الواقع والمسرح في الجزائر ………………… د. العيد ميراث

الواقع… والمسرح في الجزائر
د. العيد ميراث
قسم الفنون الدرامية- كلية الأداب
جامعة وهران- الجزائر
تمهيد:
لم تكن الموضوعات الاجتماعية أقل أهمية من الموضوعات التاريخية في المسرح الجزائري، بل أنّها كانت تتمتّع بحظّ أوفر عند كتّاب المسرحية، خاصّة إذا وضعنا في الاعتبار، أعمال الروّاد الذين كرّسوا تجاربهم لهذه الموضوعات التي سيطرت على أذهانهم وشغلت اهتمامهم منذ سنة 1921 وحتّى نهاية الحرب العامية الثانية، حيث ظهر الاتّجاه الإصلاحي الاجتماعي إثر نشاط جمعية العلماء المسلمين المتضاعف، فانعكس ذلك جليّاً على الإنتاج الأدبي بما فيه المسرحيّة، وأضفى عليه الطابع الإصلاحي والتعليمي.
بيد أنّ تلك التجارب العامية التي كانت في البدايات الأولى، تكاد تفقد قيمتها ووزنها الأدبي بالقياس إلى المسرحيّة الفصيحة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولقيت ازدهاراً وتطوّراً ملحوظين نتيجة المناخ الذي هيّأ لها، لأنّ المحاولات الأولى كانت تقتصر على نصوص مكتوبة بالعاميّة الجزائريّة، أو بالأحرى باللهجات المحليّة التي تخضع كلًًّ منها لسمات وخصائص محدّدة قد يختلف النّاس في فهم خصوصيّتها من منطقة إلى أخرى في الجزائر نفسها، هذا بالإضافة إلى كونها ارتبطت بالعرض أكثر من ارتباطها بالتدوين الذي يهيأ للدارسين فرصة الاطلاع عليها فيما بعد، ومن ثمّ ظلّت بالرّغم من ارتباطها بالمجتمع، حبيسة شكل وأسلوب شعبين خاضعين في الأغلب الأعمّ، للسّمات الهزليّة في المسرح، وذلك وفق ما تقتضيه طبيعة الارتجال والتأليف الجماعي، التي تعدّ من خصائص ذلك المسرح.
أمّا المسرحيّات الاجتماعيّة التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فهي أكثر نضجاً وتطوّراً، سواء من الناحية المضمونية أو الشكلية وقد تميّزت بالأسلوب الأدبي الراقي لقيام الحوار فيها على اللغة العربيّة كما أنّها كانت تطبع وتنشر في الغالب بالمجهود الشخصي لأصحابها الشخصيّة، وتمثّل هذه المسرحيات رصيداً لا بأس به للأدب المسرحي الجزائري، ولعّل هذا الأمر هو الذي يدفعنا إلى تصنيفها في مرتبة أرقى من المسرحيّات العاميّة، وعلى الرّغم من تشابه الموضوعات المعالجة بينها، مع فارق الشّكل الذي تصاغ فيه الأفكار، فإنّها لم تخرج في مجملها عن إطار المعالجة الاجتماعية بمختلف الظواهر التي عمّت المجتمع عبر مراحل تطوّره.
ويستوعب الاتجاه الاجتماعي عدداً كبيراً من المسرحيّات التي سيلي ذكرها لاحقا، ويتميّز هذا النوع من المسرحيّات بالتعامل المباشر مع قضايا المجتمع المعاصر دون الاعتماد على التاريخ منطلقاً لها، وقد حظيت المسرحيّة الاجتماعيّة باهتمام الكتّاب لاسيما بعد الاستقلال، فكانت هذه الفترة نقطة تحوّل هامّة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وبدءا من هذا التاريخ ظهر على السّاحة الأدبيّة كتّاب عنوا بالمسرحية كشكل أدبيّ ينهض بمعالجة المشكلات الاجتماعيّة نتيجة المتغيّرات الجديدة التي أفرزتها مرحلة الاستقلال، وبالتالي يمكن القول أنّه كان لعامل الاستقلال أثراً إيجابيّاً في انتعاش الحركة الأدبيّة والثقافيّة بشكل عامّ، و ذلك نتيجة الوضع الاجتماعي و السياسي الجديد الذي كان يتمتّع فيه المجتمع بقسط من الحريّة و الديمقراطية في التعبير عن همومه، هذا خلافا للاضطهاد الذي كان يعاني منه الفرد، والمثقّف على وجه الخصوص إبّان الاستعمار الفرنسي.
ففي ظلّ هذا المناخ الجديد، جلب المسرح انتباه المثقّفين، ولقيت الحركة المسرحيّة ازدهاراً ملحوظا، وشهد المسرح تطوّراً نسبيّاً في مجال التأليف المسرحي، وتجسّد ذلك في ظهور مسرحيّات عديدة لاسيما في أواخر الستينات ومع بداية السبعينات، وترتبط هذه المرحلة التاريخيّة بانطلاق مشروع الثورات الثلاث: الزراعيّة، الصناعيّة و الثقافيّة.
وفي القائمة التالية عناوين المسرحيات التي تمثّّل النصوص التي اهتمّت بالواقع الاجتماعي والسياسي مما يعطي صورة مجملة لواقع هذا الاهتمام و طبيعته، وحركة التأليف فيه:
عنوان المسرحيّة اسم المؤلّف تاريخ نشرها
امرأة الأب أحمد بن ذياب 1952
الحذاء الملعون جلول البدوي 1953
أدباء المظهر محمد رضا حوحو 1954
الأستاذ محمد رضا حوحو 1955
حنين إلى الجبل صالح خرفي 1959
في انتظار نوفمبر الجديد الجندي خليفة 1966
الشراب أبو العيد دودو 1968
زواج بلا طلاق عبد الملك مرتاض 1969
البشير أبو العيد دودو 1971
الانتهازية محمد مرتاض 1972
المغرورة محمد مرتاض 1972
الثمن محمد حويذق 1972
سيدي فرج صالح خرفي 1975
اللعبة المقلوبة أحمد بو دشيشة 1977
طريق النصر محمد الصالح الصديق 1984
وفاة الحي الميت أحمد بودشيشة 1984
السرّ أحمد بودشيشة 1984
الصعود إلى السقيفة
(خمس مسرحيّات) أحمد بو دشيشة 1984
العاهة أحمد بودشيشة 1985
البوّاب(خمس مسرحيّات) أحمد بودشيشة 1986
مصرع الطغاة عبد الله ركيبي دون تاريخ
الهارب الطاهر وطار دون تاريخ
وإذا كان الاتجاهان التاريخي والاجتماعي يشتركان في أنّهما يعرضان لجانب إنساني عام، فإنّ ثمّة فارقا قائما بينهما، يتمثّل في أنّ الجانب الإنساني العام في المسرحيّة التاريخية هو هدفها النهائي، في حين أنّ الجانب الإنساني في المسرحيّة الاجتماعيّة إنّما يبرز من خلال قضيّة حضاريّة مرحليّة معاصرة، فمثلاً قضيّة تحرير الوطن ونصرة الحقّ أوعرض مجتمع يناضل ضدّ حكم مستبدّ، من القضايا الإنسانيّة العامّة التي لا ترتبط بمرحلة معيّنة في حياة الإنسان و تطوّره، بينما قضايا مثل الديمقراطيّة أو الصراع الطبقي، أو المساواة بين الرجل و المرأة، برغم وجهها الإنساني الحضاري العام قد تصبح لصيقة بمجتمع ما، في مرحلة معيّنة من حياته.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ المسرحيّات الاجتماعية على تنوّعها ترنو إلى التوفيق بين الدعوى والفنّ كمدخل لتشكيل علاقة الإنسان بالمجتمع1.
ويحاول أصحابها نقد الظواهر الاجتماعيّة ورصد مشكلات المرحلة التي يمرّ بها المجتمع ومفهماته التقدميّة وقضاياه، ثمّ يلجؤون إلى توظيفها دراميّا ولغويّا، بحيث تسهم في حبكة المسرحيّة، عندما يصبح هذا المفهوم أو هذه القضيّة عقدة الموقف، ومن مجموع هذه المواقف وترابطها يتشكّل بناء المسرحيّة.2
وهذا الموقف الصارم الذي اتّخذه كتاب الحركة الإصلاحية عائد إلى طبيعة المرحلة الحضارية التي أوجدته، لقد كان المجتمع الجزائري يمر ّبفترة من التحوّل والتغير، وتمتاز مراحل التغير بالحيوية والنشاط وتنوع المشكلات الاجتماعية والقضايا السياسية، مما يشكّل مصدراً هامّاً يمكن للكاتب أن يستمدّ منه موضوعاته، وهذا ما حصل في الجزائر في هذا القرن حين كان المجتمع أحد المصادر الرئيسية للمؤلفين المسرحيين إلى جانب التاريخ، وكانت القضايا الاجتماعية المعالجة خصبة متنوعة، تقوم في مجملها على الدراسة والنقد لحلّ تلك المشكلات التي تعوق سير المجتمع والتي تراءت بوضوح،لاسيما في مرحلة الاستقلال.
