المكانة الاجتماعية للتعليم في روايات نجيب محفوظ ….. د. محسن خضر

المكانة الاجتماعية للتعليم في روايات نجيب محفوظ

ــــــ

د . محسن خضر*

مقدمة :

تعني المكانة الاجتماعية social status  الوضع الذي يشغله الشخص أو الأسرة أو الجماعة القرابية أو المؤسسة في النسق الاجتماعي بالنسبة للآخرين، وقد يحدد هذا الوضع الحقوق والواجبات وأنواع السلوك والآخرين بما في ذلك طبيعة ومدى العلاقة بأشخاص آخرين لهم مكانات مختلفة(1).

ويحاول هذا الفصل الكشف عن موقع المؤسسة التعليمية وقوة التعليم ذاته في المجتمع وبين المواطنين.

ومن الأمور المتفق عليها كون المؤسسة التعليمية نظاما فرعيا sub – system بين أنظمة فرعية وأخر بين المدرسة الوظيفية والمدرسة على أهمية المؤسسة التعليمة في المجتمع ، ففي الأولى يعد التعليم إحدى الأدوات التي تساعد في استمرار القيم واوارثها وذلك من خلال دورة في عملية التنشئة الاجتماعية، ويحدد بارسونز أن الوظائف الاجتماعية للمدرسة تتركز في تربية الأجيال الناشئة على القيم السائدة في المجتمع ، كما أن للتعليم قيمة ثقافية اجتماعية مما يؤدي إلى مجتمع الجداره ocaratic Merit ، إلا أن المدرسة المادية ترى في التعليم إحدى أدوات استمرار هيمنة الطبقة الرأسمالية . وأن التعليم أداة للتصنيف والارتقاء لإضفاء الشرعية على الأوضاع التي سبق تجديدها طبقيا، ومن ثم تعكس الأوضاع الطبقية نفسها على النظم التعليمية ونتائجها ، من ثم يساعد التعليم النظام الرأسمالي على تأكيد شرعية التفاوت الاجتماعي ويسهم في تعميق التفاوت الاقتصادي في المجتمع مما ينعكس على فرص الحراك الرأسي(2) .

وسوف تناقش هذه المداخلة المكانة الاجتماعية للمؤسسة التعليمية سواء المدرسة أو الجامعة ، وذلك من خلال مناقشة القوة الاجتماعية للتعليم ومدي تأثيرها الاجتماعي ، كما يناقش الأبعاد الاجتماعية المتصلة بمهنة التعليم وممارسيها ومدي قبولها التقدير الاجتماعي .

كما يناقش تطور أجيال الجامعيين الخريجين من الجامعة المصرية ومدي مسئوليتها عن أعداد المثقفين المصريين وذلك في النتاج الروائي المصري .

أولاً:- القوة الاجتماعية للتعليم والمعلمين :

ويطرح مفهوم القوة الاجتماعية للتعليم من وجهة نظر الباحث – أمرين الأول مفهوم التعليم ووظيفته وفلسفته عدد الجماهير والثاني الإمكانية التي يقدمها التعليم للأفراد للصعود في السلم الاجتماعي سعياً نحو مستوي معيشي أفضل .

وكما تشير وثيقة دولية مهمة إلي الحق في التعليم باعتباره ليس مجرد أداة من أدوات التنمية الاقتصادية بل هو حق من الحقوق الأساسية والتي تحيل البشر من كائنات واقعة تحت رحمة الأحداث إلي أشخاص إيجابيين يصنعون تاريخهم بأنفسهم بل إن الحق في التعليم أصبح يشكل أداة لا غني عنها لبقاء البشرية (3) .

ويعتقد بعض المفكرين أنه علي الرغم من الاتفاق المحتمل بين الصفرة بصورة عامة علي الأهداف المرتجاه من التعليم وطبيعتها فإنه يظل يوجه اختلاف يدور أساساً حول الأولويات لدي كل من صناع التعليم والمتعلمين ، إذ أن علي الرغم من أن الصفوة السياسية لديها أهداف تحاول أن تفرضها بالقوة علي النظام التعليمي إلا أن هذه السياسات ينبغي لها أن تنتقل من خلال الصفوة التعليمية والمعلمين والمحاضرين (4) .

وثمة اختلاف في المدارس الفكرية حول أغراض المدرسة ، فيما يذهب التقليديون إلي أن المدرسة يجب أن تؤكد التراث والمعلومات والقيم بلا نقد أي أن المدارس وجدت كما يقول Stasis لتعليم الصغار المعلومات الأساسية والقيم المحددة من قبل آخر ، وتتمثل صورتها في نقل المثل الاجتماعية إلي المتعلمين ، أما الردايكاليون فيرون أن المدرسة يجب أن توفر الحرية والإرشاد والنقد ورسالتها تقدمية تساعد الصغار علي النمو كأشخاص كاملين والمدرسة هي المكان المثالي لتزويد التلاميذ بالقدرة علي نقد العلل الاجتماعية وتزويدهم بالفاعلية لتحسين المجتمع (5) .

