يونيو 25 2014
دمعة عصيّة ……………… عدي مسعد جريس مدانات
دمعة عصيّة
عدي مسعد جريس مدانات
قاص من الأردن
لم يعد لدى أبي حسان ما يفعله منذ أن أحيل إلى التقاعد، سوى الجلوس في باحة منزله الظليلة الصغيرة، وقراءة جريدة الصباح من ألفها إلى يائها، ثم حل لغز الكلمات المتقطعة، فيما تنشغل زوجته عنه في أعباء المنزل ومكالماتها الهاتفية. كانت بطبيعة الحال تتفقده بين الحين والآخر، تسأله إن احتاج خدمة ما منها، أو تسأله عما قرأ، فيبدأ بسرد الأخبار، لكنها تنصت قليلًا، ثم ما تلبث أن تنصرف عنه لمتابعة ما كانت تقوم به، فيلحق بها حيثما تكون ويختصر الكلام، ثم يعود إلى مكانه. غير أن أمره مع نفسه ومعها اختلف ذلك الصباح بعض الشيء، فقد نزع منامته وارتدى بنطالًا وقميصًا، ثم لم يستقر على أمر، وأكثر من التنقل بين غرف المنزل والباحة، كما لو كان يبحث عن مفتقد، وعند الظهيرة التحق بها، وهي منشغلة في المطبخ بإعداد وليمة يجتمع عليها الأبناء. كانت تقشّر حبات بطاطا، فجلس قبالتها منكس الرأس، وران عليهما صمت كسول.
وجد أن خير ما يفعله، مشاركتها في ما تفعل، فتناول مقشرة أخرى وشرع في العمل. كانت المقشرة بيدها تأخذ القشرة بيسر، فيما كانت تتعثر بيده، تنغرس في جسم الحبة أو تمر على السطح دون أن تنجح في إزالة القشرة، فيتوقف ليراقب كيف تنجح في فعل ذلك، ثم يحاول مجاراتها ولا ينجح. قطعت الصمت على حين غرة، وقالت بنبرة خافتة تكاد لا تسمع، فيما كانت مثابرة على عملها:
– أخبرتني أم حردان أن الشركة التي يعمل زوجها فيها فقدت المحاسب يوم أمس.
لم يبد من جهته أدنى اهتمام بقصة فقد شخص لا يعرفه، ومضى في مجاراتها في حسن تأدية عملها. أمسكت بحبة أخرى، فانسلت القشرة مع حركة يدها عن جسم الحبة بأسرع مما توقع، فتوقف ونظر إليها، وكاد يقول شيئا في هذا الشأن، غير أن متابعتها الحديث لجمه:
– لم يكن يشكو من علة كما قال أبو حردان، فهو قوي البنية ويمارس الرياضة البدنية.
رفع رأسه الخالي من الشعر إلا من بياض على الجانبين وقال:
– المرض يعرف طريقه إلى أشد الأجسام صلابة.
ثم ترك المقشرة من يده ووضع أمامها حبة البطاطا التي تحفّرت في أكثر من مكان، فتناولتها وتابعت قصتها:
– أفاقت زوجته في الصباح وتركته في الفراش وذهبت لإيقاظ الأولاد. أيقظتهم وجهزت لهم طعام الإفطار، ثم افتقدته، فبمثل هذا الوقت يكون جاهزًا لنقلهم إلى المدرسة. ذهبت لتوقظه، ولكنه لم يستجب.
تناول حبة بطاطا أخرى وثبتها بقبضة يده، وأمسك بالمقشرة ثم انطلق في عملية التقشير. أنهت قصتها بالقول:
– كان ميتًا.
استوقفه الخبر للحظة، وارتسمت على وجهه علامة اندهاش مفاجئة، لكنه لم يأخذ من اهتمامه الكثير؛ فقد ساء فعله مع حبة بطاطا كثيرة العقد، وهو الأمر الذي استحوذ على اهتمامه، أكثر مما فعل خبر موت محاسب الشركة، فتخلى لها عنها وجمع القشور، وألقى بها إلى سلة المهملات وقال: الله يرحمه.
ثم نهض.
