قصيدة المديح فى ديوان الشاعر. الإنسان أحمد بن يوسف الجابر …. د / هدى النعيمى

قصيدة المديح فى ديوان الشاعر… الإنسان أحمد بن يوسف الجابر

د / هدى النعيمى * ([1])

ظل الدور الذى يؤديه الشعر العربى على مر العصور مؤثرآ وفارقآ فى الكثير من الأحيان . وظل الشاعر وحتى عهد قريب يقوم بدور يشبه إلى حد كبير دور الإعلاميين أو الدبلوماسيين . فهو لسان حال الجماعة , المعبر عن آرائها , الحافظ لتاريخها , المفاخر بمآثرها , الحاشد لقواها التعبوية ضد أعدائها وهو لسانها وضميرها فى الحرب والسلم على السواء . اتخذه الملوك والأمراء والحكام سندآ قويآ لهم بعد أن أدركوا قيمة رسالته وعظمة دعواه وأغدقوا عليه من المنح والعطايا مما جهل الشعر – ديوان العرب الكبير – حافلآ بقصائد المديح , بل لعلنا نستطيع أن نجزم أن ديوان العرب الشعرى يكاد لايخلو من قصائد المديح لكل شعرء العربية الأقدمين قاطبة . وهذا الرأى لاغلو ولا شطط فيه . فالحياة العربية بيئتها الصحراوية وتشرذم قبائلها وسعيهم الدائب وراء الكلأ والمراعى , وأخلاقياتها المستمدة من روح القبيلة ومحاولتها اصطناع كيان معنوى وأخلاقى تؤصل به وجودها لتفاخر غيرها وتسمو من خلاله على غيرها من القبائل .. استلزم وجود أبواق تتحمس لهذه الدعوة وتنادى بها , وتجاتهر بصوطها الزاعق حتى يطغى على كل الأصوات . فتنتشر دعواها فى ربوع الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها , واستلم ذلك من الشعراء إتخاذ موقفين يبدو للوهلة الأولى أنها متعارضان .

الأتجاه الأول : يربط الشاعر بدعواه التى هى فى حقيقة الأمر دعوى القبيلة ذاتها وميراثها الثقافى والتاريخى والأخلاقى , فناره ينسب إلى قبيلته كل المعانى والقيم النبيلة من كرم وشجاعة ونجدة للملهوف وتاريخ مجلل بالفخار والفروسية . فضلآ عن الكبرياء والنبل وإنكار الذات … إلى آخر هذه الصفات التى تراوحت بين الواقعية والمبالغة وبرزت أشعار وحكم زهير بن أبى سلمى وعمرو بن كلثوم وعروة بن الورد وحسان بن ثابت وعنترة بن شداد وأبوتمام والبحترى وأبوفراس الحمدانى والمتنبى على خلاف شاعرية كل منهم .

الاتجاه الثانى : تقرب الشعراء من الحكام واتخاذهم قصيدة المدح وسيلة للتكسب… وإن حملت قصيدة فى طياتها نفس معانى وقيم التفاخر والمباهاة أو انحراف الشاعر عن رسالته فأصبحت كل شيم الخير والفضيلة موجهة إلى شخص الحاكم بصورة بدت فيها المعانى أكثر عمومية واتسمت بالمبالغة الشديدة ولعبت فيها السياسة – فى دور متأخر – دورآ كبيرآ . إلى أن انحرفت الرسالبة التى يتبناها الشاعر عن دورها , وأصبح المدح خالصآ لوجه الدنانير التى تلمع وتتألق اصفرارا . وغرقت القصيدة فى المعانى العامة التى تصلح لكل حاكم أو أمير حتى أصبح بمقدور الشاعر أن يغير إسم الحاكم فى القصيدة بآخر وتظل القصيدة على حالها لا تلزمها أى إضافة أو تغيير . وبحيث تصبح القصيدة أقرب إلى النظم منها إلى الشعر .