وتختلف أيضاً السياسات التربوية المطبقة وبالتالي مدي تطبيق ديمقراطية التعليم باختلاف الأيديولوجية السياسية فالليبراليون المحافظون يهملون في سياستهم التعليمية التعليم المهني ويركزون علي تنمية الشخصية ، أما البرجوازيون فيهتمون في سياستهم التعليمية بالبرامج المهنية والتعليم الفني ويعتبرون التعليم وسيلة لتحقيق الحراك الاجتماعي وفي حين يهتم الديمقراطيون بتوفير التعليم للجميع والتأكيد علي ديمقراطية التعليم والمساواة فيه ، فإن النظام البروليتاري يركز علي المساهمة والتشارك في جميع مراحل التعليم (6) ، ويشير حامد عمار إلي أهمية ، توظيف التعليم بمراحله المختلفة توظيفاً اجتماعياً واعياً يؤثر ويتأثر بقضايا التنمية وأن هذا التوظيف في أدواره المختلفة وعوائده المتعددة لابد أن يتلاءم في خطته مع إستراتيجية المجتمع التي يقررها لتحقيق التنمية كذلك فمن الضروري أيضاً أن تتطور السياسات والبني المجتمعية بما يتيح للتعليم العالي أن يحقق التوظيف الاجتماعي الأمثل سواء ارتبطت هذه السياسات بمجالات الاستخدام وسوق العمل والأجور أو بتشجيع البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية أو ارتبطت بإتاحة مزيد من ديمقراطية التعليم العالي في بيئته ومضمونه(7) أدي إتاحة الفرصة لأبناء الفقراء ومتوسطي الحال في دخول المدارس والجامعة والاستفادة من مجانية التعليم إلي فتح أبواب جديدة للتقدم والصعود الاجتماعي ، كان له أثره في إعادة رسم الخريطة الاجتماعية وبالتالي الطلب علي التعليم وخاصة التعليم الجامعي واستمرت هذه العلاقة التبادلية بين الجامعة والمجتمع في مصر حتي منتصف السبعينيات مما سمح لصعود أبناء الشعب في السلم الاجتماعي وبالتالي تنشيط عملية الحراك الاجتماعي وخاصة مع قيام القطاع العام وتبني خطط التنمية القومية وقبل أن ترتبك هذه العلاقة بعد سياسة الانفتاح الاقتصادي.

(1) تصور رواية “حضرة المحترم ” لنجيب محفوظ علاقة التعليم بالتدرج الوظيفي ومن ثم الحراك الاجتماعي وهي رواية عن دولة الموظفين في المجتمع المصري ، ويعبر عنوانها عن فئة الموظفين دون غيرهم ، كما أن أهميتها التربوية تتمثل في تصويرها – أيضاً – لعملية التعليم الذاتي والتعليم اللانظامي .

ولعل الرؤية النقدية تتوقف عند القيمة الأساسية في النص ، وهو شهوة الصعود المقدسة في النص ، وهو شهوة الصعود المقدسة أو قانون لا مارك ( البقاء للأصلح ) فالبطل عثمان بيومي يسحق تحت قدميه كل عقبة تحول دون بلوغه قمة السلم الوظيفي وهو يسلك كل غاية ممكنة من أجل تحقيق هدفه في سلوك نفعي واضح ويتقدم حاملاً شعلة برومثيوس المقدسة : تحقيق المجد ، وانتزاع النجاح وشاهراً سلاحه الأوحد ، إرادة مضاءة وعزيمة لا تعرف الكلل يسأله مديره ذات يوم :

– إذن فما الهدف من الحياة في نظرك ..

فأجاب باعتزاز :

– الطريق المقدس .

– وما هو الطريق المقدس ؟

– هو طريق المجد ، أو تحقيق الألأوهية علي الأرض فيتساءل حمزة بدهشة :

أتطمع حقاً إلي سيادة الدنيا ؟

– ليس ذلك بالدقة،ولكن من كل موضع يوجد مركزإلهي هذه هي الخلافة الإنسانية للإله علي الأرض ما أن يسير في الطريق المقدس ، طريق المجد والسيادة والتفوق”(8) .

يحصل عثمان بيومي علي البكالوريا التي وصل إليها بفضل المجانية إلا أنه لا يقنع بذلك ، كان والده حوذياً ألحقه بمدارس الأوقاف ليتعلم بالمجان ويحصل علي الإبتدائية فالثانوية متمتعاً بالمجانية ، قتل أخوه الأكبر – وكان شرطياً – في مظاهرة وماتت أخته بالتيفود ، ومات أخ ثالث له في السجن ، ثم لحقه الوالدان ومع أن بطلنا ينتمي إلي قاع المجتمع فإنه ملك إرادة جهنمية ، لا يلبث نجيب محفوظ أن يذكرنا بقيمته الأساسية بين الحين والحين ، وهو الطريق المقدس للبشرية مصداقاً لخلافة الألوهية ، وللإرادة الإنسانية قيمة عليا في ذاتها وكسبيل وحيد لعناق المجد ، وحيث تقرر المصادر بفضل الإرادات المتصارعة والقوي المجهولة ثم تتقدس في الأبدية ، لذلك فهو يؤمن نفسه بلا حدود .. لكي يصل إلي حلمه الأوحد وهو بلوغ مركز المدير العام ، يضع وثيقة المجد الخاص به أو (الوصايا الثماني)لبلوغ حلمه المقدس .

شعار للعمل والحياة :

1-   القيا بالواجب بدقة وأمانة.

2-   دراسة اللائحة المالية التي يشار إليها كأنها كتاب مقدس  .

3-   الدرس للحصول علي شهادة عليا ضمن الطلبة الذي يعملون من منازلهم .

4-   دراسة خاصة للغتين الإنجليزية والفرنسية بالإضافة إلي العربية .

5-   التزود بالثقافة العامة وبخاصة الثقافة المفيدة للموظف .

6-   الإعلان بكل وسيلة مهذبة عن تديني وخلقي في عملي .

7-   العمل علي كسب ثقة الرؤساء ومحبتهم .

8-  الاستفادة من الفرص المفيدة مع الاحتفاظ بالكرامة مثل مساعدة أدبية تقدم لذي شأن ، صداقة مفيدة ، زواج منفعة من شأنه تمهيد الطريق للتقدم (9) .

