من عادة أستاذ اللغة العربية أن يحثنا علي إعداد بعض الفروض المنزلية إلا أن فرض هذا الأسبوع كان استثنائياً ، يتعلق موضوعه بإعداد إنشاء تعبيري نتناول فيه مستقبل كل واحد منا وطموحه في الحياة .
لقد بدا لي الموضوع سهلاً .. وفي متناول الجميع يمكن أن يقال فيه الكثير الكثير ، بل سيمكننا جميعاً من حصد نقط ممتازة نتدارك فيها ما فاتنا في الفروض السابقة ، بهذا الانطباع المفرح ، خرجت من الفصل جد مسرور عند نهاية الحصة المسائية .
عدت إلي المنزل عاقداً العزم علي تحقيق مرادي ، لم أتريث قليلاً لحظة تعددت المسودات إلا وبدت لي غير متوازنة ومضطربة ، أشطب عليها أمزق الورقة بانفعال شديد ، أتخلي عنها . وأبدأ التفكير من جديد ، لا أعرف ما أقدم وما اؤخر ، أتساءل في حيرة من أمري : ما هو طموحي ؟ تري ماذا أطمح أن أكون في المستقبل ؟
في هذا الخضم من الحيرة والتوتر ، قلت في قرارة نفسي ، ليس من الضروري أن أكون صادقاً في اختياري واقوالي ، وفي مادة الإنشاء علي وجه التحديد ، ففي هذه المادة يجب أن نكون بارعين في الكذب ، وأن نطلق العنان للخيال لكن بعد تفكير طويل اقتعنت بأنه لا مجال للخيال هنا ما دام الأمر يتعلق بمصير مستقبلي ، ولا شك أن المعلم هو الآخر حازم في هذا الموضوع ويتوخي الصدق ، وكل عدول عن الخط ربما تترتب عنه نقطة غير مرضية .
توقف خيالي الآن وتجمد ،لا أعرف لماذا لا تسعفني العبارة ، شعرت بشئ داخلي يلجمني ويصدني عن النطق ، وترجمة مشاعري وخواطري ، وكأني غير واثق بما سأقوله وما ينتظرني ، كما أني لا استطيع تكهن شئ في واقع ملغوم يأتيك من
————–
(*) كاتب مغربي .
الأخبار بما لم تزود ، وبما لا يخطر علي بال بني البشر ، ولكن لنفترض أن اختياري وقع علي حدي متمنياتي ، فهل سيضمن لي هذا الاختيار معلومات إضافية تسمح لي بملأ صفحة كاملة من ورقتي المزدوجة مع تقديم تعليلات مقنعة تبرر سبب اختياري .
فكرت في جميع المهن التي أعرف عنها معلومات متواضعة ، وكلما وقع اختياري علي واحدة إلا ودفعني ترددي علي عدم قبولها ، لم أطق صبراً فقررت الاستعانية ببعض كتب الإنشاء النادرة التي تنقذني من ورطات شبيهة بهذه التي تستبد بي الآن .. ربما أنا الوحيد الذي ينفرد بهذه النسخة ، هكذا كنت أعتقد إلي أن جاء اليوم الذي تبدت فيه هذه القناعة وانكشفت أسراري ، وتلك واقعة يعرف الجميع نتائجها عثرت علي نسخة كتاب الإنشاء هاته بإحدي أسواق الجملة في حي المدينة القديمة .
قلبت صفحاته بسرعة إلي أن وقعت عيني علي مبتغاي وهدفي المنشود ، قرأت الإنشاء المطلوب بإمعان شديد فوجدته جميل الصياغة حسن السبك سهل المأخذ ، قلت في قرارة نفسي لماذا لا يقع الحافر علي الحافر ، وأتخلص بسرعة من هذه الورطة التي كلفتني ساعات كثيرة خصوصاً وأن النوم يغالب أجفاني .
