مايو 21 2014
الشعر الفرنسي المعاصر ……………عبد اللّطيف الوراري
( الشعر الفرنسي المعاصر )
يَدٌ تُنادي المجهول
قصائد من الشعر الفرنسي المعاصر
عبد اللّطيف الوراري
(شاعر وناقد من المغرب)
1. في معنى الواجب.. في معنى أن تكون الترجمة مِحكًّا:
لطالما فكّرْتُ، وأنا أقرأ الشّعر مُترجَمًا أو بصدد ترجمته عن الفرنسية، في ما رآه الجاحظ، وهو يقول: إنّ “الشعر لا يُستطاع أن يُترْجَم، ولا يجوزُ عليه النقل، ومتى حُوّل تقطَّع نظْمُه، وبَطَلَ وزْنُه، وذهبَ حسْنُه، وسقطَ موْضعُ التعجُّب، لا كالكلام المنثور”. الشعر لا كالنثر. قد يجوز الأمر في النثر، الواضح والمعقول والعادي، أمّا في الشعر، الغامض والهشّ، فإنّه يصعب من وُجوهٍ كثيرة، حتّى يستحيل الأمر خيانةً، بله خسارة. لا يضيع المعنى فحسب، بل الأسلوب وإيقاع الكلمات وجرسها العابر للذّات وخطابها المفرد والخاص. هذا واقعٌ لسوء حظّ الشعر. لكن، أليس بالإمكان ترجمة الشعر؟ بلى. لا أنسى، هنا، رأيًا ثانيًا للشاعر الفرنسي بيير ليريس، وهو يرشدنا إلى أنّ “ترجمة الشعر أمْرٌ مستحيل، مثلما الامتناع عن ترجمته أمرٌ مستحيل”. في زمننا، صار لترجمة الشّعر معنى الواجب.
بالنسبة لي، لا أعتبر نفسي مترجمًا، أنا قارئ للشعر “الآخر”ـ الفرنسي تحديدًا ـ ، وفي نيّتي أن أتعلَّم من متخيّلات شعرية غريبة عنّي بما توافر لها من أسباب العجب والفرادة والاختلاف، لكن سرعان ما وجدتُ نفسي أرتكب مثل تلك الخيانة الممتحنة لمدى خيالي. في ترجماتي المقترحة لنصوصٍ من الشعر الفرنسي المعاصر، لاسيما نصوص هنري ميشونيك وأندري فيلتر وبرنار مازو وماري كلير بانكار ، تبيّن لي أن لكلّ شاعر “عقدة إيقاعيّة”، وليس بمقدوري أن أعكسها إلّا على نحو تعويضيّ، إن ملأتها بذبذباتٍ من وجيبي الداخلي الذي يتجاوب مع تجاربهم المنادية عليّ، وأدخلتُها في علائق صوتيّة ودلاليّة جديدة تمنحها تأويلًا جديدًا، وقيمةً مُضافة جديدة داخل لغتي التي أُبدع بها، وأحيا فيها . لكنّي، في كلّ يومٍ، أكتشف ما معنى أن تصير الترجمة «محكًّا»، فعندما نترجم “فكأنّنا نلقى بين اللغتين تفاهمًا هو من العمق والانسجام، بحيث تحلّان محلَّ المعنى وتتمكَّنان من جعل الفجوة بينهما منبعًا لمعنى جديد”، بتعبير موريس بلانشو.
2. الشعر الفرنسي وزخم الغنائية الجديدة:
غطّى بودلير ورامبو وملارمي – بوصفهم الشعراء الحديثين ذائعي الصّيت الّذين رجّوا شجرة نسب الشّعر ليس في فرنسا وحدها فحسب، بلْ في أرجاء المعمور – على مُنْجز كثيرٍ من مُواطني بلدهم ولا يزالون، فيما أظنّ، حتّى اليوم. ربّما الّذين خبروا نِداءَ القصيدة ممّن جارَوْهُمْ في نزعة التّجديد ومُغامرة الكشف والتّجاوز من قلائل الجيل التّالي – ضمنوا لأنفسهم مكانا معلومًا وخاصًّا في درْس التّاريخ من أمثال: سان جون بيرس، وروني شار، وهنري ميشو، وإيف بونيفوا تحديدًا. لكنّ شعراء كُثرًا في فرنسا، في زخم الحركة الثّقافية الأكثر تقلُّبًا، وعمى الألوان حتّى، لم يأخذوا حقّهم من التّداول كما يجب، بلْ إنّ منهم مَنْ قلّ أنْ تسمع باسْمِه، حتّى وإنْ كان منجزهم الشّعري جديرًا بالاعتبار، أمّا الّذين تحسّسوا بوطْء أقْدامهم، بلْه أقلامهم ألْغام الأرض، وآثروا السّلامة – فإنّهم انصرفوا إلى أجناس أخرى من الكتابة، وأراضيَ ما تفْتأُ بكْرًا. تلك فاتورةُ التّاريخ الّتي يُبهظُها الأوّلون، ويؤدّي ثمنها ممّن تأخّر بهم وقْت الهِبات بلا حساب، ولنا في تاريخنا الشّعري الحديث درْسٌ من ذلك، ربّما يسطع أكثر في البِلاد ذات التّقليد الشّعري العريق. ولهذا نفْهم كيْف أنّ شعراء العراق ولبنان وسوريا ومصر وتونس والمغرب، بالتّرتيب وتمثيلًا لا حصْرًا، يشْكون منْ الْحُجُب الشّفيفة أو السّميكة لروّاد الحداثة، بحقّ ودُونه.
ومهما كان من أمر، فإن في فرنْسا حركة ثقافيّة (احتفاليّات، تظاهرات، أنطولوجيّات..) تعيد الاعتبار لأولئك المتأخّرين ممّن لم يجيدوا التّرويج لأنفسهم، وأغلبهم من ذوي الإيقاع الخفيض الّذي يميل، في العمق، إلى شعر يعيد إنتاج غنائية جديدة عبر كتابة لا تعتمد على اللّعب اللغوي، بل هي، بالأحرى، تكشف المعاني المتحدّرة من أعماق الأنا، والموحية بالنبرة الغائبة التي تكتنفها الأسرار الملغزة للوجود. ولكم كانت الغنائية غائبة عن الشعر الفرنسي حتّى ظنّ النّاس زوالها، فعادتْ أقْوى وأصفى من غير ما فجاجة رومنطيقيّة مع هؤلاء الشعراء المعاصرين منذ نهاية القرن المنصرم: شارل جوليي، ألبان جيلي، مارك آلين، أندري فيلتر، كلود إستيبان، أنيز كولتز، جون ميشال بولبوا، وليونيل راي، و برنار نويل وبرنارد مازو، ثمّ هنري ميشونيك.
3. شعريّاتٌ.. كم تُؤْذينا في الصّميم هذه الكثافة المُضيئة:
1.3. هنري ميشونيك: هواء اليوتوبيا:
لا يحتاج هنري ميشونيك [1932 – 2009م] إلى تقديم، وإن كانت وضعيّته كشاعريّ ولغويّ ومترجم قد غطّت على قدره كشاعر، وجد نفسه يواجه الشّعر ويكتبه عن ميْلٍ لا عن تصنُّع، وهو في السادسة عشرة من العمر. لقد سعى بهبة الكلمات الّتي لديه إلى أن يكون مهمومًا بطفولته التي استهلكتْها أيام الحرب والمطاردة والخوف، وأن يكون شاهدًا على ذلك العذاب الذي يلحقه الناس بالناس، قبل أن يتوجّه لدراسة الآداب حتى يتحرر ماديًّا. بين الفكر والقصيدة، جعل هنري ميشونيك من عمله عملًا لا ينفكُّ عن أخلاقيّاته، وما يني يقدّم نفسه طريقةً لاستبصار الحياة، كما عمل على هدم أسوار ” اللّاهوتي ــ السياسي” التقليدية، ممّا أدخل في شعره، وفي فكره الشعريّ بالنتيجة، قدْرًا هائلًا من هواء اليوتوبيا التي تقترح واجب حماية التعدُّد، بما في ذلك تعدُّد اللُّغات التي تفرض نفسها. يقول ميشونيك: أكتب القصائد، وهذا ما يجْعلُني أفكّر في اللغة بصفتي شاعرًا لا لغويًّا. ما أعرفه وما أبحثه يمتزجان. وحتى ما أترجمه، ولاسيّما النصوص التوراتية. وهكذا لا يوجد لا البيت ولا النثر، ما يوجد إلّا أسبقيّة الإيقاع المعمَّمة، في سمعي … حتّى القصيدة، تلك التي أعني بها تحويلًا لشكل الحياة إلى شكلٍ لغويّ ولشكل اللُّغة إلى شكل حياة، تتقاسمُ مع التأمُّل المجهولَ نفسه، الخطرَ نفسه، واللذّةَ نفسها..”. صدرت له مجاميع شعرية عديدة، آخرها كان “والأرض تسيل” 2006م. في قصائد هنري ميشونيك تكلّمنا قوّتها العارية مع صرامة كلماتها البسيطة والمضيئة الّتي تؤرّخ للبدايات وللأصل، بالقدر الّذي تؤذينا في الصميم داخل انسيابيّةٍ طافحة بإيقاع الذّات، مثل هذه القصيدة الّتي تسيل مثلما ” الأرض تسيل، كما يسيل الدّم”.