وتحليل خريطة التقدم السابقة يشير إلي أنها تعد من معايير أخلاقية ( البند الأول والثالث) وأمور تنظيمية مساعدة ( البنود الثاني والسابع والثامن ) وأدوار تعليمة (الثالث والرابع والخامس ) ومن هذه البنود التعليمية ما هو تعليم نظامي ( الدراسة الجامعية للحصول علي شهادة عليا بطريق الانتساب ، ودراسة لغات أجنبية ، والتثقيف الواسع)

وعثمان بيومي يبصر طريق الترقي المتاح أمام أبناء الشعب للوصول إلي وضع اجتماعي أفضل ومن خلال تدرج وظيفي رأسي يعززه التعليم – ولاسيما التعليم الجامعي – هو طريق الوظيفة الحكومية وهو مصعد مضمون وخاصة إذا عززته بعض الاستثناءات ، هناك طريقة سعيدة تبدأ من الدرجة الثامنة وتنتهي متألقة عند صاحب السعادة المدير العام ، هذا هو المثل الأعلي المتاح لأبناء الشعب ولا مطمع لهم وراء ذلك ، تلك هي سدرة المنتهي حيث تتجلي الرحمة الآلهية والكبرياء البشري ، ثامنه أولي ، مدير عام ، معجزاتها تتحقق في اثنين وثلاثين عاماً وربما أكثر من ذلك (10)

وهو يتصف بانتهازية عظيمة تجعله يستفيد من كل رئيس أقصي استفادة ممكنة تساعده علي تحقيق مخططه بدقة ، فعندما يلجأ إليه رئيسه السابق للاستانة منه تذكر له، كما أن النساء اللائي عرفهن في حياته حاول أن يستفيد منهن بلا مقابل وأنيسة وسيدة ، وهو لا يريد الاقتران إلا بزيجة تكون مصعداً لتحقيق خططه ويؤمن عثمان بيومي بالتعليم المستمر : حيث ينكب علي الثقافة الحرة متمثلة في الأدب والقراءة باللغات الأجنبية والترجمة وتأريخ سير العظماء ، ولكن ليس بقصد تنميته الثقافية وإنما نفعي يتمثل في مساعدته في عمله ومعاونة رؤساء ولفت الانظار إلي ثقافته مما يعينه علي الترقي .

وبالفعل أهله إتقانه للترجمة للترقية من الدرجة السابعة إلي الدرجة السادسة وليصبح مرجعاً ومترجماً معاً  .

نحن أمام انتهازي عظيم قابلناه قبل ذلك في شخصيات نجيب محفوظ كمحجوب عبدالدايم في القاهرة الجديدة ،  وحسنين في ” بداية ونهاية ” وسرحان البحيري في ميرامار وغيره (11) .

تتردد في الرواية فكرة نجيب محفوظ الأساسية : الحياة للأقوي ، وخلافة الإنسان للإله تتحقق من خلال هذه القوة ، وبلوغ المجد المنشود وإنما نزعة نيتشاوية قديمة تمجد الإنسان القوي السويرمان ونهزأ بالضعيف ، وإنه يؤمن بأن الله خلق للإنسان القوة والمجد ، والحياة قوة والمحافظة عليها قوة ، والاستمرار فيها قوة ، فردوس الله لا يبلغ إلا بالقوة والنضال (12)  ، ويضع المؤلف مثلنا لحياة بطله مكوناً من العمل والثقافة والإدخار ، إن بطله في سباق حاد مع الزمن من أجل تحقيق الطموح المجنون ، تغذية الشعلة المقدسة , ونلمح نزعة وجودية في الرواية فالآخرون هم الجحيم كما يقول سارتر ولكن الجحيم مصدره هذا ليس اختزال الحرية بل باعتبارهم عقبات تحول دون المنصب ، وهذا يكفي لاعتبارهم أعداء .

الأعداء كثيرون يختفون وراء الابتسامات الخلابة والكلمات المعسولة ، وفي طريقه يوجد وكيل إدارة ثالثة ووكيل آخر ثانية ، ومدير إدارة أولي جميعهم أصدقاء أعداء كما تقتضي به إرادة الحياة الطاهرة القاسية (13) .

وفي مثل هذا العالم ، لا يوجد مكان لقيم الحب والصداقة والزواج والواجب الإنساني والجنس لأها قوة معطلة عن بلوغ نهاية المضمار وهو أن يسمح لقوة أن تقتله إلا الموت نفسه باعتباره سراً من أسرار الله مثل مجده الملهم ، بل إنه لا يتورع عن الزواج ببغي عاشرها سنوات طويلة بعد فشله في التوصل إلي زيجة مناسبة تدفعه لأعلي وشجعه علي ذلك الخمسمائة جنيهاً التي أدخرتها من بغائها الطويل ونلاحظ أن علاقته النسائية تنازعها باستمرار اللبدو الفرويدي ، الموت والجنس ، المتعة والقوة مقابل الزمن الوحشي .

ويورد نجيب محفوظ فقرة عن الوظيفة في مصر (14) ، نشعر أنه يريد أن يهتف بها منذ بداية الرواية ، فالرواية عن عالم الوظيفة الحكومية ودور التعليم في الوظيفة وتدرج هذا التابو المقدس في الثقافة المصرية ،والعوامل الاجتماعية التي تحكم التدرج فيه وخاصة الوساطات والظهير الاجتماعي والتعليم فالبطل رغم همته العالية وانطلاقه الجموح يفاجأ مرتين بتخطيه في الترقية لصالح شخص آخر أقل كفاءة ولكنه يمت بصلة قرابة لمسؤول .