استوقفته فيما كان يهم بمغادرة المطبخ وسألت:
– إلى أين أنت ذاهب؟
عاد وجلس وهو غير راض عن مكوثه في المطبخ مدة أطول، وهو لا يزيد في ما يفعله عن محاولات بائسة لتقشير البطاطا، في حين أن لديه الكثير مما يود قوله، وجاءت قصة موت المحاسب لتفسد رغبته. أمسكت بحبة وأخذت في تقطيعها، فوجد أن التقطيع لا يشكل معضلة، فأراد أن يجاريها. أمسك بحبة بيده، وسكين باليد الأخرى، وشرع في تقطيعها، فسره أن أمره مع التقطيع يسير بسهولة، مما دفعه للمضي فيه، فأخذ حبة أخرى، لكنها انزلقت من يده واندفعت بعيدًا، فأعادها وثبتها.
ساد الصمت من جديد، فرفع رأسه ونظر إليها ثم أطال النظر. استغل الصمت ليقول ما لديه، واحتبس طيلة الوقت؛ إذ إنه لاحظ قبل انضمامه إليها في المطبخ أنها غيرت ثوبها المنزلي داكن اللون بآخرَ زاهٍ، ودفعت شعرها المرسل إلى الخلف ليكشف استطالة وجمال عنقها، ليس هذا فحسب، فقد شبكت به قرب الجبين قرنفلة بيضاء. فكر أنها جملت نفسها لأجل الأبناء ورغب أن يعبر لها عن سعادته بهذا الاختلاف الجميل، وكاد يقول شيئًا بهذا الخصوص حين انضم إليها في المطبخ وانشغل باختيار المفردات المناسبة. وجد أن الفرصة مواتية، ليمتدح منظرها، وليطلب منها أن تفعل ذلك كل يوم، غير أنها سبقته إلى الحديث، بذات النبرة الخافتة، وكأنها لا تفعل سوى إفراغ ما بجعبتها، ولا هدف آخر لها فيه:
– تحسين الأزبكي، أبو أحمد، أنت تعرفه، كان جارنا قبل ثلاث سنوات، أخبرتني جارتي أنه صار مديرًا واشترى شقة وسيارة، أتعرف كيف حصل على الوظيفة؟
لم تنتظر إجابته وتابعت:
– نشب خلاف بين مديره المباشر والمدير العام، والخلاف تطور إلى شجار، مما أدى إلى طرده. اغتنم أبو أحمد الفرصة وعرض على المدير العام أن يحل محله بزيادة طفيفة على راتبه، لكنه بعد أن حصل على الوظيفة وتمكّن منها، فرض شروطه بزيادة الراتب.
نكس رأسه ولاحظ إذْ ذَاكَ وجود حبتي بطاطا من حصته لم تقشرا، فترك السكين وأمسك بالمقشرة وانصرف عن حديث زوجته الذي لم يتوقف، بانتظار فرصته في الكلام:
– أبو سمير صاحب ابنك، يتقاضى راتبي تقاعد؛ واحدًا من الحكومة وآخر من الضمان، ويعمل سائق أجرة على سيارته الخاصة، يعني لا أحد يشاركه في تعبه. ولو أنك..
كان قد نجح في إزالة قشرة البطاطا، وانشرح صدره، فقطع عليها كلامها وقال:
– لقد نجحت أخيرًا.
ثم تضرّج وجهه وابتسم وأضاف:
– دعيني أقول لك ما كنت أود قوله طيلة الوقت، فما فَعلْتِهِ بنفسك اليوم كشف كم أنت جميلة، وأن الزمن فشل في إضعاف هذا الجمال، ثم إن القرنفلة البيضاء هذه أعادتني إلى لقاءاتنا الأولى وجمال المواعيد.
غير أنها لم تول ملاحظته الاهتمام الذي توقعه، فقد انصرفت عنها لتقول:
– لو أنك تذهب إلى الشركة مع أبي حردان، وتعرض استعدادك للقيام بوظيفة المحاسب الذي مات، لسبقت الآخرين وحصلت على الوظيفة دون منافس. نحن بحاجة إلى المال ليعيننا في شيخوختنا، وأنت لا تفعل سوى إبداء الأسف؛ لأن العمر مرّ وأنت لم تحقق أحلامك، ولم يعرف العالم عنك سوى أنك موظف مغمور، فيما أن زملاءك في الدراسة صاروا مهندسين وأطباء ومحامين منعمين، ونحن نعيش على راتب التقاعد الهزيل، نقتطع أكثر من نصفه بدل إيجار البيت، ونعجز عن جمع الأولاد والأنسباء على وليمة “عليها العين”.