والأرْضُ تسيــل
والأرْضُ تسيل
من الدّم تسيل
بقدْرما الأقوال
تمتزجُ
بها
منذ متى عبرْناها
لأجْل الحيّة
البشوشةُ
الّتي دائمًا ما تُلازمُنا
كلَّ يـد
أنْظُر إليكم
بطريق الصّدفة
وقْتَما أمشي
بحيْثُ إنّ الزّمن
الّذي يعبُرُنا
ليْس إلّا
النّوْم
يسهرُ
من أجْلِنا
وليْسَ إلّا الصّرْخات تحْدُث بالصّمْت
لمّا الصّمْت
يخْنُقُ الصّمْت
وليْس إلّا الأقوال
الآنَ
تكُونُ بالدّم الّذي يخْرُج من الأفْواه
ولمّا نُريد
أن نتكلّم يوْمًا
فإنّما بسبب اللّيْل
الّذي يتكلّمُنا
ولمّا نعتقِدُ أنّنا نُطْعَم
فإنّما من الأرْض
الّتي نَبْصقها مرارًا
تلك الّتي يسيلُ مِنْها
كلُّ هذا الدّم
***
لِي كلُّ الْحَيَوات فِي حَياتِك
أبْلُغك في كلّ أرْض تكُونين بِها
أنا اللّيْل
لِأَنام فيك
وأنا النّهار
لِأَراك
ونحنُ نَدُور
حوْل الْعَالم ندور
النّوْم في مُتناول الْيَـد
لكنّ الْعُيون تَحْرس
كلَّ الْعُيون
الّتي ترْحل
إنّما لَا مكانَ
لِنَوْمٍ
بمِقْدار ما يُخيِّم ساطِعًا
هَذا اللّيْل !
***
مِن نَوْمٍ إلى آخر
نَسير وقوفًا حيْثُ
الأيّامُ السّاعاتُ تُفكِّر بنا
مُنْذ متى نَطِير مِنْ
غُصْنٍ إلى آخر
نعم، نَحن الّذين نجْعل
من الطيور ممّنْ هناك مُسلّيةً
حتّى التي شاءت أن تطير بنفسها
عبْر السّقوف إذ القتلةُ
يُطْلقون نار الله
في كلّ يوم مؤونة كراهيّتهم
***
أنا الحياة
أمشي
من شمْسٍ إلى شمس
في دغـل السّحاب
شجرةُ الرّوائح
في الأيدي
فأسمعُ إلى زُهورٍ بأكملها
أنا طيّ كلّ ما يُقال في
كلّ ما ليس يُقال
أمتلئ بالأقوال
حتّى عندما لا تشاءُ أن تقول
لا أُباعُ للقصص
باسْمٍ
وسِواه
هذه القصص تحيا الموت
وكلماتي جميعُها
نَذَرْتها للحياة.
2.3. برنار مازو: الكتابة بالسنتيمتر:
تعبّر تجربة برنار مازو الشّعرية عن غناها وفرادتها الّتي تأتّت له من أسلوبه المائز واللافت في الكتابة الّتي تحتفي في صوْغ مفردات كوْنِها الشّعري بالمكثَّف، والمقتضب، والموحي، والمحتمل المفتوح على الدلالات حيْث تشرق جملها الشعرية بكثافتها الّتي تضيء بإشراقاتِها العابرة والمتقشّفة فضاء القصيدة، سُرعان ما تضعف وتنطفئ كأنّ الشّاعر عثر على الكلمة الأخيرة المطلقة الّتي توحي بالشّاسع وما فوق الوصف. يكتب برنار دائمًا القصيدة نفْسها على نحْوٍ تامّ، دقيق وموجز؛ وفي كتابتِه تلك يبحث الطّرف الأقصى من الصّمت، وتخوم المكان القصيّ منذورًا للفراغ والخطر الّذي يتودّد إليه قبل أنْ يقتحمه تاليًا. ما نعنيه أنّه يكتب الشّعر المرصوص، والمختزل والأبيض بقليلٍ من الكلمات وحبرها. يكتب بالسنتيمتر المربّع. ولهذا نفهم ما يقول عنه آلان بوسكيه بأنّه “المُوجِز في الكلِم، الّذي يبلغ الكثافة المضيئة الّتي يحسده عليها شعراء ذائعو الصّيت”، وعندما يحيّيه باتريس دلبورغ باعتباره يمثّل “الشّعر المؤثّر في أساسه الزّائل، والّذي يترنّح في نشوة الصّمت”. وتُفْصح مجاميعه الشعرية عن هذا النزوع الذي لا يكلّ، ونعثر في كتابته الشّعرية على آثارٍ مُتصادية وشفيفة من نصوص الرومانسيّة الألمانية وبودلير وروني شار بسبب من هذه النّزعة، والقدرة على الوفاء بأكثر الأشياء هشاشة داخل غنائيّته الخاصّة ذات الشّفافيّة والتكثيف النقيّ المتحرّر من رطانات الكلام، وممّا سار إليه السورياليّون. ينظر إلى الشعر كـ “ثورة وخلاص في مواجهة العمل التدميري الذي تضطلع به تكنولوجيا الاتصال الحديث”، وتقوم وظيفة هذا الشّعر لديْه على “التّعبير عن معضلة الوجود الإنساني؛ عن انبهار الإنسان، وقلقه في العالم؛ عن هذا الوجود الهش، والعابر؛ والذي يملك الشعراء الكلمات للإفصاح عنه”. إنّه، في نهاية المطاف، شاعرٌ يخصُّنا تحديدًا، لا يتورّع عن أن يرجّ عصْـبنا الدّاخليّ، ويعلّمنا أنّ الشّعر لمّا يكتب بالحواسّ، وبالصّمت المتيقّظ والحيّ، وبالشّفافيّة اللافتة، وبالتّكثيف الضوئيّ، وبالفراغ المحدق، وبالموهبة من غير تكلُّف، وباليأس الّذي ينظِّف من الأمل الساذج فإنّه يؤذينا، ويجعلنا، مع ذلك أو بسببه، في محبّة الآخر والطّبيعة.
السّيْف والمزْمــــار
إلى محمود درويش
*
عَبَر من الْجِهة الأُخْرى لِلْجِدار
مِنْ غيْر أنْ ينتبِه لهُ فِعْلًا
هُنا كلّ شيْءٍ رماديٌّ
تحْت سَماءٍ واطِئة
هُنا وَسَط هذا الْحَقْل من الْخَراب
حيْثُ مزْمارُ الأَسْلاف لا يعْزف
ولا الرّيحُ الْخَرْساء تخْترقُ أشْجار الزّيْتون
يفْتقِر الأَمَل إِلى الدّم
هُنا الأطْفالُ يقْبَعون
تحْت الأَنْقاض
هُنا في غزّة
لا أَحَد يتَملْملُ
لا أَحَد يَتنفّس
مِن الصّحْراء ريحٌ جافّة
ولِلْمَوْت هذه الرّائِحة الثّقيلة.
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا…
*
على هذه الأرْض المنْذُورة لِلْفاجِعة
نتمسّك، نُقاوم
ونَثْبُت
في وجْه الرّياح والْمَدّ والْجَزْر
مُتحدّين شمْس الأَسْلحة
وسُطوعَها الْقاتِـل.
