أطرف ما قرأت هذا الصيف مقال نشرته صحيفة الأهرام ( الصباحية ) لأبى همام عبد الطيف عبد الحليم الشاعر واستاذ الأدب العربى بدار العلوم بجامعة القاهرة وللكتاب قصة وللمقال قصة .
أما الكاتب فهو من اشد تلاميذ عباس محمود العقاد إخلاصاً حتى انه لينحو منحى الأستاذ فى غطاء الرأس وفى إمساك العصا والمعاصرون ما أن يذكر اسمالعقاد حتى يتداعى إلى أذهانهم موقفه من صلاح عبد الصبور كان العقاد رئيساً للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والأداب – المجلس الأعلى للثقافة الآن – فلما قدم عبد الصبور للجنة مخطوطاً من شعره رأى العقاد أن يحوله إلى لجنة النثر لأن الشعر الحر الذى سمى فيما بعد باسم الشعر التفعيلى وسماه العقاد الشعر السائب بدلاً من الحر ضرب من النثر لا الشعر ولقدردعليه صلاح عبد الصبور بمقال لطيف نشرته الأخبار التى كان العقاد ينشر بها يومياته واختار عبد الصبور لمقاله عنوان والله العظيم موزون . أما أحمد عبد المعطى حجازى فلقد اثر أن يضع قصيدة هجاء للعقاد ، وحمل عليه حملة عنيفة . وليس هذا كله استطراداً فيما نحن بسبيله .
أما المقال فقصته تردنا إلى الشاعر الدكتور كمال نشأت.
فكمال نشأت واحد من رواد الشعر الحر فى مصر شارك فى دعمه مع صلاح عبد الصبور وحجازى وحسن فتح الباب وعبد المنعم عواد يوسف ومحمد مهران السيد، وآخرين ( وانا أخص المصريين بالذكر لأن المشهد الذى أرويه مصرى بغير رغبة فىإثبات التقدمة فىالشعر الحر لبلد على بلد بل إنى أرى السؤال عن الأسبقية يتجاوز التاريخ المحصن إلى أ، يكون علامة على ضعف شعورنا بوحدة الثقافة العربية ، واشتركنا فيها ) ولقد أحاط الجدل بكمال نشأت فى الآونة الأخيرة لأنه نشر فى مصر كتاباً يطعن فيه على الموجة الثانية من الشعر التفعيلى . ومارافقها من قصيدة النثر ، والموجة عنده مردودة إلى أدونيس . أستاذها . ومعبد طريق الحداثة لصحابها وهى الطريق التى سلوكها فأنتهت بهم ، فى تقدير كمال نشأت إلى فساد الشعر العربى إفسادا ممقوتا ، ورأت كلية دار العلوم أن تستضيف كمال نشأـ ليحاضر طلابها واساتذتها ، حول رايه فى الشعر وما انتهىإليه من آراء فى كتابة نعود إلى أبى همام .
علق على محاضرة كمال نشأت ، وعلى كتابة المذكور بكلمة فى الأهرام ذكر فيها إنه يشعر بشعور يخشى أن يرى فيه الناس شماتة فهؤلاء الذين نازعوا العقاد من قبل هم اللذين اختطوا الطريق الجديد المسيجة بأوهام التجديد ، والتى أدت بنا إلى غموض الحدائة وتفاهات قصيدة النثر .
ذكرنى هذا كله بطائفة من الندوات قمت على تنظيمها فىقصر الثقافة بحى مصر الجديدة كان موضوعها السؤال عن الضرورة الجمالية الداعية لكل شكل مناشكال العقيدة المعاصرة وتركت فيها مساحة غير قليلة للسؤال عن الضرورة الجمالية للشكل العمودى الآن . استضفنا فى الندوات المرحوم المشاعر شوقى هيكل الذى كان يترأس جمعية اصدقاء العقاد والأستاذ الدكتور عبد الغفار هلال . والشاعر عبد المنعم عواد ، والشاعر الدكتورحسن فتح الباب والشاعر عاطف عبد العزيز والشاعرة خيرية صابر وآخرين – وكان الرأى الذى ينتهى إليه كثرة من المعنيين بالموضوع هوأن الشكل العمودى قادر على البقاء فى كل زمان ومكان من بلادنا العربية ولا يحتاج إلا إلى تجديد اللغة حتى تتسع لتجارب معاصرة .