استوقفه الكلام هذه المرة وفتح عينيه على وسعيهما اندهاشًا، ثم اغتم وخفض رأسه وقال:
– أتعيرينني بعد عمر طويل بفقر الحال؟ من قال لك: إنني سعيد بما نحن عليه، ولكن الوظائف لا تؤخذ بسهولة، لا يأخذ الواحد وظيفة؛ لأن من كان يشغلها مات، ثم إن عمل المحاسب يحتاج إلى خبرة، وأنا ليس لي خبرة فيه، وأنا لا أحب أن أشغل وظيفة لمجرد أن من أشغلها مات، فسأظل في قفص الموت.
جمعت قطع البطاطا في الوعاء، فيما كانت تفكر مقطبة الجبين ثم قالت:
– الناس يموتون ويحل غيرهم في وظائفهم، هذه سنة الحياة. أنت درست الحساب في المدرسة، وأشغلت وظائف مختلفة في الدولة، ولو كلفوك بوظيفة محاسب لكنت اشغلتها ونجحت.
أسند جذعه إلى المقعد، وعقد ذراعيه خلف ظهره، والتمعت في عينيه فرحة صغيرة وقال:
– من غير شك كنت سأنجح، فقد أجدت كل عمل قمت به.
نهضت وأشعلت الغاز وصبت زيتًا في مقلاة، ثم وضعتها على الشعلة وانتظرت قليلًا، ثم أخذت حفنة بطاطا ووضعتها في المقلاة وهو ينظر وينتظر، فقد حان دوره لأن يفاخر في إنجازاته الوظيفية، وما أن عادت وجلست حتى قال:
– كنت أعطي للوظيفة حقها، بغض النظر عمن يغضب أو يرضى.
قالت:
– أعرف ذلك لأن الغاضبين كثر، ولو أنك لاطفت الناس، لوجدت من يعرض عليك وظيفة فور تقاعدك.
نهضت من جديد، أخرجت قطع البطاطا التي احمرت ووضعت غيرها، وقالت:
– ما رأيك أن تجهز نفسك وتذهب الآن؟ جرب.. ليس في ذلك خسارة، ولكن لا ترسم على وجهك تلك التقطيبة المنفرة.
نكس رأسه ونهض ثم غادر، غير أنه عوضًا عن تجهيز نفسه، أغلق الباب وذرف دمعة كانت عصيّة طوال عقود من الزمن.
عدي مسعد جريس مدانات
يونيو 25 2014
في المقهى …………………………. راشد الشيب
في المقهى
راشد الشيب
قاص من قطر
أسرعت الخطى لكي أصل إلى المقهى الذي يقع في زاوية المجمع الكبير أمام الشارع العام، بعد أن حجزتُ طاولةً هناك، جلست أنتظر تلك السيدة التي غابت عن المكان منذ أيام، وأنا على هذه الحالة منذ أمد بعيد، أشتري الصحف اليومية، وأصنع منها طائرات ورقية بعد قراءتها حرفًا حرفًا، أو سفنًا بحرية أو نماذج أخرى مسلية، أُضيِّع وقتي إلى أن تأتي تلك السيدة التي غابت عني منذ حضورها الأول.
أنتظرها بسبب تلك الابتسامة الخارقة التي أهدتها لي أول مرة، ولم تهدها لأحدٍ غيري، وملاطفتها لي في الكلام والتعامل أيضًا طيلة ذلك اليوم، بعد أن أعطيتها منديلي لكي تجفف الماء الذي سكب عليها بعد اصطدامي بطاولتها، منذ ذلك الوقت وبعد تلك الابتسامة، لم يهنأ لي بال، وأنا أتقلب من حالٍ إلى حال، ومن السهر إلي النوم أرى الكوابيس والأهوال، كل ذلك بسبب تفكيري في تلك السيدة التي رمت سهم شيطانها عليَّ ثم غابت، تاركة ذلك السهم يشعل نار الانتظار بعد اختراقه لبؤبؤ قلبي، لقد تركت مجنونًا ينتظرها على نار الشوق واللقاء، تركتني هنا، وأنا أنتظرها؛ علها تعود وأراها، فتطفئ نارًا قد أشعلت كل شيء فيَّ.