وإذا كان كتّاب المسرح يستهدفون خلق أدب مسرحي وتأصيله في البيئة الجزائرية ينهض بتصوير الواقع ونقده، فإنّ نتاجهم- إذا ما تجاوزنا بعض الأعمال- كان بعيداً إلى حدّ ما عن النضج والمستوى الفنّي الذي يتيح له الارتقاء واكتساب خصائص الأشكال المسرحية الجيّدة، ممّا يعني أنّ تلك المسرحيّات، برغم احتوائها لمضامين هادفة،قد اتّسمت بضعف البناء واضطراب عناصره،نتيجة بعد تلك المحاولات عن مقومات التعبير الدرامي، لذا يمكننا اعتبارها بداية نحو نشوء أدب مسرحيّ عربي في الجزائر.
وتعتبر خصائص الشكل المسرحي، بما اتسمت به من نقائص، نتيجة طبيعية لأسلوب المؤلفين، وعدم درايتهم بالكتابة المسرحية وقواعدها، التي انعكست على البناء الدرامي، وتحريك الصراع فيه، ورسم الشخصيات وإدارة الحوار، كما امتدّ أثرها إلى وحدتي الزمان والمكان، ونكتفي هنا برصد الخصائص العامّة التي تشترك فيها أشكال مسرحيات هذا الاتجاه.
طبيعة الصراع في المسرحيات الاجتماعية:
نشير بادئ ذي بدء إلى أنّ الصراع جوهر المسرحية، والشخصية والحوار هما الأداتان اللتان تكشفان عنه ضمن إطار الحدث، وذلك يقتضي أن تخضع الأحداث في تسلسلها وتطورها خلال المشاهد أو المناظر، إلى قانون المنطق والسببيّة، بعيداً عن التنقل العشوائي القائم على الصدفة، إلاّ أنّ غياب مبدأ السببيّة ورسم الصراع بالسطحية والسذاجة في بعض المسرحيات، وبالسكون في مسرحيات أخرى نتيجة ضعف بناء الشخصيات ورداءة رسمها، وخلوّ الحوار من مقوماته الدرامية، ويبدو ذلك جليّا في مسرحية “زواج بلا طلاق”  ومسرحية “الحنين إلى الجبل”3.
فالمسرحية الأولى تصور قصة رجل اعتاد ارتياد مجالس الخمر والقمار وأدمن عليها، وبلغ به الأمر إلى إهمال زوجته وابنه الرضيع، وكانت زوجته تخشاه نتيجة معاملته السيئة لها، وقسوته عليها، وعندما يمرض ابنها الصغير ويقبل على الهلاك لا تستطيع فعل شيء، ولا تفكّر في أخده إلى الطبيب مخافة بطش زوجها الذي حرّم عليها الخروج بمفردها، لكن تدخل الجارة تشجّعها، ولم تغادر البيت إلاّ بصحبتها… وبالرغم من ذلك يتهمها الزوج بعصيانه وخيانته، ويغضب عن سلوكها، فيتدخّل جاره محمود ويستحلفه بألاّ يعود إلى الخمرة والقمار، ويعده الزوج بذلك، ويعلن توبته أمام الجميع.
إنّ هذه القصة التي شكّل منها الكاتب نسيج مسرحية مصطنعة، والأحداث فيها تتوالى اعتباطا دون أي خيط يربطها، والمواقف فيها لا تخضع لمنطق السببية، وهي قائمة على الصدفة، ورغم جهد الكاتب في إيجاد أسباب ومبرّرات لتلك المواقف، فإنّها تظلّ ضعيفة وغير مقنعة ممّا أدّى إلى اتّسام الصراع بالسطحية والسذاجة، ولم نشهد أيّ توتّر أو صدام بين الزوج والزوجة، باستثناء المشهد الثالث من الفصل الثاني، رغم أنّهما الشخصيّتان الأساسيتان، وما يدور بينهما من حوار، أبعد ما يكون عن الحوار الدرامي الكاشف عن الصراع، إذ لا يتعدّى التوبيخ واللوم الذي يوجهه “قادر” إلى زوجته “وردة”.
وقد امتدّ هذا الخلل البنائي، المتمثّل في الربط الجيّد بين أحداث وأجزاء المسرحية، إلى نصوص أخرى، كانت ترقى إلى مصاف الأشكال الجيّدة.
فمثلا في ” اللعبة المقلوبة”4  نرى أنّ الفصل الذي يطالعنا فيه الفلاحون، وهم يتأهّبون للتصدّي للإقطاعي “مبروك”، لا يربطه سبب قويّ بالفصلين السابقين، حيث ينقلنا الكاتب من “باريس” إلى الجزائر دون أن يهيأ لذلك المبرّرات الكافية ، وبالتالي لا يبدو البناء في هذه المسرحية متكاملا ومتماسكا.
بينما كان الصراع في مسرحيات أخرى مكتمل الصورة، محدّد الأبعاد يكشف عن مفارقات درامية، فبدا فيها الفعل الدرامي ثريّا بالحركة، نابغا بالصراع، نتيجة رسم الشخصيات الجيد واكتمال مقوماتها، ووضوح مواقفها التي تناضل من أجلها.
ففي مسرحية” التراب” 5  يتجلّى الصراع واضحا بين الشخصيات، كما أنّ علاقاتها التي تنطوي على مفارقات درامية، ضاعفت من وهج الصراع، لاسيما تلك التي نلحظها بين سعيد وحميد في حبهما لفضيلة، أنّ حميد يضحي بسعادته، وإرضاءً والدته ويلتحق بالجبهة قبيل زواجه بأيّام معدودة، لأنّه يؤمن بأنّ قضيّة الوطن أولى من أيّ مصلحة شخصيّة، بينما يبدو “سعيد” إنسانا أنانيا لا يفكّر إلاّ في نفسه، ولا يعير كبير الاهتمام لمسألة الوطن، وسرعان ما تشتعل نار الحقد والانتقام منهما…لكن سرعان ما يتغيّر سلوكه ويرجع فيما صمم عليه من شرّ بعد احتكاكه بالمجاهدين… ويمكث هناك حيث يثبت شجاعة نادرة إلى أن يستشهد فداء للوطن.
والمسرحيات الاجتماعية تختلف من حيث أسلوب الطرح للمشكلات الاجتماعية والبحث عن العوامل الكامنة وراءها لإيجاد الحلول، وتتفاوت من حيث تصوير الصراع بين الأفراد أو القوى الاجتماعية المختلفة، ففي بعض المسرحيات يقوم الصراع بين الفرد والمجتمع، أو بين مجموعة من الأفراد تعارضت مواقفهم، لكن هذه المسرحيات لا تطمح إلى تحليل العلاقات الاجتماعية في سياقها التاريخي والاجتماعي لتجسّد بعدئذ الصراع الجدلي الذي يعتبر نتيجة حتمية للتناقض في العلاقات أو للوضع الطبقي المفروض في المجتمع.
وينطبق هذا على مسرحية”امرأة الأب” لأحمد بن ذياب، و”المغرورة”6 لمحمد مرتاض، و”الأستاذ”7  و”أدباء المظهر”8  لرضا حوحو، وبالرغم من أنّ هذه المسرحيات ترتبط بالمجتمع مباشرة وتعبّر عن قضاياه، إلاّ أنّها تجرّدها من واقعها التاريخي، وتتجاوز بذلك البواعث الخفية للمشكلة الاجتماعية وإمكانيات حلّها، فابن دياب ينظر إلى مجتمعه من خلال فكرة مثالية، وينتقد الوضع القائم، لكنه لا يغوص في أعماقه ليكشف عن الجذور الأساسية للقضية والأسباب الكامنة وراء الظاهرة التي هو بصدد معالجتها.