وفى شهر أبريل , وأنا مسافر إلى العريش للمشاركة فى مؤتمر أدبى أقيم هناك , حدثنى الصديق الصحفى عمرو رضا عن الورقة التى سيلقى خلاصتها فى المؤتمر , وكانت فكرتها أننا نستطيع أن نرى فى الشكل العمودى الآن ضربآ من ضروب المقاومة للآخر الذى يغزونا , وبدا لى طريفآ أن نقرأ الشكل نفسه – لا المضمون فى القصيدة – بوصفه منحى من مناحى المقاومة للثقافة الغربية الغازية لنا , أو بعبارة أخرى , نحوآ من أنحاء التفاعل بين ثقافتنا وثقافات أخرى , يهدف إلى حماية هويتنا من الاغتراب , أو التغريب , أو التشوه .
هذا كله يؤول بى إلى الديوان الجديد للشاعر الحريص على الشكل العمودى المقيم فى مرسى مطروح فى الشمال الغربى من مصر , كأن مقام الشاعر علامة على انزياح الشكل إلى هامش مشهد الشعر فى مصر .
أشير إلى الشاعر إسماعيل عقاب وديوانه ” حديث الموج للصخور ” ( القاهرة – دار قباء – 1998م ) . لقد كان إسماعيل عقاب خدين الشاعر المرحوم عبدالمنعم الأنصارى , وهو نفسه ” المغنى الذى رحل ” الذى أهدى إليه عقاب ديوانه . والشاعران اشتركا كلاهما فى محبة الشكل العمودى , وآمنا بقدرته على استيعاب لغة العصر , وعلى التعايش مع كل عصر ةعلى الاستجابة للغة المسرح وتقاليده , كما استجاب لها يدى أحمد شوقى وعزيز أباظة . وأفضل من استجابته لها بين أيديهما , إذا أمكن .
وأظن أن الشيطان قد مكربى وألقى فى روعى أن ” حديث الموج للصخور ” عنوان يريد القول إن الديوان حديث صادر عن أمواج الموسيقى التى ينشئها العروض الخليلى بفعل الشكل الشعرى الأصيل , ليوجه الموج حديثه إلى عالم شعرى أصم كالصخر , كف عن الموسيقى والغناء وبسط صحرائه الجافة فوق بحر الشعر من حول الديوان ؟
أظنه مكر الشيطان لأن القصيدة التى عنوانها ” حديث الموج للصخور” لا توحى لى بهذا المعنى من قريب , وهى أقرب إلى أن تكون غزلية , ليست مسرفة العاطفة على نحو رومانسى ولكنها معتدلة على نحو كلاسيكى محدث .
مع هذا يبدو لى المعنى المتوهم من العنوان قريبآ من الديوان ومن مشهد الشعر المعاصر .
لتكن فرصة لنطالع شيئآ من الديوان , ونتعرف قليلآ شعر إسماعيل عقاب وأنا أختار أولى قصائد الديوان , لأنها من جهة , مصورة لأسلوبه فى سائر القصائد ولأنها من الجهة الأخرى , تحتمل عندى أن نقرأها بوصفها بيانآ شعريآ دالا على موقف القصيدة عند عقاب من عالم الشعر المحيط بها , وعلى موقف الشاعر نفسه من قصيدته .
