ما كدنا ننهي عامنا الجامعي الأول بعد عرام ما بين أرض للطفولة وسماء للكبار، وما كدنا نعود إلي المقاعد بعد إجازة صيفية احتجناها لنسائل أنفسنا : هل نحن صالحون فعلاً للحياة داخل الجامعة ؟ وهل لنا أن نخرج منها يوماً بالكأس الذي من أجله جئنا ..؟ ما كدنا نقبل وجنات بعضنا البعض ونتساءل عن أخبار الصيف والجنون القديم .. حتي فاجأتنا مريم بيدها اليسري وقد زينها خاتم ذهبي لا يحمل سوي شكل الدائرة .. ويحيط بأصبعها كالنار .. نظرنا إليها وقلبنا كف يدها مراراً ، وشيئاً من آثار نقش حنائي يتساقط بين أكفنا الصغيرة ، ضحكتمريم منعبثنا بيدها وأكدت لنا ” نعم لقد تزوجت قبل أسبوعين “، مريم أول من سقط في شرك التجرربة ، قالت : أنه رآها تدخل البيت فلم ينم حتي جاء بأمه في اليوم التالي ، وبوالده وأعمامه ورجال العشيرة في اليوم الذي يليه وأنه لم يقبل الحجج التي تقول أنها صغيرة وأنها ترغب في إكمال دراستها الجامعية ، وتعهد أمام جمع الرجال أن لها أن تكمل سنين الجامعة وهي في بيته الذي سيكون من أجمل وأسعد بيوت العالم ، أكملت مريم قصتها الشهية بأن كل ترتيبات العرس قد جرت في شهر من الزمان فلم تتمكن من البحث عن إحدانا أو دعوتنا إلي حفل زفافها البهيج ، وقد كان في أكبرر فنادق المدينة ، وكانت ليلة العمر لكل من حضر … استدعي الأمر ساعات لنفيق من مفاجأة مريم الجميلة ، وقد كنا نتحاور منذ يومنا الجامعي الأول وكنا نعلن أن علينا أن نكمل مسيرة الجامعة قبل التفكير ببناء أسر صغيرة خاصة بنا .. لكنا فرحنا بأن إحدانا قد كسرت طوق القاعدة الأولي طالما الرجل الذي جاء . جاتء عاشقاً ومتفاهماًَ . باركنا لمريم زواجها السعيد وجئناها بهدايانا الصغيرة ولم نكن ندرك ماذا يمكن أن تهدي العروس حتي ساعدتنا الأمهات علي الانتقاء ، ولم نتساءل لماذا لم تدعونا مريم إلي بيتها الذهبي .. هذا الهادئ دوماً بدفنه اللذيذ ؟ يوم أكملت صديقتنا شهرها العسلي جاءت ترتدي سواراً من الألماس .. أدارت به رؤوسنا .. قالت أنه هدية الزوج الحبيب في مناسبة سعيدة ، وإعلان منه أن ذاك العسل لن ينتهي ، وأنه يعدها ويعاهدها بذلك ، وكنا نبتسم فرحين لما تلقاه مريم من حب جارف نشتاق أن نلقاه يوماً ! كانت دوماً تصل قبل أي منا للمدرج الدراسي .. فاجأتها ذات يوم وصلت فيه مبكرة ، فاجأتها تدخل الحمام بوجه جاف وتخرج وقد تلون الوجه بكل أنواع المكياج التي ما زالت محرمة علينا نحن الآنسات ، لكن مريم امرأة متزوجة ، ومن حقها أن تضع مساحيق الزينة التي تكتظ بها الطاولة والتي ما يزال يأتي لها هو بالمزيد منها ، وبالمزيد من العطور والهدايا لأنه كما قال ” يريدها دوماً أجمل النساء ” . عندما وجدت هيئتي أمامها وهي تدخل الحمام قالت أنه ما أراد أن يزعجها وقد وجدها تغط في النوم .. فجهز لها الإفطار والثوب الذي ترتديها اليوم ، ومابقي لها عندما استفاقت من وقت لتبث زينة الألوان علي وجهها .