كُل زوار المقهى تعرفوا عليَّ، حتى ” الكناس ” الذي لقبته بصاحب المكنسة الذهبية تعرف عليّ؛ لأنه يأنس لمجالستي، فحاله مثل حالي، فهو عاشق ومجنون بعشقهِ، ولكن لا يستطيع أن يتقدم لخطبة من يعشقها؛ لأنه كناس، وتخاف كلام النسوةِ الصاحبات وهمسهن، كيف تتزوج من هو عامل يعمل في تنظيف قذارة الناس ؟ هكذا قال لي وهو يذرف دموعه.. كلما رآني جالسًا يأتي ويحكي لي قصته مع تلك الفتاة التي تعمل خادمة في منزلٍ ذي شأن عالٍ جدًّا، وهي تخاف أن ترتبط به؛ لأنه كناس، ولا يستطيع أن يكون في مقام خادمة تعمل في بيت السادة الكبار .
الصدفة هي التي أوقعته في شباكها، فأثناء عمله مرَّ أمام ذلك المنزل الذي تعمل به تلك الخادمة ذات مرة، رآها ولم يعرها اهتماما، ولكن نداءها عليه جعله يُسرع الخطى لها ملبيًا نداءها، طلبت منه أن يساعدها في حمل كيس القمامة، فلبى طلبها من غير تردد، شكرته على صنيعه بألطف الكلام، وودعته وداع أهل الكِرام، فسرح بفكره بعيدًا وهَامَ، فاشتعلت عنده نار الغرام.
أصبح يتردد على ذلك الشارع بين الفينةِ والفينة، حتى لا يلفت انتباه الفضوليين من المارة، ولكن في أوقات خاصة بعد أن حددتها له، فأصبح من رواد ذلك الشارع.
وفي لحظة شرود الذهن أفصح لها عما في قلبه، فأفصحت له عما في قلبها، فجرحته وطعنته وقطعت أوصال قلبه من غير إحساس؛ لأنها قالت له بأنها لن تستطيع أن تتزوج إلا ابن صاحب المنزل، وبالفعل تزوجها عنوة وهرب بعيدا؛ لأن أهله لم يقبلوا بها، وها هو صاحبنا الكناس يشكي الحال لمن يسمع له.
علم الجميع بحالتي، حالة إنسان ميئوس من حالهِ؛ بسبب ابتسامة أهديت لي في أحد الأيام، فصرت أفكر في من غاب عني منذ أيام، وبسبب تلك الابتسامة أيضًا، انقلب حالي وصرت في هيام، فلا فرق عندي إن كنت جالسًا في الليل أو النهار، فتسارعت لديَّ خطى الساعات، ومضى عليَّ الوقت وكأنه تفاهات، مضى عليَّ بلا فرحٍ ولا مسرات، حتى تاه الفكر عني من كثرة الخُرافات.
هجرني الكناس منذ زمن بعيد، وجاء مكانه صديقٌ جديد، هو شيخٌ كبير قد أنهكه التقاعد، متثاقل في خطواته، ثرثارٌ بحكاياته، بطولاته كثيرة، كبيرة وخطيرة، طويلة ومثيرة، أتهرب منه بذهني، ولا أعيره اهتمامي، حتى يصمت ويستريح، ويحتسى الشاي بِهَمِّ الجريح، صادرًا تلك الزفرات، التي تخفي خلفها الكثير من الآهات.
تحدث مرةً عن مغامرةٍ قد حصلت في شبابه، مغامرة كانت السبب في ما هو عليه الآن، عندما كان في الجيش في بداياته، كان من أنشط الضباط، الذين يضرب بهم المثل في الانضباط، محبًّا لعمله، ملتزما في مواعيده، يغار منه الجميع؛ لأنه مطيع وخدوم، كريم، طيب المعشر، محبوب من قبل الجنود، وبسبب ذلك دُمِّرَت حياتُهُ، دمرت بطريقة غير مباشرة، دمرت أثناء التدريبات الميدانية؛ لأنه أصيب إصابة بالغة جدًّا، لقد غامر بنفسه من أجل إنقاذ أحد الجنود إثر خطأ صار معه، فراح ضحيته رجله، التي قطعت بسبب تلك المغامرة، ثم أحيل بعد ذلك إلى التقاعد بعد إعطائه رتبة جديدة.