استفزاز
1- ليس يكفى إثارة لنزال … أن ترمزى
2- صارحينى …. وإن تشائى ولوعى … تحفزى
3- واجهينى بما يليق ممثلى … تعززى
4- وانقشى ما يثير …. فوق الوشاح المطرز
5- أنهضى مستفزة … وامتطى المهر واهمزى
6- وأغيرى على ربوعى , وضمى , وحرزى
7- حاصرى كل ربوة لى , وجوبى مفاوزى
8- وإذا مامهرى بدا لك … كرّى وناجزى
9- فأنا مهرى … لايروق له كرّ عاجز
10- لامفر … فنازلى .. جردى السيف .. بارزى
11- وإذا طابت جولتى , وغوى الطعن … أو جزى
12- واحشدى كل مالديك لقتلى … وأجهزى
13- روعة … لو دمى يسيل … على نصل معجز
أفضل أن أقرأ هذه القصيدة فى ضوء تأويل يرى المخاطبة فيها هى القصيدة بوجه عام , بمقدار دلالتها على عالم الشعر , ومن زاوية انتماء الشاعر إليها . أولها قوله ” أن ترمزى ” قافية البيت الأول . والنقش المذكور أول البيت الرابع يحتمل معنى الكتابة . والإيجاز , قافية البيت الحادى عشر , شانه شأن الإعجاز , قافية البيت الأخير , كلاهما أدنى إلى عالم الشعر والبيان . إذا صحت دلالات هذه الدوال إذن إذن تصح قراءة القصيدة فى ضوء تأويل المخاطبة بوصفها قصيدة الشعر المعشوقة من الشاعر . من ثم يصح , بالقدر نفسه من الصحة , أن نقرأ القصيدة عينها بوصفها غزلية , فالدوال نفسها ترفض الاتصال بعالم الأنثى كل الرفض , فالأنثى ترمز فتكتفى بالإيماء دون التصريح , والأنثى تنقش الوشاح المطرز لأن الزينة من عالمها , وإيجاز الطعن , وبلوغه حدآ من القوة والدقة يوصف بالإعجاز , ليسا مستنكرين فى موقف شاعر من أنثى معشوقة . وإنما يلتقى الفرضان معآ فى لغة النص المزدوجة عند نقطة واحدة , هى أن القصيدة نفسها – القصيدة المطلقة غير المتعنية فى نص دون آخر – هى , فى ذاتها أنثى معشوقة . ولا حرج فى أن نرى الأزدواج نفسه فى العلاقة التى تربط بين الشاعر وأنثاه – القصيدة / المرأة – وهى العلاقة التى أسماها باسم النزال , ومدّ صورة النزال , وبسطها على النص كله , وطفق جميع عناصرها , منةمهر , وسيف , وكر , بغير فر , وطعن , وقتل , ونصل , فسرد فى القصيدة قصة النزال تفصيلآ لا بلغة الماضى , بل بلغة الطلب والاستقبال , أو الاستباق . هذه العلاقة تحتمل تأويلآ الازدواج لأن القصيدة حين تنازله وتعجزه نزالآ , تعلن قدرتها على منازلة الشعر كله ,على أن تكون الموجة العاتية الضاربة لصخر الشعر الأصم . وهو نزال يعدّل كثيرآ من معنى القتل وسفك الدم . القتل ههنا متصل بمعنى تقدم أول النص هو المصارحة التى تعلق على الرمز … إن سيولة الدم على نصل الأنثى المعشوقة معناه الإفضاء الصريح , إلى أقصى مداه , بكوا من النفس وبفيض الشعور والوعى . من ثم تنقلب علاقة النزال انقلابآ غريبآ , من علاقة عداء , إلى علاقة عشق وصفاء , ومن علاقة عدوان , إلى علاقة حب ووجدان , من ثم يستفز الشاعر قاتلته, ويناشدها القتل , ويلح عليها فيه , ويستروع, أخيرآ, أن يسسل دمه على نصلها. وهو موقف لا يصدر عن ماسوشية أمام سادية الأنثى, بل يصدر عن مفهوم آخر للعزة فى البيت الثالث عزة الشاعر الذى يشعر بذاته , وعزة الأنثى / القصيدة . ومن ثم يتولد عن هذا كله ازدواج أخير , إنه ازدواج القول الشعرى نفسه : هذه قصيدة تصف ما قبل القصيدة من مراودات هى شعر يستفز الشعر. وهى حديث بالاستقبال عما وقع فى الماضى وأنشأ القصيدة نفسها. هذه القراءة لاتختص باستفزاز وحدها . هى قراءة قابلة لأن نعرض عليها نصوصآ كثيرة من الديوان , منها مطلع ” وهج ” آخر قصائد الديوان :
اخطرى فى الخرائط المشتهاه ***
وانقشى فى دمى … فصول الحياة
واعتلى ربوة الضياء … وكونى ***
رجفة تسرى فى الحنايا صــلاة
وتجلى فى رعدة الحلم .. ومضآ ***
ويقينآ .. ونشوة فى خطــاه….