يقول نجيب محفوظ علي لسان عثمان بيومي حول ، دولة الموظفين في مصر : وقال لنفسه أيضاً أن الموظف مضمون غامض لم يفهم علي وجهه الصحيح بعد في تاريخ الحضارة ، أن يكون المثل الأعلي في البلدان الأخري محارباً أو سياسياً أو تاجراً أو رجل صناعة أو بحاراً فهو في مصر الموظف إن أول تعاليم أخلاقية حفظها التاريخ كانت وحماية من أب موظف متقاعد إلي ابن موظف ناشئ ، وفرعون نفسه لم يكن إلا موظفاً معيناً من قبل الآلهة من السماء وليحكم الوادي من خلال طقوس دينية وتعاليم إدارية ومالية وتنظيمية ووادينا وادي فلاحين طيبة يحنون اتهامات نحو أرض طيبة ولكن رؤوسهم ترتفع لدي انتظامهم في سلك الوظائف ، حينذاك يتطلعون إلي فوق إلي سلم الدرجات المتصاعد حتي أعتاب الإله في السماء ، الوظيفة  خدمة وحق الكفاءة وواجب للضمير الحي وكبرياء الذات البشرية وعبادة الله خالق الكفاءة والضمير والكبرياء (15) .

بل إن بطله يقرر صراحة أن الدولة هي معبد الله علي الأرض بقدر اجتهادنا فيها تقرر مكاننا في الدنيا والآخرة . وتتكافؤ الفرص في الترقي مفتقد إلي حد ما فلا يعاير بالتمييز العلمي متمثلاً في الشهادة الجامعية أو الاجتهاد في العمل أو كليهما كما يفترض نبل يحدث الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص حيث ينعكس التمايز الطبقي علي الحراك المهني معتمداً علي الواسطة والمحسوبية .

وتتعارض هذه الظاهرة مع نتائج الدراسات المنتمية للنظرة الوظيفية التي تري أن التعليم يقدم فرصاً متساوية للأفراد في المجتمع مما يؤدي إلي خلق مجتمع الجدارة Meritocratic Societry وهو المجتمع الي يحقق فيه الأفراد من ذوي المؤهلات والخبرة المراكز ذات المكانة في العالم بقدراتهم وجهودهم وليس بسبب امتيازات موروثة وفقاً لمعايير الأسرة أو النسب العائلي ومن خلال التكافؤ داخل المدرسة تتحول آليات المكانة من الأسرة إلي المدرسة وتتزايد إمكانيات تحقق حراك اجتماعي عن طريق تراجع المكانة الموروثة ، والحصول علي مكانة مكتسبة جديدة (16)  .

ورئيسه في العمل بصراحة عندما لم يرشح لوظيفة مدير الإدارة بعد خلوها من استحقاقه المهني له ، وباعتباره وكيلاً للإدارة : لا تراعي الشهادة والكفاءة وحدها عند الاختبار لها ، ولكنه يضاف إليها المكانة الاجتماعية .

فيجيبه غاضباً : ذلك كلام يصدق علي الوكيل أو الوزير أما مدير الإدارة المدير العام فلا يحرم منها أبناء الشعب بذلك جري العرف منذ أن جلا عنها الموظفون البريطانيون(17) .

وتجئ صرخة بطلنا إدانة للتمايز الطبقي في المجتمع ، والإخلال بمبدأ تكافؤ الفرص في سوق العمل من خلال تحييد عوامل الكفاءة والارتكاز إلي مقاييس أخري . أعرف ما يقال ولا أنكره الوساطة القرابة .. الحرفية .. كل أولئك وما أشنع ولكن الكفاءة قيمة لا يمكن تجاهلها كذلك ، حتي أصحاب المراكز من غير ذوي الكفاءة يجدون أنفسهم في حاجة إلي من يغطي عجزهم من الأكفاء الحقيقيين (18) .

وهو ما يشير إلي إخلال تحقيق العدالة المهنية مرتبطة باختلال تحقيقها في المجتمع الكبير  ، ويؤكد المؤلف عقم الحل الفردي ، كما أكده من قبل في ” زقاق المدق” وبداية ونهاية والقاهرة الجديدة بعيد عن الخلاص الجماعي فبطله يعجز عن الإنجاب وحلمه المقدس في تبوء منصب المدير العام يتلاشي بسبب عجزه الصحي ، وهكذا سقطت أحلامه بسقوط منطق أفكاره ، لأنه توصل إلي حقيقة طريق الخلاص ، وهو الخلاص الجماعي بعد فوات الآوان ، حيث يسمع أحاديث زملائه تشير إلي هذا الطريق الآخر الذي لم يعرفه وما يدري إلا وهم يتكلمون في السياسة حكت أذنيه مرة أخري الصراعات المضطربة برموزها الرنانة : الحرية … الديمقراطية .. الشعب .. الجماهير الكادحة .. المذاهب الثورية .. التنبؤات الراسخة عن ثورات الفذ .. وقال لنفسه إن الفرد ينوء بآماله أفلا يكفيه ذلك ، ولكنهم يؤمنون بأن آمال الفرد رهينة بأحلامهم الثورية .. حسن أي ثورة تضمن له الشفاء وإنجاب الذرية وتحقيق كلمة الله في الدولة المقدسة (19) .

(2) أما في يوم قتل الزعيم (20) لنجيب محفوظ فنحن أمام وضع مختلف ملكية الدولة لوسائل الإنتاج الأساسية وتطويرها وتحديثها والقضاء علي الاستغلال الجماعي والتباين الطبقي ، والعمل علي توفير الحاجات الأساسية للجماهير ، وسوف يؤدي هذا كله إلي نشر التعليم وإلي زيادة نصيب الطبقات العاملة والفقيرة منه (21) .

ويؤكد البعض الآخر بشدة علي المعني السابق بحيث أن العمل في ظل واقع اختلال تكافؤ الفرص التعليمية لا يمكن الفئة غير المميزة اجتماعياً من أن تصل إلي القدرات العقلية والمعرفية الابتكارية والتي وصلت إليها الفئات المميزة اجتماعيا ، ومن ثم تبرز الحاجة لإصرار المدرسة علي موقفها من تغيير المناهج والوسائل التعليمية والعاملي بها من مدرسين وإداريين بصورة تمكنهم من مواجهة المسؤولية (22) .

