الناستالجيا ……………….. شارلوت برانس

الناستالجيا

شارلوت برانس

ترجمتها عن الفرنسية: ياسمينة صالح

ناستالجيا يا موسيقى كثيبة من القلب يا عزف حزين على وتر الذكريات يا ناستالجيا هكذا تفكر بوابا وهى تحدق فى نقطة مجهولة لقد حل العيد فجأة حل دونما استئذان من قبلها المطوق بالحزن والقتامة العيد الذى جاء مفعماً بالناستالجيا وهى تدرك تمام الإدراك أنها لا تقدر على الاحتفال به مثلما لا تقدر على تحمل طقوس الفرح المحني بالحناء وغناء العذاري وعنفوان الأطفال المبتهجين ناستالجيا يا أغنية تدقني مسماراً صدئا على جدران الزمن تتأوه وتمشي مشيتها الكثيبة نحو أمها المنشغلة بصنع خبز الكدمار لم تنظر أمها إليها لأنها تعرف جيداً ضخامة ما سوف تراه فى عيني ابتها همست بكلام مقتضب وغامض كأنها تواسي شيئاً غامضاً بينهما وراحت تنكب على خبزها تعده بصمت مهول باوبا تقرأ بوضوح ما يجول فى خاطر أمها تجلس قبالتها وتتأهب للمساعدة تتأهب لكل شيء يساعدها على الانشغال عن التفكير فى أشياء ماتت فى قلبها كانت تقول فى نفسها ان العيد لم يأت لأجلها لهذا فهو لا يعني لها أكثر من أعباء إضافية عليها القيام بها كالاستعداد لا ستقبال أكبر عدد من المهنئين من داخل القرية ومن خارجها من القارب والأحباب و …. الأحباب!؟ دقت الكلمة فى رأسها ناقوساً من الوجع وانفتح الجرح ثانية جرح التفكير فى كل الأشياء التى ماتت أو انتهت تساءلت هل يموت القلب حقاً ثم سرعان ما ندمت على هذا السؤال فهي إن جاولت الرد عليه فسوف تضطر إلى استعادة ذكرياتها ذكرياتها التى تشبه التاستالجيا !! الناستالجيا التى جاءت مع العيد ومع الأغنيات السعيدة! الناستالجيا التى تعني ببساطة: رامون!! دق قلبها بقوة وكادت القصعة الطينية التى تحملها بين يديها أن تسقط على الأرض. طأطأت رأسها حزناً واندفعت نحو الدار لتبكي بحرية بعيداً عن ألعين والتساؤلات – 2 – انتهت الوصلة الأولى من الغناء وكانت الفتيات الجميلات تطرقن على الدف بقوة وانفعال بينما أصواتهن تتعالي وتتعالي بالغناء والرقص؟ الرقص حالة من حالات العيد فوحده الرقص كان قادراً على فرض بينهن ما يشبه الانضباط لشيء عجيب وحقيقي اسمه التقاليد التى بموجبها تصبح الفتاة امرأة والمرأة أهلاً للزواج! اجل! كان عيد الندار عيداً للزواج قبل كل شيء وحدثاً مهما فى حياة كل فتاة وشاب من داخل القرية عدا بوابا التى فقدت متعة الغناء والرقص والفرح على وتيرة العيد فقدت نكهة العيد منذ أن فقدت رامون فلم يعد بوسعها بعدئذ أن تحلم بشخص آخر لأنها تعلم أن لا احد يشبهه كانت جالسة وصامتة كواحدة عذراء تحدق فى نقطة مجهولة فى الفضاء الشاسع تحيط بها ناستالجيا خاصة بها بها وحدها حركت رأسها جهة اليمين فالتقت عينيها بعيني امها فجعت بوابا أمام ما رأته فيهما من أسي ومن انكسار وارتأت ان تغض من بصرها حتى لا تقرأ مزيداً من ما قرأته أمها حزينة لأجلها إذن ومع ذلك تعرف بوابا أنها غير قادرة على الغفر لأمها والحال أن مواساتها هذه لا تكفى للتخفيف من أوجاعها المزمنة لأنها فى الحقيقة لا تستطيع أن تنسي ما صنعته أمها بها منذ أكثر من عشرة أعوام. – 3 – ناستالجيا يا قرية خالية ممن نحب يا عيداً لا يحمل بين جوانحه قلب محب هذه الليلة المقمرة تتمنى بوابا لو كان باستطاعتها أن تقول الحقيقة لكل الناس فالليلة تذكرها بليلة تشبهها ليلة كانت فيها باوبا أجمل فتيات القرية كانت تقترب من الثامنة عشر ربيعاً تضج عنفواناً وسعادة جعلاها أميرة بحق وكان لها كامل الحق فى ذلك التميز الذى ملأها فى ابنة زعيم القرية وهذا بحد ذاته سبب ليغمرها ذلك الشيء العجيب من التفرد على قريناتها ربما هذا الذى يشبه الغرور هو الذى جعلها تحرص كل الحرص على الظهور دائماً