ورضا حوحو يتجه إلى الواقع ويتفاعل معه، ويصوره بما فيه من أطراف متصارعة يكشف عنها ويقدمها من خلال نقد جريء وبأسلوب ساخر، كما يعنى بشقاء الرجل المثقف إزاء المجتمع الجاهل، وينصب نقده في المقام الأوّل على الطبقة البرجوازية يفضحها ويعريها و يكشف عن تناقضاتها  وإن كان لا يقف ليحلل ذلك الصراع في ضوء المعطيات التاريخية والاجتماعية للواقع الذي هو بصدد تناوله، ولا يبالي بحقيقة الصراع الطبقي.
وهنالك بالمقابل، مسرحيات عرضت هذا النمط من الصراع، فتحاول رصد حركة المجتمع من خلال العلاقات المتناقضة بين أفراد يمثلون بما حدد لهم من أبعاد، وانتماءات طبقية واتجاهات فكرية متباينة، وباحتكاك شخوص المسرحية يحتدم الصراع، وتبرز أطرافه بشكل واضح، ويشتد نضال الطبقة المظلومة، وهي تسير نحو تخليص نفسها من الظلم الواقع عليها.
هكذا وجدنا الصراع في “الهارب” و”العقرب” و”الوقف”واللعبة المقلوبة”وفي “انتظار نوفمبر جديد”، لقد كان الصراع في هذه المسرحيات طبقيا، مكتمل الأبعاد وواضح السمات.
ولعلّ هذا التباين في التناول يرجع أساسا إلى اختلاف الكتاب في اتجاهاتهم الفكرية، ومدى وضوح رؤاهم، وتفاوت في أدواتهم الفنية من خلال فكرة مثالية أخلاقية ويتطلع إليها داعيا لها، ولا تتعدى تلك الدعوة حدود الملاحظة، ونقد الظواهر الاجتماعية، بينما يتجه الفريق الآخر إلى الواقع، يحلل النظام القائم و يبرز النقائص و التناقضات بغية طرح سبل التغيير لتحقيق الغاية التي يهدف إليها العمل المسرحي.
رسم الشخصيات الدرامية:
اختيار الشخصيات، كان يخضع للموضوع المعالج وطبيعته ويحدده انتماء الكاتب الطبقي، ولعلّ ما يهمّنا هنا تعامل المؤلف مع شخصياته ورسمها رسما واضحا في سياق الواقع، ومهارته الفنية في تحريكها، وإبراز مواقفها دون غموض أو التباس ، لأنّ الصراع الدرامي لا يتولّد إلاّ عن تفاعل شخصيات بناء جيد ومواقف متقابلة  يكشف عنها الحوار.
وتتمثّل مواقف الشخصيات في أبعادها الثلاثة، الفسيولوجي والاجتماعي والنفسي،
والخلق الدرامي المتكامل للشخصية لا يقوم إلاّ بوضوح هذه الأبعاد، وبنائها لا يكتمل بمنأى عنها، فهي التي تحدّد كيانها الجسماني وإطارها الاجتماعي، ولا يمكن دراسة الشخصية وتحليل دوافع سلوكها إلاّ في ضوء البعدين السابقين الذين حدّدهما لها الكاتب.
ولمّا كانت المسرحيات الاجتماعية تنزع إلى الاتجاه الواقعي في الدراما بشكل عام، من حيث تصويرها للواقع وما يعجّ فيه من قضايا ومشكلات، فإنّها من خلال ذلك تطمح إلى رصد تطلعات الإنسان العادي، وتصوير صراعه مع القوى الاجتماعية المناوئة له، ويتمثّل ذلك الصراع في تمرده على التقاليد وقوانين المجتمع، أو نضاله لتغيير وضع طبقي معين، وهذا التناول يكشف عن طبيعة المشكلات المطروحة، وينمّ عن رؤية إنسانية عامة، تقوم على تأكيد إنسانية الفرد، وتكشف عن محاولته الهادفة إلى إقامة علاقة سويّة، وتحقيق الانسجام مع الوجود والمتغيرات الحضارية فيه.
لذلك حاول كتّاب الدراما الاجتماعية التعامل مع شخصيات واقعية من عامة الناس تعكس تناولهم الواقعي للقضايا الاجتماعية، خلافا لكتاب الاتجاه التاريخي، الذين اعتمدوا على شخصيات تاريخية، لا تؤكّد ذلك الاتصال المباشر بالواقع الذي تحققه المسرحية الاجتماعية ولا تلتحم به، حيث كانت الشخصيات التاريخية تنتمي أغلبها إلى الطبقة الحاكمة من ملوك وأمراء وقادة.
وتتجلّى واقعية الشخصية في كونها نابعة من صميم الواقع، ومن هنا لجأ الكتاب في انتقاء شخصياتهم التي أصبحت تمثل جانب البطولة في أعمالهم، وتحديد ملامحها، إلى الواقع، فامتزجت سماتها بمعالمها، وانعكست آثارها على سلوكها من خلال ما يمارسه المجتمع عليها من ضغوط تدفع بها إلى الصراع.
وإذا كانت بعض المسرحيات قد نجحت في تقديم شخصيات متكاملة البناء، واضحة المعالم، بإيجاز وتركيز، فإنّنا نجد العديد من تلك المسرحيات لاسيما ذات الشكل  البنائي الضعيف، قد عجزت عن تحقيق ذلك، فجاء تصوير الشخصيات فيها إمّا ضعيفا، وإمّا غير مكتمل لنقص أحد أبعاد الشخصية، ولقد انعكس ذلك على الصراع الذي رأيناه إمّا مفتعلاً سرعان ما يتداعى، وإمّا ساكنا يسير ببطء، وهذا بدوره قد أثّر على الحركة المسرحية، وكسر الإيقاع فيها، والأمثلة على ذلك عديدة، حتّى أنّ المسرحيات التي يمكن اعتبارها جيّدة البناء لا تخلو من شخصية أو اثنثين على الأقل، في حاجة إلى عناية ودراسة من لدن الكاتب، كي يكتمل رسمها، وتتّحد أبعادها دون التباس أو غموض.
إنّ مسرحية”امرأة و رجلان” لا يتحدّد فيها الإطار الاجتماعي لشخصية (عادل)، وإن كانت بعض ملامح الشخصية تدلّ على انتمائه الطبقي البرجوازي، في حين كان بإمكاننا تحديد الإطار الاجتماعي لشخصيات الأخرى مثل(شهلة)، (عمر)و(فوزية) التي لم يكن لديها من الإمكانات المادية ما يسمح لها بالحصول على مسكن مفروش، أو يخوّل لها التجوّل عبر كامل البلاد الأوروبية.
وإذا انتقلنا إلى مسرحية” البشير” لأبي العيد دودو، أصبح البعد الاجتماعي للشخصية الرئيسية واضحا ومحدّدا، إنّه شاب متعلم لم يتجاوز العشرين من عمره، من عائلة ريفية، تحوّل والده من فلاّح إلى طحان يكدح من أجل قوت أسرته برحى القائد العميل للاستعمار “بوقشوطة” الذي صادر بقرته الوحيدة.
وعندما ينظر البشير إلى هذا الوضع، وتقترن رؤيته للواقع بوعيه العميق بذلك التناقض ومسبباته، لاسيما وهو شاب مثقف تثور نفسه، فيصمّم على التصدي لأعوان الاستعمار ومستغلي فئات الفلاحين السذج.
وتتميّز الشخصيات الموظفة في المسرحيات الاجتماعية بشكل عام بأنّها تنقسم إلى قسمين، يمثل كل قسم طبقة معينة بأبعادها التي تحدّد انتماءها الطبقي، أمّا الشخصيات التي تمثّل جانب البطولة فيها، فهي غالبا ما تمثّل الطبقة الكادحة أو الوسطى، تناضل كل منها من أجل استرجاع حقّ ضائع، كما يطالعنا في أعمال أخرى تحالف في كل الطبقات الشعبية التي تكرّس جهودها للثورة على الأوضاع لتحقيق الهدف الذي تسعى إليه، وتغيير النظام الجائر.
لغة الحوار الدرامي:
لعلّ ما يلاحظ على الحوار في مسرحيات هذا الاتجاه، أنّه يتفاوت من حيث مستواه الدرامي
وسلامة لغته، و ملاءمتها لطبيعة الموضوع الذي تنهض بتصويره.