فكرت أيضاً أن أقوم ببعض التعديلات الطفيفة مع عدم نسخ العرض بحرفيته لأكون في مأمن في حال توفر أحد التلاميذ علي نفس المرجع ونسخه هو الآخر له ، ثم لأبرهن لأستاذي في حال انكشاف الأمر بأنني اجتهدت قليلاً . ومن اجتهد واخطأ فله أجر ، ومن اجتهد وأصاب فله أجران ، في غمرة هذه الحيرة دخل خالي البيت ليستفسرني بهدوئه المعتاد أن صعب علي شئ أو تعذر فهم بعض الأسئلة أوهمني من خلال حديثه أنه سيساعدني ويقدم لي يد العون ، علي نص الموضوع ، تأمله كثيراً ، كما قرأ نص الموضوع الذي كنت أنوي نقله من كتاب الإنشاء المتضمن لحلول كثيرة من الموضوعات ، ثم قال لي مبتسماً : ( ما لي أراك مرتبكاً ، ومهموم البال ، هل صعب عليك اختيار أحد أهداف حياتك ؟ ” .
قلت له باندفاع وشجاعة ليس الأمر كذلك وإنما صعب علي الدفاع عن اختياري هذا .
فهب أنني أطمح أن أكون وزيراً أول ، أو شيئاً من هذا القبيل ، تري هل سيقبل المعلم ويقتنع بذلك ، قال لي خالي : ” ولماذا لا يقبل ؟ فنص الموضوع لا يقيدكم بإحدي الوظائف الممنوعة ، قال له : ” لماذا لا أنقل ما في الكتاب وأخلص نفسي من وجع الرأس “.
عندها أدرك خالي السر ، وأخذ مني الكتاب قائلاً : ويستحسن أن تعتمد علي نفسك فمن يطمح أن يكون وزيراً لا ينبغي أن يغش في مادة الإنشاء ، لأنها المادة الأساسية التي يختبره فيها البرلمانيون ” .
نزع مني الكتاب وتأبطه ثم خرج ، أما أنا فبقيت مثل الحبة المقطوعة الذنب أتقلب يميناً ويساراً ، تمنيت لو كنت أعرف طريقة أخري لا تكلفني جهداً ، وتمكنني بما فيه الكفاية من علي هذه الصفحات والارتخاء فوق السرير قليلاً ، وأنام مرتاح البال ، لكن في الوقت نفسه شعرت بإهانة كبري في حال عدم إتمام هذا التمرين السهل ، كنت أكتب ممططاً حروف الكلمات التي تملأ فضاء الورقة التي بدت لي مثل صحيفة كبيرة الحجم ، بالكادة أتمم الجملة أو أصيغ العبارة ، لا أكاد أجد ما أضيفه ، ومع ذلك لم أستسلم ، فكرت في أخذ قسط من الرحة كي استأنف من جديد في ظروف أحسن ، تمددت فوق السرير ، كنت أسمع صوت أخواني يلعبون ويمرحون بلا مبالاة ، أشعلت المذياع كي أتلافي ضجيجهم ، فجأة شد انتباهي صوت جوهري فصيح ، كان صوت الوزير وهو يقرأ تصريحاً حكومياً تابعته باهتمام زائد ، لم أفهم كثيراً من قضايا محتوياته ، ولكن مع ذلك أغراني بالاستماع وأيقظ حماس الكتابة علي التو أخذت القلم والورقة أصبحت كالسيل الزاحف ، أكتب باسترسال موضوع إنشائي غير عابئ بما سيقوله المعلم ، كتبت الإنشاء بإسهاب كبير كما قدمت تصريحاً مطولاً أظهر فيه ما أنوي القيام به ، وقبل أن أضع رأسي علي الوسادة قلت تري هل سيقبل المعلم بأن أكون وزيراً ؟
مايو 1 2015
اختيــار صعب ………………… جـواد الرامي
اختيــار صعب
——–
جـواد الرامي (*)
من عادة أستاذ اللغة العربية أن يحثنا علي إعداد بعض الفروض المنزلية إلا أن فرض هذا الأسبوع كان استثنائياً ، يتعلق موضوعه بإعداد إنشاء تعبيري نتناول فيه مستقبل كل واحد منا وطموحه في الحياة .