قدمت روايات نجيب محفوظ في مرحلة الواقعية النقدية ترجمة أمينة لانعكاس الظلم الاجتماعي وغياب العدل الاجتماعي علي ما تصل إليه الطبقات الفقيرة من فرص التعليم ولا تخلو روايات هذه المرحلة من معالجة مباشرة وغير مباشرة لهذه القضية وما يتصل بها من عناصر وذلك في الفترة الممتدةمن العشرينيات وحتي نهاية الأربعينيات .

1- وفي رواية القاهرة الجديدة ، لنجيب محفوظ (23) ، يلقي الظلم الاجتماعي – من خلال معاناة الطبقات الكادحة في حياتها – بظلاله القائمة علي تعليم أبناء الفقراء ، وبينها ينتسب أبطالها إلي مدرسة الحقوق العليا ، إلا أنهم يختلفون في قدرتهم علي تأمين نفقات الدراسة وتمثل شخصية محجوب عبدالدائم نمطاً فريداً بينهم ، فهو الابن الأوحد لأبوين طيبين جاهلين ، يعمل الأب كاتباً بشركة يونانية مما يمكنه من الإنفاق علي تعليم ابنه بالجامعة بالكاد إلا أن مرضه المفاجئ الذي أصابه بالشلل يهدد حياة الابن الذي كان يستعد للتخرج من كلية الحقوق في عامه الأخير ، ويكشف مرض والد محجوب وما يترتب عليه من تهديده لمستقبل الابن – لعجزه عن تأمين مصروفات الدراسة – عن مدي تأثر تكافؤ الفرص التعليمية بين الطلاب بالأوضاع الطبيقة في المجتمع ، وإلي أي حد يعكس المستوي الاقتصادي الاجتماعي لآباء الطلاب قدرة متفاوتة علي استمرار التنافس العلمي والاستمرار فيه .

يخاطبه أبوه من فوق فراش مرضه ” أصغ إلي يا بني ” لن أعود إلي عملي بالشركة هذه هي الحقيقة فماذا نري ، فإزداد صدر محجوب انقباضاً ، ولزم الصمت في انتظار النطق بالحكم فاستدرك الرجل.

– ربما منحتني الشركة مكافأة صغيرة ستفقد لا ريب بل مضي أشهر قلائل ، بل المؤكد أنه لن يبقي منها شئ بعد ثلاثة أو أربعة أشهر علي الأكثر ولكن لن أعدم نصيراُ يجدلك وظيفة تنهض بنا مجميعاً فقال محجوب بتوسل ، وقد نطقت عيناه بالأمل والقنوط :

– الامتحان يا أبي علي الأبواب ، نحن في يناير وهو في مايو ، أما إذا وظفت الآن فساعد كحامل البكالوريا  ، وفي ذلك ضياع لمستقبلي عظيم فقال الأب بحزن :

– أعلم ذلك ولكن ما الحيلة ؟ أخاف أن نتعرض للفضيحة أو نهلك جوعاً .

فقال الشاب بتوسل حار ، وبصوت ملئ حماساً وقوة .

– أربعة أشهر ، أربعة أشهر فقط بيني وبين ثمرة كد خمسة عشر عاماً .. أمهلني قليلاً يا أبي ، ستكفينا المكافأة ، حتي أنهض علي قدمي ، أن نجوع ، ولن نتعرض للفضيحة بإذن الله ..

– وماذا يكون من أمرنا إذا أخطأ تقديرك ، إذا خاب سعيك لا قدر الله ، إن حياتنا بيديك فقال محجوب وهو يعض بنواجذه علي أهداب الامل ، أنت لا تدري يا أبي كيف سيكون اجتهادي ، لن يحول بينى وبين النجاح حائل ثم يسأله أبوه :

– تستطيع أن تعيش بجنيه واحد في الشهر ؟ جنيه واحد ! وما يساوي إيجار حجرة بدار الطلبة ؟ رباه الأمس ضاقت به الدنيا ونفقته بثلاثة جنيهات ، فماذا هو صانع غدا بجنيه واحد  ؟

* ولم يمهله خياراً حقاً ، كلا ، إن أباه مكره ، وما عليه إلا الإذعان والتسليم ، قال :

– لتكن مشيئتك (24) .

وهكذا يضطر محجوب أن يحيا حياة متقشفة بجنيه في الشهر ، يدفع سكناً منها أربعين قرشا، ثم يتبقي له ستون قرشاً معدل قرشين في اليوم للغذاء والغاز والغسل والحلاقة ، وتبلغ أزمته أشدها حتي تطالبه الكلية باقتناء كتاب اللاتيني فيسقط من عياه ، ولم يجد من ثمنه وهو خمسة وعشرون قرشاً مليماً واحداً  ، ومضي يتسول ثمن الكتاب من معارفه وزملائه حتي اقتناه بعد أن زادته هذه التجربة حنقاً ، كانت أحلامه لا توقفها السماوات وزادها الجوع ، ذلك الجوع الذي جعل من دراسته كفاحاً مريراً ومن لياليه عذاباً أليماً وكتاب اللاتيني تباً له كيف يحصل علي النقود (25) .