لكن الألوان علي وجه مريم بدأت في الضمور عندما بدأت تفقد المساحة الزمنية الذي تدخل فيها الحمام ، وصارت تدخل إلي المحاضرات دوماً بعد دخول المحاضرة وكانت تتحمل كلمات التفريغ من الأساتذة دون أن تحاول الدفاع عن نفسها ، ثم بدأت بطنها في التكور ، وبدأت تغير من مشيتها المعتادة في نفس اليوم الذي أعلنت لنا فيه عن النتيجة الإيجابية للتحليل الطبي الذي أجرته بالأمس كانت فرحة ومستبشرة بولد تسميه لأبيها الذي لم تره ، كنا نسعد لحكايات مريم عن سعادة الزوج المحب بالولد القادم ، وعن دلالة لها طوال شهور الحمل ، ورغبته في تحمل أعباء البيت بالنيابة عنها فلا تجهد نفسها ولتذهب كل أعمال البيت إلي الجحيم ، عندها نشعركم هي مريم محظوظة وكم كانت محقة عندما كسرت قاعدتنا الأولي في عدم خوض التجربة في هذه المرحلة ، كنا نشعر بالفرح من أجل صديقتنا التي صارت أما لطفلة حلوة وهي بعد في السنة الثالثة ، كانت تأتي لنا دوماً بصور الطفلة ولم نر والد الطفلة قط ، كانت تحكي عن حبه لها ولطفلتها ورعايته المستمرة لهاوعدم مفارقته لهما ، فهما كما قالت ”
أغلي من له في هذه الدنيا .. ” .
قالت أنه عودها منذ زواجها أن يأخذ للعشاء في مكان فاخر في بداية كل شهر وأنه يري العالم أكثر رحابة وجمالاً عندما تبدأ الأشياء بها وتنتهي بين يديها ، وكنا نعجب من حضارة هذا الرجل الذي لا نري له شبيهاً بين الأقارب والمعارف ، فكم استهان زوج أختي طلباً لها كهذا ، وكم ثار زوج ابنة العم حين ألمحت له بالشئ ذاته ، وحين همست للزميلة حصة بأنني أتمني الزواج من رجل في انفتاح زوج مريم ، لوت حصة شفتيها وعبست في وجهي وأكدت في شراسة أنها لا تحب من يقلد الأجانب .. احتفظت بإعجابي بروعة هذا الرجل الذي لا أراه لنفسي ، ولم أفش السر لأمي التي تحفظ تفاصيلي ومسامي ، وتابعت في شغف لمعان الهدايا التي تأتي بها مريم في كل مناسبة لتقول أنه لم ينس عيد زواجهما الثاني ، وأنه يتذكر تماماً عيد ميلادها ، وكذلك في أعياد المسلمين لها هدية غالية الثمن .. تأتي بها بعد الأجازة ..ونعلم أنها ستأتي بها في اليوم الأول بعد الأجازة .. ثم تختفي الهدية فلا نعود نري إلا محبس الزواج والسلسلة التي تعلق بها آية الكرسي منذ أيامنا المدرسية القديمة، والتي كنا نؤكد خلالها أن الزواج مع الدراسة لا يلتقيان الشيئين قد اجتمعا علي روعة لم تكن تدركها ولم تكن في حسبانها ، وأنها من أسعد نساء الأرض بهذا الجمع الجميل ، بل أنها تشجع أياً منا علي خوض التجربة التجربة ذاتها بشرط أن يكون الذي – أتي حالماً كما هو حال زوجها ، كريماً كما هو زوجها ، طيباً وخلوقاً ومعطاء ، كما هو الزوج الذي أكد لها أن العالم بدونها كقبضة تراب جاف لا طعم له ولا رائحة ولا نور يضيي الطريق .