إنه التصور نفسه للشعر بوصفه حلول الشاعر فى قصيدته , لاحلول سيرته ولا حلول وقائع حياته , ولكنه حلول الروح والدم , حلول الافضاء والبوح الذى يتجاوز تفصيلات الحياة المعيشية إلى أفق الوجود الشعرى البديل وهو وجود واسع ذو خرائط , متغير متنوع كفصول السنة , لامع كضوء على ربوة , عميق كصلاة , خيالى كحلم , حقيقى كخطو النشوان .
إنه مفهوم محدث مجدد للقصيدة القديمة . كما يجددها البردونى فى اليمن , وسعيد عقل فى لبنان والجواهرى – يرحمة الله – فى العراق , وغيرهم كثير – وكما كان محمود حسن إسماعيل يحاول تجديدها فى قصائده الباكرة وهو يتخرج فى كلية دار العلوم .
ولاحرج فى أن تعول ” استفزاز ” على صورة السيف والمهر والنزال , فلقد اقتبس الديوان على صدر قصيدة رحلة اليقين , قول صلاح عبدالصبور: يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة . ويغنى بالسيف واقتبس قول عبدالمنعم الأنصارى :
ومالى سوى شعرى ألوذ بركنه ***
وصدق هو السيف الذى أتوشح
قبل أن تبدأ ” رحلة اليقين ” بمطلع يقول :
لم تزل رحلتى إليك … طويلة ***
لاأرى وجهة سواك … بديلة
وورائى .. فليس عنك بخاف ***
وأمامى معابر مستحيلـــة
وحديثى إليك مستنفر من ***
رفقاء … وراعهم أن أطيلـه
فصور الفارس والسيف شائعة فى الشعر المعاصر , تجدها عند صلاح عبدالصبور , وتجدها عند أحمد عبدالمعطى حجازى فى قصيدته ” طردية ” – على نحو ما – وتجدها عند الأنصارى , ثم تعرج فى رحلتها إلى إسماعهيل عقاب وقد نهل منها , من قبل حسن فتح الباب فى شعره منذ كان ضابط شرطة يطوف قرية نائية على جواد . فليست , إذن , استعارة الفارس من مناحى تقليد القدماء , بل هى من مناحى الابتكار الحديث … وإلى جوارها نجد – فى شعر اسماعيل عقاب – صورة المرتحل فى قصيدة ” وهج ” وفى قصيدة ” رحلة اليقين ” ولعلها إشارة مهمة تلك التى يقول فيها ان حديثه , وراعهم أن يطيله . هى إشارة مهمة دالة على موقف هذا الشعر من العالم , وموقفه من اضراب أخرى من الشعر . ولكن القصيدة عند إسماعيل عقاب مهما تعشق المصارحة وتصر على البيان والوضوح فإنها لكى تنجو من الخطابة مصرة على الاكتفاء أمام العالم التاريخى المعيش , بالأشارة الموجزة , حتى لايتسلل إلى القصيدة , وتخيلها , ويسرق من الشاعر عالمه البديل الأفضل .
لقد صحب إسماعيل عقاب فى رحلته التى لاتزال طويلة , الحلم بالشعر بوصفه خلاصآ ووجودآ بديلآ , فى لغة غزلية موقعه . صحبه منذ ديوانه ” خطوات الأمل المعصوب ” (1979م) إلى ” من وحى عينيها ” ( 1983م ) , إلى ” هى والبحر ” (1989م ) إلى مسرحيتيه ” تأشيرة خروج ” و ” محاكمة المغنى ” (1996م ) .
من المؤكد أنه أخرج لنا قصيدة عصرية . هى لغة تناسب العصر . ولكن العصر لاتناسبه لغة واحدة . العصر يناسبه لغات عدة . نحن نصنع عصرنا بلغاتنا قبل أن يصنعنا العصر .
