صورة الوجود الإنساني في أعمال ابتسام الدمشاوي ….. د. شعيب خلف

صورة الوجود الإنساني

في أعمال ابتسام الدمشاوي

د. شعيب خلف

ناقد من مصر

حين تطالع الأعمال السردية لابتسام الدمشاوي، وهي علي الترتيب : موعد مع أبي الهول ودفء مغادر ونزيف([1]) تطالعك صورة لعالمين متجاورين، متباعدين ، استطاعت صاحبته أن تقدم رصدًا لبعض ملامح الوجود الخاص لكل منهما معًا ، وذلك من خلال ما تقدمه هذه الرؤية السردية من تبئير للحظة المعيشة وتأملها ، والتعامل مع الفكرة المألوفة والهامشية ووضعها في قالب وجودي أكثر جدية وأبعد أثرًا . هذا القالب يقدم رصدًا لصورة الوجود لهذين العالمين وما يطرأ علي هذا الوجود من حراك صدامي يأخذ جانب الحدة والعنف حينًا ، ويهبط سلمه فَيَلِينُ فتكسوه المودة والرحمة أحيانًا آخري ، لكن يجب أن نقتنع في النهاية أنه يجب ألا يغرينا هذا الصدام ، ويأخذنا إلي جانب بعيد عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها  ، أما ما يحسب للمرأة كروائية هو دخولها إلى هذا النوع من الموضوعات ؛ حيث يعد ذلك جرأة ومغامرة وقدرة على التقاط الواقعي وتوظيفه داخل السرد.

تتوزع الرؤية السردية في أعمال (ابتسام) بين هذين العالمين : عالم المرأة وعالم الرجل؛ حيث تخرج منهما صورة للوجود الإنساني ، بكل ما يحمل من لحظات حلوة ، وأخرى غيرها لكن السرد هنا يعمل علي تبئير للحظة المرة التي تريد التركيز عليها لتصنع من خلالها أدبًا يقرأ ، فصورة الرجل في هذه الأعمال مجتمعة تأخذ جانبًا سلبيًّا ، فهو المتسلط الضعيف ، الذي يمارس الإيذاء البدني والقهر الجسدي ، يأخذ في أحيان كثيرة شكلًا كاريكاتوريًّا يظن نفسه ملكًا سيدًا ، ويظن أن العالم النسوي كله مسخر لخدمته ، ورهن لإشارته ، ولا يقبل من هذا العالم إلا الإذعان واستقبال القرار. في المقابل تكتمل الصورة فتأتي صورة المرأة المقهورة المعذبة ؛ لكن ليست هذه هي الصورة كاملة، بل تكتمل الصورة بتمردها علي الوضع الراهن حين ترفض الصورة التي يقدمها بها للناس ، ترفض أن تكون تحفة ذهبية داخل صندوق مغلق في مكان منزوٍ بعيد، أو لوحة جميلة باتجاه الحائط لا يرى الناس منها إلا إطارها الخلفي . قدمت لنا (ابتسام الدمشاوي) من خلال هذه القصص صورة للمرأة من خلال المرأة ، امرأة سجينة ، محاطة بأسوار متعددة ، الواحد يتلو الآخر؛ لكنها متمردة علي هذا الوضع مستندة لتاريخ طويل من التعظيم والتفخيم والتقديس .

إن ما تقدمه (ابتسام) هو امتداد لما قدمته القاصات العربيات من تنمية إرادة المرأة العربية في عدم الاستسلام لواقعها، والإعراب عن ذاتها وطموحها أمثال: لطيفة الزيات وجيلان حمزة وزينب صادق وسكينة فؤاد وعائشة أبو النور ونوال السعداوي ، وسلوى بكر ونجوى شعبان ونعمات البحيري وغيرهن كثير . ومن هنا حمل القص لديها علي عاتقه مهمة أن  يجعل البطلة تحمل رغبة في تغيير واقعها، مهما كانت صعوبة هذا الواقع وجبروت عناصره ، ومهما كانت هيمنة المعايير التقليدية التي تقيد إمكانية مشاركة المرأة في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية . وهي تكشف في كتابتها عن مواطن الخلل الذي يشوب هذه العلاقة في المجتمع .