لأَنّـه يجِبُ أنْ نَسْتمِرّ، أنْ نَسْتمِرّ بِلا حـــدّ
في شَظَف الأيّام
كما لوْ أنّنا لنْ نَموت أبدا…
في هذه الْقَصيدة لسْتُ أنا منْ يَتكلّم إليْكُمْ
ولا صوْتي الذي تسْمعُونَه في تِلْك الْقَصيدة
لكِنّهُ مَنْ يَعْبُرني ويَرْعـــــاني:
الظِلّ الْيَائِس لِلْجَمال
ذلِك الأمَل اللانِهائيّ في قلْب النّاس
لأنّ بِأيْديــنا الّتي ترْتَجِف
بصيصًا مِن الأمَل
هُو مِصْباحٌ يسْهَرُ واهِــنًا
في جُنْح اللّيْل الضّاري…
غيْر المُؤمَّل
*
أنْت غيْر المؤمَّل
تشْغل المَكان
المَكانَ كلَّه
في حَياتي المُسْتعادة من جديد
ولَوْ أنّي أغنّي اليوْمَ
فإنّ بِالعالَم جَمالًا مُمزَّقًا
ذاكَ الّذي يتزوّجُ حرْفًا بحرْف
ختْمَ وجْـــهي
المُرصَّع على لحْمي.
لكنّ وجْهَك
البساطةَ الموجِعةَ
لوجْهِك
عذوبتَه المحْفوظة
أنّى لي بوصْف هذه المُعجِزة؟
لكنّ وجْهَك بيْن يديّ
وهُما ترْتجِفان
ثُمّ بِهذه اللّمْسة البسيطة
تَنْبعِث حُمَيَّا العالم كلُّهــا
ووَجْــهُك كَما النّوْرس على البحر
كيْف لَنا أنْ نصِفَ ذلك؟
**
3.3. أندري فيلتر: الإنسان من علوٍّ مرتفع:
أندري فيلتر هو شاعر بقدر ما رحّالة، صديق للفضاءات النائية والرّحبة التي تعبق بسحر التّاريخ والأسطورة من طريقٍ بلا نهايةٍ . من المغرب إلى الهند، عبر مصر وسوريا وأفغانستان وكشمير والنيبال والتيبت. كثبان الصّحراء إلى جانب الأديرة والمعابد والقمم الشّامخة والوديان المسكونة بحجيج الرّهبة. كأنّما السّفر حلم، والحياة الحقيقيّة جُعِلت للسّفر. هُنا، وقف الشّاعر على وحدة الثقافة والإيمان رغم اختلاف الشعوب، التي جعلت من الموسيقى والغناء والشّعر وسيلةً لتعْبيره، وحقْلًا لصدى روحه الفارهة، مُخْلصًا لدرْس حياة أكبر متصوّفة الإسلام الروحاني والحيّ. إنّ هذا البحث الخشوع في أسرار الذّات، وطبائع الأشياء وأجروميّات المكان فتح قصيدة الشّاعر على فعْل مغامرتها حيْثُ يتقاطع الشعر، الموسيقى، الرحلة والسيرة، واليوميات.
بذَل الشاعر كُلّ عمله الشّعْري للنّفَس، والتمرد، والحبّ المتوحّش عدا ابْتِهاجه الذهْني والبدنيّ، رابِطًا إيّاه، إجمالًا وأساسًا، بـ”الصّوت العالي” الّذي يستثمر الموسيقى بقدرما يكتشف “شفويّة جديدة تمنح الأذن قدرة على التقاط ذبذبات القصيدة وإيقاعها الهائل الذي يُراعى أثْناء كتابتها فيما يُشْبه نداءً خفيًّا يعْكس أحواله، وترحّله الذي تمزّقه الحياة، الرغبة والموت. يحمل صوْته أنّى يرحل. يجعل من الإصغاء إلى القصيدة طقْسًا له طعْم الصّعق وهو يُلْقي، واقفًا يصْدحُ بإنْشاديّته الغنائية، قصائد تحتفي بالحبّ والرّغْبة والموت والطبيعة، وينبر لازمتها الصّاعدة / المتمزّقة عبر عزف الموسيقى المحايث. وهكذا فإنّ الشّعر، بالنّسْبة إلى فيلتر، هو تذكارٌ غامض ونداءٌ إلى السّفر في آن. ما يُميّزه هو دخولُه في حوارٍ مع الفضاء الدّاخليّ. هكذا نكتشفُ في الشّاعر إنْسانًا “من علوّ مرتفع”، ماشيًا، محبًّا وصديقًا. هو في إصْغاء دائم. يترك نفْسه في المهبّ تخترقها، كما الصّدى، جميع إمكانات الشّعر، مثلما يضيء ذلك النّاقد جيرار نواري في كتابِ أفرده لتجربة الشّاعر أندري فلتير.
كان غائبًا
ليْس لي، الْبتّة، طعْمُ المقابر
ولا العِظامِ الشّهيرة لبيت لاشيز
لمونتمارتر أو مونتبارناس
مطْمورةً تحْت الأرْض أو في شواهِد الْقبور
دائمًا ما آثرْتُ الرُّفاتات الْمُلْقى بِها في الرّيح
لكنْ في باريس الشّريدَة أُحبّ كمْ
حُضورًا يحْيا عَلى الْجُدْران:
بوسي في المُنْتصف من مُنْحدَرٍ على شارِع سانتان
وجان- بابتيست بوكْلان غافِلٌ عن شارع موليير الّذي نشأ بِه تقْريبًا
كما أروح عنْ رصِيف فولتير الّذي لفَظ أنْفاسَه عليْه…
غيْر أنَّ واحِدةً، بيْن كلّ لوْحات الطّريق، تسْحرُني
تُزيّن الْوَاجِهةَ الحزينةَ لشارِع ريشيليو
هُنا كان ستاندال يكتبُ الْمُنتزهات في روما.
تيـه
الْحَياةُ الحَقيقيّة تُسافِر
والسّفَر
حُلْم.
عَلى خطْوات كَمْ تاجِرٍ،
وكَمْ مُرْسَلٍ،
وكَمْ سَيّدٍ للْحَرب؟
أيْن نَحْن؟
نتزحْلقُ عَلى غَضَارِ غانْسُو
مِنْ أعْلَى التّلال الْمَنْقوشة
كأنّها طواطم منْ حبّات القمح اليانع،
والقمْح الأخْضَر،
ومنْ نباتاتِ البرْسيم، والسّلْجم والْكتّان الأزرق؛
مِنْ هُنا عبَر سيغالين
بنِعالِه منْ قشّ
وفعْلِ مُغامرتِه
أيْن نحْنُ؟
تَحْت خطّ الْقُوى الْمُنْهارة
في سيّارة جيب تنْبعِثُ منْها الأصوات
وتترنّح بالدّاخِل
في إيقاع عالَمٍ آخَر
عَالَم الْهِياج الإلكتروني
الّذي يعزفُ السوينغ أيضًا
عَلى قَراراتِ قلْبِه
أيْن نَحْن؟
نحْن الّذين نُوجد هُنا
دُون أنْ نكون كذلك؟
تَطْواف الْعَالَم
مِنْ خِلالِ سِحْر أسْمائِنا وَحْده
كَمْ مِن الْمُدُن الضّائِعة وغيْرها
مِنْ عَدَنٍ إِلى زَنْجِبار
تُغنّي في غيْر ذَاكِرةٍ لَنا.
يَا لَهَذا الضّجيج مِن الْمَجْهول
في مفْترق طُرق الأرْض
في سَمَرْقَنْد كَما في شَنْغاي
حتّى قبْل أنْ تُوجد
اللازِمة الّتي شقّت الطّريق
تتكلّمُ إلى الْقَلْب، وإِلى الأَحلام
بِتُومْبوكتو، وبِيناريسْ، والأقْصُر
وأَنْطَاكية:
بِالأُذُنِ أَيْضًا
يجبُ تَطْواف الْعَالَم.