لذا سيظل مشهد الشعر متنوعآ , مختلف البقاع . ويكفى إسماعيل عقاب أن يضيف إلى المشهد قصيدة جديرة بالقراءة .
يوليو 9 2010
الأمـواج والصخـور ،إسماعيل عقاب ومشهد الشعر فى مصر …. د . مجدى أحمد توفيق
الأمـواج والصخـور
إسماعيل عقاب ومشهد الشعر فى مصر
=====
د . مجدى أحمد توفيق
أطرف ما قرأت هذا الصيف مقال نشرته صحيفة الأهرام ( الصباحية ) لأبى همام عبد الطيف عبد الحليم الشاعر واستاذ الأدب العربى بدار العلوم بجامعة القاهرة وللكتاب قصة وللمقال قصة .
أما الكاتب فهو من اشد تلاميذ عباس محمود العقاد إخلاصاً حتى انه لينحو منحى الأستاذ فى غطاء الرأس وفى إمساك العصا والمعاصرون ما أن يذكر اسمالعقاد حتى يتداعى إلى أذهانهم موقفه من صلاح عبد الصبور كان العقاد رئيساً للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والأداب – المجلس الأعلى للثقافة الآن – فلما قدم عبد الصبور للجنة مخطوطاً من شعره رأى العقاد أن يحوله إلى لجنة النثر لأن الشعر الحر الذى سمى فيما بعد باسم الشعر التفعيلى وسماه العقاد الشعر السائب بدلاً من الحر ضرب من النثر لا الشعر ولقدردعليه صلاح عبد الصبور بمقال لطيف نشرته الأخبار التى كان العقاد ينشر بها يومياته واختار عبد الصبور لمقاله عنوان والله العظيم موزون . أما أحمد عبد المعطى حجازى فلقد اثر أن يضع قصيدة هجاء للعقاد ، وحمل عليه حملة عنيفة . وليس هذا كله استطراداً فيما نحن بسبيله .
أما المقال فقصته تردنا إلى الشاعر الدكتور كمال نشأت.
فكمال نشأت واحد من رواد الشعر الحر فى مصر شارك فى دعمه مع صلاح عبد الصبور وحجازى وحسن فتح الباب وعبد المنعم عواد يوسف ومحمد مهران السيد، وآخرين ( وانا أخص المصريين بالذكر لأن المشهد الذى أرويه مصرى بغير رغبة فىإثبات التقدمة فىالشعر الحر لبلد على بلد بل إنى أرى السؤال عن الأسبقية يتجاوز التاريخ المحصن إلى أ، يكون علامة على ضعف شعورنا بوحدة الثقافة العربية ، واشتركنا فيها ) ولقد أحاط الجدل بكمال نشأت فى الآونة الأخيرة لأنه نشر فى مصر كتاباً يطعن فيه على الموجة الثانية من الشعر التفعيلى . ومارافقها من قصيدة النثر ، والموجة عنده مردودة إلى أدونيس . أستاذها . ومعبد طريق الحداثة لصحابها وهى الطريق التى سلوكها فأنتهت بهم ، فى تقدير كمال نشأت إلى فساد الشعر العربى إفسادا ممقوتا ، ورأت كلية دار العلوم أن تستضيف كمال نشأـ ليحاضر طلابها واساتذتها ، حول رايه فى الشعر وما انتهىإليه من آراء فى كتابة نعود إلى أبى همام .
علق على محاضرة كمال نشأت ، وعلى كتابة المذكور بكلمة فى الأهرام ذكر فيها إنه يشعر بشعور يخشى أن يرى فيه الناس شماتة فهؤلاء الذين نازعوا العقاد من قبل هم اللذين اختطوا الطريق الجديد المسيجة بأوهام التجديد ، والتى أدت بنا إلى غموض الحدائة وتفاهات قصيدة النثر .