منذ المجموعة الأولي والقصة الأولي فيها (قتيل ) نرى صورة للقهر الذكوري الذي يمثله الرجل علي المرأة من وجهة نظر المرأة ، فبعد أن طلبت منه أن يتعلم المبادئ السامية ، كانت المفارقة أنه تعلم كل المبادئ التي طلبتها منه ، تعلم كل ما أمرته به ، ثم تكون المفارقة أنه لم يكذب إلا عليها ولم يسرق إلا منها فتبادله قهرًا بقهر، تبادله القهر فتضربه لكنه بفعل المفارقة يزداد قوة ، وهو يضربها حتى الموت ، ويموت الاثنان: هو من الخوف، وهي من الغفلة، هنا تقدم لنا العلاقة الجدلية بين المرأة ، والرجل صورة نمطية قدمتها القاصة بشكل فني بدأتها من جدل العلاقة : الرجل المرأة ، أم المرأة الرجل ؟ أسبقية الخلق أم أسبقية الميلاد والتكوين ؟  لكنها هنا تعطي الأولوية للحمل والميلاد . فالمرأة الأصل للحمل والميلاد، ومن هنا تقدم هذا لحظة للتباهي مع الرجل ، لحظة امتصاص مكره وخداعه ولسان حالها يقول: كيف تمكر علي؟ كيف تخدعني وأنا حملتك ووضعتك ؟ ومن هنا جعلت هذا الماكر المخادع لا ينتج إلا عن حمل غير شرعي، فقد حملت به سفاحًا ثم دفعته ليتعلم المبادئ السامية علي الرغم من أن المنبت الذي نبت فيه آثم ، والقصة لا تحمل مفارقة ؛ فالنتيجة جاءت طبيعية للمقدمة (حملت به سفاحًا … وضعته علي قارعة الطريق، قالت له: اذهب؛ فتعلم كل المبادئ السامية.. لا تكذب.. لا تسرق.. لا تجع.. لا تعرى.. لا تعشق . تابعته من بعيد .. تعلم كل ما أمرته به .. لم يكذب قط إلا عليها … لم يسرق إلا منها .. جاع وتعرى .. وتعدى على كل ما ليس له بحق ). ( قتيل / موعد مع أبي الهول، ص 13) . في الفقرة السابقة نلاحظ اهتزازًا في البنية السردية للقصة ، فالحمل السفاح ، ثم الوضع علي قارعة الطريق ، ثم تطلب منه أن يتعلم كل المبادئ السامية ، ثم تصرح أنه تعلم كل ما أمرته به ، ثم تدعي أنه لم يكذب إلا عليها، ولم يسرق إلا منها ، ثم تقول: جاع وتعرى ، ثم تقول: تعدى على كل ما ليس له بحق، على الرغم من تصريحها السابق أنه لم يفعل إثمًا إلا معها .

وتستمر صورة المرأة المقهورة مع القاصة ففي قصة (فرعون/ مجموعة موعد مع أبي الهول ) تعطي صورة للمرأة (المصرية  بدليل تحديدها منذ أربعة ألاف عام ) التي تبني الهرم الذي يرمز للرجل بدليل جعلها عنوان القصة فرعون إشارة إلى الرجل ، والمصري تحديدًا والمتسلط إذا كنا أكثر تحديدًا ، وحينما فرغت من بنائه وتكوينه حاولت أن تستظل تحته، كما يستظل الآخرون الذين لم يتعبوا في بنائه كتعبها، فلم تجد مكانًا ( أرادت أن تستريح من عناء البناء وتلتقط أنفاسها  .. حاولت أن تجد لنفسها مكانًا بين المستظلين به .. فلم تجد .. جلست تنظر إليه من بعيد وتمسح دمعة تدحرجت من عينيها. وعادت تجمع الأحجار من جديد حتى تبني غيره) ص18. صورة تحمل مبالغة في وصف التضحية التي تقدمها المرأة من أربعة ألاف عام ، وما يقابلها عند الرجل من هدم لهذا البناء ومقابلة الحسنة بالسيئة ، وعدم المشاركة ومبادلة هذه الروح الرقيقة التي تبني بالقهر والتعصب.

