم

نحولي وكل امرئ ناحل

ولو زلتم ثم لم أبككم

كم قتيل كما قتلت شهيد

بكيت علي حبـي الزائل

ببياض الطلي وورد الخدود

وهبت السلو لمن لا مني

وعيون المها ولا كعيون

وبت من الشوق في شاغل

فتكت المتيم المعمود

أهذا تقليد فحسب ؟ أو يتكلف الغزل ؟ أهي مجرد مقدمة لقصيدة ؟ أعتقد أنه من الصواب أن نتحري الحقيقة وإلا ننسي أبياته الغزلية كلها بمحاكاة الأصول الشعرية السائدة في المديح وافتتاح القصائد ، فشئ من الصدق فيها بمنعنا من ذلك (21) .

ومن خير ما يشي بحقيقة حبه وواقعية غرامه ، وصدق تعبيره عن هذا وذلك هذه الأبيات :

القلب أعلم يا عذول بدائه

وأحق منك بجفنه وبمائه

أأحبه وأحب فيه ملامة

إن الملامة فيه من أعدائه

مهلاً فإن العذل من أسقامه

وترفقا فالسمع من أعضائه

لا تعذل المشتاق في أشواقه

حتي يكون حشاك في أحشائه

إن المحب مضرجاً بدموعه

مثل القتيل مضرجاً بدمائه

وأيضاً هذه الأبيات لا يستطيع الناقد البصير بما فيها ، إلا أن يحكم علي قاتلها بأنه محب مغرم بالنساء ، مجرب لهن ، أضناه عشقهن ، وشقي بغرامهن ، والتعلق بهن ، مثل لذلك قوله :

كم قتيل كما قتلت شهيد

ببياض الطلي وورد الخدود

وعيون المها ولا كعيون

فتكت بالمتيم المعمود

درد الصبا أيام تجرير

ذيولي بدار أثلة عودي

عمرك الله هل رأيت بدورا

طلعت في براقع وعقود

راميات بأسهم ريشها الهدب

تشق القلوب قبل الجلود

ذات فرع كأنما ضرب العنبر

فيه بماء ورد وعود

أهل ما بي من الضني بطل

صيد بتصفيف طرة ويجيد

كل شئ من الدماء حرام

شربه ما خلا دم العنقود

فاسقيها فدي لعينيك نفسي

من غزال وطار في وتليدي

شيب رأسي وذلتي ونحولي

ودموعي علي هواك شهودي

في قصيدة أخري يعترف بصراحة وبأدلة لا تقبل الشك علي حب خامر قلبه منذ الصبا ، وكذا علي دارية بما للنساء من صفات خلقية لا يدركها إلا مجرب وقريب منهن،  يبدو ذلك واضحاً في قوله :

إذا غدرت حسناء وقت بعهدها

فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد

وإن عشقت كانت أشد صبابة

وإن فركت فإذهب فما فركها قصد

وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا

وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد

كذلك أخلاق النساء وربما

يضل بها الهادي ويخفي بها الرشد

ولكن حبا خامر القلب في الصبا

يزيد علي مر الزمان ويشتد

بل ذهب إلي أبعد من ذلك حيث صرح – علي غير المعروف عنه – بتفضيله لصحبة الغيد الأماليد عن سيفه الذي طالما فضله علي حبه للنساء ، فقال :

وكان أطيب من سيفي ضاجعة

أشباه رونقه الغيد الأماليد

وقد جاءت معاني الغزل وما يتلاءم وشخصيته ، وما طبع عليه من مشاعر وأحاسيس ، فجاء غزله بالمرأة في أكثر الأحيان يفيض رقة وشفافية وجاءت معانيه معبرة عن صدق عاشق حقيقي لها ، يعرف كيف يبث مشاعره ، وعن غرام محب لها ينفث آلامه وأنينه ، ولا أريد أن أعيد قولاً مكروراً حول سرقة المعاني في شعر المتنبي عامة ، وحديثه عن المرأة والحب بصفة خاصة ، فقد ألفت وخصصت له المصنفات والدراسات التي لاحصر لها من الأقدمين والمحدثين ، فديوانه الواسع العميق ملئ بالمعاني التي تقترب أو تبتعد عن معاني السابقين أو المعاصرين بدرجات متفاوتة ، مما هيأ الوجود أو الظهور لهذه الدراسات حول معانيه في مختلف أغراض شعره وموضوعاته .