ذكرنى هذا كله بطائفة من الندوات قمت على تنظيمها فىقصر الثقافة بحى مصر الجديدة كان موضوعها السؤال عن الضرورة الجمالية الداعية لكل شكل مناشكال العقيدة المعاصرة وتركت فيها مساحة غير قليلة للسؤال عن الضرورة الجمالية للشكل العمودى الآن . استضفنا فى الندوات المرحوم المشاعر شوقى هيكل الذى كان يترأس جمعية اصدقاء العقاد والأستاذ الدكتور عبد الغفار هلال . والشاعر عبد المنعم عواد ، والشاعر الدكتورحسن فتح الباب والشاعر عاطف عبد العزيز والشاعرة خيرية صابر وآخرين – وكان الرأى الذى ينتهى إليه كثرة من المعنيين بالموضوع هوأن الشكل العمودى قادر على البقاء فى كل زمان ومكان من بلادنا العربية ولا يحتاج إلا إلى تجديد اللغة حتى تتسع لتجارب معاصرة .
وفى شهر أبريل , وأنا مسافر إلى العريش للمشاركة فى مؤتمر أدبى أقيم هناك , حدثنى الصديق الصحفى عمرو رضا عن الورقة التى سيلقى خلاصتها فى المؤتمر , وكانت فكرتها أننا نستطيع أن نرى فى الشكل العمودى الآن ضربآ من ضروب المقاومة للآخر الذى يغزونا , وبدا لى طريفآ أن نقرأ الشكل نفسه – لا المضمون فى القصيدة – بوصفه منحى من مناحى المقاومة للثقافة الغربية الغازية لنا , أو بعبارة أخرى , نحوآ من أنحاء التفاعل بين ثقافتنا وثقافات أخرى , يهدف إلى حماية هويتنا من الاغتراب , أو التغريب , أو التشوه .
هذا كله يؤول بى إلى الديوان الجديد للشاعر الحريص على الشكل العمودى المقيم فى مرسى مطروح فى الشمال الغربى من مصر , كأن مقام الشاعر علامة على انزياح الشكل إلى هامش مشهد الشعر فى مصر .
أشير إلى الشاعر إسماعيل عقاب وديوانه ” حديث الموج للصخور ” ( القاهرة – دار قباء – 1998م ) . لقد كان إسماعيل عقاب خدين الشاعر المرحوم عبدالمنعم الأنصارى , وهو نفسه ” المغنى الذى رحل ” الذى أهدى إليه عقاب ديوانه . والشاعران اشتركا كلاهما فى محبة الشكل العمودى , وآمنا بقدرته على استيعاب لغة العصر , وعلى التعايش مع كل عصر ةعلى الاستجابة للغة المسرح وتقاليده , كما استجاب لها يدى أحمد شوقى وعزيز أباظة . وأفضل من استجابته لها بين أيديهما , إذا أمكن .
وأظن أن الشيطان قد مكربى وألقى فى روعى أن ” حديث الموج للصخور ” عنوان يريد القول إن الديوان حديث صادر عن أمواج الموسيقى التى ينشئها العروض الخليلى بفعل الشكل الشعرى الأصيل , ليوجه الموج حديثه إلى عالم شعرى أصم كالصخر , كف عن الموسيقى والغناء وبسط صحرائه الجافة فوق بحر الشعر من حول الديوان ؟
أظنه مكر الشيطان لأن القصيدة التى عنوانها ” حديث الموج للصخور” لا توحى لى بهذا المعنى من قريب , وهى أقرب إلى أن تكون غزلية , ليست مسرفة العاطفة على نحو رومانسى ولكنها معتدلة على نحو كلاسيكى محدث .
مع هذا يبدو لى المعنى المتوهم من العنوان قريبآ من الديوان ومن مشهد الشعر المعاصر .
لتكن فرصة لنطالع شيئآ من الديوان , ونتعرف قليلآ شعر إسماعيل عقاب وأنا أختار أولى قصائد الديوان , لأنها من جهة , مصورة لأسلوبه فى سائر القصائد ولأنها من الجهة الأخرى , تحتمل عندى أن نقرأها بوصفها بيانآ شعريآ دالا على موقف القصيدة عند عقاب من عالم الشعر المحيط بها , وعلى موقف الشاعر نفسه من قصيدته .