وليس معنى ذلك أن القصبيدة العربية تخلو من الشاعرية الحقة التى تعبر بصدق وإحساس شامل بالكون وبالبحياة والتى تتبدى فيها معاناة وطرحه للعديد من الأسئلة التى تؤرقه وهو يتأمل الحياة فى تبدلها وتقلباتها المدهشة والغريبة . ويكفينا أن نشير إلى شعراء من أمثال طرفه بن العبد , وأبى العتاهية , وأبن الرومى , والمتنبى , وأبى العلاء المعرى , وإلى شعر شعراء الخوارج والصعاليك , لندرك ان القريحة العربية قادرة على تقد يم نماذج متعددة من شعراء سموا بأعمالهم وخرجوا بها من الإطار المحدود للرؤية الى عوالم مازالت حتى يومنا هذا تخاطب فينا هذا الشجن الانسانى النبيل ونحن نتأمل الحياة بكل مظاهرها الطبيعية والانسانية سلبآ وإيجابا0 وتدفعنا دفعآ الي إعادة اكتشاف ذواتنا والبحث عن الجوهرة الأصلية التي يحملها كل منا بين جنباتة. ومن منّا لايقف متأملا وفاحصا قول طرفة بن العبد :

ألا أيها الزاجرى أشهد الوغى         *** وأنا أحضر اللذات هل أنت مخلدى
فإن كنت لاتستطيع دفع منيتى         *** فدعنى أبـادرها بمـا ملكت يدى

أو قول عروة بن الورد

أقسم جسمى فى جسوم كثيرة           *** وأحسو قراح الماء والماء بارد

أو قول أبى العلاء :

خفف الوطأ ماأظن أديم                *** الأرض إلا من هذه الأجساد

أو قول المتنبى :

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى         *** عدوا له ما من صداقته بد

أو قول ابن الرومى :

يسفل الناس ويعلو معشر               *** قارفوا الأقراف من كل طرف
ولعمرى إن تأملنا همو                 *** ماعلوا , لكن طفوا مثل الجيف

وليست المسالة أبيات شعرية متناثرة , ولكنه الغالب الأعم عند شعر هؤلاء الشعراء ممل يمثل وجهة نظر متكاملة تجاه الحياة والموت وتجاه العالم الإنسانى بوجه عام .

وإذا كان شعر المديح يمثل القاسم المشترك الأعظم فى ديوان العرب الشعرى , وإذا كنا ننظر إليه اليوم – وفق مقاييسنا النقدية الحديثة – ونعتبره لايمثل قيمة حقيقية فى تراث الإبداع الإنسانى . فإن هناك ظروفا بيئية واجتماعية وثقافية فى مجتمعات – هى فى طور النمو جعلت من وجود هذا الشعر ضرورة أسهمت فى الإشادة والتحفيز لحكامها على كل مايتخذونه من خطوات تسهم فى البناء الحضارى لمجتمعاتهم .. وقد تركزت هذه الإشادة بدورهم الحضارى ورؤاهم التى تسعى لنقل مجتمعاتهم من مراحل البداوة إلى الحضارة , من تأصيل للقيم , وإشادة بدور الشباب باعتبارهم الأمل والمستقبل , من فضهم للنزاعات التى تنشأ بينهم وبين جيرانهم , من محافظتهم على الكثير منالمبادئ الأصلية ضد مظاهر التفرنج التى تأثروا بها . وهم إذ يفعلون ذلك لايغفلون عن الهم القومى العام . بل يشاركوه فيه بالاشادة وتجميع الصفوف , وبث روح المقاومة والتذكرة بمواقف السلف المفعمة بالكبرياء والأنفة ورفض الخنوع والاستسلام .

