أغسطس 26 2014
الأخلاقي و الجمالي.. الدرس الصيني ……… سيمون ليز
الأخلاقي و الجمالي.. الدرس الصينيسيمون ليز (*)
بالنسبة للفكر الصيني فإن الكتابة و الرسم و فن الخط تقوم مقام أوجه متعددة لمتطلّب اكتمال أخلاقي، لذا فإن كمال الأثر الفني و قيمته الجمالية يرتهنان كليا بحقيقة الفنان الإنسانية و بما يتحلى به من قيمة أخلاقية..
ضمن كرّاس – دليل يخص أحد المعارض التشكيلية الشخصية الاستعادية، ذات الأهمية الكبيرة، انعقد منذ حوالي عام و نصف بمتحف ستيديليك في أمستردام سوف تغمرني دهشة فائقة و أنا أتملى كلمات الرسام الذي أقيم المعرض إحياء لذكراه. فخلال منعطف حاسم من مساره الفني سيبادر، أي الرسام، إلى موافاة صديقه، و هو يبعث له بمجموعة من لوحاته المتأخرة، بتفسير هذا نصه: “يتحتم أن تكون لوحاتي القادمة أفضل من هذه، و مع ذلك فإني لا أحسّني مقتدرا بعد على الرسم بشكل أجود. إن المأزق الذي يقضّ مضجعي، في هذه الآونة، حاليا، هو كيف أصير إلى امرئ أفضل قبل أن أنجح في إنجاز رسم أحسن”.لا شيء من هذا، بحيث لا يتصل الأمر بأديب صيني ينتسب إلى قرن آخر قد يكون هو من دوّن هذه الأسطر بقدر ما يؤول إلى كولن ماك كاهون (1919 – 1987)، أهم رسام نيوزيلاندي لفترتنا على وجه الإطلاق. فواضع الكرّاس – الدليل – بحسبانه أحد المتضلعين في الفن الغربي – لم يكن بمقدوره، حين استشهاده بهذا الكلام، كظم ما استبد به من انذهال و إلاّ هل في مكنتنا تخيل مايكل أنجلو أو روبنس، إينغرس أو دي لاكروا، ماتيس أو بيكاسو يتجشمون عبء بعث فكرة شديدة الخصوصية من هذا الطراز ؟بالمقابل فإن فكرة كهذه لهي، بالنسبة للذائقة الجمالية الصينية التقليدية، من الجريان و السلاسة، و من ثم فإن كولن ماك كاهون لا يوتي هنا شيئا ذا بال فيما خلا معاودة حقيقة تتبدى لها جلية، ناجزة لا غبار عليها لدى أيّما فنان رصين. و إذن كيف أمكن للرسام النيوزيلاندي العصامي و المنطوي، فضلا عن هذا، على ذاته في عزلة إقليمه النائي أن ينضج، من حيث لا يدري، رؤية صينية خالصة تبقى لغزا محيرا و لن نشغل نفسنا، على أية حال، في هذا المقام باستكناهه. إن كان الأمر كذلك حسبنا أن نشير أن الرجل كان شغوفا بالقراءة، نهما في تحصيله، و أيضا إلى كون العديد من الماهيات الفلسفية و الجمالية المتصلة سواء بالفكر الصيني أو بالفكر الياباني سوف تتسرب، بدءا من ناصفة القرن العشرين، إلى الوعي الغربي توسلا بما لا يحصى من المؤلفات ذات الطبيعة التبسيطية و التعميمية، بل و حتى عبر روايات سيصادفها النجاح. في هذا المضمار لنا أن نستحضر، كمثال، روبير بّيرسينغ و عمله الشهير الموسوم ب “مقالة في الزّن و تعهّد الدراجات النارية”، الصادر ضمن سلسلة “بّوان” / منشورات “سوي”، (إذ سيلاقي رواجا جماهيريا لافتا خلال سنوات السبعينات من القرن المنصرم و ما فتئ الكتاب يتمتع، حتى يومنا هذا، بطراوته و أصالته و يقرأ لفائدته التي لا تنكر): “أو تريدون معرفة كيفية ممارسة الرسم بطريقة محكمة ؟ المسألة في غاية اليسر و البساطة، اسعوا إلى أن تكونوا جيّدين أنتم أوّلا و بعدها فلتباشروا الرسم بمنتهى العفوية”.باعتبارها ثمرات لجبلّتنا الإنسانية الجمعية من الطبيعي أن تبذر سائر الحضارات الكبرى قيما متماثلة من حيث الجوهر و لو أنها تفعل ذلك بطرائق متباينة و من غير أن تعزو إليها، لزوما، نفس المقدار من الأهمية، ذلك أن ما قد تزري به إحداها فتضعه في أدنى سلّمية القيم ليتأصل، ربما، بعدها بكيفية متماسكة و ممنهجة، قد يتلامح لدى أخرى سوى في هيئة حدس ملتمع تلتقط إبراقته حفنة من أفراد استثنائيين.