**
3. 4 ـ ماري كلير بانكار: تدوين قوّة الحضور:
تطبع ماري كلير بانكار [1932] بتجربتها في الكتابة راهن الشعر الفرنسي، في انحيازها إلى قصيدة متيقّظة تنتبه للتفاصيل العميقة للإنسان ولقلقه وفقره الداخليّيْن في عالم يتفكّك باستمرار، كما تقوم على تدوين قوة حضور الأشياء داخل كثافة الكلام الّذي يُنْتَقى على نحو خاصّ. إلى جانب دراساتها في أدب فرنسا الحديث والمعاصر، وسرودها التّخييلية، أصدرت بانكار ما ينيف عن عشرين مجموعة شعريّة منذ عام 1967م.
تٌدمِّر الكلماتُ نَفْسَها
داخِلَ الْحُموضة الّتي تفوحُ من المَكْتبات
أحدُهُمْ يرفَعُ نظره إلى الْغُيوم الّتي تنكسرُ سريعًا.
مع ذلك،
ما يبدو أكثرَ انْكسارًا
هي السّماء، تِلْك الّتي تشُقّها الاِنْهِيارات
واللُّحومُ الّتي تطْفَح بالبَوْل
والْمَذابحُ والاِعْتِداءات.
لَنْ تَحْمضَ، هي الأُخْرى
تئزُّ في الدّم مُدنْدنةً أوبِرا مَوْتٍ جَارف.
أيُّهذا الكلام، هلْ ولّيْت الأدْبار
على أجْنحـةٍ من هذا الذُّباب الأزرق؟
حَسْبُك أنْ تظلّ
هُنا نسْغًا به تستمرُّ الحياة
بِـساقٍ يُعْتقَد أنّها موهوبةٌ لكلّ الأوقات.
في إنـاءٍ منْ فوق الشُّرْفة،
يتناغَمُ وأمـلٍ صغيرٍ جدًّا
عبثُنا النّفيس.
حبّنا الّذي لا يتلاشى لاثنيْن أو لآخرين
كيْفَ تبدو أنْتَ يا وجْهي،
في مَجْرى دمي ومسامّ لحمي؟
أَتَرْجُمانًا لوُجوه الآخَرين
ما تَعْنيهِ
بالنّسبة لجسدي المُعْتم؟
أوْ رُبّما مُرْتَجِفًا
تَحْمِل سِواك من الوجوه إنْ تَوارتْ،
فَلا يَستطيعُ أحَدٌ مِثْلُك
أنْ يأتي بها يوْمًا
صُحْبَة الْعُيون والْكَلمات
الّتي تُوحي بها في العبور،
وَإنْ بتعاسة.
بَيْنَـما السّـرُّ مَحْجوبًا
طَمَرَتْه الخَلِـيّات.
هل أنا أُفكِّر في السّرْمدي
عندما نَلْتصِقُ بعضنا ببعضٍ عُراة؟
كلّا، إنّي أستعيدُ عُشْبًا
أو قُلْ: سعادةً لحيوان عظيمِ الجُثّة
(الفيل، رُبّما)
بمقْدار ما يتّسِعُ الْمَـاء
لكن ذلك لا يتمّ في الكلمات، إنّما في جسدي كلِّه
بسخاء.
وأحيانًا، تراها تنامُ عاريةً، تنام
كينونةُ هوايَ وهي تُفْسِح مكانًا،
بلا كلماتٍ دائمًا،
لِلْقَلق الّذي ينتظر
الهروبَ
القُنْبلةَ
الجلّادَ
داخل هذا العالم الّذي تنْدرُ فيه أعظم الأسرّة هناءً.
**
5.3. دومينيك كانيار: في مديح الآخر:
دومينيك كانيار (1950)، في شعره نكتشف كتابة أكثر حساسيّة، وشخصيّة بالفعل. كما نتعرّف على شكلها الخاصّ، وعالمها، والتزامها الكامل في الشّعر الّذي لا يتنازل، ولا يُقيم فصلًا بين العمل والكائن المتشابكيْن في الواقع. له “خطوات المطر” 2005 و”البقرة في غرفتي” 2008، عدا أنطولوجيات تضمّ أشعارًا موجّهة للأطفال والمراهقين والبالغين. كما أنّه أنتج، منذ سنوات خلت، عددًا من البرامج خصّ بها كُتّابًا وشعراء وفنّانين. ويُحيي منذ 1995، على فترات متقطّعة، حلقات شعريّة في إطار ورشاتٍ وقراءات ومشاريع بعيدة المدى، داخل فضاءات مختلفة من المكتبة والمستشفى والمدرسة إلى المراكز الثقافية، تحاول أن تكشف لجمهورها أسباب الحياة والأمل من خلال الشّعر وكلماته .
أَنت ذلك الآخَر
أَنت ذلك الآخَر الّذي يَجْزَع
كان مُفْرِطًا في خِفّتِه
ثُمّ ثَقيلًا للغاية صار.
أَنْت ذلك الآخَر الّذي يتردَّد
لِلْقَفْز
على شجرةِ أَحلامه.
ذلك الآخَر سَوْف تَصيرُهُ،
أَجْدَب من الشّجرة بِلا أوراق،
ذلك الآخَرُ المُتجرِّد من كلّ شيْء.
أَنْت
وَلأنَّك أَنْت،
أَنْت ذلك الآخَر
وُلِدْتُما معًا،
هَلْ تتذكَّر؟
أَنْت ذلك الآخَرُ الْوَليد
ذلك الأَعْمى الّذي تَنْظُرُ إِلَيْه،
أَنْت ذلك الآخَر،
فَاحْفَظِ الْجَميل
لِتَحْــيا.
لقاء مع روني شار
نَزَل الثّلْج ذلك اليوم بِشارع “شاناليل”
عندما الْتَقاني رُوني شارْ للمرّة الأولى.
“شاناليل”، تَصْلُح أنْ تكون عنوانًا
لديوانٍ شعريّ أو رواية.
“أهْلًا دومينيك”
كان لصوْتِه المُعرِّش في السماء،
شبيهًا بنداءٍ على اللّيْلة الموعودة،
وقْعٌ في نفسي.
أظهرْتُ له حبري الصّيني
الّذي تفرّس فيه باهتمام زائد، وقال:
تُريد نبيذًا؟
بلى! ـ
ستدخُلُ فراشة إلى المطبخ
وتحطُّ على منْكـبِه.
أَخُونا البعيد
يَوْمًا،
سوْفَ ننْتبِهُ
إلى أَخينا البعيد
لَنْ يَكون أحدُنا مُشظّى،
والآخَرُ سَبَبَنا الوحيدَ للوجود.
هذه اللّيْلةَ،
سَوْف نَمْشي طَويلًا حتّى الفَجْر،
حاَفظِ الْجَميل الّذي اخْتَرَق
كُلَّ هَذِه الْحَدائِق المُهْمَلة
والْوَاصِلِ بيْنَ شِفاهِنا
لِأَجْل أنْ نُقبِّلَ السّماء الّتي تَسْكُنُنا.
اطْرَحْ عيْنَيْك في ليْلَتي.
أَخُوك هُوَ الْآخَرُ، لكنّهُ ليْسَ الغَريب.
لَمّا تُنْفِق الوَقْتَ
لِتَصْعَد ثانِيَةً جَميعَ صَفْحات الغِياب،
حيْثُ لَنْ تَهْتَدي
إِلَى مَنْ يَدلُّك إنْ كُنْتَ مَيِّتًا
أَوْ كُنْتَ حَيًّا
– سَيَتَراءى الحُضُورُ غيْرُ المرئيّ لَك:
الوجْهُ الْآخَر لِحَقيقَةٍ، هَشّةٍ،
تَصْحَبُ يَدَيْك اللّتيْن مِنْ قَوْسِ قُزَح.
تَرانا الْأَرْضُ، كَمِثْل نِداء
على الْبَعيد، على الصّمْت والمودّة.
لا خَبَرَ لي عن البعيد.
لأجْلِ أنْ نَشْرَع في الكتابة يَجِبُ أنْ نُؤَلِّف
مُوسيقى صُغْرى هِيَ فينا،
أنْ نتخلَّى عن كُلِّ ما أُنْجِز.
ثَمّة وَقْتٌ لِلْإِحْساسات،
الفراديس الاصْطِناعيّة
وَوَقْتٌ للتّجَلِّيات.
أَكْتُبُ لِكَيْ أَتصيَّد
النّظْرةَ الضّائِعةَ في عُمْق الغابة
لِقِلَّة الإغْراء.
بِدَافِع رَغْبة النّشْر،
لا نُغْري الصّفْحة
أَنْ تَيْنَع بِبُطْء.