وفي قصة (اختناق / مجموعة دفء مغادر) نجد المعنى يتكرر؛ الزوجة التي تضحي بالحرمان من أجل غربة الزوج الذي يأتي يومًا ويعود ليعوضها حرمانها، لكن وللأسف الشديد تقدم لنا زوجًا مخادعًا كثير الوعود ، يقول: ( لابد من السفر؛ هو الحل .. لن أنساك.. اكتبي لي.. تسلمت العمل .. شاق ..  نقود قليلة.. لا تقلقي .. سأحاول أن أعود .. لن أتمكن من العودة هذا العام … في العام القادم تعرفت علي أسرة يقدمون لي خدمات كثيرة …أرسل لك صورتي من موقع العمل ..) ص7 . وهي دائمًا التي تضحي وتنتظر أيضًا في حرمان؛ فقد غاب عنها عشر سنوات في قصة (عقم من مجموعة نزيف ) ( أسائل نفسي هل أغضبته؟ لقد كنت أجمع زهرات الحب .. والغناء وأزرعها لك في حديقة عمري ، كلما نبتت زهرة جديدة أشعر بقرب مجيئك .. يتحداني الآخر.. أقطف الزهرات ) ص 76.

في قصة (غربة/ موعد مع أبي الهول ) تستمر القاصة في تقديم صورة القهر الواقع علي بطلتها؛ حيث تبدأ من العنوان؛ فالغربة في المكان الأليف أقسى أنواع القهر. ( ظلت تدور في الغرفة المظلمة .. تتلمس أي شيء تقع يدها عليه .. لم تتعرف علي شيء .. كل ما تلمسه بلا ملامح) ص35 . وتنتهي النهاية التي تكررت كثيرًا في المجموعة الانتحار أو الموت ( تصعد درجات السلم إلي الدور الرابع ثم تلقي بجثتها من الشرفة ) ص36.

وتبرز صورة التضحية للمرأة / الزوجة. فهذه قصة أم محمد زينب (تلبس أحسن ثوبها .. تتجمل.. تطلب من زوجها أن يرافقها.. تطرق باب زوجة أخيها: أريد أن أزوجك زوجي، تحمر الأخيرة خجلًا . تقيم زينب العرس بعد أن تبيع أثاثها القديم والدجاجات وتشتري غرفة نوم جديدة للعروسين ) (قصة أم محمد زينب / نزيف) ص 24 .

وتقدم صورة أخرى من صور الحرمان للمرأة من خلال صورة المرأة الخادمة وابنتها في (قصة وجع من مجموعة نزيف ) ( تسللت من أمها.. جاءتني في المطبخ: ” ده سمن بلدي ”  “نعم يا حبيبتي “، “عارفاه أبويا اشتري نصف كيلو لما ولدت أمي “) ص 39 . ثم تقول: ( أنا بعرف رمضان لما أمي تعمل سلطة ) ص39 .

وتأتي أيضًا صورة القهر للمرأة من خلال التربص بها في كل مكان من خلال قصة ( تربص / مجموعة نزيف ) التي ترصد هذا التربص في الشارع، في البيت، في حجرة نومها ( تحولت كل الأشياء التي حولي إلى عيون ترقبني … أصبحت أخشى أن أبدل ثيابي في غرفتي.. أخشى أن أغني.. أخشى أن أقرأ.. أخشى أن أنام) ص 73. ويستمر التربص بها في قصة (انفلات ) ( انقطع آخر حبل كان يربطني بالحياة ، وكنت أتشبث به بكل ما أملك من قوة .. وأرى الآخرين يبذلون الجهد لقطعه لم أكن أعبأ بهم، وأقول لنفسي : هناك عينان ترقباني.. تمنعان الآخرين من قطع الحبل ) ص 83 . وتقول: ( أصرخ.. ينظرون إليَّ بتشفي، ويطلقون الضحكات تجلجل في أركان الدنيا ) ص 83 .