فالحوار في مسرحيات محمد مرتاض، والجنيدي خليفة، وعبد الملك مرتاض كثيرا ما يتغير، فيبدو الحدث مجرّد مواقف باهتة، لا فعل فيها ولا حركة، ويتجلّى ذلك بوضوح في “الانتهازية” وفي “في انتظار نوفمبر جديد” اللتين جعلناهما محورا الدراسة في هذا الفصل، ففي هاتين المسرحيتين تتحوّل مقاطع حوارية طويلة إلى محادثة تظهر فيها الشخصيات تتجاذب أطراف الحديث في قضايا لا تمت بصلة إلى الموضوع الذي يمثّل محور الصراع في العمل المسرحي.
وغالبا ما يقع الكاتب في هذا النوع من الحوار، عندما يقدّم شخصيات متماثلة، ويفسح لها مجالاً واسعاً للحديث دون أن ينتبه لمدى خطورة ذلك وتأثيره السلبي على بنائه الفنّي، وفي أحيان أخرى نجد أنفسنا إزاء شخصيات، رغم تقابلها و تعارض مواقفها، لا نشهد لها توتّرا  أو صداما، وقد تكرّرت هذه المسألة في مسرحيات عديدة.
ولعلّ ما تتميّز به لغة الحوار في المسرحية الاجتماعية، أنّها بسيطة تنزع إلى الواقعية في التعبير والتصوير، وهي إلى ذلك تقنع بالمضمون الاجتماعي الذي تطمح المسرحيات إلى التعبير عنه، على أنّ التصوير الواقعي يضطر الكاتب إلى التعامل مع لغته بدقّة وحرص في اختيار الألفاظ وصياغة الجمل لتتناسب مع الشخصيات الجديدة والتي هو بصدد رسمها، ومن ثمّ ينبغي عليه أن يراعي الاختلاف القائم في الحديث، بين البواب، والفلاّح، والموظّف، والمسؤول، والذين أصبحوا أبطالاً في الدراما الحديثة، فلكل شخصية لغتها التي تناسب مستواها وتحدّد أبعادها، وحديث الفلاّح عن الثورة الزراعية، ووصفه لمعاناته من الاستغلال، ومن هنا فإنّ أية مبالغة في الحوار تعكس عدم ملاءمة اللغة للشخصية المتحدّثة، وتكشف بعدها عن الواقعية.
ونذكر على سبيل المثال بعض النماذج التي رأينا فيها الحوار بعيدا عن واقع الشخصية ولا يكشف عن حقيقتها، ومنها شخصيات”ابن دياب”، و”تبرة”و”سعدية” في مسرحية “في انتظار نوفمبر جديد”، والأمّ” رابحة”في مسرحية “المغرورة، إنّ هذه الشخصيات الموظفة، رغم سذاجتها و أميتها، لا تنطق إلاّ بأسلوب فصيح وبلُغة راقية تتناقض وطبيعتها ومستواها التي تقدمها فيه المسرحية.
أمّا مسرحيات “سيدي فرج”و”حنين إلى الجبل”و”زواج بلا طلاق” لغتها أبعد ما تكون عن اللغة الدرامية، وهذه المسرحيات في الحقيقة مجرّد مواقف متتابعة، تتوالى اعتباطا دون خيط منطقي يربطها، ولا تحتوي على عقدة، ولا تقوم على صراع، لاسيما مسرحية “حنين إلى الجبل” التي كتبها “صالح خرفي” في الخمسينات، كما أنّه ضمن حواره أبياتا شعرية عديدة، وخطبة طويلة في مسرحيته الثانية، يلقيها رئيس الحكومة بعد أن يحصل الشعب على الاستقلال، ومثله في ذلك “أحمد بن دياب” الذي جعل شخصياته تستشهد في حديثها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، دون مراعاة مستواها وطبيعتها.
الوحدات الثلاث في المسرحيّات:
لقد تباين التزام الكتاب بالوحدات الثلاث وقد ظهر تجاوزهم لها في الأغلب الأعم، حيث اخترقوا وحدة الزمان، ولجئوا إلى التلوين في المكان، والمسرحيات التي اخترقت وحدتي الزمان والمكان هي غالبا تلك التي تقع في ثلاثة فصول وعددها سبع عشرة مسرحية.
بينما اعتمدت مسرحيات أخرى على التركيز في المكان دون التغيير فيه، وباتت الأحداث تضطرب خلال منظر واحد لا يتغيّر، وهذه المسرحيات ذات فصل واحد وعددها عشرة، أغلبها للكاتب “أحمد بودشيشة” وقد اقترن التركيز في المكان بوحدة الزمان، وامتدّ إلى الشخصيات التي تقلّص عددها، وأصبح لا يزيد عن خمس أو ستّ شخصيات في المسرحية الواحدة، وقد أضفى ذلك كله تركيزا على الحدث، وإبرازا للظاهرة الاجتماعية المطروحة، وجعل المسرحيّة متماسكة البناء.
والجدير بالذكر بهذا الصدد، “أسلوب التجريد” الذي اعتمدته بعض المسرحيات في تصوير الزمان والمكان، وهذه ظاهرة تكاد تكون عامة على مسرحيات (أحمد بو دشيشة)، لاسيما تلك التي تقع في فصل واحد، وهذه المسرحيات في مجملها، ورغم ارتباطها بالواقع وصلتها الوثيقة به لم تعن برسم البيئة التي صدرت عنها، فخلت-المسرحيات- من أدنى إشارة على زمان ومكان الأحداث، وتحوّلت الشخصيات إلى دمى متحرّكة في مجال فسيح لا حدود له ولا معالم، وفي اعتقادنا أنّ هذا الأسلوب لا يلاءم المواضيع الواقعية المعالجة، ولا ينسجم مع طبيعتها الاجتماعية التي لا تستدعي لجوء الكاتب لمثل هذا الأسلوب، لأنّه كثيرا ما يوقع العمل الفني في بعض المغالطات التي لا تقدّم بناءه بقدر ما تسيء إليه.
وتندرج مضامين الاتجاه الاجتماعي تحت قسمين رئيسين هما المسرحيات التي تعالج مشكلات الأسرة الجزائرية، والمسرحيات التي تتناول الأزمات الاجتماعية، أمّا من حيث الهدف فنلاحظ أنّ بعض المسرحيات، والتي تنزع إلى الواقعية النقدية، لا تعتمد توظيف الشعارات وإنّما تكتفي بالنقد من خلال إبراز النقائص الاجتماعية، وتشخيصها بحيث تلفت المسرحة النظر إليها، وتقوم بتحليل التناقضات في المجتمع، لكنّها تعجز عن تغييره لأنّها لا تلتحم بالقوى الاجتماعية الايجابية القادرة على التغيير، ونشعر من خلال حركة الشخوص واحتكاكها، بالحاجة الماسة إلى الاعتماد على مفهوم من المفهومات التقدمية، أو شعار من الشعارات كسبيل للمواجهة، ولاحظنا أنّ هذا النوع من المسرحيات كثيرا ما يقع في شكل المسرحية ذات الفصل الواحد، ونذكر على سبيل المثال المجموعات المسرحية “لأحمد بودشيشة” وهي “الصعود إلى السقيفة” و”وفاة الحي الميت” و”البواب” والتي يصل عدد المسرحيات فيها إلى ثلاث عشرة مسرحية، إضافة إلى ذلك مسرحيات “امرأة الأب”،”الحذاء الملعون”،”أدباء المظهر”، “الأستاذ”،”حنين إلى الجبل”، “زواج بلا طلاق”، “المغرورة”،” الثمن”،”سيدي فرج” و”العاهة”.
أمّا المسرحيات التي تتجه نحو الاتجاه الواقعي الاشتراكي فهي تلجأ إلى التوظيف المباشر للشعارات والمفهومات التقدمية بألفاظها التي يعلنها المجتمع أسلوبا لحياته في مرحلة من مراحل تطوره، كما تسهم هذه الألفاظ والشعارات بما لها من إيحاءات ودلالات،في تشكيل عقدة المسرحية، وبذلك يتجاوز العمل المسرحي حدود الملاحظة، ومجرد نقد الظاهرة الاجتماعية ليحقق الهدف الذي يصبو إليه والمتمثل في الدعوة، والحثّ على التغيير الجذري للقضاء على المعوقات التي تقف إزاء تطور المجتمع، والأعمال المسرحية التي تدخل تحت هذا الإطار قليلة، إلاّ أنّها تمثل بذرة أولى و رائدة نحو نشوء أدب مسرحي واقعي اشتراكي في الجزائر.