القَصيدَةُ المَنْشورة بِوَجْه السُّرعة مَنْذورةٌ للخيبة.
إذا كُنْت تَكْتُب القصيدة،
ارْمِ بِكُلّ مَراياك عبر النّافذة.
لا حاجةَ بالظّاهر
للظّفَر بِضفّةِ الآخر
حيْثُ تَصير النّظراتُ شفّافةً،
مُحَمَّلة بِدَليل،
لأجْل أنْ تُغْدق
وأنْ تفْلت مِنْ كلّ أشْكال العجلة
الّتي تمْنعُ عن الإنْسان
أنْ يُبَلْوِرَ نظْرَتَه.
الآخَرُ، ذلك الأخُ البعيد،
المُحْتقَرُ ، المنْسيّ منْ زَمَنٍ بعيد
وحدهُ الّذي يُوجَد، الّذي يسْمَعُنا ويعتَني بِنا،
فيما نَحْن نَنام.
أيُّ سِفْرٍ مَكْتوبٍ
هو قنّينة مَقْذُوفٌ بِها في الأرضين،
مَنْ تُرى سَيَأْتي لِيَنْتَشِلَها؟
عبد اللّطيف الوراري
مايو 21 2014
حوار مع الروائي البرتغالي جوزيه ساراماجو ………… كاترين فاز
حوار مع الروائي البرتغالي
جوزيه ساراماجو
أجرت الحوار
كاترين فاز
ترجمة
محمد هاشم عبد السلام
جرت هذه المقابلة في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث كان ساراماجو يقوم بإلقاء محاضرات هناك في إحدى الجامعات، وكان الحوار قد نشرت في مجلة “بومب” الفنية المتخصصة.
كاترين فاز: قلت مرة بعد الفوز بنوبل: إن كل رحلاتك وظهوراتك جعلت منك كما لو كنت “ملكة جمال أمريكا”. هل هذا حقيقي حتى الآن؟
ساراماجو: لا، لا، أنا لن أكون ملكة جمال أمريكا أبدًا. قلت: كما لو كنت ملكة جمال الكون؛ لأن أمريكا ليست بعد هي الكون!
كاترين فاز: أود التحدث عن عاطفتك للكتابة عن الذين هم في الغالب غير مرئيين أو مجهولين. قلت: إنه عندما تجري مناقشة حتى مايكل أنجلو وكنيسة “سستين” فإن اسم المساعد كان يتم إغفاله. وفي “بلتزار وبليموندا”، عندما تحدثت عن البناء الضخم لدير “مافرا”، جذبت انتباه القراء إلى الصاغة (صُنَّاع الفضة)، الطرَّازين، صُنَّاع الساعات، النجارين. فكرت فيهم كأناس تُركت دماؤهم مختفية في الحجارة.
ساراماجو: هدفي عدم التخلي عن الناس الذين جاءوا إلى هذا العالم في الظلام. من الواضح أننا لا يمكننا أن نعطي حديثًا عن كل واحد، لكن ثقافتنا تطالبنا بالتحدث فقط عن الأشياء ذات الأهمية الواضحة، أو عن هؤلاء الذين يتركون وراءهم أعمالًا فنية مكتملة. لكن غالبًا – ويمكن أن أقول دائمًا – سواء كان هذا المشهور رسامًا، كاتبًا، نحاتًا أو موسيقارًا، هناك دائمًا الآخرون الذين يتركون آثارهم ضمن أي عمل يتم تقديمه. أنتِ ذكرتِ مايكل أنجلو، كان يجب أن تذكري المبتدئ الذي كان يحمل وينقل علب الألوان أو ينتج المناظر الطبيعية في المرسم. ثم كان الأستاذ، يأتي ليقوم بالرسم والتنميق ووضع اللمسات والتعديلات النهائية على عمل مساعده، ثم يوقع اسمه.
كاترين فاز: لقد أكدت على واجب محدد تجاه هؤلاء الناس وأسمائهم. بالنسبة لي، الصورة التوضيحية الأكثر إدهاشًا وقوة هي في “بلتزار وبليموندا”، عندما ينقل الرجال الحجر الضخم اللازم لعمل باب الدير. استمر الحدث لصفحات كثيرة، مجبرًا إيانا على التواجد هناك مع الرجال أثناء كفاحهم لجعل الحجر يمر بين ألواح الأشجار وحول الأركان أو الزوايا. تقتل بعض الثيران بسببه، وساقا “فرانشيسكو ماركيز” قُطِعَتا. حدث ذلك بينما هو يفكر كم يريد العودة إلى بيته ليمارس الحب مع زوجته. كنا مطالبين أو ملزمين برؤية حياته ودمه ورغبته العاطفية والجنسية واضطراره إلى التضحية، بكل معنى الكلمة، من أجل الأمر المتغطرس للملك “دوم جوا الخامس” بإنشاء هذا الباب.
ساراماجو: نعم، نعم، “فرانشيسكو ماركيز”، شخصية خيالية، لم توجد أبدًا في الواقع، لكنني قصدت من خلاله البرهنة على أن الموت الكامل هو غياب ذكرى الناس للميت. معظم الناس لن يبقى من بعدهم أي سجل إلا ما هو بيروقراطي (أي: اسم المتوفى). ماذا تسمونه هنا؟ “الإحصاء الحيوي” (للمواليد والوفيات)، ولا شيء سواه. في “بلتزار وبليموندا”، عندما أقدم فرانشيسكو ماركيز، أو أحصر تلك الأسماء العشرين، أو نحو ذلك بالحروف – أ، ب، ت، إلى آخره – أردت لهذه الشخصيات الخيالية أن تمثل كل هؤلاء الناس الذين لا يتم ذكرهم أبدًا. هدفي أن أمحو عنهم كونهم أناسًا مجهولين. سجلتهم على الورق لأن هذه الشخصيات هي أفضل وسائلي لنقل هذا المفهوم؛ أنا أوثّق أو أكتب الكتب. فرانشيسكو، وبقيتهم موجودون هناك لبعث الضوء، لتبديد الظل الجاثم الذي يغطي الغالبية العظمى من البشرية.
كاترين فاز: من أين تنبعث رغبتك في فعل هذا؟
ساراماجو: لو أنني كنت قد ولدت لعائلة غنية، وكانت لي حياة سهلة، ربما لم يكن هذا الأمر يمثل قضية مهمة بالنسبة لي. لكن نظرًا لأنني جئت من عائلة فقيرة، عائلة من الطبقة العاملة، فأنا أعتبر هذا النوع من العدالة ضروريًّا.
كاترين فاز: أذكر حديثك بالأمس، عندما ذكرت أن أخاك الذي مات في سن الرابعة. أطلقت عليه اسم “المؤلف المشارك” لروايتك “كل الأسماء”. هل يمكنك توضيح هذا قليلًا؟
ساراماجو: لا أستطيع على وجه الدقة أن أحدد أية مرحلة من الإبداعية كنت عليها، لكنني قررت كتابة سيرة ذاتية – سيرة ذاتية على غير العادة لتغطي فقط الأربعة عشر عامًا الأولى من حياتي. لكن تناول طفولتي كان يبدو أمرًا صعبًا؛ لأنه كان عليَّ إدخال أو تضمين أخي الذي كان يكبرني بعامين، ومات عندما كنت فقط في الثانية من عمري. لم أكن أعرف تاريخ وفاته على وجه التحديد. كانت لديَّ بعض المعلومات عن موته بالتهاب رئوي (اختناق شُعبي) في عام 1924، بعد أربعة أو خمسة أشهر من انتقال والديَّ إلى لشبونة، وشرعت في تجميع الحقائق. طلبت شهادة ميلاده من بلدتنا الأصلية (أزينهاجا، في مقاطعة ريباتيجو الوسطى، في البرتغال)، بيد أن ما تلقيته خالف كل شيء عرفته: أظهرت الشهادة أن أخي لا يزال حيًّا. لم يكن مدونًا بالشهادة تاريخ وفاة. عندئذ طلبت شهادة وفاة من المستشفى الذي أخبرني أبي وأمي أنه مات فيه، وجاءتني الإجابة أنه لم يكن هناك أبدًا. ليس هناك من أثر موجود، لكنهم أرسلوا لي بالفعل عدة أوراق توضح أنني أنا كنت مريضًا بها لمدة أربعة أيام! وعليه كان عندي الرسوم البيانية لحرارتي. إذا كان الأمر مهمًّا لمن سيكتب سيرتي، فإنه سيكون بإمكانه أن يقول: إنه في يوم كذا من الأيام، أصيب خوزيه ساراماجو بالحمى وكانت حرارته 38.5 . على الأقل لم يقل المستشفى قط: إنني مت هناك. بعدما بحثت في سجلات ثمانية مقابر في لشبونة وفي محفوظات أرشيف مجلس مدينة لشبونة، أرجعت الحقيقة إلى نصابها: تاريخ الوفاة (22 ديسمبر، 1924) وتاريخ الدفن (بعد يومين من تاريخ الوفاة في مقابر بنفيكا). وفي الحقيقة أخي مات بالفعل في هذا المستشفى، لكن السجلات الأصلية المركزية كانت الفراغات فيها غير مدون بها أي شيء. ولِدَ أخي في عام 1920، واليوم كان سيصبح في الثمانين من عمره. إذا أنا بقيت التزم الصمت، أي: أخفقت في إعلام “إدارة الإحصاءات الحيوية” عن خطئهم، إذن بعد مائتي سنة من الآن، سيقول أحد الموظفين المدققين الأمناء: “في مكان ما بالخارج رجل عجوز يدعى فرانشيسكو يبلغ من العمر 240 عامًا! لا شك أننا أمام معجزة!”.