وعلي الرغم من تعدد الآراء تبعاً لتعدد الداسين لهذا الجانب فيشعره إلا أنني أجد نفسي مطمئناً لما قاله بعضهم ، فتكرار الشاعر لبعض المعاني قد يدل علي امتلائه بها واشنغاله بأمرها – حتي لنستطيع أن نري فيها أفكاره الأساسية ، وأذن فلهذا التكرار دلالته . وتكرار بعض المعاني قد يدل علي اهتمام الشاعر بها أو لصوقها بنفسه (22).

ويبدو استخدامه لهذه المعاني المكرورة الأداء ، الذاتية التجربة – في تشبيهه محبوبته بالشمس والبدر وعيونها بالسهام القاتلة ، أو هي كالبقرة الوحشية أو الظبي الشأدن . وهي كغصن البان ليناً ، وكالقمر ضياء وكالسهم فتكاً … إلخ وهذه مقاييس الجمال الحسية والصفات المثالية للمرأة عنده كأنثي . وهو قريب من المقاييس السائدة حينئذ ، فغزل المتنبي كسائر الغزل العربي – يتجه إلي المحسوس والمشاهد من جسم الحبيب ، ووصف جماله المادي ، وما يجلبه الحب من تعب ، وسهر ونحول ، وعذاب وأكثر ما يتجه الوصف الحسي إلي بياض الجسم وغشراق الوجه وسواد الشعر ، واعتدال القامة ، ونحول الخصر ، وثقل الأرداف ، وحلاوة الريق .. وما إلي ذلك من ضروب الحسن المادي الذي تختلف الآراء والأذواق في تقديره وتحديده باختلاف العصور والبيئات (23).

وتبدو هذه المعاني الغزلية وصور المرأة المحبوبة في هذا الجانب من شعره ، تبدو جليلة واضحة باستعراضنا لنماذج منها ما يلي  :

مظلومة القد في تشبيهه غصناً

مظلومة الريق في تشبيهه ضرباً

كأنها الشمس يعيي كف قابضها

شعاعها ويراه الطرف مقترباً

صريع مقلتها ، سبأل دمنتها

قتيل تكسير ذلك الجفن واللعس

خريدة ولو رأتها الشمس ما طلعت

ولو رآها قضيب البان لم تمس

ما ضاق قبلك خلخال علي رشا

ولا سمعت بديباج علي كنس

***********

ليالي بعد الظاعنين شكول

طوال وليل العاشقين طويل

هراقت دمي من بي من الوجد ما بها

من الوجد بي والشوق لي ولها حلف

**************

حبيب كأن الحسن كان يحبه

فآثره أوجار في الحسن قاسمه

تحول رماح الحظ دون سبائه

وتسبي له من كل حي كرائمه

***********

ترنو إلي بعين الظبي مجهشة

وتمسح الطل فوق الورد بألعنم

أظبية الوحش لو ظبية الأنس

لما غدوت بجد في الهوي تعس

***********

ولا سقيت الثري والمزن مخلفة

دمعاً ينشقه من لوعة نفسي

***************

فتاة تساوي عقدها وكلامها

ومبسمها الدري في الحسن والنظم

أعارني سقم عينيه وحملني

من الهوي ثقل ما تحوي مآذره

***************

كل جريح ترجي سلامته

إلا فؤاداً رمته عيناها

نبل خدي كلما ابتسمت

من قطر برقة ثناياها

****************

بدت قمرا ومالت غصن بان

وفاحت عنبراً ورنت غزالاً

*************

بانت نحو عوبة لها كفل

يكاد عند القيام يقعدها

****************

فلم أر بدرا ضاحكاً قبل وجهها

ولم تر قبلي ميتاً يتكلم

ظلوم كمتنيها لصب كخصرها

ضعيف القوي من فعلها يتظلم

**************

فمضت وقد صبغ الحياء بياضها

لوني كما صبغ اللجين العسجد

فرأيت قرن الشمس في قمر الدجي

متأوداً غص به يتأود

عدوية بدوية من دونــها

سلب النفـوس ونار حرب بوقد

**********

أما عن علاقته بخوله وما دار حوله من أقوال (24) ، فإذا تركنا ديوانه يتحدث بصدق ، فلن نجد سوي رثاء لثلاثة نساء لهن صلة بأميره وحبيبه سيف الدولة هن : أمه وأختاه الصغري والكبري . وأكثر هذه المرثيات جودة وحرارة عاطفة وصدق شعوري ، هي بلا شك مرثيته في خوله والتي مطلعها :