وشاعرنا أحمد بن يوسف الجابر (1903-1991) القطرى المولد والنشأة يمثل نموذجا مكتمل الصفات لشاعر المديح …. وتمثل قصيدته نوذجا أيضأ لقصيدة المديح التى توارثها الشعراء منذ أجيال بكل مافيها من صور تقليدية والتزامها بالنمط الكلاسيكى للقصيدة العربية . إلا أن الفضل الأكبر للشاعر أحمد بن يوسف الجابر إنما يتضح فى كونه أحد الشعراء القلائل الذين توسلوا باللغة العربية الفصحى إلى كتابة القصيدة فى وقت كان الطابع الغالب هو التعبير باللهجة العامية البدوية , أو مااصطلح على تسميته بالشعر النبطى . والشعر النبطى يحتل مكانة مرموقة فى منطقة الخليج العربى , وتتمثل فى كونه اللون الأدبى والشعبى الشائع الذى يعبر الناس بواسطته عن مشاعرهم وقضاياهم , يستوى فى ذلك الأمير والفقير , والصغير والكبير . وتدور أغلب موضوعات هذا الشعر حول الغزل والفخر والرثاء والوصف والمديح . والصور الفنية فى الشعر النبطى أكثر التصاقا بالبيئة . فهى منتزعة من الواقع وليست تقليدا . وهو شعر يخرج فى أحيان كثيرة على قوانين النحو واللغة وتصريف الكلمة وعلى أوزان الشعر وبحوره المتداولة , ومن شعراء هذا الفن فى قطر : الشيخ قاسم بن محمد بن ثانى وهو أول حكام قطر والمؤسس الفعلى للدولة اتلحديثة . وقد طبع ديوانه عام 1910 وهو بذلك أ,ل ديوان يطبع فى الشعر النبطى .

لقد كانت المساحة ممتدة رحبة أمام الشعر البدوى فى البادية العربية . نظرا لانعزال البوادى العربية وبعدها عن التأثر بالأعاجم من حيث المكان ومن حيث طبيعة البدو الذين يميلون إلى المحمافظة على القديم وينفردون من التجديد والبدع.

وظل الحال هكذا حتى بدأت بذور النهذة الحديثة تطل على المنطقة وبدأ الوعى قى التشكيل وبدت الحاجة إلى ظهور شسعر يتوسل بالفصحى ويواكب الأحداث ويشهد تطورها وازدهارها ,  ويؤرخ للحياة العامة فيها . ويواكب أيضا النهضة التعليمية والفكرية ويكون اللسان المعبر عنها . من هنا يظهر ويتبلور الدور الريادى الذى قام به الشاعر أحمد بن يوسف الجابر الذى وظف كل شعره فى سبيل قطر والتغنى بأمجادها وطموحها وآمالها والذى اشق ثقافته بأسلوبه الخاص المعتمد على الأطلاع على عيون كتب الأدب العربى رغم ندرة وجودها فى ذلك الوقت , وبرغم بدايات انتشار التعليم باساليبه البسيطة على نحو ما سنعرف عن حياته وشعره .

حياة الشاعر

ولد الشاعر أحمد بن يوسف جابر محمد الجابر عام 1321هـ (1903م) فى الدوحة عاصمة قطر , ولما بلغ السابعة من عمره أدخله والده أحدح الكتاب , وكان المدرس فيها عمه محمد بن جابر , ومكث الجابر فى المدرسة مايقرب العامين , تعلم فيها القراءة والكتابة وقراءة القرآن الكريم , كما هو معتاد فى تلك المدارس ولما بلغ السادسة عشر من عمره , التحق بالمدرسة (الأثيرية) التى كان يدرسر فيها الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع , وظل الجابر فى ذهه المدرسة حوالى ثلاث سنوات ونصف .

وقد كانت الدراسة فى هذه المدرسة تسير على النهج التقليدى القديم فتبدأ بدراسة العلوم الدينية كالفقة , والأحاديث النبوية , والسيرة , وقد درس الشاعر فيها بعض علوم اللغة كالنحو , والأدب , كما درس فيها من كتب النحو الأجرومية للأجرومى الصنهاجى وشرح الكفراوى عليها وكتاب قطر الندى وشرح ابن عقيل , كما درس بعض كتب التاريخ .

وفى عام 1338 هـ (1919) التحق الشاعر بخدمة الشيخ عبدالله بن قاسم امير البلاد أنذاك وقد كان لاتصاله بالشيخ عبدالله بن قاسم أثر فى توجيهه إلى مواصلة الدراسة والاستزادة من العلم , فعندما التحق بخدمة هذا الأمير , كان يطلب منه أن يطلع ع لى بعض الكتب وبعد قراءتها يجلس معه ويستمع إلى ماقرأه كما يطلب منه إعادة قراءة هذه الكتب عليه ويناقشه أحياناة فى بعض مسائلها .