إذا ما طلبت، غدًا، نسخة أخرى من شهادة ميلاد أخي، فستصدر من دون تاريخ وفاة. أعتقد أنني سأتركه لحاله (كما هو) – حيًّا.
كاترين فاز: لذا كان أخوك موجودًا في كل الأسماء الشخصية الرئيسية؟ جوزيه، ساعي المكتب، صار مهووسًا بتتبع حياة امرأة مجهولة يقع سجلها مصادفة بين يديه.
ساراماجو: لم أسجل قصة أخي في كتابي، لكن لها صلة بما ذكرته، عن أسماء الناس والجو العام للسجل المركزي ومكان الموتى بين الأحياء. لهذا السبب اعتبرته مؤلفًا مشاركًا.
كاترين فاز: يصبح جوزيه في النهاية مستغرقًا في البحث عن سبب انتحار هذه المرأة المجهولة. لقد بدأ قضاء الليل في المدرسة التي كانت هي تلميذة فيها، والتي قامت فيها بتدريس الرياضيات فيما بعد؛ تحدث مع أبويها، مع جيرانها، ذهب إلى محل سكنها السابق – لكن لم يكن في مقدور أحد مساعدته في الوصول إلى حقيقة لغزها. بطريقة مماثلة، عندما يزور الشاعر الراحل “فرناندو بيسوا” صنوه الراحل “ريكاردو ريس”، الذي قدمته كشخصية حية في روايتك “عام وفاة ريكاردو ريس”، يقول له: إنه لا يأمل حقيقة في معرفة أي شيء عن “ليديا” و”مارسيندا”. يُعلق بيسوا: “… الحاجز الذي يفصل الأحياء بعضهم عن بعض لا يقل عتامة عن الحاجز الذي يفصل الأحياء عن الموتى”.
ساراماجو: “الموتى الحقيقيون” لن يموتوا أبدًا مادمنا مستمرين في التفكير فيهم. ربما ينحصر الأمر في هذا: ما الذي نخشاه على الموتى الأموات ما دام ما نستمده منهم هو نفس ما نستمده من الأحياء؟ لدينا ذاكرة متصلة بهم، لدينا أعمالهم، كل شيء خلَّـفوه وراءهم.
لو أننا توقفنا عن القلق بشأن حقيقة أن الموتى أموات، يمكننا أن نهزم العديد من الهواجس التي نبنيها لتفصل بين الموتى والأحياء، ويمكننا مواصلة الحياة عن طريق الذاكرة. هناك ذاكرة الماضي – بمعنى كل ما ومن كان موجودًا، وهناك ذاكرة المستقبل – الأشياء التي فعلها أو لم يفعلها الناس تلك التي ستنتهي مُخلِّفة أثرًا في المستقبل. ومهما كان وصفك للأمر، فالمؤكد هو أن لدينا علاقة مستمرة بالأحداث الماضية بالناس، تفوق تقسيمات الحياة والموت وتلغي الحواجز التي بينهما.
نحن مشغولون في عصرنا هذا عن تذكر الماضي، ونزعم أن الذاكرة لم تعد لها أهمية. الأجيال الجديدة لم تعد مهتمة بما حدث لآبائهم أو أجدادهم: ما يهم فقط هو أمور اليوم وربما الغد – هذا مرض، ومرض قاتل. الناس الذين ينبتون عن ذكرياتهم الخاصة يصبحون مثل جنس “الزومبي” والمثير للسخرية أننا طورنا هذا الوعي – أو النقص في هذا الوعي – طبقًا لبلداننا، لمواقفنا، ولغاتنا – أي: كل الأشياء التي يمكن أن تتواجد عن طريق الذاكرة! ليس للنبات ذاكرة؛ ينبغي أن نتوقع الأفضل من الكائنات الحساسة الراقية.
كاترين فاز: فيما يتعلق بالذاكرة وذكر الأسماء، أتساءل: إن كنت قد رأيت النصب التذكاري لفيتنام في واشنطن دسي سي. هناك ندبة تمثل أثرًا في الأرض، و …
ساراماجو: هذا مجرد كلام! كلام محض. يمكن أن تملأ الأرض بالآثار المثيرة للذكريات، وللوهلات الأولى التي يراها الناس يحدث فعلًا تداع للخواطر؛ يشاهدونها فيتولد شعورٌ بسببها. لكن بمرور الوقت، تمر أعيننا مرور الكرام بلا اكتراث على هذه الأشياء. ما يبقى هو القيمة الجمالية للقطعة الفنية، لكن لم يكن الغرض هو جعل الناس تفكر في أن هذا شيء جميل وعمل فني كمخزن للذكريات؛ المغزى هو مواصلة التأمل، فيما هو جوهري. المكان الحقيقي الجدير بحفظ الذكريات هو عقول الناس.
لا أحب أن أكون هجوميًّا، لكن -حقيقة- إن لدى الولايات المتحدة الأمريكية موهبة خاصة في تعزيز وتغذية الذكريات التاريخية التي تنتهي إلى أن تصبح سطحية تمامًا، بدلًا من تطوير وتنمية ضمير مخلص ملتزم. ربما أكون مخطئًا، لكن الأنصاب التذكارية تميل إلى أن تكون في مناطق رمزية، لا تمثل جزءًا من إقامة ومعيشة الناس بالفعل، لذا أصبح من السهل علينا تنحية أية معاني عميقة جانبًا عن أن تتصل بحياتنا اليومية، عن أن تواصل التأثير علينا في الأماكن التي نشغلها أو نقيم فيها. أنا أيضًا متوجس مرتاب بعض الشيء بشأن الأعلام والموسيقا العسكرية؛ إنها مصممة من أجل تعبئة وحشد الشعوب. العلم الأول، في مصر القديمة الفرعونية – الذي نعتبره باكورة أعلام العالم كله – كان رحم بقرة معلقًا مرفوعًا فوق عصًا منتصبة. واجب علينا أن نطلق صرخة انفعال ونشهر أسلحتنا ضد العدو – بسبب هذا العلم. في رأيي، إذا نظر الناس إلى الأعلام من هذا المنظور، فإن كثيرًا من الإجلال والتوقير والخطابة الحماسية سوف يتلاشى تدريجيًّا.
كاترين فاز: يمكننا أن نتفق أن العالم يتداعى إلى أجزاء صغيرة، لكن أيضًا تسحقه انقسامات كبيرة ؟ هذه هي النتيجة التي استنتجتها من أوصافك، أن كل شيء يمكن أن ينحل عن مرابطه بدون سابق إنذار – شبه الجزيرة الأيبيرية بأكملها في رواياتك “الطوف الحجري”، والعصابة المتشردة في “العمى” وفي “الإنجيل يرويه المسيح”. أما في “عام وفاة ريكاردو ريس”، فنجد الشخصية التي تحمل الرواية اسمها تبحث عن الحب، “مارسيندا”، الذي كان المحتمل أن يكون في مزار فاتيما ؛ وذلك بسبب ذراعها الأيسر المشلول، لكن بدلًا من الذهاب إلى هناك، يتجول وحيدًا وسط حشد بشري يلتمس ويتضرع طالبًا معجزة من الله. ثم إنه محجوب مطوق في جنون لشبونة الفاشية. في كل مشاهد الاضطراب هذه غالبًا ما تصبح خلفية العالم مثل تسليم مدينة “الجورنيكا” إلى العدو.