كانت الزميلات يسقطن ورقة مريم من ملفاتهن الملونة والمزركشة بصور الممثلين والممثلات ، وكن يبتعدن كلما جاءت محاولة أن تستعير دفاتر المحاضرات أو الملاحظات التي وجهها إليها أستاذ المادة قبل الامتحان النهائي . قالت أن الطفلة دائمة التعلق بعنقها ، وأن والد الطفلة يحاول جاهداً أن يأخذ دور اللأم للتفرغ لدراستها ، ولكن الطفلة أعند من أن توافق ، قالت : أنه يقوم بإعداد الأوراق لها ، ويأتي بالكتب التي تحتاجها لإجراء بحث ما ، ولكن الوقت صار ينفذ بسرعة ، وهي تطلب الآن بحث الزميلة لتنقل منه رؤوس الأقلام فقط ، ويحدث الأخري لتأخذ منه بعض التفاصيل فتسد الخانة المطلوبة لإجراء البحث ، لم يسعد الزميلات هذا الفيض من الكلام عن سعادة البيت التي تأكل واجبات الجامعة ، وصرن يتحاشين الجلوس معها أو مقابلتها ، وكن يتندرن علي حذائها الأسود الذي لم يتغير منذ عامين ، وكم صرخت أن قدميها لا ترتاح إلا في هذا الحذاء وأن أكواماً من الأحذية غالية الثمن تتراكم في خزانتها ، وكنت أصدق مريم فيما تقول ،وكنت أعطيها دفاتري دوماً ، وأحاول أن الملم لها ما تيسر من محاضرات مفقودة ، وكنت أعتقد أننا يجب أن نساعدها لإنقاذ حياتها الدراسية وقد استطاعت أن تبني أسرة سعيدة في سنها المبكرة هذه ، لكن مريم راحت تتدهور أمام التحصيل العلمي ، ولم تدركنا ونحن نلبس ثوب التخرج الجميل ، ونسير نتبختر أمام الجمع لاستلام الشهادة من رئيس الجامعة .. كانت زميلتنا مريم جالسة بين صفوف الحاضرين وبطنها يبدأ في التكور من جديد .
سمعت بعد عام أنها أنجبت طفلة أخري ، وأنها استلمت شهادتها بتقدير مقبول وسمعت قولها بأن الزوج الحبيب لا يريد لها أن تثقل بهموم العمل في الدوائر الحكومية، وأنه يريدها دوما ملكة لبيته وعالمه ويفضلها دوما متوجة … سمعت أنها فرحة بالتاج ولن تعمل علي التفريط فيه ، وسعدت بأن مريم اختارت العناية بالطفلتين علي الأقل حتي يشتد العود الصغير ، وهي الأعلم بحاجة أطفالها لوجودها ، ولن يعيب مريم أن تتفرغ لزوج محب وأطفال كالجمال .
نسيت مريم وأنا أماشي السنوات بعد ذلك ، ونسيت حكاية زينة الوجه والحمام الصباحي ، وصرت أضع بعض المساحيق قبل خروجي للعمل ، رغم كوني آنسة بعد ، لكني وفي صفحة ثائرة في ذاكرتي بقيت أبحث عن زوج يشبه زوج مريم في احتوائه للمرأة التي صارت زوجته .. سنوات خرجت خلالها من مقعد .. إلي مقعد وهذا مكتبي يعج بالأوراق المختومة والمراجعين من كل الفئات ولم ألق بينهم من هو شبيه بذاك الخيال الذي انتظر . ويوم خرجت من المكتب بعد اجتماع مسائي ، كان الصداع يأكل رأسي .. أوقفت سيارتي البيضاء أمام المجمع التجاري القريب وترجلت لأدخل الصيدلية الملتصقة به ، وقبل أن أهم بدخول دار الدواء ، رأيت هيئة رجل ضخم يخرج من المجمع التجاري .. كان طويلاً وممتلئ الجسد ، ووجهه محاط بلحية كثيفة ، كان يسرع الخطي للخارج ، وسمعت صوت مريم يقول غير ما قال دوماً ” حاضر حاضر” .. خرجت وراءه تدفع عربية مزدوجة تحتوي طفلين توأم بجمال أخاذ والأكياس التموينية معلقة علي أطراف عربة الأطفال ، وطفلتان كالأقمار صارتا في سن المدرسة تتبختران في ثياب طويلة وأكمام فضفاضة ، وتحمل كل منهما كيساً ثقيلاً وما زالت ضفائر المدرسة تتدلي من رأس كلتيهما والشرائط البيضاء ما زالت معلقة في الصفيرة منذ الصباح ، تسمرت أرقب مريم التي كنت أعرف وعائلتها السعيدة تحث الخط خلف الرجل ، كنت أنتظر ، ولما وصل إلي سيارته السوداء فتح الصندوق ، فوضعت هي أحمالها وأحمال الطفلتين وحملت أحد التوأم والطفلة الكبري حملت الآخر ، واندسوا جميعاً في السيارة الخنفساء ورحلوا إلي بعيد .
عدت إلي بيت الدواء أطلب جرعة مضاعفة لتهدئة الصداع ، وقد علمت الآن فقط كم كانت مريم بحاجة إلي أن تتجمل قبل أن نراها .