والأمر ذاته في قصة (اختراق / مجموعة دفء مغادر)، ( عشرون عامًا أقف صامدة وأترك كل من أراد أن يتعلم الرماية يصوب نحوي .. تخترقني كل يوم بضع رصاصات .. أبتسم لمن يطلق الرصاص ، وأحيي من أصاب الهدف ) ص13.  ومازالت تعيش الاغتراب ، وابتعاد الناس وهي تتحدث عما غرسته من شجر ( تحولت كل الثمار إلي أذرع اجتذبتني بقوة.. أحاطت بي.. كتمت أنفاسي. ولازلت أنادي المارين وهم يهربون كلما رأوني ولازالت تطبق علي صدري دون رحمة ) ( شجرة الموت / دفء مغادر ) ص 30  .

وسعاد في قصة (انطلاق / مجموعة دفء مغادر) لم تجد سعادتها وانطلاقها وحريتها إلا بعد طلاقها ( تم طلاق السيدة سعاد طلقة بائنة بناء علي طلبها.. تعالي وقعي يا سيدتي .. قفزت سعاد وأمسكت بالقلم.. وقعت وانطلقت مسرعة إلي الخارج.. وأخوها يناديها ويحث الخطي ليلحق بها وهي تحلق في سماء الحرية التي دفعت ثمنها غاليًا عشر سنوات ) ص 33.

وامتدادًا للصورة البريئة التي ترسمها ابتسام للمرأة في قصة (قصة لم تكتمل) فبعد أن أعدت قنينة المداد لكي تكتب قصتها، وبعد أن أضافت لها دمها النازف ودموعها لم تستطع الكتابة ” فاضطررت إلي فصل التيار الكهربائي، وحركت الفرشاة، وخططت كل ما أريد كتابته، ثم أعدت التيار مرة أخرى، ونظرت في الورقة.. رأيت فرشاة رقيقة تمسك بها يد قوية، وتظل ترفرف حتى تختنق الورقة ويسيل المداد ” ص 87 .

في قصة (غروب/ موعد مع أبي الهول)  تصف القاصة لحظة احتضار البطلة وموتها وذهابها للقبر؛ لتشير إلي أن الحياة الآخرة هي لحظة الخلاص، بدليل أن أخاها الأكبر يناديها ( تعالي يا رابعة لنبدأ من جديد ) ص 22.

وحينما تقدم قصة لتتحدث فيها عن الرجل – قدمت لنا الرجل من خلال مجموعة من الصفات السلبية ، فهو دائم الشكوى ، ممثل بارع ، صاحب وجه مجعد ، وذلك في قصة (وهم/ موعد مع أبي الهول ) ( ذات يوم رآني مخرج سينمائي .. قال لي : شكلك ينفع في دور العجوز الذي يرقد في فراشه حتى يموت ) ص26 . وفي نهاية القصة تثبت أن الرجل لم يضيع في الأوهام عمره، بل ( ساهم في رفع مستوى التمثيل في بلاده وحقق فنًّا رائعًا وسجل اسمه في أرشيف السينما وجعل لنفسه تاريخًا عظيمًا ) 27.