الواقع… والمسرح في الجزائرد. العيد ميراثقسم الفنون الدرامية- كلية الأدابجامعة وهران- الجزائرتمهيد:            لم تكن الموضوعات الاجتماعية أقل أهمية من الموضوعات التاريخية في المسرح الجزائري، بل أنّها كانت تتمتّع بحظّ أوفر عند كتّاب المسرحية، خاصّة إذا وضعنا في الاعتبار، أعمال الروّاد الذين كرّسوا تجاربهم لهذه الموضوعات التي سيطرت على أذهانهم وشغلت اهتمامهم منذ سنة 1921 وحتّى نهاية الحرب العامية الثانية، حيث ظهر الاتّجاه الإصلاحي الاجتماعي إثر نشاط جمعية العلماء المسلمين المتضاعف، فانعكس ذلك جليّاً على الإنتاج الأدبي بما فيه المسرحيّة، وأضفى عليه الطابع الإصلاحي والتعليمي.            بيد أنّ تلك التجارب العامية التي كانت في البدايات الأولى، تكاد تفقد قيمتها ووزنها الأدبي بالقياس إلى المسرحيّة الفصيحة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولقيت ازدهاراً وتطوّراً ملحوظين نتيجة المناخ الذي هيّأ لها، لأنّ المحاولات الأولى كانت تقتصر على نصوص مكتوبة بالعاميّة الجزائريّة، أو بالأحرى باللهجات المحليّة التي تخضع كلًًّ منها لسمات وخصائص محدّدة قد يختلف النّاس في فهم خصوصيّتها من منطقة إلى أخرى في الجزائر نفسها، هذا بالإضافة إلى كونها ارتبطت بالعرض أكثر من ارتباطها بالتدوين الذي يهيأ للدارسين فرصة الاطلاع عليها فيما بعد، ومن ثمّ ظلّت بالرّغم من ارتباطها بالمجتمع، حبيسة شكل وأسلوب شعبين خاضعين في الأغلب الأعمّ، للسّمات الهزليّة في المسرح، وذلك وفق ما تقتضيه طبيعة الارتجال والتأليف الجماعي، التي تعدّ من خصائص ذلك المسرح.             أمّا المسرحيّات الاجتماعيّة التي ظهرت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فهي أكثر نضجاً وتطوّراً، سواء من الناحية المضمونية أو الشكلية وقد تميّزت بالأسلوب الأدبي الراقي لقيام الحوار فيها على اللغة العربيّة كما أنّها كانت تطبع وتنشر في الغالب بالمجهود الشخصي لأصحابها الشخصيّة، وتمثّل هذه المسرحيات رصيداً لا بأس به للأدب المسرحي الجزائري، ولعّل هذا الأمر هو الذي يدفعنا إلى تصنيفها في مرتبة أرقى من المسرحيّات العاميّة، وعلى الرّغم من تشابه الموضوعات المعالجة بينها، مع فارق الشّكل الذي تصاغ فيه الأفكار، فإنّها لم تخرج في مجملها عن إطار المعالجة الاجتماعية بمختلف الظواهر التي عمّت المجتمع عبر مراحل تطوّره.            ويستوعب الاتجاه الاجتماعي عدداً كبيراً من المسرحيّات التي سيلي ذكرها لاحقا، ويتميّز هذا النوع من المسرحيّات بالتعامل المباشر مع قضايا المجتمع المعاصر دون الاعتماد على التاريخ منطلقاً لها، وقد حظيت المسرحيّة الاجتماعيّة باهتمام الكتّاب لاسيما بعد الاستقلال، فكانت هذه الفترة نقطة تحوّل هامّة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، وبدءا من هذا التاريخ ظهر على السّاحة الأدبيّة كتّاب عنوا بالمسرحية كشكل أدبيّ ينهض بمعالجة المشكلات الاجتماعيّة نتيجة المتغيّرات الجديدة التي أفرزتها مرحلة الاستقلال، وبالتالي يمكن القول أنّه كان لعامل الاستقلال أثراً إيجابيّاً في انتعاش الحركة الأدبيّة والثقافيّة بشكل عامّ، و ذلك نتيجة الوضع الاجتماعي و السياسي الجديد الذي كان يتمتّع فيه المجتمع بقسط من الحريّة و الديمقراطية في التعبير عن همومه، هذا خلافا للاضطهاد الذي كان يعاني منه الفرد، والمثقّف على وجه الخصوص إبّان الاستعمار الفرنسي.           ففي ظلّ هذا المناخ الجديد، جلب المسرح انتباه المثقّفين، ولقيت الحركة المسرحيّة ازدهاراً ملحوظا، وشهد المسرح تطوّراً نسبيّاً في مجال التأليف المسرحي، وتجسّد ذلك في ظهور مسرحيّات عديدة لاسيما في أواخر الستينات ومع بداية السبعينات، وترتبط هذه المرحلة التاريخيّة بانطلاق مشروع الثورات الثلاث: الزراعيّة، الصناعيّة و الثقافيّة.وفي القائمة التالية عناوين المسرحيات التي تمثّّل النصوص التي اهتمّت بالواقع الاجتماعي والسياسي مما يعطي صورة مجملة لواقع هذا الاهتمام و طبيعته، وحركة التأليف فيه:
عنوان المسرحيّة اسم المؤلّف تاريخ نشرها   امرأة الأب أحمد بن ذياب 1952   الحذاء الملعون جلول البدوي 1953   أدباء المظهر محمد رضا حوحو 1954   الأستاذ محمد رضا حوحو 1955   حنين إلى الجبل صالح خرفي 1959   في انتظار نوفمبر الجديد الجندي خليفة 1966   الشراب أبو العيد دودو 1968   زواج بلا طلاق عبد الملك مرتاض 1969   البشير أبو العيد دودو 1971   الانتهازية محمد مرتاض 1972   المغرورة محمد مرتاض 1972   الثمن محمد حويذق 1972   سيدي فرج صالح خرفي 1975   اللعبة المقلوبة أحمد بو دشيشة 1977   طريق النصر محمد الصالح الصديق 1984   وفاة الحي الميت أحمد بودشيشة 1984   السرّ أحمد بودشيشة 1984   الصعود إلى السقيفة(خمس مسرحيّات) أحمد بو دشيشة 1984   العاهة أحمد بودشيشة 1985   البوّاب(خمس مسرحيّات) أحمد بودشيشة 1986   مصرع الطغاة عبد الله ركيبي دون تاريخ   الهارب الطاهر وطار دون تاريخ
وإذا كان الاتجاهان التاريخي والاجتماعي يشتركان في أنّهما يعرضان لجانب إنساني عام، فإنّ ثمّة فارقا قائما بينهما، يتمثّل في أنّ الجانب الإنساني العام في المسرحيّة التاريخية هو هدفها النهائي، في حين أنّ الجانب الإنساني في المسرحيّة الاجتماعيّة إنّما يبرز من خلال قضيّة حضاريّة مرحليّة معاصرة، فمثلاً قضيّة تحرير الوطن ونصرة الحقّ أوعرض مجتمع يناضل ضدّ حكم مستبدّ، من القضايا الإنسانيّة العامّة التي لا ترتبط بمرحلة معيّنة في حياة الإنسان و تطوّره، بينما قضايا مثل الديمقراطيّة أو الصراع الطبقي، أو المساواة بين الرجل و المرأة، برغم وجهها الإنساني الحضاري العام قد تصبح لصيقة بمجتمع ما، في مرحلة معيّنة من حياته.            وتنبغي الإشارة هنا إلى أنّ المسرحيّات الاجتماعية على تنوّعها ترنو إلى التوفيق بين الدعوى والفنّ كمدخل لتشكيل علاقة الإنسان بالمجتمع1.