مايو 1 2015
قــــالت ………………………… د. هـدي النعيمي
قــــالت
—–
د. هـدي النعيمي (*)
ما كدنا ننهي عامنا الجامعي الأول بعد عرام ما بين أرض للطفولة وسماء للكبار، وما كدنا نعود إلي المقاعد بعد إجازة صيفية احتجناها لنسائل أنفسنا : هل نحن صالحون فعلاً للحياة داخل الجامعة ؟ وهل لنا أن نخرج منها يوماً بالكأس الذي من أجله جئنا ..؟ ما كدنا نقبل وجنات بعضنا البعض ونتساءل عن أخبار الصيف والجنون القديم .. حتي فاجأتنا مريم بيدها اليسري وقد زينها خاتم ذهبي لا يحمل سوي شكل الدائرة .. ويحيط بأصبعها كالنار .. نظرنا إليها وقلبنا كف يدها مراراً ، وشيئاً من آثار نقش حنائي يتساقط بين أكفنا الصغيرة ، ضحكتمريم منعبثنا بيدها وأكدت لنا ” نعم لقد تزوجت قبل أسبوعين “، مريم أول من سقط في شرك التجرربة ، قالت : أنه رآها تدخل البيت فلم ينم حتي جاء بأمه في اليوم التالي ، وبوالده وأعمامه ورجال العشيرة في اليوم الذي يليه وأنه لم يقبل الحجج التي تقول أنها صغيرة وأنها ترغب في إكمال دراستها الجامعية ، وتعهد أمام جمع الرجال أن لها أن تكمل سنين الجامعة وهي في بيته الذي سيكون من أجمل وأسعد بيوت العالم ، أكملت مريم قصتها الشهية بأن كل ترتيبات العرس قد جرت في شهر من الزمان فلم تتمكن من البحث عن إحدانا أو دعوتنا إلي حفل زفافها البهيج ، وقد كان في أكبرر فنادق المدينة ، وكانت ليلة العمر لكل من حضر … استدعي الأمر ساعات لنفيق من مفاجأة مريم الجميلة ، وقد كنا نتحاور منذ يومنا الجامعي الأول وكنا نعلن أن علينا أن نكمل مسيرة الجامعة قبل التفكير ببناء أسر صغيرة خاصة بنا .. لكنا فرحنا بأن إحدانا قد كسرت طوق القاعدة الأولي طالما الرجل الذي جاء . جاتء عاشقاً ومتفاهماًَ . باركنا لمريم زواجها السعيد وجئناها بهدايانا الصغيرة ولم نكن ندرك ماذا يمكن أن تهدي العروس حتي ساعدتنا الأمهات علي الانتقاء ، ولم نتساءل لماذا لم تدعونا مريم إلي بيتها الذهبي .. هذا الهادئ دوماً بدفنه اللذيذ ؟ يوم أكملت صديقتنا شهرها العسلي جاءت ترتدي سواراً من الألماس .. أدارت به رؤوسنا .. قالت أنه هدية الزوج الحبيب في مناسبة سعيدة ، وإعلان منه أن ذاك العسل لن ينتهي ، وأنه يعدها ويعاهدها بذلك ، وكنا نبتسم فرحين لما تلقاه مريم من حب جارف نشتاق أن نلقاه يوماً ! كانت دوماً تصل قبل أي منا للمدرج الدراسي .. فاجأتها ذات يوم وصلت فيه مبكرة ، فاجأتها تدخل الحمام بوجه جاف وتخرج وقد تلون الوجه بكل أنواع المكياج التي ما زالت محرمة علينا نحن الآنسات ، لكن مريم امرأة متزوجة ، ومن حقها أن تضع مساحيق الزينة التي تكتظ بها الطاولة والتي ما يزال يأتي لها هو بالمزيد منها ، وبالمزيد من العطور والهدايا لأنه كما قال ” يريدها دوماً أجمل النساء ” . عندما وجدت هيئتي أمامها وهي تدخل الحمام قالت أنه ما أراد أن يزعجها وقد وجدها تغط في النوم .. فجهز لها الإفطار والثوب الذي ترتديها اليوم ، ومابقي لها عندما استفاقت من وقت لتبث زينة الألوان علي وجهها .