يا أخت أخ يا بنت خير أب

كفاية بهما عن أشرف النسب

وما جاء في هذه المرثية من أبيات تؤكد المودة والحزن العميق وتقريضها بمعان منفردة لم تحظ بها غيرها ممن رثي كقوله فيها :

فليت طالعة الشمسين غائبة

وليت غائبة الشمسين لم تغب .. إلخ

ما هو إلا اعتراف بفضل الفقيدة عليه لما لها من اياد عليه ، كما ذكر في قوله :

ولا ذكرت جميلاً من صنائعها

إلا بكيت ولا ود بلا سبب

زد علي ذلك أنه قال هذه القصيدة بعد فراقه لسيف الدولة ، ولأن خولة كانت امرأة ذات مكانة عالية ، لها أياد علي الشاعر ، وهذا لا يعني بالتأكيد أن يكون بينهما حب خالد ، ولا نستطيع أن نتخذ من طريقته في مرثية معينة قاعدة يجب أن يتبعها في مرثية أخري بعد سنوات عديدة (25) .

ومن هنا نستطيع القول – وعلي أساس من شعره – برفض هذه الدعوي – دعوي حبه لخولة أخت سيف الدولة ، غير أننا نطمئن إلي القول بأنه أحب ومارس العشق وعاني منه معاناة المحب وعبر عنه كأصدق ما يكون التعبير عن عاطفة حب حقيقية بعيدة كل البعد عن التكلف والتصنع والتقليد ، وهذا ما اتضح فيما قدمناه من شعره الصادق التجربة والتعبير .

**************

الهوامـــش

===

1-          مقدمة القصيدة العربية في العصر العباسي الأول ، د. حسين عطوان ، ط دار المعارف 1974 ، ص 260 .

2-          دراسة في لغة الشعر ، رؤية نقدية ، دكتور رجاء عيد ، ط منشأة المعارف بالإسكندرية 1979 ، ص 63 .

3-                          نفسه ، ص 67 .

4-                          ديوان المتنبي ، شرح البرقوقي ، دار الكتاب العربي ، بيروت 1979 .

5-                          مع المتنبي ، ص 70 .

6-                          دراسة في لغة العشر ، د . رجاء عيد ، ص 69 .

7-          قواعد النقد الأدبي ، تأليف لاسل آيركرمبي أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة لندن ، ترجمة : محمد عوض 1936  .

8-                          مع المتنبي . د. طه حسين ، ص 239 ، ط دار المعارف ، 1980 .

9-          في ذكري أبي الطيب . عبدالوهاب عزام ، ص 215 – 221 . ط دار المعارف 1968 م .

10-                     الفن ومذاهبه في الشعر العربي ، شوقي ضيف 1960 ، ص 344 .

11-                     لغة الشعر . د. رجاء عيد ، ص 73 .

12-                     نفسه ، ص 75 .

13-                     نفسه ، ص 86 .

14-                      شرح الواحدي ، ص 775 ، البرقوقي ، ص 15 ، ج4 ، ط برلين 1861 .

15-                     لغة الشعر ، ص 74 .

16-                     مع المتنبي ، ص 300 .

17-                     نفسه ، ص 192 .

18-                     المتنبي بقلم المحاسني ، دار المعارف ، 1980 .

19-                     نفسه ، ص 15 .

20-                     نفسه ، ص 72 .

21-                     المثال والتحول ، جلال الخياط ، ص 85 ، 1976 .

22-        النقد المنهجي عند العرب ، د. محمد مندور ، دار نهضة مصر للطبع والنشر 1972 ، ص 311 .

23-                     المتنبي وشوقي ، عباس حسن ، ص 260 ، ط دار المعارف ، 1964.

24-        انظر مع المتنبي ، طه حسين ، المتنبي ، محمود شاكر ، ص 130 ، ط القاهرة ، 1976م .

25-                     المثال والتحول ، ص 906 .