ومن أهم الكتب التى كان يقرؤها : تفسير ابن كثير , وتفسير البغوى , وتاريخ ابن جرير الطبرى , ومن كتب الحديث , صحيح البخارى , وصحيح مسلم ومشكاة المصابيح , وبلوغ المرام للعسقلانى , ومن كتب الأدب التى كان يقرؤها كتاب الكامل للمبرد , والبيان والتبيين للجاحظ والامالى لأبى على القالى وخزانة الأدب للبغدادى , ومن دواوين الشعراء الجاهلييّن والإسلاميّين والنقائض بين جرير والفرزدق , كما قرأ الشاعر لبعض شعراء العصر العباسى , ومن المحدثين قرأ للشاعر محمود سامى البارودى وكما يقول الجابر : إنه تأثر نوعا ما بالشاعر ابن عثيمين .

وقد تقلد الشاعر مناصب عديدة – كما ذكرنا – وهو بالإضافة إلى أعماله تلك يدير بعض الأعمال التجارية الخاصة , وقد بعث له صديقه الشاعر عبدالرحمن المعاودة بقصيدة يداعبه فيها بمناسبة شروعه فى التجارة .

مررنا فألقينا الصديق ابن يوسف       *** غدا تاجرا بين التجار شهيرا
فقلنا له أهنأ بالتجارة إنها               *** بها الربح يلقاه الأديب وفيرا
ففى صفقات البيع فى السوق والشرا    *** ترى المبتدى فيها يكون خبيرا
ولاسيما ان كان مثلك بارع            *** حصيف يرى عاصى الأموريسيرا

وقد ارتبط الشاعر بالعديد من الأمراء والحكام فى قطر , ونظم فى مدحهم العديد من القصائد وهى قصائد لم تكن تتوخ المدح الخالص بغية التكسب ولكنه يرى فيهم رمزا مأمولا للنهضة التى تتوخاها بلاده وتنشدها , والتى ستثمر وتزدهر بفصل رعاية ولاة الأمور لها وتبنيهم إياها .

عندما تولى الشيخ على بن عبدالله الحكم بعد أن تنازل والده , وذلك عام 1368هـ ينظم الجابر أول قصائده فى الحاكم الجديد مهنئا إياه بولاية الحكم .

ليهنئك الملك ولتسعد بك الحال        *** وأنعم فبمداك إسعاد وإقبال

وقد نظم الشاعر فى مدحه مجموعة من القصائد , وذلك بحكم ملازمته له وتوليه بعض الأمور الخاصة لهاذا الأمير , فقد كانت الصلة قوية – كما يقول الشاعر – بينة وبين الشيخ علئ بن عبدالله الئ جانب حب هذا الامير لللا دب وشففه بالشعر , مماشجع هذا الشاعر وغيره علئ الاكثار من نظم الشعر فئ ائ مناسبة من المنا سبات .

ومن اشعاره فئ الشيخ علئ بن عبدالله قصيدة مطلعها00

منحتلك فاشكرها يدالاقداد               *** شرف الحياة ومبلغ الاوطار

وعندما انتقلت ولاية الحكم فى البلاد من الشيخ علئ بن عبدالله الئ ابنه الشيخ احمد بن علئ اثر تنازل والده عن الحكم تحؤل دور الجابر من المدح إلى التعليم والإرشاد وإسداء النصح للأمير , ذلك أن الجابر بحكم معاشرته الطويلة للشيخ على بن عبدالله كان يتخذ موقف المعلم والناصح للأمير الابن الذى شب ونما على مقربة من الشاعر , فى هذه اللحظة تحول موقف الشاعر … أحس بأن المسئولية تفرض عليه أن يسلح أميره بالحكمة ويدعمه بالخبره التى اكتسبها الشاعر من طول معاشرته وملازمته لوالده .

يقول الشاعر مخاطبآ الشيخ أحمد بن على آل ثانى :

سر باسم ربك للرشاد مؤيدآ *** ولكل أعباء السيادة تحمل
وزن الأمور جليلها بروية *** فالحلم فى بعض المواطن أفضل
واحزم فإن الحزم فيك سجية *** وارفق فإن الرفق فيهم أجمل

وهناك قصائد أخرى نظمها الشاعر فى مناسبات عديدة ومختلفة .

وفى فترات متباعدة سواء أكانت مناسبات وطنية أو دينية .