ويحاول أصحابها نقد الظواهر الاجتماعيّة ورصد مشكلات المرحلة التي يمرّ بها المجتمع ومفهماته التقدميّة وقضاياه، ثمّ يلجؤون إلى توظيفها دراميّا ولغويّا، بحيث تسهم في حبكة المسرحيّة، عندما يصبح هذا المفهوم أو هذه القضيّة عقدة الموقف، ومن مجموع هذه المواقف وترابطها يتشكّل بناء المسرحيّة.2 وهذا الموقف الصارم الذي اتّخذه كتاب الحركة الإصلاحية عائد إلى طبيعة المرحلة الحضارية التي أوجدته، لقد كان المجتمع الجزائري يمر ّبفترة من التحوّل والتغير، وتمتاز مراحل التغير بالحيوية والنشاط وتنوع المشكلات الاجتماعية والقضايا السياسية، مما يشكّل مصدراً هامّاً يمكن للكاتب أن يستمدّ منه موضوعاته، وهذا ما حصل في الجزائر في هذا القرن حين كان المجتمع أحد المصادر الرئيسية للمؤلفين المسرحيين إلى جانب التاريخ، وكانت القضايا الاجتماعية المعالجة خصبة متنوعة، تقوم في مجملها على الدراسة والنقد لحلّ تلك المشكلات التي تعوق سير المجتمع والتي تراءت بوضوح،لاسيما في مرحلة الاستقلال.            وإذا كان كتّاب المسرح يستهدفون خلق أدب مسرحي وتأصيله في البيئة الجزائرية ينهض بتصوير الواقع ونقده، فإنّ نتاجهم- إذا ما تجاوزنا بعض الأعمال- كان بعيداً إلى حدّ ما عن النضج والمستوى الفنّي الذي يتيح له الارتقاء واكتساب خصائص الأشكال المسرحية الجيّدة، ممّا يعني أنّ تلك المسرحيّات، برغم احتوائها لمضامين هادفة،قد اتّسمت بضعف البناء واضطراب عناصره،نتيجة بعد تلك المحاولات عن مقومات التعبير الدرامي، لذا يمكننا اعتبارها بداية نحو نشوء أدب مسرحيّ عربي في الجزائر.          وتعتبر خصائص الشكل المسرحي، بما اتسمت به من نقائص، نتيجة طبيعية لأسلوب المؤلفين، وعدم درايتهم بالكتابة المسرحية وقواعدها، التي انعكست على البناء الدرامي، وتحريك الصراع فيه، ورسم الشخصيات وإدارة الحوار، كما امتدّ أثرها إلى وحدتي الزمان والمكان، ونكتفي هنا برصد الخصائص العامّة التي تشترك فيها أشكال مسرحيات هذا الاتجاه.طبيعة الصراع في المسرحيات الاجتماعية:نشير بادئ ذي بدء إلى أنّ الصراع جوهر المسرحية، والشخصية والحوار هما الأداتان اللتان تكشفان عنه ضمن إطار الحدث، وذلك يقتضي أن تخضع الأحداث في تسلسلها وتطورها خلال المشاهد أو المناظر، إلى قانون المنطق والسببيّة، بعيداً عن التنقل العشوائي القائم على الصدفة، إلاّ أنّ غياب مبدأ السببيّة ورسم الصراع بالسطحية والسذاجة في بعض المسرحيات، وبالسكون في مسرحيات أخرى نتيجة ضعف بناء الشخصيات ورداءة رسمها، وخلوّ الحوار من مقوماته الدرامية، ويبدو ذلك جليّا في مسرحية “زواج بلا طلاق”  ومسرحية “الحنين إلى الجبل”3.              فالمسرحية الأولى تصور قصة رجل اعتاد ارتياد مجالس الخمر والقمار وأدمن عليها، وبلغ به الأمر إلى إهمال زوجته وابنه الرضيع، وكانت زوجته تخشاه نتيجة معاملته السيئة لها، وقسوته عليها، وعندما يمرض ابنها الصغير ويقبل على الهلاك لا تستطيع فعل شيء، ولا تفكّر في أخده إلى الطبيب مخافة بطش زوجها الذي حرّم عليها الخروج بمفردها، لكن تدخل الجارة تشجّعها، ولم تغادر البيت إلاّ بصحبتها… وبالرغم من ذلك يتهمها الزوج بعصيانه وخيانته، ويغضب عن سلوكها، فيتدخّل جاره محمود ويستحلفه بألاّ يعود إلى الخمرة والقمار، ويعده الزوج بذلك، ويعلن توبته أمام الجميع.            إنّ هذه القصة التي شكّل منها الكاتب نسيج مسرحية مصطنعة، والأحداث فيها تتوالى اعتباطا دون أي خيط يربطها، والمواقف فيها لا تخضع لمنطق السببية، وهي قائمة على الصدفة، ورغم جهد الكاتب في إيجاد أسباب ومبرّرات لتلك المواقف، فإنّها تظلّ ضعيفة وغير مقنعة ممّا أدّى إلى اتّسام الصراع بالسطحية والسذاجة، ولم نشهد أيّ توتّر أو صدام بين الزوج والزوجة، باستثناء المشهد الثالث من الفصل الثاني، رغم أنّهما الشخصيّتان الأساسيتان، وما يدور بينهما من حوار، أبعد ما يكون عن الحوار الدرامي الكاشف عن الصراع، إذ لا يتعدّى التوبيخ واللوم الذي يوجهه “قادر” إلى زوجته “وردة”.          وقد امتدّ هذا الخلل البنائي، المتمثّل في الربط الجيّد بين أحداث وأجزاء المسرحية، إلى نصوص أخرى، كانت ترقى إلى مصاف الأشكال الجيّدة.فمثلا في ” اللعبة المقلوبة”4  نرى أنّ الفصل الذي يطالعنا فيه الفلاحون، وهم يتأهّبون للتصدّي للإقطاعي “مبروك”، لا يربطه سبب قويّ بالفصلين السابقين، حيث ينقلنا الكاتب من “باريس” إلى الجزائر دون أن يهيأ لذلك المبرّرات الكافية ، وبالتالي لا يبدو البناء في هذه المسرحية متكاملا ومتماسكا.             بينما كان الصراع في مسرحيات أخرى مكتمل الصورة، محدّد الأبعاد يكشف عن مفارقات درامية، فبدا فيها الفعل الدرامي ثريّا بالحركة، نابغا بالصراع، نتيجة رسم الشخصيات الجيد واكتمال مقوماتها، ووضوح مواقفها التي تناضل من أجلها.             ففي مسرحية” التراب” 5  يتجلّى الصراع واضحا بين الشخصيات، كما أنّ علاقاتها التي تنطوي على مفارقات درامية، ضاعفت من وهج الصراع، لاسيما تلك التي نلحظها بين سعيد وحميد في حبهما لفضيلة، أنّ حميد يضحي بسعادته، وإرضاءً والدته ويلتحق بالجبهة قبيل زواجه بأيّام معدودة، لأنّه يؤمن بأنّ قضيّة الوطن أولى من أيّ مصلحة شخصيّة، بينما يبدو “سعيد” إنسانا أنانيا لا يفكّر إلاّ في نفسه، ولا يعير كبير الاهتمام لمسألة الوطن، وسرعان ما تشتعل نار الحقد والانتقام منهما…لكن سرعان ما يتغيّر سلوكه ويرجع فيما صمم عليه من شرّ بعد احتكاكه بالمجاهدين… ويمكث هناك حيث يثبت شجاعة نادرة إلى أن يستشهد فداء للوطن.              والمسرحيات الاجتماعية تختلف من حيث أسلوب الطرح للمشكلات الاجتماعية والبحث عن العوامل الكامنة وراءها لإيجاد الحلول، وتتفاوت من حيث تصوير الصراع بين الأفراد أو القوى الاجتماعية المختلفة، ففي بعض المسرحيات يقوم الصراع بين الفرد والمجتمع، أو بين مجموعة من الأفراد تعارضت مواقفهم، لكن هذه المسرحيات لا تطمح إلى تحليل العلاقات الاجتماعية في سياقها التاريخي والاجتماعي لتجسّد بعدئذ الصراع الجدلي الذي يعتبر نتيجة حتمية للتناقض في العلاقات أو للوضع الطبقي المفروض في المجتمع.              وينطبق هذا على مسرحية”امرأة الأب” لأحمد بن ذياب، و”المغرورة”6 لمحمد مرتاض، و”الأستاذ”7  و”أدباء المظهر”8  لرضا حوحو، وبالرغم من أنّ هذه المسرحيات ترتبط بالمجتمع مباشرة وتعبّر عن قضاياه، إلاّ أنّها تجرّدها من واقعها التاريخي، وتتجاوز بذلك البواعث الخفية للمشكلة الاجتماعية وإمكانيات حلّها، فابن دياب ينظر إلى مجتمعه من خلال فكرة مثالية، وينتقد الوضع القائم، لكنه لا يغوص في أعماقه ليكشف عن الجذور الأساسية للقضية والأسباب الكامنة وراء الظاهرة التي هو بصدد معالجتها.             