لكن الألوان علي وجه مريم بدأت في الضمور عندما بدأت تفقد المساحة الزمنية الذي تدخل فيها الحمام ، وصارت تدخل إلي المحاضرات دوماً بعد دخول المحاضرة وكانت تتحمل كلمات التفريغ من الأساتذة دون أن تحاول الدفاع عن نفسها ، ثم بدأت بطنها في التكور ، وبدأت تغير من مشيتها المعتادة في نفس اليوم الذي أعلنت لنا فيه عن النتيجة الإيجابية للتحليل الطبي الذي أجرته بالأمس كانت فرحة ومستبشرة بولد تسميه لأبيها الذي لم تره ، كنا نسعد لحكايات مريم عن سعادة الزوج المحب بالولد القادم ، وعن دلالة لها طوال شهور الحمل ، ورغبته في تحمل أعباء البيت بالنيابة عنها فلا تجهد نفسها ولتذهب كل أعمال البيت إلي الجحيم ، عندها نشعركم هي مريم محظوظة وكم كانت محقة عندما كسرت قاعدتنا الأولي في عدم خوض التجربة في هذه المرحلة ، كنا نشعر بالفرح من أجل صديقتنا التي صارت أما لطفلة حلوة وهي بعد في السنة الثالثة ، كانت تأتي لنا دوماً بصور الطفلة ولم نر والد الطفلة قط ، كانت تحكي عن حبه لها ولطفلتها ورعايته المستمرة لهاوعدم مفارقته لهما ، فهما كما قالت ”
أغلي من له في هذه الدنيا .. ” .
قالت أنه عودها منذ زواجها أن يأخذ للعشاء في مكان فاخر في بداية كل شهر وأنه يري العالم أكثر رحابة وجمالاً عندما تبدأ الأشياء بها وتنتهي بين يديها ، وكنا نعجب من حضارة هذا الرجل الذي لا نري له شبيهاً بين الأقارب والمعارف ، فكم استهان زوج أختي طلباً لها كهذا ، وكم ثار زوج ابنة العم حين ألمحت له بالشئ ذاته ، وحين همست للزميلة حصة بأنني أتمني الزواج من رجل في انفتاح زوج مريم ، لوت حصة شفتيها وعبست في وجهي وأكدت في شراسة أنها لا تحب من يقلد الأجانب .. احتفظت بإعجابي بروعة هذا الرجل الذي لا أراه لنفسي ، ولم أفش السر لأمي التي تحفظ تفاصيلي ومسامي ، وتابعت في شغف لمعان الهدايا التي تأتي بها مريم في كل مناسبة لتقول أنه لم ينس عيد زواجهما الثاني ، وأنه يتذكر تماماً عيد ميلادها ، وكذلك في أعياد المسلمين لها هدية غالية الثمن .. تأتي بها بعد الأجازة ..ونعلم أنها ستأتي بها في اليوم الأول بعد الأجازة .. ثم تختفي الهدية فلا نعود نري إلا محبس الزواج والسلسلة التي تعلق بها آية الكرسي منذ أيامنا المدرسية القديمة، والتي كنا نؤكد خلالها أن الزواج مع الدراسة لا يلتقيان الشيئين قد اجتمعا علي روعة لم تكن تدركها ولم تكن في حسبانها ، وأنها من أسعد نساء الأرض بهذا الجمع الجميل ، بل أنها تشجع أياً منا علي خوض التجربة التجربة ذاتها بشرط أن يكون الذي – أتي حالماً كما هو حال زوجها ، كريماً كما هو زوجها ، طيباً وخلوقاً ومعطاء ، كما هو الزوج الذي أكد لها أن العالم بدونها كقبضة تراب جاف لا طعم له ولا رائحة ولا نور يضيي الطريق .