ولعل قصيدته فى رثاء الزعيم الراحل جمال عبدالناصرخير دليل على ذلك, لقد زلزلت وفاة الزعيم أفئدة ملايين العرب من المحيط إلى الخليج , وكان أحمد الجابر أحد المساعرين بنظم قصيدته تلك وهى القصيدة التى يتضح فيها بجلاء صدق العاطفة ولوعة الإحساس بالفقد , ومدى الخسارة القومية . والجابرى فى هذا إنما يعبر عن إحساس كل عربى وقومى اصيل .

يقول الجابر فى تأبين زعيم الأمة :

خطب ألم فمال عرش الضاد *** والحزن عم فسال منه الوادى
ياعاهلا عم الأسى لفراقه *** من كان حاضر عقرها والبادى
واهتز عرش للعروبة واكتسى *** وجه البسيطة يومها بسواد

وكان الشاعر قد قدم لقصيدته بكلمة نثرية يوضح فيها دور الزعيم الراحل وثورة 23يوليو 1952والدور الذى قامت به فى إيقاظ مشاعر العرب القومية وهى كلمة تكشف عن عمق وارتباط الشاعر بقضايانا القومية , يقول الجابر :

إن ثورة 23 يوليو , هى الشرارة التى انبثق منها الإشعاع الذى كان نبراسآ لما تبعها من الأحداث التى تكشف كابوس الظلم والعدوان واتلمطبق على هذه الأمة العربية طوال سنين فاقت العد والحسبان , فبطريق الاختصار بدأها بإزالة الحكم الفاسد وتطهير ذلك الجهاز الذى لم يحسن أحد تطعيره قبل جمال عبدالناصر, بجلاء القوات الإنجليزية بعد مكثها ما ينيف عن سبعين عاما , فى حين أن أحدا لايظن بذلك , ثم بتأميم القناة الذى لم يدر فى خلد أحد , ولا فى حسبانه أن يتم بتلك السعة المحكمة والخطة الثابتة الوئيدة …. تلك المغامرة التى أفقدت الأعداء وعيها , وأوقعت فى حيرة من أمرها لاتدرى ماذا تقابل به تلك الضربة القاصمة , فما كان من أمرها إلا أن قامت بعدوان 1956م , متألبة بكل قوى العدوزان , تلك الحملة التى باءت بالفشل والخيبة فهز بها عروشا ثابتة وحنى رؤوسا طالما طاولت وتطاولت على الأمم بأبصرت طريقها .

ذلك جمال عبدالناصر الذى لم يعمل لغاية محدودة يقف عندها , بل كان عمله للأمة العربية جمعاء .

وينهى أحمد الجابر كلمته بإحساس يستشرف أفاق المستقبل ويؤكد على إيمانه بأنه الثورة باقية طالما ظل الإحساس القومى يقظا فيقول :

إن ثورة جمال لم تكن ثورة فرد تموت بموته , بل ثورة شعب وأمة فالشعب باق والأمة خالدة والطريق واضح , والعدو معروف , والهدف واحد .

شعره :

يمثل شعر الجابر الاتجاه المحافظ فى الشعر العربى , بل إنه يحذو حذو القدماء فى لغته وأسلوبه وصوره الفنية . ويحمل شعره الخصائص والسمات التى اتسم بها الشعر العربى . فمن حيث نظام القصيدة نجد الجابر يلتزم بالوزن والقافية, وإن كان قد تخلص فى بنائه الفنى للقصيدة من تلك المقدمات الغزلية أو الطلية إلتى اتسمت بها القصيدة العربية حتى بداية العصر الحديث وظهرت عند شعراء معاصرين له من أمثال محمد بن عثيميم وماجد بن صالح الخليفى وغيرهما من الشعراء الذين نطق عليهم شعراء الاحياء . أما من حيث الموضوعات التى دار حولها شعره : المديح ويمثل الجانب الأعظم من ديوانه وأغلبه يكطاد يكون فى حكام قطر الذين عاصرهم , ثم شعر المناسبات الدينية والوطنية ليمثل المحور الثانى فى شعره فى حين أن الجانب الاجتماعى يبدو ضئيلا للغاية وربما يعود ذلك إلى كون الشاعر قد التزم الجانب ارسمى بحكم عمله ووظيفته فأهمل الجانب الاجتماعى إلا فى مقطوعتين أو ثلاث .