ورضا حوحو يتجه إلى الواقع ويتفاعل معه، ويصوره بما فيه من أطراف متصارعة يكشف عنها ويقدمها من خلال نقد جريء وبأسلوب ساخر، كما يعنى بشقاء الرجل المثقف إزاء المجتمع الجاهل، وينصب نقده في المقام الأوّل على الطبقة البرجوازية يفضحها ويعريها و يكشف عن تناقضاتها  وإن كان لا يقف ليحلل ذلك الصراع في ضوء المعطيات التاريخية والاجتماعية للواقع الذي هو بصدد تناوله، ولا يبالي بحقيقة الصراع الطبقي.            وهنالك بالمقابل، مسرحيات عرضت هذا النمط من الصراع، فتحاول رصد حركة المجتمع من خلال العلاقات المتناقضة بين أفراد يمثلون بما حدد لهم من أبعاد، وانتماءات طبقية واتجاهات فكرية متباينة، وباحتكاك شخوص المسرحية يحتدم الصراع، وتبرز أطرافه بشكل واضح، ويشتد نضال الطبقة المظلومة، وهي تسير نحو تخليص نفسها من الظلم الواقع عليها.            هكذا وجدنا الصراع في “الهارب” و”العقرب” و”الوقف”واللعبة المقلوبة”وفي “انتظار نوفمبر جديد”، لقد كان الصراع في هذه المسرحيات طبقيا، مكتمل الأبعاد وواضح السمات.            ولعلّ هذا التباين في التناول يرجع أساسا إلى اختلاف الكتاب في اتجاهاتهم الفكرية، ومدى وضوح رؤاهم، وتفاوت في أدواتهم الفنية من خلال فكرة مثالية أخلاقية ويتطلع إليها داعيا لها، ولا تتعدى تلك الدعوة حدود الملاحظة، ونقد الظواهر الاجتماعية، بينما يتجه الفريق الآخر إلى الواقع، يحلل النظام القائم و يبرز النقائص و التناقضات بغية طرح سبل التغيير لتحقيق الغاية التي يهدف إليها العمل المسرحي.رسم الشخصيات الدرامية:اختيار الشخصيات، كان يخضع للموضوع المعالج وطبيعته ويحدده انتماء الكاتب الطبقي، ولعلّ ما يهمّنا هنا تعامل المؤلف مع شخصياته ورسمها رسما واضحا في سياق الواقع، ومهارته الفنية في تحريكها، وإبراز مواقفها دون غموض أو التباس ، لأنّ الصراع الدرامي لا يتولّد إلاّ عن تفاعل شخصيات بناء جيد ومواقف متقابلة  يكشف عنها الحوار.          وتتمثّل مواقف الشخصيات في أبعادها الثلاثة، الفسيولوجي والاجتماعي والنفسي،والخلق الدرامي المتكامل للشخصية لا يقوم إلاّ بوضوح هذه الأبعاد، وبنائها لا يكتمل بمنأى عنها، فهي التي تحدّد كيانها الجسماني وإطارها الاجتماعي، ولا يمكن دراسة الشخصية وتحليل دوافع سلوكها إلاّ في ضوء البعدين السابقين الذين حدّدهما لها الكاتب.               ولمّا كانت المسرحيات الاجتماعية تنزع إلى الاتجاه الواقعي في الدراما بشكل عام، من حيث تصويرها للواقع وما يعجّ فيه من قضايا ومشكلات، فإنّها من خلال ذلك تطمح إلى رصد تطلعات الإنسان العادي، وتصوير صراعه مع القوى الاجتماعية المناوئة له، ويتمثّل ذلك الصراع في تمرده على التقاليد وقوانين المجتمع، أو نضاله لتغيير وضع طبقي معين، وهذا التناول يكشف عن طبيعة المشكلات المطروحة، وينمّ عن رؤية إنسانية عامة، تقوم على تأكيد إنسانية الفرد، وتكشف عن محاولته الهادفة إلى إقامة علاقة سويّة، وتحقيق الانسجام مع الوجود والمتغيرات الحضارية فيه.              لذلك حاول كتّاب الدراما الاجتماعية التعامل مع شخصيات واقعية من عامة الناس تعكس تناولهم الواقعي للقضايا الاجتماعية، خلافا لكتاب الاتجاه التاريخي، الذين اعتمدوا على شخصيات تاريخية، لا تؤكّد ذلك الاتصال المباشر بالواقع الذي تحققه المسرحية الاجتماعية ولا تلتحم به، حيث كانت الشخصيات التاريخية تنتمي أغلبها إلى الطبقة الحاكمة من ملوك وأمراء وقادة.            وتتجلّى واقعية الشخصية في كونها نابعة من صميم الواقع، ومن هنا لجأ الكتاب في انتقاء شخصياتهم التي أصبحت تمثل جانب البطولة في أعمالهم، وتحديد ملامحها، إلى الواقع، فامتزجت سماتها بمعالمها، وانعكست آثارها على سلوكها من خلال ما يمارسه المجتمع عليها من ضغوط تدفع بها إلى الصراع.           وإذا كانت بعض المسرحيات قد نجحت في تقديم شخصيات متكاملة البناء، واضحة المعالم، بإيجاز وتركيز، فإنّنا نجد العديد من تلك المسرحيات لاسيما ذات الشكل  البنائي الضعيف، قد عجزت عن تحقيق ذلك، فجاء تصوير الشخصيات فيها إمّا ضعيفا، وإمّا غير مكتمل لنقص أحد أبعاد الشخصية، ولقد انعكس ذلك على الصراع الذي رأيناه إمّا مفتعلاً سرعان ما يتداعى، وإمّا ساكنا يسير ببطء، وهذا بدوره قد أثّر على الحركة المسرحية، وكسر الإيقاع فيها، والأمثلة على ذلك عديدة، حتّى أنّ المسرحيات التي يمكن اعتبارها جيّدة البناء لا تخلو من شخصية أو اثنثين على الأقل، في حاجة إلى عناية ودراسة من لدن الكاتب، كي يكتمل رسمها، وتتّحد أبعادها دون التباس أو غموض.            إنّ مسرحية”امرأة و رجلان” لا يتحدّد فيها الإطار الاجتماعي لشخصية (عادل)، وإن كانت بعض ملامح الشخصية تدلّ على انتمائه الطبقي البرجوازي، في حين كان بإمكاننا تحديد الإطار الاجتماعي لشخصيات الأخرى مثل(شهلة)، (عمر)و(فوزية) التي لم يكن لديها من الإمكانات المادية ما يسمح لها بالحصول على مسكن مفروش، أو يخوّل لها التجوّل عبر كامل البلاد الأوروبية.            وإذا انتقلنا إلى مسرحية” البشير” لأبي العيد دودو، أصبح البعد الاجتماعي للشخصية الرئيسية واضحا ومحدّدا، إنّه شاب متعلم لم يتجاوز العشرين من عمره، من عائلة ريفية، تحوّل والده من فلاّح إلى طحان يكدح من أجل قوت أسرته برحى القائد العميل للاستعمار “بوقشوطة” الذي صادر بقرته الوحيدة.           وعندما ينظر البشير إلى هذا الوضع، وتقترن رؤيته للواقع بوعيه العميق بذلك التناقض ومسبباته، لاسيما وهو شاب مثقف تثور نفسه، فيصمّم على التصدي لأعوان الاستعمار ومستغلي فئات الفلاحين السذج.           وتتميّز الشخصيات الموظفة في المسرحيات الاجتماعية بشكل عام بأنّها تنقسم إلى قسمين، يمثل كل قسم طبقة معينة بأبعادها التي تحدّد انتماءها الطبقي، أمّا الشخصيات التي تمثّل جانب البطولة فيها، فهي غالبا ما تمثّل الطبقة الكادحة أو الوسطى، تناضل كل منها من أجل استرجاع حقّ ضائع، كما يطالعنا في أعمال أخرى تحالف في كل الطبقات الشعبية التي تكرّس جهودها للثورة على الأوضاع لتحقيق الهدف الذي تسعى إليه، وتغيير النظام الجائر.لغة الحوار الدرامي: لعلّ ما يلاحظ على الحوار في مسرحيات هذا الاتجاه، أنّه يتفاوت من حيث مستواه الدراميوسلامة لغته، و ملاءمتها لطبيعة الموضوع الذي تنهض بتصويره.                                                                                                                                                                                                     