استفزاز
1- ليس يكفى إثارة لنزال … أن ترمزى
2- صارحينى …. وإن تشائى ولوعى … تحفزى
3- واجهينى بما يليق ممثلى … تعززى
4- وانقشى ما يثير …. فوق الوشاح المطرز
5- أنهضى مستفزة … وامتطى المهر واهمزى
6- وأغيرى على ربوعى , وضمى , وحرزى
7- حاصرى كل ربوة لى , وجوبى مفاوزى
8- وإذا مامهرى بدا لك … كرّى وناجزى
9- فأنا مهرى … لايروق له كرّ عاجز
10- لامفر … فنازلى .. جردى السيف .. بارزى
11- وإذا طابت جولتى , وغوى الطعن … أو جزى
12- واحشدى كل مالديك لقتلى … وأجهزى
13- روعة … لو دمى يسيل … على نصل معجز
أفضل أن أقرأ هذه القصيدة فى ضوء تأويل يرى المخاطبة فيها هى القصيدة بوجه عام , بمقدار دلالتها على عالم الشعر , ومن زاوية انتماء الشاعر إليها . أولها قوله ” أن ترمزى ” قافية البيت الأول . والنقش المذكور أول البيت الرابع يحتمل معنى الكتابة . والإيجاز , قافية البيت الحادى عشر , شانه شأن الإعجاز , قافية البيت الأخير , كلاهما أدنى إلى عالم الشعر والبيان . إذا صحت دلالات هذه الدوال إذن إذن تصح قراءة القصيدة فى ضوء تأويل المخاطبة بوصفها قصيدة الشعر المعشوقة من الشاعر . من ثم يصح , بالقدر نفسه من الصحة , أن نقرأ القصيدة عينها بوصفها غزلية , فالدوال نفسها ترفض الاتصال بعالم الأنثى كل الرفض , فالأنثى ترمز فتكتفى بالإيماء دون التصريح , والأنثى تنقش الوشاح المطرز لأن الزينة من عالمها , وإيجاز الطعن , وبلوغه حدآ من القوة والدقة يوصف بالإعجاز , ليسا مستنكرين فى موقف شاعر من أنثى معشوقة . وإنما يلتقى الفرضان معآ فى لغة النص المزدوجة عند نقطة واحدة , هى أن القصيدة نفسها – القصيدة المطلقة غير المتعنية فى نص دون آخر – هى , فى ذاتها أنثى معشوقة . ولا حرج فى أن نرى الأزدواج نفسه فى العلاقة التى تربط بين الشاعر وأنثاه – القصيدة / المرأة – وهى العلاقة التى أسماها باسم النزال , ومدّ صورة النزال , وبسطها على النص كله , وطفق جميع عناصرها , منةمهر , وسيف , وكر , بغير فر , وطعن , وقتل , ونصل , فسرد فى القصيدة قصة النزال تفصيلآ لا بلغة الماضى , بل بلغة الطلب والاستقبال , أو الاستباق . هذه العلاقة تحتمل تأويلآ الازدواج لأن القصيدة حين تنازله وتعجزه نزالآ , تعلن قدرتها على منازلة الشعر كله ,على أن تكون الموجة العاتية الضاربة لصخر الشعر الأصم . وهو نزال يعدّل كثيرآ من معنى القتل وسفك الدم . القتل ههنا متصل بمعنى تقدم أول النص هو المصارحة التى تعلق على الرمز … إن سيولة الدم على نصل الأنثى المعشوقة معناه الإفضاء الصريح , إلى أقصى مداه , بكوا من النفس وبفيض الشعور والوعى . من ثم تنقلب علاقة النزال انقلابآ غريبآ , من علاقة عداء , إلى علاقة عشق وصفاء , ومن علاقة عدوان , إلى علاقة حب ووجدان , من ثم يستفز الشاعر قاتلته, ويناشدها القتل , ويلح عليها فيه , ويستروع, أخيرآ, أن يسسل دمه على نصلها. وهو موقف لا يصدر عن ماسوشية أمام سادية الأنثى, بل يصدر عن مفهوم آخر للعزة فى البيت الثالث عزة الشاعر الذى يشعر بذاته , وعزة الأنثى / القصيدة . ومن ثم يتولد عن هذا كله ازدواج أخير , إنه ازدواج القول الشعرى نفسه : هذه قصيدة تصف ما قبل القصيدة من مراودات هى شعر يستفز الشعر. وهى حديث بالاستقبال عما وقع فى الماضى وأنشأ القصيدة نفسها. هذه القراءة لاتختص باستفزاز وحدها . هى قراءة قابلة لأن نعرض عليها نصوصآ كثيرة من الديوان , منها مطلع ” وهج ” آخر قصائد الديوان :
إنه التصور نفسه للشعر بوصفه حلول الشاعر فى قصيدته , لاحلول سيرته ولا حلول وقائع حياته , ولكنه حلول الروح والدم , حلول الافضاء والبوح الذى يتجاوز تفصيلات الحياة المعيشية إلى أفق الوجود الشعرى البديل وهو وجود واسع ذو خرائط , متغير متنوع كفصول السنة , لامع كضوء على ربوة , عميق كصلاة , خيالى كحلم , حقيقى كخطو النشوان .