وحين ننتقل إلى الصور والأوصاف نجدها فى الغالب مستمدة من التراث , فوجه الممدوح وإشراقته شبيه بغرة الصبح وطلعة البدر :

أنبع الصفا أم غرة الصبح أم بدر *** بوجهك أم هذى السماحة والبشر
جميل المحيا المعى مهذب *** له قسمات غار من نورها البدر

والممدوح فى جشاعته وقوة بأسه أسد يخشى وثبته :

ياأيها الأسد المخشى وثبته *** لاتبرزن سبا ناب وأظفار
والتف حولك م الأنباء مأسدة *** بجحفل كأتى البحر زخار

وانظر هنا إلى هذه الأوصاف التى تداولها الشعراء فى وصفهم للممدوحين بالشجاعة والقوة كيف يستعيدها الشاعر رغم تجاوز الزمن لها , حيث جدت مفاهيم وصفات قد تكون أكثر ملاءمة لوصف الممدوح فى أيامنا هذه , ولكن الشاعر مرتبط بالتراث ارتباطا قويا فى معظم صورة ومانيه :

ونضو الرجا أدميت منه أظلفه *** على أثر نيل الجد طال طويله
وسعى على آثار جداء شارف اذا امتص خلف حنّ منه فصيله
وقد كان لى القدح المعلى لديهمو فقد ظل قدحى بينما استجيله

فإذا نحن تمعنا فى مثل هذه الصور الفنية التى يستخدمها الشاعر , وجدنا أنها تتصل جذورها بالبيئة الصحراوية فالنضو وهو البعير المهزول لايعره أو قل لايمكن أن يستخدم هذه الصورة أو التشبيه إلا من عاش فى البادية , وعرف الإبل وصفاتها . فهو فى سعيه وجده وطلبه ثم عدم بلوغه مايأمله يصور نفسه بذلك الرجل الذى يمتطى بعيره ليلا ونهارا حتى حفيت خف هذا البعير دون أن يصل إلى غايته , أليست هذه الصورة منتزعة من قلب الصحراء العربية أو البيئة العربية فاستمدها الشاعر من التراث .

ولنأخذ على سبيل المثال صورة فنية أخرى صور فيها الشاعر حالته أو مكانته لدى (الأمير) كيف كانت ، ثم كيف آلت إليه .وقد كان لى القدح المعلى لديهمو فقد ظل قدحى بينما استجيله .

أليست هذه الصورة فنية مستمدة من البيئة العربية الجاهلية فالقدح المعلى هو السهم السابع من سهام الميسر التى كانت متداولة فى العصر الجاهلى وهو هنا  عند الشاعر كناية عن المكانة العليا أو الفضلى التى كان يحظى بها لدى الأمير.

أحمد الجابر الإنسان :

كشاعر يمتلك الجابر إحساساً مرهقاً وحساً رقيقاً وضعفاً خاصاً أمام تأوه مريض أو شكوى فقير أو بكاء طفل ولقد جعل منه هذا الإحساس الطاغى بالآم الآخرين أبا حنوناً لكل من حوله كباراً وصغاراً فالصغار يرجون إبتسامته الرقيقة التى لاتنقطع متى قابلت وجوههم البريئة ولا بأس من قبول إحدى ريالاته البنكية الجديدة التى لا تخلو ممنها جيوبه ليفرح بها أطفال العائلة عندما يتجمعون حول سيارته الفاخرة وهو يدخل بها فناء بيته الواسع عائداً من قصر الريس أو مركز الحكم فى البلاد .

وقد كان قربه هذا من السلطة سبباً وجيهاً لأن يتجمع فى الشئون الحياتية بكافة جو بها فإذا كان مستشاراً خاصاً للأمير فهو بن الأحق بالاستشارة من غيره, وربما حلق منه هذا التجمع الإنسانى حول شخصه شيخاً وقوراً فى سن مبكرة أو أجبره على ارتاء عباءة الشيخ الكبير (ولم يكن يخلع العباءة ابداً) فى سن مبكرة فهذا للجميع رجلاً مهباً تتخلل الشعرات البيضاء لحيته وذوائبه فلا يعمد لصبغها كما يفعل الكثيرون ..