نحن أمام شخصية دمرها الفقر منذ البداية ، ومع أنه ظل يواصل تعليمه بمشقة وتخرج من الجامعة إلا أن فترة الحرمان والفقر زادته نقمة علي المجتمع ، وحيث يلعب الاختلال الاجتماعي دوره في المزيد من تشويه شخصيته فيصرخ في محنته أثناء محاولة تدبير ثمن كتاب اللاتيني ، سيدفع العلم ثمن هذه الآلم وبعد التخرج يفشل محجوب عبدالدايم في العثور علي وظيفة ، ويصف بطالة أمثاله من المتعلمين – وهي ظاهرة كانت شديدة الوطأة في المجتمع المصري بغير شفاعة أرخص من ورق اللعب مشيراً إلي قصر الوظائف علي أبناء ومعارف الكبار والأغنياء ، بل تدفعه السخرية لنشر إعلان في الجريدة نصه ، شاب في الرابعة والعشرين ليسانسيه ، طوع أمر كل رذيلة ، عن طيب  خاطر يبذل كرامته وعفته وضميره نظير إشباع طموحه (26) فقد سحقه الظلم الاجتماعى ، وتكلفة التعليم الجماعى ، وعجزه عن مجاراتها حتى سقط قبل أن يسقط بالفعل . وبينما ينجح زملاؤه فى تدبير أمورهم بسبب تفوقهم العلمى اتصالاتهم الحزبية يعجز محجوب عن إيجاد وظيفة ، هذا المستوى إخلال آخر لمبدأ تكافؤ الفرص التعليمية ، وهو المساواة فى النتائج outcomes ، فمحجوب كاد ينقطع عن دراسته لعجز والده الصحى ، وحيث يلعب الفقر دورا حاسما فى تحديد الفرص التعليمية أثناء الدراسة ، وحيث يتسرب أبناء الفقراء من المدرسة أو الجامعة بسبب عجزهم عن مجاراة نفقاتها من ناحية ، ولكون الفقر والحاجة تشكل عاملا ضاغطا يعمل على طرد هؤلاء من المؤسسة التعليمية للمساهمة فى نفقات الأسرة . ويواجه محجوب مأساته بمفرده ، فلا سند له ولا واسطة ، ويقف مواجها شبح البطالة محجوب عبدالدايم وحده أدركه الجزع ، أما شغله الشاغل فهو إتقاء الموت جوعا أو هى وظيفة توفر له الرغيف ، وإذا أخفق فى الحصول على وظيفة ، فالجوع لن يتهدده وحده هذه المرة ، ولكن يتهدد والديه معه ، وهو لا يشفق عليهما بقدر ما يشفق من مضايقتهما له ، فما العمل ؟. كان فى الحقيقة بلامعين ، والحكومة لا يدخلها أحد بلا معين (27) .

ويسمع من موظف المستخدمين فى مكتبة الجامعة التى سعى للعمل بها ما يؤكد طبقية

المجتمــع :

” اسمع يابنى ! تناس مؤهلاتك ولا تضع ثمن طلب الاستخدام ، المسألة لا تعدو كلمة واحدة ولا كلمة غيرها : هل لديك شفيع ؟ أأنت قريب أحد ما بيدهم الأمر؟ ” .

وتزداد الضغوط على محجوب ، إن غياب العدالة الاجتماعية فى المجتمع تمتد بآثارها من مجرد القدرة على الاستمرار فى الدراسة الى حق الطبقة الفقيرة فى ولوج المصعد الاجتماعى نحو مستوى معيشى أفضل عن طريق التعليم وبالأخص الجامعى ولا يجد محجوب فى النهاية – مع تكوينه الخلقى المشوه بطبيعته – الا أن يتزوج عشيقه وكيل الوزارة ويوافق على استمرار العلاقة المحرمة بين زوجته والوكيل ( الذى يصبح وزيرا فيما بعد ) مقابل أن يمنح الوطيفة المنشودة فى وزارة المعارف .

ولاتنسينا إدانة شخصية محجوب المنحلة والانتهازية مسؤولية المجتمع عن مأساته أيضا ، الفساد يرتع فى كل مكان ، والتمايز الطبقى يطرد أبناء الفقراء من المنافسة سواء فى التعليم أو سوق العمل .

يصف محجوب مجتمع التلاثينيات فى مصر : الحكومة أى الأغنياء أو الأسر والحكومة أسرة واحدة . الوزراء يعينون الوكلاء من الأقارب والوكلاء يختارون المديرين من الأقارب المديرون ينتخبون الرؤساء من الأقارب ، والأقارب ، حتى الخدم يختاون من خدم البيوت الكبيرة فالحكومة أسرة واحدة ، أوطبقة واحدة متعددة الأسر وهى حقيقة بأن تضحى بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها والبرلمان “؟ قال محجوب مبتسما بخبث : النائب الذى ينفق مئات الجنيهات قبل أن ينتخب لا يمكن أن يمثل الشعب الفقير والبرلمان في ذلك شأنه شأن المؤسسات الأخري (28) .

وحري بنا أن نتوقف لنفسر مسؤولية الأوضاع الاجتماعية عن نسف مبدأ تكافؤ الفرص عامة والتعليمية خاصة ، فمحجوب مثل آلاف المصريين في ذلك الوقت الذين تراضوا فوق مقاعد البطالة بحثاً عن فرصة عمل ، فقد استأثر خريجو المدارس الأجنبية بالفرص الأفضل في سوق العمل الخاص مما جعل الفرصة أمام أبناء الشعب تضيق وتقتصر علي الوظيفة الحكومية وبالتالي علي شيوع ظاهرة البطالة بين المتعلمين ، ففي دراسة عن دور التعليم عن إزدياد ظاهرة البطالة في الثلاثينيات في مصر قام بها أحمد الكدواني وإسماعيل الباني ومحمد عبدالواحد خلاف بينت الطبقات الاجتماعية المختلفة ويذهب يونخ إلي أن معيار نجاح المنهج التربوي وطرق الصنايع 1500 خريجاً ، ومن متخرجي مدارس الزراعة المتوسطة نحو 300 ومن متخرجي مدرسة المعلمين العليا الأدبية 400 خريجاً ، ومن متخرجي دار العلوم 250 خريجاً ، ومن متخرجي الطب البيطري 60 خريجاً تقريباً في نفس المدة من متخرجي الطب والحقوق والهندسة والأزهر الألوف وعشرات الألوف من أتموا الثانوية والابتدائية (31) تؤكد عديد من الدراسات علي تفاوت الفرص التعليمية بين أن عدد العاطلين من معلمي المدارس الأولية بلغ 2400 مدرساً ومن متخرجي مدرسة التدريس والتقويم واتساع المعرفة والمعلومات في المدرسة تعد متغيرات تابعة لمتغير آخر مستقل هو توزيع النجاح والفشل في المميزات الاجتماعية لنجاح وفشل المجموعات المختلفة في المجتمع(30) .