إنه مفهوم محدث مجدد للقصيدة القديمة . كما يجددها البردونى فى اليمن , وسعيد عقل فى لبنان والجواهرى – يرحمة الله – فى العراق , وغيرهم كثير – وكما كان محمود حسن إسماعيل يحاول تجديدها فى قصائده الباكرة وهو يتخرج فى كلية دار العلوم .
ولاحرج فى أن تعول ” استفزاز ” على صورة السيف والمهر والنزال , فلقد اقتبس الديوان على صدر قصيدة رحلة اليقين , قول صلاح عبدالصبور: يأتى من بعدى من يتمنطق بالكلمة . ويغنى بالسيف واقتبس قول عبدالمنعم الأنصارى :
قبل أن تبدأ ” رحلة اليقين ” بمطلع يقول :
فصور الفارس والسيف شائعة فى الشعر المعاصر , تجدها عند صلاح عبدالصبور , وتجدها عند أحمد عبدالمعطى حجازى فى قصيدته ” طردية ” – على نحو ما – وتجدها عند الأنصارى , ثم تعرج فى رحلتها إلى إسماعهيل عقاب وقد نهل منها , من قبل حسن فتح الباب فى شعره منذ كان ضابط شرطة يطوف قرية نائية على جواد . فليست , إذن , استعارة الفارس من مناحى تقليد القدماء , بل هى من مناحى الابتكار الحديث … وإلى جوارها نجد – فى شعر اسماعيل عقاب – صورة المرتحل فى قصيدة ” وهج ” وفى قصيدة ” رحلة اليقين ” ولعلها إشارة مهمة تلك التى يقول فيها ان حديثه , وراعهم أن يطيله . هى إشارة مهمة دالة على موقف هذا الشعر من العالم , وموقفه من اضراب أخرى من الشعر . ولكن القصيدة عند إسماعيل عقاب مهما تعشق المصارحة وتصر على البيان والوضوح فإنها لكى تنجو من الخطابة مصرة على الاكتفاء أمام العالم التاريخى المعيش , بالأشارة الموجزة , حتى لايتسلل إلى القصيدة , وتخيلها , ويسرق من الشاعر عالمه البديل الأفضل .
لقد صحب إسماعيل عقاب فى رحلته التى لاتزال طويلة , الحلم بالشعر بوصفه خلاصآ ووجودآ بديلآ , فى لغة غزلية موقعه . صحبه منذ ديوانه ” خطوات الأمل المعصوب ” (1979م) إلى ” من وحى عينيها ” ( 1983م ) , إلى ” هى والبحر ” (1989م ) إلى مسرحيتيه ” تأشيرة خروج ” و ” محاكمة المغنى ” (1996م ) .
من المؤكد أنه أخرج لنا قصيدة عصرية . هى لغة تناسب العصر . ولكن العصر لاتناسبه لغة واحدة . العصر يناسبه لغات عدة . نحن نصنع عصرنا بلغاتنا قبل أن يصنعنا العصر .
لذا سيظل مشهد الشعر متنوعآ , مختلف البقاع . ويكفى إسماعيل عقاب أن يضيف إلى المشهد قصيدة جديرة بالقراءة .
وقد فعل .
بواسطة admin • 09-متابعات ثقافية • 0 • الوسوم : إسماعيل عقاب, العدد الرابع, مجدى أحمد توفيق