في قصة ( القائد / مجموعة نزيف ) تظهر صورة الرجل الذي يخفي سوءه بالقناع – هو يجلس في ركن مظلم، يسمع صوت خطواتها، يسرع بإضاءة المصباح الكبير، تصفه بجوار ظلمة المكان أنها حينما ذهبت لتراه رأت ( وجهًا قبيحًا مليئًا بالتقيحات ) ص 7 . وتتابع زيفه وتحاول كشفه ( لما رآني أسرع يبحث عن القناع … مددت يدي فأسقطت القناع بعيدًا . حاول أن يتناوله بيده فلم يستطع ) ( القائد / مجموعة نزيف) ص 7 ،  ثم تصفه وهو يحاول أن يخفي وجهه الحقيقي باستخدامه القوة التي التصقت بالرجل الضعيف الذي يستبدل ضعفه بقوة مصطنعة ( تناول عكازه ، واندفع خلفي مد عكازه : ضربني ضربة مرتعشة لم تصبني بأذى كثير.. عاد إلي الحجرة وضع القناع وألصقه جيدًا ) ( القائد / مجموعة نزيف) ص 7، ثم تذكره وقد غير مظهره ليظهر دائمًا أمام رفاقها بصورة مختلفة تدل علي وداعة وسكينة، لكنها مصرة أن تكشف زيفه وفضحه والتمرد عليه: ( لما عدت أنا والرفاق وجدناه جالسًا متكئًا علي عكازه في ثقة وهدوء .. حياني برقة وقال لي: أين أنت ! لم أرك منذ وقت طويل ). ( القائد / مجموعة نزيف)  ص 7. صورة الزيف جعلت الرفاق ينظرون إليها نظرة مختلفة ، لكنها مازالت علي إصرارها في كشف زيفه: ( ظللت أقسم لنفسي أن ما رأيته حقيقة حتى رآه الرفاق عندما دبرت لهم زيارة مفاجئة … سقط منه العكاز.. و سقط هو أيضًا حمله الرفاق دون أن ينظروا إلي وجهه ، سرعان ما وضع القناع .. وعاد يقود مسيرتهم من جديد ) ( القائد / مجموعة نزيف ) ص 8 . لو عدنا للعنوان لوجدناه يحمل قدرًا كبيرًا من السخرية.. أي قيادة تترك للزيف وهو الذي أخفى حقيقته مرة خلف قناع ، وأخرى خلف براءة التصرف والإيحاء بالهدوء والسكينة .

في قصة ( غرام عواطف ) تستمر صورة الرجل التي ترسمه القاصة علي هيئة خيال (المآتة).  فمنذ العنوان جعلت غرام بنت عواطف خالية من نسب الأبوة، فلم تذكر اسم أبيها، بل قالت:  (ظلت عواطف معجبة بالفكرة وقررت أن تتخذ لنفسها خيال مآتة تخاف منه وقتما تشاء وتتفوق علي العصافير وقتما تشاء أيضًا ) ص39. ورثت ابنتها غرام من أمها الموقف من الرجل. فغرام امتداد طبيعي للأم ، امتداد طبيعي للمرأة عامة ( أما غرام فكانت متعتها في تعددهم وتزداد متعتها كلما رأتهم يتناحرون من أجلها ) ص40 .

في قصة (بروش/ موعد مع أبي الهول) تقدم لنا صورة آخري من صور الرجل التي مرت علينا في المجموعة ، صورة الرجل الذي تنخدع المرأة فيه فتظنه صيدًا ثمينًا وتكتشف في النهاية العكس ، البروش الجميل الذي وجدته تحت قدميها يلمع لمعانًا شديدًا. ولاحظ معي أنها تركز علي عبارة تحت قدميها ، وهذه بداية ، موقف من الرجل فيه تعصب وتزمت وقلب للحقائق ( بروش جميل علي هيئة طاووس له ألوان بديعة مغرية ..أزالت عنه ما علق به من أتربة وحاولت أن تعدل من اعوجاجه ، تمنت أن يكون جوهرًا ثمينًا ) ص 55. ثم تقول: ( لعله سقط من إحدي النساء اللاتي لا يشعرن بقيمة ما يمتلكن .. أو لعل إحداهن رمته بعد أن ملت من تعليقه ) ص55. ثم انظر إلى رأي جارتها أيضًا (عادت إلي المنزل قالت لها جارتها : هذا البروش جميل ولكنه معوج.. فقوميه، ومدت يدها.. حاولت أن تعدله) ص56 . أيضًا هو الأعوج خلافًا للمواريث الشرعية المعروفة بين الرجل والمرأة (حاولت أن تعدله ولكنه سقط من يدها .. تكسر وتناثرت أجزاؤه .. لملمت ما استطاعت منه وقالت : استبدله عند الصائغ بآخر يشبهه .. نظر الصائغ بمجهره وقال لها : ” يا مدام، ده فالصو”. عادت مطرقة تنظر تحت قدميها .. ثم ألقت بالبقايا علي قارعة الطريق وداست عليها بقدمها حتى لا تغري به غيرها من البائسات ) ص56.