كرجل ينتمى لمجتمع قبلى يؤمن أن الرجولة تكتمل بكثرة البنين – الذكور خاصة وأن حياة الرجل تستمر ابداً إذا حصى اسمه ولده ومن بعده ولد ولده ، أراد الجابر أن يكون لديه – كغيرة – ذرية كثيرة وعيالاً يلهون حوله صغاراً ويتعلمون منه وينهلون من خبراته الطويلة كباراً ويتباهى بهم أمام القوم وعد رجال يتسلمون منه رأية العلم والمعرفة فتزوج من أجل ذلك مرتين .

كتاجر يعمل فى سوق المال ، أحب أن يرث ماله ولده أو أولاده … أن تنتقل تجارته هذه إلى إين أحمد يوسف الجابر ، بل إلى أكفأ الأبناء بتولى هذه العملية ، فتزوج مرتين وكرجل دين وإمام مسجد ، تقبل الجابر حرمانه من نعمة البنين بصدر رحب ورضى بالقضاء فسبحانه وتعالى الذى يوزع الأرزاق قد أبغ عليه من نعمة العلم ثم المال وثقة الاخرين بآرائه وأولهم ولاة الأمر فى البلاد لكن البنين ليسوا من نصيبه فتقبل ورضى وقنع بما أعطاه الله من النعم وعاش مع زوجتيه أغلب سنين حياته حتى توفيت الأولى ولحقت بها الثانية بعد عام واحد وذلك قبل وفاته بسنوات قليلة ، وربما جعله حرمانه من الأولاد أكثر رقة ورحمة على الآخرين بل  إن هذا فعلاً ما لمسه المقربون منه والمعاصرون له .

وفى 15/12/1991 م توفى أحمد بن يوسف الجابر عن عمر يناهز 88 عاماً وفقدت قطر بوفاته شاعراً كبيراً وعالماً جليللاً وأحد الدعامات التى أثرت الحياة الثقافية فى قطر بشكل واضح .

وقد كان – رحمه الله – حلو الحديث والمعشر ، رقيق القلب واشعور ، يسعى لمجلسه الكبير والصغير ولا يترك مجلسه إلا إذا قام للصلاة أو لمهام جسيمة ، وقد اجتمعت فيه رقة الشاعر وحكمة الشيخ وموعظة العالم وصلابة رجل السلطة المقرب إن لزم الأمر . فى وقت كان فيه أغلب من حوله يجهلون لقراءة والكتابة وتسير حياتهم اليومية بما يضمن لهم ولأولادهم لقمة العيش الحلال,  وكأنه ” العرف بالله ” اجتمع حوله القاصى والدانى إن لم يكن لمشورة دينينة فلغرض دنيوى صغر شأنه أو عظم ، والجابر لا يرد مريديه مادام رقته يسمح بالملاقاة ومد يد العون ، ومادام الأمر يدخل فى دائرة صلاحياته أوقدرته .

كما أن هذا الأطلاع على مشاكل الناس من حوله عزز إحساسه بالآخرين وهمومهم بل ومشاركتهم فيها بشكل أو بأخر ، وربما ساعده ذلك على ترسيخ إحساس الشاعرالمرهف لديه أو ربما ساعده إحساس الشاعر على ترسيخ ذلك . ولذا فقد جند نفسه وعطاءه لهم ما استطاع لذلك سبيلا ولم يبال بالحرمان من نعمة الإنجاب بل قام بتبنى بعض الأيتام وأغدق عليهم من رحمته ومودته حتى قيل ” ما الأبوة عن ذلك ببعيدة ” وهو بذلك صار الأب الذى يريد وصار من حوله أطفال تلهو وفى بيته أطفال يلحظهم وهم يكبرون ويزدهرون ويتغنون فرحين بأبوته وإن كانت فى شكل تبن فإذا مات يوماً ترحم عليه الأبن والأبنة ولكنه – ربما يعلم وربما لا يعلم – أن قوماً قد شعروا أن الب قد مات وأن مرحلة اليتم قد بدأت ، لكن تراثه وعلمه وأدبه يبقى لا يموت ، يبقى خير ميراث لهؤلاء الذين عاصروه وأحبوه وإلى هؤلاء الذين ولدوا بعد 15/12/1991م.