ساراماجو: في الأدب، الرواية هي بوضوح تتحدث عن أفراد، لكن لعمل ذلك بفاعلية أو بنوع من التأثير، من أجل نقل الحالة الإنسانية لفرد أو اثنين أو ثلاثة من الناس، يجب على المؤلف أن يفهم أن كل شيء يتموضع أو يدخل في سياق التاريخ. نحن رعايا “خاضعون وتابعون”، يهيمن التاريخ علينا. لا يمكن للواحد أن ينسى ما هو خلفنا وما يوجد في العالم الآن، هذا العالم يعاني التشظي، والفوضوية، والإفساد، ودوام التحرك نحو المجهول.
عندما نوجد على هذا الكوكب، نحاول إعطاء أو إضفاء معنى على أفعالنا، لكن عندما تختفي الشمس في النهاية، لن يكون هناك أحدٌ باقيًا للتحدث عنها، عن أفولها، أو عن أفعال.
الكوميديا الإلهية والإخوة كرامازوف ستنتهيان. دون كيخوته ستنتهي، السيمفونية التاسعة لبيتهوفن ستنتهي، وأيضًا السابعة والسادسة وكل السيمفونيات، ولذلك سوف نختفي، سوف تصبح البشرية حدثًا تافهًا كان لبرهة في الكون.
كاترين فاز: لكن ألم تدلل أنت أيضًا ضمنيًا على أننا يمكننا نشر خلق الوقار والتعاطف والشفقة؟ أننا يمكننا إصلاح مسار التاريخ إذا أردنا بالرد على ما يمر باعتباره الكلمة الرسمية بالإجابة “لا”؟ ثم نخلق التزامًا لإيجاد إجابة أخرى، وهي “نعم”. أليس هناك شيء ما إعتاقي افتدائي أو إبداعي خلاق في هذه المسألة؟
ساراماجو: لا، التعاطف هو ما سينقذنا، إصلاح التاريخ سيساعدنا – لذا؛ لماذا لا نرى الكثير من التعاطف؟ دعيني أتحدث عن نفسي بوضوح. يعرف معظم الناس بالفعل أن ما يسمى بالتاريخ الرسمي هو خيال. يكتب المؤرخون عن البرتغال، أو إسبانيا، أو الولايات المتحدة الأمريكية، أو أيًّا كان، عن طريق جمع بعض الحقائق والأرقام بعينها عن، وحول، بعض الشخصيات – ولذلك يسقطون كل الباقين. وقرار كتابة كتاب نهائي جامع شامل عن “الماضي” أمر لا يصدق؛ لأنه بوضوح من المستحيل تضمين كل شيء فيه.
ماذا لو أردنا كتابة كتاب يدعى “بيلار دل ريو” (زوجة ساراماجو)؟ أو قصتك أنت وأنا “بالكامل”؟ أو قصة أي شخص آخر؟ ننتقي حقائق معينة بعينها، نحاول أن نكون منطقيين. ثم يأتي شخص ما بمفرده ويزعم أننا كتبنا الحقيقة الكاملة، ويصبح موضوعًا تليفزيونيًّا. لا يجب اعتبار أي شيء صحيحًا جدًّا لدرجة أننا نصبح غير قادرين على الإجابة بـ “لا” أو “ربما” في تعليقنا على هذا الشيء.
لكن إعطاء مجرد الإجابة الراديكالية “لا” سيعتبر دائمًا أمرًا فوضويًّا؛ سيقترح أن كل شيء يجب أن يخضع للتحقيق أولًا. “لا” تخلق ثورة. راموندو في “تاريخ حصار لشبونة” فضولي، متشكك، ويغير تاريخ المدينة بالكامل، إنه يكذب بشأنه، بإدخال كلمة نافية حقيقية واحدة. الواقع أن “لا” غالبًا، وحتمًا، تتحمل أن تصبح نموذجًا ومعيارًا وقاعدة. وتصبح ضرورية لمحاربة ” نعم ” اللاحقة بـ “لا” أخرى. هذا ليس دمارًا لأجل الدمار، هو خطاب أو حديث متطور بناء. على سبيل المثال، نحن مدركون أن السلطة يمكن أن تفسد صاحب السلطة، وأن فقدان الأخلاق يمكن أن يعتري الثوري الذي يطيح بالسلطة التي هي في حاجة صارخة لأن تطبق عليها “لا”. عالم اليوم، للأسف، هو “نعم” كبيرة، “نعم” أنانية، الـ “نعم” هي كل شيء. هناك أناس قليلون جدًّا في عالم اليوم مستمرين في تقديم ودعم “لا”.
كاترين فاز: أي دور، عندئذ، تقوم به الذاكرة في استدعاء التاريخ؟ في رواية “مائة عام من العزلة”، مرض النسيان يجتاح قرية “ماكوندو”. هناك شعور قوي خفي لاحقًا يؤجج الحاجة للتذكر من أجل هزيمة حوادث التاريخ المنسية. في هذه الحالة، يعني هذا الإبقاء على الذكرى الحية للمذبحة التي حدثت أثناء احتجاج ضد شركة الفاكهة المتحدة. قد يكون التاريخ غير صحيح وغير دقيق، لكن أليست هناك أشياء واضحة تمامًا توجد كحقائق لا تقبل الجدل، ولا المراوغة ؟
ساراماجو: حسنًا، بالطبع، نعم، لكن الحقيقة لم تسجل هناك، التاريخ المحلي الرسمي أسقط أو أغفل الحادث، تلك هي القضية؛ تُرك الحادث لذكريات الناس، ليقولوا: لا، لدعم الحقيقة.
لا يمكن أن تكون هناك كتابة بدون ذاكرة. دائمًا ما يتغذى الكتاب بما يتذكرونه – في الحقيقة، الجميع هكذا. الذاكرة هي لغتنا الفعلية الحقيقية العميقة. إنها مخزن ثرواتنا، منجم الذهب، أو منجم الماس، ونحتاج إلى أن نبقيه نشطًا ومفتوحًا، للاحتفاظ فيه بأحداث وتجارب الطفولة المهمة التي ستتحكم بطريقة ما في حياتنا وشخصيتنا كبالغين. ما الذي سيحدث للشخص الذي نسي تلك التجارب؟ إن لم يكن لدينا ذاكرة، فنحن لا أحد، ولا شيء يمكن لنا عمله.
كاترين فاز: قلت ذات مرة: “ربما هي اللغة التي تختار الكتّاب الذين تحتاجهم، مستخدمة إياهم، لذلك ربما كل واحد يتولى أن يعبر عن جزء صغير مما هي عليه (من حقيقتها)”.
ساراماجو: لا، أنا لم أقل ذلك أبدًا!
كاترين فاز: موافقة، موافقة، سامحني. الراوي في “عام وفاة ريكاردو ريس” قال هذا. هل تتفق أنت نفسك مع هذا؟ هل اختارتك اللغة البرتغالية؟ أي جزء منها قمت بالتعبير عنه؟
ساراماجو: هذا وضع مشترك خاص بالكتاب – أنا لست متأكدًا من أنني أستطيع فهم هذه الكلمات – نحن نكتب أشياء، ثم نُقيِّمها فيما بعد، سواء من حيث الجودة أو السوء، أي: أننا نعيد التفكير. ربما يجب علينا الاحتفاظ بهذا كاستعارة بلاغية بدلًا من الإيمان التام به: احتاجت اللغة “لويس دي كاموس، وكاميلو كاستيلو برانكو، وفرناندو بيسوا”، ولأنها مضت تبحث عنهم، فقد وجدتهم. أو ربما يمكننا أن نقول: إننا ربما لا نرى لغة تكوِّن الكاتب أثناء لحظة بعينها من لحظات الكتابة، أثناء معايشة الكتابة، لكن عندما نلاحظ تاريخ الأدب، يُمكّنُنا منظورنا من ملاحظة اللغة في تعبيرها المتنامي أمامنا.