ويبين كومز استناداً إلي نتائج عدة دراسات إفريقية أن الأطفال الذين يشغل آباؤهم قاع التدرج الاجتماعي الاقتصادي لا يميلون إلي اللجوء أو الحصول علي فرصة الالتحاق بالإمكانيات التعليمية المتاحة بالدرجة التي يمثلها أطفال الأسر التي تحتل مكانة القمة أو المكانة الوسطي في هذا التدرج ، ومن الناحية النفسية فبعض هؤلاء قد تحيطهم اتجاهات تنتقص من تقدير الذات (21) .

2- إما رواية ” بداية ونهاية ” (32)  ، لنجيب محفوظ أيضاً فهي أكثر رواياته بعد الثلاثية تمثيلاً لفئة ومذهبه الأدبي  ، وقدرته علي تصوير قطاع صغير من المجتمع ينتمي إلي الطبقة المتوسطة الصغري ، وهي أزمة هذه الطبقة وبالتالي أزمة المجتمع الذي يحكمه نظام اقتصادي واجتماعي رأسمالي شبه إقطاعي يؤثر في السلوك الإنساني للشخصيات ويقف وراء هزيمة أبطاله واستسلامهم لمصائرهم الأليمة .

وتصور الرواية حياة أسرة مات عائلها الفقير فعاشت حياة الضنك والتقشف وانحرف الابن الأكبر واضطر الابن الاوسط للتوقف عن التعليم كي يحصل علي وظيفة ليعول أسرته ، أما الابن الأصغر والانتهازي فينجح في إكمال تعليمه والالتحاق بالكلية الحربية ليتخرج ضابطاً وذلك بفضل مساعدة أخيه تاجر المخدرات وأخته التي اضطرت لامتهان الخياطة لتساعد في الإنفاق علي أسرتها .

ولأن هذه الشخصيات تحمل بذور فنائها الاجتماعي داخلها ، ففي لحظات ينهار كل شئ يسقط الابن المهرب في قبضة الشرطة وتضبط ” نفيسة ” الابنة في شقة دعارة مما يجبر أخاها – الأصغر – حسنين الضابط علي دفعها للانتحار عقاباً لها ، لم يشعر هو الآخر بالهوان والهزيمة وتأنيب الضمير فينتحر وراءها .

إن حسنين يخاطب نفسه في ختام الرواية : ” قضي علي ” كنا جميعاً فريسة للشقاء فما كان ينبغي لأحدنا أن يعين الشقاء علي أخيه ماذا فعلت ؟ إنه اليأس الذي فعل، ولكني قضيت عليها بالعقاب الصارم ، أي حين انحزت لنفسي أحقاً أني الثائر لشرف أسرتنا ؟ إني شر الأسرة جميعاً حقيقة يعرفها الجميع ، وإذا كانت الدنيا قبيحة ، فإن نفسي أقبح منها ، ما حوت في نفسي إلا تمنيات الدمار لمن حولي فكيف أبحث لنفس أن أكون قاضياً وأنا رأس المجرمين لقد قضي علي ، طالما أحببت أن أمحو الماضي ، ولكن الماضي التهم الحاضر ، ولم يكن الماضي المخيف إلا نفسي ، لماذا أواصل الحياة بهذه الأعباء ؟ لا أستطيع ، كان ينبغي أن أحب الحياة إلي النهاية ، ومهما يكن من أمر  ، ولكن في طبيعتنا خطأ جوهري لا أدريه (33) .

ولكن المؤلف سرعان ما يضع أيدينا علي هذا الخطأ الجوهري الكامن في المجتمع الكبير ، فالارتباط وثيق بين ظاهرة الطبقية وسوء توزيع الدخل القومي والذي تستأثر به أقلية علي حساب الأغلبية وتنعكس هذه العلاقة علي التعليم وحظوظ أبناء الفقراء منه .

يهتف حسين ” يا للعجب إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة ، ومع هذا يقال عنا إننا شعب راض هذا لعمرري منتهي البؤس ، أجل غاية البؤس أن تكون يائساً وراضياً هو الموت نفسه ، أولاً الفقر لواصلت تعليمي هل في ذلك شك ؟ الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية .

لست حاقداً ولكني حزين علي نفسي وعلي الملايين ، لست فرداً ولكننا أمة مظلومة (34) ، أن هذه العلاقة التي يسميها بيبر بردوو وباتسيرون إعادة الإنتاج أي أن المجتمع يعيد إنتاج علاقاته الطبقية السائدة من خلال التعليم ، ويتفق وعي المؤلف بهذه العلاقة مع نتائج الكثير من الدراسات حول حظوظ الفقراء من التعليم ، فالنسبة الأكبر من الطلبة الذين ينتمون لآباء من غير العمال يشكلون 48% من أماكن التعليم العالي مقابل 32 % من الأماكن يدخلها أبناء العمل و 16 % لأبناء الفلاحين ، وفي الاتحاد السوفيتي في سفردلوك يكمل أبناء الطبقات غير العاملة في المعهد الطبي والمعهد البولتكنيكي أما الطلاب المنتمون لمستوي اقتصادي اجتماعي أقل فيلتحقون بكليات الزراعة ومؤسسة التعدين ، وفي حين يدرس أبناء غير العمال نهاراً يدرس أبناء العمال ليلاً (3) .

الهوامش :

1-  مجموعة مؤلفين : المرجع في مصطلحات العلوم الاجتماعية ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية 1987 ، ص 440 .