نماذج من شعره  :

قال مفاخراً بوطنه قطر :

مهد العلى ومرابض الاساد *** أعنى بها قطراً وتلك بلادى
دار الشهادة والمروءة والندى *** للمعتفين ومعقل الأجواد
دارا حباها الله أكبر نعمة *** شملت حواضرها وعم البادى
باهت بعزتها الشعوب واشرقت *** ساحاتها بالكوكب الوقاد
ابناؤها العز الذين تواكبوا *** من كل أبلج للعلى نهاد
وبشرى بأقبال  مؤكدة *** أرسوا قواعدها على هام العدى
وعلنت رواسيها على الأطواد *** وما جمع الأقطاب إلا تعاون
وقال مهنئا الشيخ على بن عبد الله الثانى *** على البر والتقوى على خيروعد
عندما تنازل له والده عن الحكم *** دعائم للإسلام فى كل موطن
لينك الملك ولتسعد بك الحال *** على نهجهم من سار الحق يهدى
وأنعم فمبداك إسعاد وإقبال *** وتلاقوا على حب وود والفة
راقت بطلعتك الأيام وابتهجت *** يشيدون بالماضى والغد
بيمن ملكك أبكار وآصال *** بهم تزدهى فى دوحة العرب أمة
فالشعب يرفل زهوا فى غلائله *** تيسر على نهج
والمجد يمرح والعلياء تختال *** وفى المجلس الأعلى الذى شاع ذكره
الآن لما علا علياك صهوتها *** دليل على الأمر … الأكيد
جرت بيمنك للعلياء أذيال *** وقال ينتقد بصورة كاريكاتورية
يايوم تتويجك الفذ الذى ابتهجت *** مظاهر ميوعة الشباب وتخنثهم
بنور غره ذاك التاج أشبال *** عذارى الحى تشكو حر شكوى
وقال يستنهض الشباب ويحثهم على التحلى بالأخلاق وطلب العلم :

***

حقوقاً لاترى فيها شريكاً

بنى وطنى اشتياقاً إلى العلى *** يشاركهن فى البناء
وشيما بروق المجد لاحت مخائله *** تخلوا عن رجولتهم وابدوا
دعوا عنكم الأخلاد بالجهل والونى *** مآنث قد تضامن
فأنى ينال المجد فى الناس جاهله *** غزانا الغرب غزوا بعد غزو
أنيروا بنور العلم نهج طريقكم *** فلما شارف
وسيروا على الهدى الرواء مناهله *** وقال رضيت بالأخلاق منهم
ولا تألفوا ظل الهوينا وشمروا *** متى ذهبت تكون
فهذا أوان الجد زمت وراحله *** فهلا وازرع فينا أمين
وكونوا مثالاً فى المعالى واسوة *** قـوى شكية
وكونبكم يقتدى من رام أمر يحاوله *** فيلهب بالسياط لأقربيهم
وقال مشيداً بمجلس التعاون الخليجى فى دورته الرابعة بتاريخ 7/9/1983م

***

فبعدهم عن المجموع فخر

وقربهم يزيد سعادة

المـراجـــــع :

——–

1-   محمد عبد الرحيم كافود – الأدب القطرى الحديث 1982.

2-   محمد عبد الرحيم كافود – النقد الأدبى الحديث فى الخليج العربى 1983.

3-   ماهر حسن فهمى     –  حركة البعث فى الشعر العربى الحديث 1970 .

4-   عبد الله المبارك  –  الأدب المعاصر فى شرقى الجزيرة (قسم الشعر)1973.

5-   غسان أحمد حسن – الشعر النبطى فى منطقة الخليج الجزيرة العربية 1990 .

6-   الموسوعة القطرية – الجزء الأول – مجموعة من الباحثين 1993.

7- محمد عبد الرحيم كافود ، يحيى الحيورى ، ديوان أحمد بن يوسف الجابر 1984.

8-   درر المعانى – مجموعة من القصائد لعدد من الشعراء – محمود شعبان .


[1] – قاصة وباحثة قطرية