ربيع ورغيف خبز…….……………سوزان ابراهيم

ربيعٌ ورغيف خبز

سوزان ابراهيم

  • · كاتبة سورية

” وعند الفجر لا تنم بني ” قالَها غجريٌّ عتيقٌ ذاتَ رحيلٍ ومضى. جملةٌ لطالما ردَّدَها على مسامعي مضيفاً:

–         لا تدعي الفجرَ يسبقُكِ, كوني بانتظاره! ثمَّ يحركُ ما في قعرِ فنجانِ القهوة قليلاً, ويرشفهُ دفعةً واحدة.

منذُ تعرفتُ عليه, صارتْ تلكَ المقولةُ تميمةً ترافقني كجرسِِ منبهٍ لا شعوري يستنهضُني لأراقبَ انبلاجَ الفجر, وتفتُّحَ وردةِ الشمس الأولى. أصصُ الحبقِ في الشرفةِ خاليةٌ إلا من بقعِ مخملٍٍ طحلبيٍّ أخضر, وخيطٍ فضيٍ لامعٍ يرسم مساراتٍ متعرجةًً فوقَ التربة الرطبة. ينداحُ أريجُ الهال كثيفاً من دلّةِ القهوة التي مازلت أتعاطاها على الشرفة صيفاً وشتاءً منذُ رحيلهِ قبل عامين.

*      *      *

أمام المرآةِ, ومع آخرِ لمسةٍ من مرطبِ الشفاه, أتناولُ معطفيَ الذي فقدَ لمعانَ سوادهِ بعدَ مرورِ سنواتٍ على استخدامِهِ المتواصلِ. أبلّلُ فرشاةَ الملابسِ بالماء, وأبدأ طقسيَ الصباحيَ بتنظيفهِ مما علقَ به من زغب. أتفحصُ وجهيَ قليلاً في المرآة, أتذكرُ ربيعاً, أضغطُ على قلبي, وأخرج.

في المكتبةِ الكبيرة المستطيلةِ المتخمةِ بآلافِ العناوينِ تجوّلتُ, ترددتُ في اختيارِ بعضٍ منها, خمّنتُ أنني لو اخترتُ كتاباً لبابلو نيرودا, للوركا, لسعد الله ونوس, أو للماغوط, وربما لممدوح عدوان لنالَ ذلك إعجابه. اختلستُ النظرَ إلى الأسعار, تفقّدتُ ما بقيَ من راتبِ الشهر, وقررتُ خوضَ المغامرة. وضعَ محاسبُ المكتبة ما اشتريتُ في كيسٍ بلاستيكي. في تلك اللحظةِ بالذات, دهمتني صورةٌ مشوشةٌ في الذاكرة لطالبة جامعية! حاولتُ استعادةَ بعضِ التفاصيل.. كنتُ في ذلك اليوم بصحبةِ ربيع نتسكعُ في شوارع دمشق, نحتفلُ بعيدِ ميلاده الثلاثينَ, لكنْ على طريقته! الزمانُ.. أواخرَ شباطٍ قبلَ ثلاثةِ أعوام, المكانُ.. الشوارع القريبةُ من جامعة دمشق. لمْ أعرفْ رجلاً مولعاً بالقراءةِ وشراءِ الكتب من مكتباتِ الأرصفة كما ربيع! تجوّلنا هنا وهناك, اختارَ ثلاثينَ عنواناً,علّقَ ضاحكاً:

–   إنها رخيصة! يمكنكِ شراءُ كتابٍ بعشرِ ليراتٍ,أو بخمسٍ وعشرينَ ليرةٍ فقط! في شباطَ القادمِ, سنشتري واحدا وثلاثين كتاباً.

بالقربِ منّا, انحنتْ طالبةٌ تقلّبُ الكتبَ, وتختارُ منها بكثيرٍ من الاهتمام, حين انتهتْ سألتِ الرجل عن ثمنها. هدأتْ تعابيرُ وجهِها واستكانت, تفقدتِ العناوينَ بين يديها, وهمّتْ بإعادةِ بعضِها إلى الرصيفِ حيث كانت. اقتربَ ربيعٌ, دفعَ الثمنَ المطلوب, ورجا الفتاةَ أن تحتفظَ بكلِّ ما اختارته قائلاً:

–         اقبليها هدية مني ومن خطيبتي.

تلعثمتِ الصبيةُ, فطلبَ إليَّ الإلحاح عليها بقبول هديتنا. بعد هنيهةٍ أضاءتِ ابتسامةُ شكرٍ الوجهَ الذي يفاجئني الآن متلبسةً بالحزن.

خلسةً وبطرفِ المنديل جففتُ دمعاً تبرعمَ في عيني.. لقد كان عيدُ ميلادِه الأخيرَ الذي احتفلنا به معاً.

*      *      *

البقية فى العدد الثانى والعشرين