كاترين فاز: يمكننا أن ننتهي بالتحدث عن المسائل العملية هذه، اللحظات المعينة تلك، من معايشة الكتابة؟ كيف تقدر على الكتابة أثناء سفرك؟
ساراماجو: عندما يكون لديَّ شيء أقوله، عليَّ أن أخلق الشروط أو الأحوال المناسبة لأجل كتابته. وفي الحياة التي أخوض فيها، ذلك غير سهل دائمًا. لقد سافرت مؤخرًا إلى إيطاليا وألمانيا، إلى تيمور وأمريكا، وبيلار، ومؤخرًا قضيت شهرًا في لشبونة. لكن مع كل السفر الذي تسببت فيه جائزة نوبل عام 1998، لا أزال قادرًا على الكتابة، بالرغم من أن الكتابة قد تحتاج مني إلى فترات أطول قليلًا. أكتب فقط في البيت. لا يمكنني الكتابة في الفنادق، أو في منزل صديق – مستحيل تمامًا! أنا ببساطة غير قادر على هذا، لا شيء يمكن أن يتدفق من رأسي، وهذا كل ما في الأمر. لكن عندما توضح المعالم الرئيسية للعمل، عندما تكون لديَّ فكرة، فإنها تصبح هاجسًا. فقد أردت مثلًا لروايتي “الكهف” أن تنشر هذا العام في البرتغال، ولحسن الحظ يحدث هذا. نصفي الحسن (الآخر) سيقول: إن رؤيتي وتركيزي يجعلان هذا ممكنًا.
كاترين فاز: ألازلت تكتب صفحتين يوميًّا في أيام إنتاجك؟
ساراماجو: بالنسبة لرواية “الكهف” كنت أكتب أربع صفحات يوميًّا. إنها مسألة التنظيم العقلي. ربما لا يبدو هذا كثيرًا، لكن …
كاترين فاز: أربع صفحات في اليوم يوميًّا كثيرة.
ساراماجو: ما ساعدني هو أنني بدأت بفكرة واضحة نوعًا ما عما أردت قوله، من أوضاع أو مواقف معينة. لديَّ علاقة صداقة بكتابتي، وربما يكون هذا استثنائيًّا وغير شائع، وهو ما أقارنه بنمو الشجرة التي تم غرسها ونمت وطرحت بطريقة تبدو في آن واحد متوقعة وغير متوقعة.
إنها متوقعة؛ لأننا إذا غرسنا مجرد شجرة زيتون، فنحن نعرف ما هي النتيجة، من السهل التعرف على شجرة الزيتون. لكن هناك درجة كبيرة من عدم التنبؤ؛ إذ ليست هناك شجرتا زيتون متشابهتان. بالمثل، الكتاب يتجذَّر، وينمو وفق منطقه الخاص.
ليس بإمكاني كتابة أربعين صفحة والعودة لتحويلها إلى ثمانين، لا يمكنني إعادة صياغة كتابة مائة وعشرين صفحة وتحويلها إلى مائتين.
لا أبدأ بخطوط عريضة مفصلة. إعداد قصة سلفًا بشكل مفصّل جدًّا هو إجبارها على الوجود قبل أن تأتي إلى الوجود، لا، كل كتبي بدأت كأفكار كتب ثم توسعت بفعل الكتابة، إلى أن وصلت إلى نهاياتها.
كاترين فاز: من دون مراجعات؟
ساراماجو: أجري مراجعة نهائية، أحذف التكرارات الكريهة أو الأخطاء. أمر على كل شيء بتمعن. الآن، ما أريد أن أقوله هو: إن طريقتي ليست عشوائية. تعطي كتبي للقراء انطباعًا بالصلابة، بهيكل حقيقي. لكن هذا ليس نتيجة التخلص من المقاطع السيئة، أو مما نسميه ضعفًا، والعمل على تقويته. إنه نتيجة؛ لأن الكتاب بدأ من تلقاء نفسه، وأنا قمت بقيادته إلى النماء بشكل صلب. كمؤلف، أنا ممسك بالزمام، بالطبع. هناك شيء أقوله وهو: إن كتابة الرواية -مثل عملية تشكيل كرسي- يجب أن يكون الفرد قادرًا على الجلوس عليه، وأن يكون متوازنًا فوقه. إذا كنت قادرًا على إنتاج كرسي كبير، أو جيد، فإنه -قبل أي شيء- يجب أن أتأكد أن له أربع أرجل ثابتة. كرسي بثلاث أرجل يهدد بحدوث سقوط لا تحمد عقباه. كرسي بدون أرجل ثلاث لن يبقى.
الكتابة هي مهنتي. إنها العمل الذي أقوم به، هي ما أشيِّده. أنا لا أؤمن بالإلهام. حتى إنني لا أعرف ما هو. ما أعرفه هو أنني عليَّ أن أقرر الجلوس إلى مكتبي، والإلهام لا يدفعني لأجلس. الشرط الأول للكتابة هو الجلوس، ثم الكتابة.
كاترين فاز: هناك الكثير من الكلام عن أن رواياتك عبارة عن كتب مليئة بالأفكار، لكنني كثيرًا جدًّا ما أجد – بالرغم من ادعائك أنك متشائم – أنها تحتوي على قصص جميلة عن الحب والتعاطف.
ساراماجو: لم يحدث أبدًا أنني عندما كتبت كتابًا جديدًا أن قمت بتخطيط قصة حب له. لكن في عملية سرد شيء ما، فيما يتعلق بالتعامل مع الظروف، يدخل الحب كمتغير بشري ثابت. لذا من المحتمل أنه في منتصف قصة يقفز الحب فجأة، لكنني لا أتعمد ذلك بصفة خاصة. والأمر يختلف في كتاب عن آخر.
كاترين فاز: في “تاريخ حصار لشبونة”، تنمو قصة حب “رايموند” من كتابته لكلمة “لا” في كتاب يقوم بتصحيحه. إنه يعكس أو يقلب تاريخ لشبونة، وفجأة تنقلب حياته الشخصية المنغمسة في الوحدة، وتتبدل كلية على الدوام.
ساراماجو: ثم يقابل “ماريا سارة”، التي وجدت أن “لا” جذابة جدًّا. أحيانًا يحدث الحب المطلق؛ على سبيل المثال، بالنسبة لبلتزار وبليموندا، وهذه حالة حادثة غريبة. عندما وصلت إلى نهاية كتابة الرواية – وجدت أنني نسجت قصة حب بدون كلمات حب، بدون: “نور عيني”، “أحبك”، “نجمة حياتي” – إلى آخر هذه المسائل. ربما يعتقد القارئ أن هذا الحذف متعمد وتم التفكير فيه مليًّا. بيد أن الأمر لم يكن الأمر كذلك! أنا نفسي فوجئت بهذا. ورغم هذا وجدها القراء قصة حب عاطفية مؤثرة. كان يمكن أن تتعارض مع الكتاب ومع استقامة وتكامل الشخصيات – إن أنا رجعت وأضفت هذه الكلمات السافرة المبتذلة كنوع من الاستدراك.
تميل كتبي لأن تكون غريبة فيما يتعلق بالحب. في “كل الأسماء”، “السنيور جوزيه” في وضع لا يحسد عليه ؛ فهو على علاقة بسيدة لم يلتق بها أبدًا. حتى في “العمى”، في هذه البيئة المخيفة، لدينا الدكتور وزوجته، والشابة ذات النظارات السوداء والرجل العجوز. قصص الحب هذه خالية من العادية بعيدة عما هو مألوف، أعتقد أن ذلك لغرض أو سبب. الحب يتحدد سلفًا بشخصية النساء اللائي يدخلن الصورة أو المشهد. النساء اللائي يظهرن في
قصصي – كل هذا راجع إليهن. إنهن اللواتي – بقدرتهن وسحرهن – يجعلن كل شيء غير عادي.
(في هذه اللحظة من لقائنا، تحركت بيلار زوجة ساراماجو نحو الأريكة لتجلس إلى جانبه. مد ذراعه ليضعها حولها ، بينما أسندت رأسها إلى كتفه).
أجرت الحوار: كاترين فاز
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
بواسطة admin • 05-حوار العدد • 0 • الوسوم : العدد الثالث/الرابع والعشرون, جوزيه ساراماجو, كاترين فاز, محمد هاشم عبد السلام