في قصة ( موعد مع أبي الهول من المجموعة المسماة بهذا الاسم ) يستمر الموقف العدائي من الرجل ( لقد حزنت عندما أنجبتك بنتًا بعد عدد من الأولاد ، غضبت فاطمة وقالت لها : أنا أعرف أن النساء يكرهن إنجاب البنات، ليس كرهًا لك ، وإنما خوفًا عليك مما تعاني البنات في مجتمعنا ؟ وماذا أفعل يا أمي ؟ كوني حريصة، لا تستجيبي لرجل حتى لو شعرت أنك تحبينه ) ص72 ، ثم تقول فاطمة بطلة القصة موجهة كلامها للرجال: ( قررت الانتحار كي أترك لكم الدنيا تعيشون فيها بمفردكم ، ناديتني مرة أخرى أسلمتني لجلاد باسم الأبوة … وللضياع باسم الحب .. حرمتني من الأمومة باسم التحرر ) ص 77.

الموقف العدائي واضح من الرجل حتى لو كان الأب أو الحبيب ، فالموقف غاية في التأزم، وكأن النموذج الذي تقدمه لنا القاصة يعيش حالة من التأزم النفسي. إن بطلة ابتسام الدمشاوي دائمًا تعاني من حالة كره شديد للرجل ، حالة من عدم الثقة والاطمئنان.

في قصة ( ابن فلة/ نزيف ) صورة أخرى للرجل الذي نعرفه (العبيط ) ابن أمه التي تقرر أن تزوجه ( يمكن يعقل) ، وكأن الرجل لا يعقل إلا إذا تزوج ، وهذا أمر مغلوط كما حدث من قبل حين جعلته أعوج، وحين أشارت إليها جارتها بذلك ، كما تقول وتضيف إليه بجوار ما ألصقت به من صفات أن يلجأ للضرب ليحقق شخصيته ( اشترت له خيزران ليضرب به العروس حتى تهابه وتحترمه ) ص 12 .

في قصة ( شتات/ نزيف ) نرى صورة أخرى لا أستطيع أن أقول للرجل؛ لأنها هنا أخرجته عن إطار الرجولة وجعلته صورة مقززة يأمر أهله بالفاحشة ويقودها للهلاك. وهذا من أقبح الصور التي يمكن أن تنتج عن وجود إنساني ، أو علاقة حميمة . ( سأل زوجته التي يحبها بجنون : كيف كان اللقاء بينك وبين صديقي هل خرج سعيدًا … أم سأشعر بالحرج منه كالعادة ) ص 15، وتصفه مرغمة على أمرها وهو الذي يقودها إلي ذلك ( قالت له من بين دموعها : لماذا تزوجتني؟! قال: لأني لم أجد غيرك .. ). (شتات/ نزيف) ص 15،  ودائمًا تقدم لها المبرر حتى في الخطيئة فالرجل المحرض عليها الداعي لها فتقول: ( تخرج في المساء تبحث عن رجل ملون يطعمها وتسقيه .. ثم تتقيأ ). ( شتات/ نزيف) ص 16؛ فهي التي تتقزز من الفعل .