2-  راجع هذه المناقشات في : سعد الدين ابراهيم (محرر) : مستقبل النظام العالمي وتجارب تطوير التعليم  مرجع سابق (الباب الأول) .

3-    اليونسكو : إعلان المؤشر الدولي الرابع التعليمي للكبار ، باريس ، مارس 1985 .

4-      Young Michael : Knowledge and Control Colt r Macmillan ,London . 1971 .

5-      Frank O Basay & K ack L. Nalson , th foundations of Education , tasis and : hange Radon House , New York , 1988 , 023 .

6-      Young , Michael : PO.cit , P.29

حامد عمار ،في بناء الإنسان العربي ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية ، 1989 ، ص 313 .

7-    نجيب محفوظ : حضرة المحترم ، مكتبة مصر ، القاهرة ، 1975 .

8-    الرواية ، ص 14 ، 15 .

9-    الرواية ، ص 10 .

10-       يروي رشيد العالي أن عثمن بيومي هو بمعني بعث جديد لسعيد مهران في ( اللص والكلاب ) ولكنه يحث بدل علي أنه لم يتعلم شيئاً من حياته السابقة ، فكلاهما يختار طريق الخلاص الفردي ، أما سعيد مهران فإنه يأخذ علي عاتقه المفرد الانتقام من نظام فاسد ، في حين أن عثمان بيومي في حضرة المحترم يختار أن يتجاهل الفهم الكامل في أساس النظام الاجتماعي ويحاول أن يستفيد في شخصياته عن طريق التعاون مع ممثليه ويتضح موقف محفوظ الأخلاقي من هذين النمطين العنف الفردي ، من ناحية الانعزال التام ، من ناحية أخري في فشل كليهما في تحقيق أغراضه فينهايتها النعمة .

رشيد العالي : عالم نجيب محفوظ من خلال رواية ، ص 38 .

11-                 الرواية ، ص 78  .

12-                 الرواية ، ص 100 .

13-       يلاحظ اندريه ميكيل أن شخصية الموظف أكثر الشخصيات وروداً عند نجيب محفوظ يليها شخصية التاجر ، فالمومس ، وأخيراً شخصية الطالي التي تأتي في قمة الشخصيات الرئيسية عنده .

اندريه هيكيل : الفن الروائي عند نجيب محفوظ ، مرجع سابق ، ص 101 .

14-                 الرواية ، ص 144 – 145 .

15-       سعد الدين إبراهيم (آخرون) مستقبل النظام العالمي وتجارب تطوير التعليم ، منتدي الفكر العربي ( مشروع مستقبل التعليم في الوطن العربي )، عمان 1989 ، ص 42 ، 44 .

16-                 الرواية ، ص 165 .

17-                 الرواية ، ص 165 .

18-                 الرواية ، ص 76 .

19-                 الرواية ، ص 201 – 202.

20-                 نجيب محفوظ : يوم قتل الزعيم ، مكتبة مصر ، 10 ، 1985 .

21-       محمد نبيل نوفل : دراسات في الفكر التربوي المعاصر ، مكتبة الأنجلو ( وإن كان الباحث قد تراجع عن بعض من هذه الآراء ، وإنجاز نظرة فنية تؤمن بتضييق فرص التعلمي لعل مشكلة بطالة المتعلمين في تأملات حول العمالة والتعليم في العالم العربي ، مجلة دراسات تربوية ، جزء (29) ، رابطة التربية الحديثة ، القاهرة ، 1990 .

22-  Tescon , Charls A. & Hurwitz Emannel : Education for wphm., Po.cit., 94 .

23-       نجيب محفوظ : القاهرة الجديدة ، مكتبة مصر ، القاهرة ، 1984
( صدرت الطبعة الأولي 1946 ) .

24-                 الرواية ، ص 38 – 40 .

25-                 الرواية ، ص 80 .

26-                 الرواية ، ص 81 .

27-                 الرواية ، ص 45 .

28-       سعد مرمي أحمد وسعيد إسماعيل علي : تاريخ التربية والتعليم ، عالم الكتاب ، القاهرة ، 1983 ، ص 466 .

29-  Young MICHAEL : Knowledge and control , op .cit., p. 25

30-       فيليب  كومز : أزمة العالم في التعليم من منظور الثمانينيات ، ترجمة محمد خيري حربي وآخرون ، دار المرخ للنشر ، الرياض ، 1987 ، ص 299 .

31-       نجيب محفوظ : بداية ونهاية ، مكتبة مصر ، ط4 ، القاهرة ، 1961، صدرت الطبعة الأولي ، 1948 ، انظر ربط التعليم بالفقر في هذه الرواية في: ( سعيد إسماعيل علي : الجوع والتعليم في روايات نجيب محفوظ ، مجلة الهلال القاهرة ، ديسمبر 1985 ) ، وبالنسبة لحظوظ الفقراء من التعليم في الفترة التي تشير إليها الرواية ، يشير كلاباريد في تقديره أن عدد الأطفال المقيدين في المدارس الحكومية في مصر قد ارتفع بنسبة 18 % وتضم هذه النسبة المدارس الأولية والابتدائية وأن هذا الرقم يبدو صغيراً بالمقارنة بنسبة 21 % في تحسين ، 52 % في تركيال ، 82 % في روسيا ، وانخفضت نسبة الأثاث في التعليم الأولي إلي 13.1 % راجع تقرير كلاباريد ، ص 100 ، في : جوديث كونكران في التربية في مصر ، ترجمة أحمد الخطيب ، د . ن ، القاهرة ، 1989 ، ص 100 .

32-                 الرواية ص 381 .

33-                 الرواية ، ص 199 .

34-  Fagerlind , langemar : Education And National Development , The Oer . egpmpn Text Bppk. Copy service . Stpckhplm , 1982 , pp. 246- 248 .