كانت الزميلات يسقطن ورقة مريم من ملفاتهن الملونة والمزركشة بصور الممثلين والممثلات ، وكن يبتعدن كلما جاءت محاولة أن تستعير دفاتر المحاضرات أو الملاحظات التي وجهها إليها أستاذ المادة قبل الامتحان النهائي . قالت أن الطفلة دائمة التعلق بعنقها ، وأن والد الطفلة يحاول جاهداً أن يأخذ دور اللأم للتفرغ لدراستها ، ولكن الطفلة أعند من أن توافق ، قالت : أنه يقوم بإعداد الأوراق لها ، ويأتي بالكتب التي تحتاجها لإجراء بحث ما ، ولكن الوقت صار ينفذ بسرعة ، وهي تطلب الآن بحث الزميلة لتنقل منه رؤوس الأقلام فقط ، ويحدث الأخري لتأخذ منه بعض التفاصيل فتسد الخانة المطلوبة لإجراء البحث ، لم يسعد الزميلات هذا الفيض من الكلام عن سعادة البيت التي تأكل واجبات الجامعة ، وصرن يتحاشين الجلوس معها أو مقابلتها ، وكن يتندرن علي حذائها الأسود الذي لم يتغير منذ عامين ، وكم صرخت أن قدميها لا ترتاح إلا في هذا الحذاء وأن أكواماً من الأحذية غالية الثمن تتراكم في خزانتها ، وكنت أصدق مريم فيما تقول ،وكنت أعطيها دفاتري دوماً ، وأحاول أن الملم لها ما تيسر من محاضرات مفقودة ، وكنت أعتقد أننا يجب أن نساعدها لإنقاذ حياتها الدراسية وقد استطاعت أن تبني أسرة سعيدة في سنها المبكرة هذه ، لكن مريم راحت تتدهور أمام التحصيل العلمي ، ولم تدركنا ونحن نلبس ثوب التخرج الجميل ، ونسير نتبختر أمام الجمع لاستلام الشهادة من رئيس الجامعة .. كانت زميلتنا مريم جالسة بين صفوف الحاضرين وبطنها يبدأ في التكور من جديد .
سمعت بعد عام أنها أنجبت طفلة أخري ، وأنها استلمت شهادتها بتقدير مقبول وسمعت قولها بأن الزوج الحبيب لا يريد لها أن تثقل بهموم العمل في الدوائر الحكومية، وأنه يريدها دوما ملكة لبيته وعالمه ويفضلها دوما متوجة … سمعت أنها فرحة بالتاج ولن تعمل علي التفريط فيه ، وسعدت بأن مريم اختارت العناية بالطفلتين علي الأقل حتي يشتد العود الصغير ، وهي الأعلم بحاجة أطفالها لوجودها ، ولن يعيب مريم أن تتفرغ لزوج محب وأطفال كالجمال .
نسيت مريم وأنا أماشي السنوات بعد ذلك ، ونسيت حكاية زينة الوجه والحمام الصباحي ، وصرت أضع بعض المساحيق قبل خروجي للعمل ، رغم كوني آنسة بعد ، لكني وفي صفحة ثائرة في ذاكرتي بقيت أبحث عن زوج يشبه زوج مريم في احتوائه للمرأة التي صارت زوجته .. سنوات خرجت خلالها من مقعد .. إلي مقعد وهذا مكتبي يعج بالأوراق المختومة والمراجعين من كل الفئات ولم ألق بينهم من هو شبيه بذاك الخيال الذي انتظر . ويوم خرجت من المكتب بعد اجتماع مسائي ، كان الصداع يأكل رأسي .. أوقفت سيارتي البيضاء أمام المجمع التجاري القريب وترجلت لأدخل الصيدلية الملتصقة به ، وقبل أن أهم بدخول دار الدواء ، رأيت هيئة رجل ضخم يخرج من المجمع التجاري .. كان طويلاً وممتلئ الجسد ، ووجهه محاط بلحية كثيفة ، كان يسرع الخطي للخارج ، وسمعت صوت مريم يقول غير ما قال دوماً ” حاضر حاضر” .. خرجت وراءه تدفع عربية مزدوجة تحتوي طفلين توأم بجمال أخاذ والأكياس التموينية معلقة علي أطراف عربة الأطفال ، وطفلتان كالأقمار صارتا في سن المدرسة تتبختران في ثياب طويلة وأكمام فضفاضة ، وتحمل كل منهما كيساً ثقيلاً وما زالت ضفائر المدرسة تتدلي من رأس كلتيهما والشرائط البيضاء ما زالت معلقة في الصفيرة منذ الصباح ، تسمرت أرقب مريم التي كنت أعرف وعائلتها السعيدة تحث الخط خلف الرجل ، كنت أنتظر ، ولما وصل إلي سيارته السوداء فتح الصندوق ، فوضعت هي أحمالها وأحمال الطفلتين وحملت أحد التوأم والطفلة الكبري حملت الآخر ، واندسوا جميعاً في السيارة الخنفساء ورحلوا إلي بعيد .
عدت إلي بيت الدواء أطلب جرعة مضاعفة لتهدئة الصداع ، وقد علمت الآن فقط كم كانت مريم بحاجة إلي أن تتجمل قبل أن نراها .
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : العدد السادس عشر, د. هـدي النعيمي