لقد بدا لي الموضوع سهلاً .. وفي متناول الجميع يمكن أن يقال فيه الكثير الكثير ، بل سيمكننا جميعاً من حصد نقط ممتازة نتدارك فيها ما فاتنا في الفروض السابقة ، بهذا الانطباع المفرح ، خرجت من الفصل جد مسرور عند نهاية الحصة المسائية .
عدت إلي المنزل عاقداً العزم علي تحقيق مرادي ، لم أتريث قليلاً لحظة تعددت المسودات إلا وبدت لي غير متوازنة ومضطربة ، أشطب عليها أمزق الورقة بانفعال شديد ، أتخلي عنها . وأبدأ التفكير من جديد ، لا أعرف ما أقدم وما اؤخر ، أتساءل في حيرة من أمري : ما هو طموحي ؟ تري ماذا أطمح أن أكون في المستقبل ؟
في هذا الخضم من الحيرة والتوتر ، قلت في قرارة نفسي ، ليس من الضروري أن أكون صادقاً في اختياري واقوالي ، وفي مادة الإنشاء علي وجه التحديد ، ففي هذه المادة يجب أن نكون بارعين في الكذب ، وأن نطلق العنان للخيال لكن بعد تفكير طويل اقتعنت بأنه لا مجال للخيال هنا ما دام الأمر يتعلق بمصير مستقبلي ، ولا شك أن المعلم هو الآخر حازم في هذا الموضوع ويتوخي الصدق ، وكل عدول عن الخط ربما تترتب عنه نقطة غير مرضية .
توقف خيالي الآن وتجمد ،لا أعرف لماذا لا تسعفني العبارة ، شعرت بشئ داخلي يلجمني ويصدني عن النطق ، وترجمة مشاعري وخواطري ، وكأني غير واثق بما سأقوله وما ينتظرني ، كما أني لا استطيع تكهن شئ في واقع ملغوم يأتيك من
————–
(*) كاتب مغربي .
الأخبار بما لم تزود ، وبما لا يخطر علي بال بني البشر ، ولكن لنفترض أن اختياري وقع علي حدي متمنياتي ، فهل سيضمن لي هذا الاختيار معلومات إضافية تسمح لي بملأ صفحة كاملة من ورقتي المزدوجة مع تقديم تعليلات مقنعة تبرر سبب اختياري .
فكرت في جميع المهن التي أعرف عنها معلومات متواضعة ، وكلما وقع اختياري علي واحدة إلا ودفعني ترددي علي عدم قبولها ، لم أطق صبراً فقررت الاستعانية ببعض كتب الإنشاء النادرة التي تنقذني من ورطات شبيهة بهذه التي تستبد بي الآن .. ربما أنا الوحيد الذي ينفرد بهذه النسخة ، هكذا كنت أعتقد إلي أن جاء اليوم الذي تبدت فيه هذه القناعة وانكشفت أسراري ، وتلك واقعة يعرف الجميع نتائجها عثرت علي نسخة كتاب الإنشاء هاته بإحدي أسواق الجملة في حي المدينة القديمة .
قلبت صفحاته بسرعة إلي أن وقعت عيني علي مبتغاي وهدفي المنشود ، قرأت الإنشاء المطلوب بإمعان شديد فوجدته جميل الصياغة حسن السبك سهل المأخذ ، قلت في قرارة نفسي لماذا لا يقع الحافر علي الحافر ، وأتخلص بسرعة من هذه الورطة التي كلفتني ساعات كثيرة خصوصاً وأن النوم يغالب أجفاني .