بمظهر الأميرة حتى عندما أحبت فعلت ذلك كأميرة وكان فارسها رامون. كان رامون فقيراً لكنه كان شجاعاً وشهماً ومحبوباً أيضاً ربما لهذا نما الحب بينهما كما تنمو زهرة عطشانة للشمس والماء بيد ان بوابا أحبته حباً جماً جعل القرية كلها تحيي لهما أعياداً يومية باسمهما قال لها رامون ذات يوم قدرنا أن نحب بعضنا لهذا علينا أن نرضي بكل شيء ولم تفهم سوى ما أراد قلبها أن تفهمه تاركة لأحلامها العنان ولقلبها الحب قال أبوها رامون شاب جيد قوى وشجاع يستطيع حمايتك زد إلى هذا فهو يحبك كل شيء بدا وكأنه يسير إلى النهاية السعيدة فى العيد المنتظر لولا دارتابي امها زوجة الزعيم التى لا ترد لها كلمة ولا يرفض لها طلب قلبت دارتابي لا وفجأة توقف الحلم وانطفأ الضوء وانتهي الحفل وسقط الستار حتى الزعيم – رغم حبه لابنته – عجز عن حماية حبها فخضع لـ دارتابي. وجاء العيد المنتظر ولم تتزوج بوابا رحل رامون عن القرية منكسراً وخائباً وخاسراً تلك الليل القمراء لم تبك باوبا كما تصور الناس بل وقفت يومها امامهم بدت شاحبة ونحيلة كعود جاف بينما الناس ينظرون إليها كأميرة مطرودة من الحلم أعلنت باوبا للناس لن أتزوج من احد وتلقى الناس هذه الرسالة على أنها ردة فعل عفوية إزاء ألم عميق وجرح نازف لكن الأمر كان غير ذلك كانت الأعياد العشرة الماضية خارج كوكبها الزمني المكبل بالخوف والوحدة عشرة أعوام مضت من عمرها والعيد يعود كل عام والحياة تواصل حياتها كما لو كان كل شيء على ما يرام قبل أن يموت زعيم القبيلة بعامين قال لها سامحيني يا ابنتي سامحيني شد يدها بقوة وهو يبكي على ابنته الوحيدة وقد عرفت بعد ذلك ان الزعيم قد بعث يسأل وراء رامون فى كل مكان ليطلب منه العودة إلى القرية ولكن رامون اختفي عن الأنظار ومات الزعيم العزيز ثم بقيت دارتابي أرملة ونادمة فسادت حالة من الشفقة حول حياة باوبا شفقة كرهتها ثم سرعان ما صارت جزء من طقوسها اليومية الرتيبة وها هو العيد ياتي مرة اخرى وباوبا تزحف نحو العنوسة كانت تنظر إلى قريناتها البنات وهن ترافقن أولادهن وبناتهن إلى الحفل ثم تنظر إلى الفتيات الصغيرات الجميلات اللواتي يرقصن رقصة العيد لتصبح كل خطوة منهن اقتراباً من الشاب الذى تختاره واعلاناً عن زواج قريب – 4 – ناستالجيا يا حكاية قديمة يعزفها العيد باوتار قلب ميت كانت بوابا جالسة وهادئة كصورة خائفة من الحقيقة كانت تبدو أجمل امرأة فى العيد على الرغم من حزنها المزمن ولعله هذا الحزن المفهوم الذى يجعل منها امرأة جميلة رأت أمها تنهض ثم تبتعد نحو البيت وأرادت باوبا أن تفعل مثلها لقد أنهكها العيد هذه المرة وها هى تشعر بالوهن يتسلل إلى أطرافها تشعر برأسها يلف مع سرعة الرقص نهضت تترنح فى مشيتها كانت تشعر بالغثيان يعصر قلبها ولم تتمالك نفسها تقيأت طويلاً وعندما شعرت بالتحسن واصلت سيرها نحو البيت إلى أين تذهبين يا باوبا العيد لم ينته بعد! قالها صوت جاءها من الخلف فى البدء اعتقدت أن هذا الصوت بالذات صادر من أعماقها هى من ذ كرياتها وعندما تكررت الجملة التفتت لتجده منتصباً قبالتها كالحلم رامون لم تتبدلي يا باوب ما زلت اجمل النساء كما فى خيالي ولم تعرف كيف ترد كانت شاحبة كالموت عدت إليك باوبا عدت لأجلك فقط عدت لأن هذا العيد أرادني أن أعود كى تصيرين لى أجمل عروسة أتحدي بوجودها الدنيا ول ن يردني أحد عن هذا أغمضت باوبا عينيها كانت تشعر بالدوار يلف رأسها من جديد وفتحتهما لتجد رامون أمامها شامخاً وجاداً هل تسمعين ما أقوله يا باوبا سنتزوج الليلة فى هذا العيد الذى طالما حلمنا به كان الغناء يتعالي فى صخب الفرح المحاط بأحلام العذاري فى ليلة مقمرة ومدهشة ناستالجيا يا أغنية فى شفاه المحبين يا عيداً يحمل اسم من نحب.