لم يحزن لذلك التقاعد ولم يهتم، ما أحزنه هو التخلي عن خدماته، ضابط في مثل خبرته يُبعد ويؤتى بآخر مبتدئ؟! وما أحزنه أكثر وأكثر أن المتسبب بتلك الإصابة قد رقي؛ لأنه ابن أحد السادة الكبار .
استطاع بعد التقاعد أن يجد وظيفة أخرى، وظيفة يستطيع من خلالها أن يسدد ولو شيئًا من ديونهِ، واستخدم في هذه الوظيفة أسلوبه المعتاد، أسلوب الصفات الحسنة، ولكن العطل الذي تسبب في تدمير نصف آلات المصنع جعله يعود إلى التقاعد مرةً أُخرى بعد طرده من العمل، وزاد على أحزانهِ حُزنًا، بعد أن طلق زوجته؛ لأنه لا يستطيع أن يعيلها، هكذا كانت حجتها وحُجة أهلها بعد تقاعده الثاني، وبسبب الديون التي تراكمت عليه، باع منزله، وسكن في منزل أخيه الصغير، في ملحقٍ يقع في زاوية المنزل، الحمد لله.. وجد من يأويه عنده؛ لأن الجميع قد تخلى عنه، ووجد من يستمعُ إليه أيضًا، وتحملت ثرثرته طيلة هذه المدة، عادة يُطرَدُ من هنا؛ لأن الجميع يظن أنه مجنون.. شكرًا لك.. شكرًا لإنصاتك لي.. شكرًا..، هكذا يقول لي قبل رحيله كُل يوم.
فتحت باب الكلام معه، فشد انتباهه لي ومسمعه، فدار تفكيرهُ في مطمعه، لكي يعرف من تكون تلك المتسكعة، عندما أخبرته عن تلك الفتاة، التي ضحكت لي منذ زمنٍ قد فات، فضحك عليّ بعدةِ ضحكات، فقذفته بعدها بعدة كلمات .
هجرني ذلك الشيخ بمماته، وأصبحت وحيدًا بعد فراقه، وازدادت وحشتي بعد وفاته، ولا أنيس لديَّ سوى حكاياته.
مرت عليَّ أشهر معدودة، ولم تظهر فتاتي من خلالها، حتى شاب رأسي من كثرة التفكير بها، ففقدت الأمل المتعلق بلقائها.
أصبحت فقيد الحبيبين، حبيبٌ قد مات، وحبيبٌ قد سكن الفؤاد، ولا أعلم متى هو آت، أشتاق لهما في كل الأوقات، حتى يئس الصبر مني وملّ، وجلست أعاني على أثره المضرات، لقد طال أمد الانتظار لفتاتي، والأيام تسابق الأوقات، وهن القلب عندي، واللحية مالت للبياض، فقررت في النهاية إنهاء تلك القصة الهزلية.
نعم.. قررت أن أذهب إلى المقهى لآخر مرة، وستكون بالفعل هي آخر مرة، هربت عني الأفراح والمسرة، أبسبب نظرة أعشقها من أول مرة، أم
بسبب تلك الابتسامة التي سحرتني في تلك الفترة، أم سهمٌ من سهام لحاظها وجد من يصنع له تلك المضرة ؟
أثناء جلوسي وأثناء انشغالي بالنظر، مرت عليَّ فتاةٌ شمطاء لا تسر الخاطر ولا النظر، تمشي على ثلاثة؛ لأنها عرجاء، فحزنت لها وأردتُ أن أغير اتجاه تلك النظرات، فلمحت منها ما جعلني أقف باكتراث، ولوت تفكيري فصال بي وعاث، عندما أخرجت منديلي جعلتني أبعثر الأثاث.
ابتسمت لها بعد هجري للابتسامة، تساءلت في سري قبل أن ينطق لساني، هل أنتِ صاحبة تلك الابتسامة ؟
راشد الشيب
الدوحة
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : العدد الثالث/الرابع والعشرون, راشد الشيب