فكرت أيضاً أن أقوم ببعض التعديلات الطفيفة مع عدم نسخ العرض بحرفيته لأكون في مأمن في حال توفر أحد التلاميذ علي نفس المرجع ونسخه هو الآخر له ، ثم لأبرهن لأستاذي في حال انكشاف الأمر بأنني اجتهدت قليلاً . ومن اجتهد واخطأ فله أجر ، ومن اجتهد وأصاب فله أجران ، في غمرة هذه الحيرة دخل خالي البيت ليستفسرني بهدوئه المعتاد أن صعب علي شئ أو تعذر فهم بعض الأسئلة أوهمني من خلال حديثه أنه سيساعدني ويقدم لي يد العون ، علي نص الموضوع ، تأمله كثيراً ، كما قرأ نص الموضوع الذي كنت أنوي نقله من كتاب الإنشاء المتضمن لحلول كثيرة من الموضوعات ، ثم قال لي مبتسماً : ( ما لي أراك مرتبكاً ، ومهموم البال ، هل صعب عليك اختيار أحد أهداف حياتك ؟ ” .
قلت له باندفاع وشجاعة ليس الأمر كذلك وإنما صعب علي الدفاع عن اختياري هذا .
فهب أنني أطمح أن أكون وزيراً أول ، أو شيئاً من هذا القبيل ، تري هل سيقبل المعلم ويقتنع بذلك ، قال لي خالي : ” ولماذا لا يقبل ؟ فنص الموضوع لا يقيدكم بإحدي الوظائف الممنوعة ، قال له : ” لماذا لا أنقل ما في الكتاب وأخلص نفسي من وجع الرأس “.
عندها أدرك خالي السر ، وأخذ مني الكتاب قائلاً : ويستحسن أن تعتمد علي نفسك فمن يطمح أن يكون وزيراً لا ينبغي أن يغش في مادة الإنشاء ، لأنها المادة الأساسية التي يختبره فيها البرلمانيون ” .
نزع مني الكتاب وتأبطه ثم خرج ، أما أنا فبقيت مثل الحبة المقطوعة الذنب أتقلب يميناً ويساراً ، تمنيت لو كنت أعرف طريقة أخري لا تكلفني جهداً ، وتمكنني بما فيه الكفاية من علي هذه الصفحات والارتخاء فوق السرير قليلاً ، وأنام مرتاح البال ، لكن في الوقت نفسه شعرت بإهانة كبري في حال عدم إتمام هذا التمرين السهل ، كنت أكتب ممططاً حروف الكلمات التي تملأ فضاء الورقة التي بدت لي مثل صحيفة كبيرة الحجم ، بالكادة أتمم الجملة أو أصيغ العبارة ، لا أكاد أجد ما أضيفه ، ومع ذلك لم أستسلم ، فكرت في أخذ قسط من الرحة كي استأنف من جديد في ظروف أحسن ، تمددت فوق السرير ، كنت أسمع صوت أخواني يلعبون ويمرحون بلا مبالاة ، أشعلت المذياع كي أتلافي ضجيجهم ، فجأة شد انتباهي صوت جوهري فصيح ، كان صوت الوزير وهو يقرأ تصريحاً حكومياً تابعته باهتمام زائد ، لم أفهم كثيراً من قضايا محتوياته ، ولكن مع ذلك أغراني بالاستماع وأيقظ حماس الكتابة علي التو أخذت القلم والورقة أصبحت كالسيل الزاحف ، أكتب باسترسال موضوع إنشائي غير عابئ بما سيقوله المعلم ، كتبت الإنشاء بإسهاب كبير كما قدمت تصريحاً مطولاً أظهر فيه ما أنوي القيام به ، وقبل أن أضع رأسي علي الوسادة قلت تري هل سيقبل المعلم بأن أكون وزيراً ؟
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : العدد السادس عشر, جـواد الرامي