فالحوار في مسرحيات محمد مرتاض، والجنيدي خليفة، وعبد الملك مرتاض كثيرا ما يتغير، فيبدو الحدث مجرّد مواقف باهتة، لا فعل فيها ولا حركة، ويتجلّى ذلك بوضوح في “الانتهازية” وفي “في انتظار نوفمبر جديد” اللتين جعلناهما محورا الدراسة في هذا الفصل، ففي هاتين المسرحيتين تتحوّل مقاطع حوارية طويلة إلى محادثة تظهر فيها الشخصيات تتجاذب أطراف الحديث في قضايا لا تمت بصلة إلى الموضوع الذي يمثّل محور الصراع في العمل المسرحي.            وغالبا ما يقع الكاتب في هذا النوع من الحوار، عندما يقدّم شخصيات متماثلة، ويفسح لها مجالاً واسعاً للحديث دون أن ينتبه لمدى خطورة ذلك وتأثيره السلبي على بنائه الفنّي، وفي أحيان أخرى نجد أنفسنا إزاء شخصيات، رغم تقابلها و تعارض مواقفها، لا نشهد لها توتّرا  أو صداما، وقد تكرّرت هذه المسألة في مسرحيات عديدة.           ولعلّ ما تتميّز به لغة الحوار في المسرحية الاجتماعية، أنّها بسيطة تنزع إلى الواقعية في التعبير والتصوير، وهي إلى ذلك تقنع بالمضمون الاجتماعي الذي تطمح المسرحيات إلى التعبير عنه، على أنّ التصوير الواقعي يضطر الكاتب إلى التعامل مع لغته بدقّة وحرص في اختيار الألفاظ وصياغة الجمل لتتناسب مع الشخصيات الجديدة والتي هو بصدد رسمها، ومن ثمّ ينبغي عليه أن يراعي الاختلاف القائم في الحديث، بين البواب، والفلاّح، والموظّف، والمسؤول، والذين أصبحوا أبطالاً في الدراما الحديثة، فلكل شخصية لغتها التي تناسب مستواها وتحدّد أبعادها، وحديث الفلاّح عن الثورة الزراعية، ووصفه لمعاناته من الاستغلال، ومن هنا فإنّ أية مبالغة في الحوار تعكس عدم ملاءمة اللغة للشخصية المتحدّثة، وتكشف بعدها عن الواقعية.         ونذكر على سبيل المثال بعض النماذج التي رأينا فيها الحوار بعيدا عن واقع الشخصية ولا يكشف عن حقيقتها، ومنها شخصيات”ابن دياب”، و”تبرة”و”سعدية” في مسرحية “في انتظار نوفمبر جديد”، والأمّ” رابحة”في مسرحية “المغرورة، إنّ هذه الشخصيات الموظفة، رغم سذاجتها و أميتها، لا تنطق إلاّ بأسلوب فصيح وبلُغة راقية تتناقض وطبيعتها ومستواها التي تقدمها فيه المسرحية.              أمّا مسرحيات “سيدي فرج”و”حنين إلى الجبل”و”زواج بلا طلاق” لغتها أبعد ما تكون عن اللغة الدرامية، وهذه المسرحيات في الحقيقة مجرّد مواقف متتابعة، تتوالى اعتباطا دون خيط منطقي يربطها، ولا تحتوي على عقدة، ولا تقوم على صراع، لاسيما مسرحية “حنين إلى الجبل” التي كتبها “صالح خرفي” في الخمسينات، كما أنّه ضمن حواره أبياتا شعرية عديدة، وخطبة طويلة في مسرحيته الثانية، يلقيها رئيس الحكومة بعد أن يحصل الشعب على الاستقلال، ومثله في ذلك “أحمد بن دياب” الذي جعل شخصياته تستشهد في حديثها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، دون مراعاة مستواها وطبيعتها.الوحدات الثلاث في المسرحيّات:لقد تباين التزام الكتاب بالوحدات الثلاث وقد ظهر تجاوزهم لها في الأغلب الأعم، حيث اخترقوا وحدة الزمان، ولجئوا إلى التلوين في المكان، والمسرحيات التي اخترقت وحدتي الزمان والمكان هي غالبا تلك التي تقع في ثلاثة فصول وعددها سبع عشرة مسرحية.               بينما اعتمدت مسرحيات أخرى على التركيز في المكان دون التغيير فيه، وباتت الأحداث تضطرب خلال منظر واحد لا يتغيّر، وهذه المسرحيات ذات فصل واحد وعددها عشرة، أغلبها للكاتب “أحمد بودشيشة” وقد اقترن التركيز في المكان بوحدة الزمان، وامتدّ إلى الشخصيات التي تقلّص عددها، وأصبح لا يزيد عن خمس أو ستّ شخصيات في المسرحية الواحدة، وقد أضفى ذلك كله تركيزا على الحدث، وإبرازا للظاهرة الاجتماعية المطروحة، وجعل المسرحيّة متماسكة البناء.               والجدير بالذكر بهذا الصدد، “أسلوب التجريد” الذي اعتمدته بعض المسرحيات في تصوير الزمان والمكان، وهذه ظاهرة تكاد تكون عامة على مسرحيات (أحمد بو دشيشة)، لاسيما تلك التي تقع في فصل واحد، وهذه المسرحيات في مجملها، ورغم ارتباطها بالواقع وصلتها الوثيقة به لم تعن برسم البيئة التي صدرت عنها، فخلت-المسرحيات- من أدنى إشارة على زمان ومكان الأحداث، وتحوّلت الشخصيات إلى دمى متحرّكة في مجال فسيح لا حدود له ولا معالم، وفي اعتقادنا أنّ هذا الأسلوب لا يلاءم المواضيع الواقعية المعالجة، ولا ينسجم مع طبيعتها الاجتماعية التي لا تستدعي لجوء الكاتب لمثل هذا الأسلوب، لأنّه كثيرا ما يوقع العمل الفني في بعض المغالطات التي لا تقدّم بناءه بقدر ما تسيء إليه.           وتندرج مضامين الاتجاه الاجتماعي تحت قسمين رئيسين هما المسرحيات التي تعالج مشكلات الأسرة الجزائرية، والمسرحيات التي تتناول الأزمات الاجتماعية، أمّا من حيث الهدف فنلاحظ أنّ بعض المسرحيات، والتي تنزع إلى الواقعية النقدية، لا تعتمد توظيف الشعارات وإنّما تكتفي بالنقد من خلال إبراز النقائص الاجتماعية، وتشخيصها بحيث تلفت المسرحة النظر إليها، وتقوم بتحليل التناقضات في المجتمع، لكنّها تعجز عن تغييره لأنّها لا تلتحم بالقوى الاجتماعية الايجابية القادرة على التغيير، ونشعر من خلال حركة الشخوص واحتكاكها، بالحاجة الماسة إلى الاعتماد على مفهوم من المفهومات التقدمية، أو شعار من الشعارات كسبيل للمواجهة، ولاحظنا أنّ هذا النوع من المسرحيات كثيرا ما يقع في شكل المسرحية ذات الفصل الواحد، ونذكر على سبيل المثال المجموعات المسرحية “لأحمد بودشيشة” وهي “الصعود إلى السقيفة” و”وفاة الحي الميت” و”البواب” والتي يصل عدد المسرحيات فيها إلى ثلاث عشرة مسرحية، إضافة إلى ذلك مسرحيات “امرأة الأب”،”الحذاء الملعون”،”أدباء المظهر”، “الأستاذ”،”حنين إلى الجبل”، “زواج بلا طلاق”، “المغرورة”،” الثمن”،”سيدي فرج” و”العاهة”.              أمّا المسرحيات التي تتجه نحو الاتجاه الواقعي الاشتراكي فهي تلجأ إلى التوظيف المباشر للشعارات والمفهومات التقدمية بألفاظها التي يعلنها المجتمع أسلوبا لحياته في مرحلة من مراحل تطوره، كما تسهم هذه الألفاظ والشعارات بما لها من إيحاءات ودلالات،في تشكيل عقدة المسرحية، وبذلك يتجاوز العمل المسرحي حدود الملاحظة، ومجرد نقد الظاهرة الاجتماعية ليحقق الهدف الذي يصبو إليه والمتمثل في الدعوة، والحثّ على التغيير الجذري للقضاء على المعوقات التي تقف إزاء تطور المجتمع، والأعمال المسرحية التي تدخل تحت هذا الإطار قليلة، إلاّ أنّها تمثل بذرة أولى و رائدة نحو نشوء أدب مسرحي واقعي اشتراكي في الجزائر.