في قصة (صراع) ترمز ابتسام للرجل بالأسد / القوة، وترمز للمرأة بالحية / الدهاء، لكنها قامت في البداية بالسيطرة عليه والتحكم فيه من خلال ما قامت به من قذف سمها في عينيه فتحكمت فيه (الأسد العظيم يجري مذعورًا أمام الحية التي تصر أن تسبقه وتقف أمامه لتقذف سمها في عينيه فيعلو صراخه ويترنح يمينًا وشمالًا وتنتصر للمرأة أيضًا وهو يسبها ويتوعدها بالانتقام ..) ص 27 . ولما تمكنت منه وتحكمت وصفتها بأنها صارت رحيمة:  (الحية الرحيمة لم تطق رؤيته عاجزًا .. قالت له: أعينك علي الحياة وتأتمر بأوامري  ولا تفعل شيئًا دون مشورتي، لم يكن أمامه إلا الرضوخ). ثم تسيطر عليه وهذا ما تمنته ( أحضرت له سلسلة ذهبية تليق بمقامه وأخذت تجره بها وتربطه في جذع شجرة عظيمة تذهب هي لتدير الاجتماعات وتقابل كبار الحيوانات وتعقد معهم الصفقات وتعود آخر اليوم تحمل له الطعام وتخبره بما أنجزته لإصلاح الغابة . ثم تسير إلي شاطئ النهر تلتقي بثعبانها .. تقضي معه أوقاتًا طيبة ) ص27 . هنا يتحول السرد إلي نوع من السخرية من خلال استحضار المعادلات:  الأسد / الحية . فالأسد الذي يجسد القوة ، الشجاعة ، الشمس ، الخلود ، الزمن ، كما أنه غالبًا ما يجسد الحيوية والسلطة الحامية (يجري مذعورًا أمام الحية التي تصر أن تسبقه وتقف أمامه لتقذف سمها في عينيه فيعلو صراخه ويترنح يمينًا وشمالًا) .. والحية التي تتعدد رموزها: فهي رمز جهنمي أو تحت أرضي ، رمز المعرفة والحكمة ، رمز الشر ، رمز الخصب والمعرفة والخلود ، رمز جنائزي، رمز الينابيع و المياه ([1] ) أحضرت له سلسلة ذهبية تليق بمقامه وأخذت تجره بها وتربطه في جذع شجرة. لقد وفقت القاصة في رأيي في استحضار الحية رمزًا للمرأة حيث التفكير الجهنمي والمكر والدهاء. وهذا ما مكنها من القيادة بعد أن قامت بحيلتها بسلب قوته التي هي في بصره، فكان من السهل قيادته، بل اعتبرت هذا الفعل رحمة بعجزه (الحية الرحيمة لم تطق رؤيته عاجزًا .. قالت له أعينك علي الحياة وتأتمر بأوامري،  ولا تفعل شيئًا دون مشورتي لم يكن أمامه إلا الرضوخ).

في قصة ( نزيف/ المجموعة المسماة بهذا الاسم  ) عادت لتقدم لنا صورة الرجل / الزوج الذي يمارس قهره وسطوته وجبروته ( أرى رجلًا كنت أدعوه ” زوجي ” يتسلل من باب الغرفة الخلفي ممسكًا بعصاه الغليظة… ويشج رأسي ) ص 51 . لاحظ معي أن الراوية الزوجة لا تريد أن تصرح بسلطة العلاقة الزوجية وتتعامل معه كرجل في العموم . ثم تبين موقف الناس المحيطين ( تنظر من خلف الزجاج : أرى الناس في حالة هرج ، منهم من يحاول أن يمنع العصا من السقوط على رأسي … منهم من يصفق ليزيد من حماسه أثناء الضرب.. وهناك على البعد أناس تحمر وجوههم خجلًا .. أو غيظًا أو هلعًا … ولكنهم يكتفون بذلك ) ص 51  . لقد صنفت الناس الرجال في مواقفهم من المرأة : منهم من يحاول أن يمنع العصا من السقوط علي رأسها، والفريق الثاني: يصفق ليزيد من حماسه أثناء الضرب، والفريق الثالث الذي يقف موقفًا وسطًا أو سلبيًّا أو حياديًّا، وهم أناس تحمر وجوههم خجلًا .. أو غيظًا أو هلعًا، وهي المعادلة الشهيرة في التلقي للعديد من الرسائل والخطابات .

أخيرًا أتساءل: هل هذا التكريس لصورة الرجل العنيف المتسلط هي الصورة التي يجب أن يكون عليها السرد النسوي؟ أو هل هو الموضوع المحبب لهذا السرد ؟ وهل المقصود من كل ما سبق هو الانتقاص من قدر الرجل والإعلاء من قدر المرأة ؟ لا أظن الأمر يتحقق بهذه الصورة .  لكن من حق السرد النسوي أن يتمرد علي السلطة الذكورية ما أتيح له من تمرد، كما يكون ذلك من حق السرد الذكوري أيضًا ؛ لكن ليس مبررًا أن يقدم كل منهما الآخر تقديمًا جارحًا .

د. شعيب خلف