كذا فإن فكرة الكمال الجمالي للأثر الفني الذي هو من اكتمال مبدعه الأخلاقي تعتبر، و إلى أبعد الحدود، عنصرا جوهريا في الفكر الصيني، بل و سوف تصبح، في كثير من الأحيان، تصورا مسكوكا يا ما حوّر مغزاه حتى يستجيب لبعض الترتيبات الآلية و المبسطة، أمّا في الغرب على العكس من هذا، و حتى من غير أن تكون مجهولة بصفة تامة، فنادرا ما حلت، أي هذه الفكرة، محل إنضاج أو تطوير منهجي، و كمثال فإن كان، من جهة، بمقدور فاساري إجراء نوع من المماثلة، دون أي تعثر يذكر، بين الجمال الروحي و صباغة فرا أنجليكو و ذلك في مرمى تفهّم القدسية التي منها استمد نسكه الدّيري فالظاهر أنه لن يخطر، من جهة ثانية، على باله، إلاّ فيما ندر، ربط الافتقارات الفنية لآثار أخرى مغايرة بالخصاصات الأخلاقية لمنشئيها.إن الفنون الصينية الأربعة الضاربة – الشعر، فن الخط، الرسم (المنجز بواسطة الحبر و مرقاش مسخر أصلا للتفنن الخطي)، ثم الموسيقى “كين” (اعتمادا على قيثارة سباعية الأوتار) – تجري ممارستها ليس من لدن محترفين محنّكين لا يعوزهم المراس و إنما من طرف الهواة المتأدبين، بحيث أن التقليد يقتضي، من بين ما يقتضيه، امتناع هذه الأنظمة التربوية عن الممارسة كما لو أنها مهنة أو حرفة، لذا فإن فنّانا ما قد يرضى باستخلاص مقابل مادي لفنّه سرعان ما تصادر منه صفته الفنية و يمسي عرضة للتنقيص و يوصم، بالتالي، بنعت الصانع، التحقيري، ليس إلاّ. إذا ما تمكن الشاعر أو الخطّاط أو الرسام أو الموسيقى (و جائز أن تتضافر هذه الفنون في قريحة شخص واحد) من توفير الغبطة مجانا لبعض العارفين أو الأصدقاء الخلّص، مستحلبا إياها من إبداعاته الفنية (يقع في بعض الأوقات أن يشكل استحسان هذا الجمهور المحدود، لكن الموهوب، و تقريظه سندا لاستلهامات الفنان) فلعل هذا أقصى ما يستطيع أن يشرئب إليه مخليا، هكذا، السبيل لموضوع فاعليته، البدئي هذا، أن يستديم في قلب الثقافة و ينمّي حضوره الجواني الصميم. فلا الكتابة و لا الرسم و لا العزف على القيثارة إن هي إلاّ محض مسالك للارتقاء بالشخصية و التسامي بها، مجرد تعلاّت لدرء النقص الأخلاقي، بل و تفويض إيقاعات الإبداعية الكونية شأن الإنسانية الفردية و مأموريتها.إن علم الجمال الصيني، و قد تأتّى له أن يراكم، في مجال نظريات الأدب و فن الخط و الرسم و الموسيقى، آدابا واسعة و على درجة من الاغتناء، إن فلسفيا أو نقديا أو تقنيا، سيتخذ مساره التطوري بمعزل عن مرجعية ذات صلة بمفهوم “الجمال” (“ميي” تعني المصطلح، في حين أن “مييكسو” تفيد دراسة الجميل” و قد تم استحداث هاتين الكلمتين خصّيصا لترجمة مفهوم الإستيتيقا الغربي)، و حتى عندما يقع استدراج هذا الأخير ففي الغالب الأعم في نطاق معنى منحط أو قدحي، و ذلك بسبب من أن “تقصي” الجميل، بالنسبة لفنان ما، لهو مقصد هابط و مرذول، شرك، أو، لنقل، محاولة إغواء مستهجنة. فالمعايير الجمالية تمتلك طابعا وظيفيا و من هنا فإن الأثر الفني محكوم عليه بأن يشتغل بطريقة ناجعة، أن يتزود من معين حيوية الفنان، أن ينجح في القبض على النفحة التي تسرّ خباياها في مسمع الجبال و الأنهار، و يهتدي إلى إرساء التناغم بين تحولات الأشكال و تبدّلات العالم.بيد أن هذا الفنان بقدر ما يستغرق في عمله الفني فهو يشتغل، دائما و قبل كل شيء، لذاته، لحساب كيانه الخاص، و حالما نستوعب هذا المعطى يصبح في مكنتنا إدراك مسوّغ حضور ذلك العدد الهائل من الخطط و المبادئ التي ستوائم على مدى حقب بكاملها، بلا كلل أو فتور، بين القيمة الفنية للرسم و قيمة الرسام الأخلاقية، و قد لا يتعذر علينا إيراد الوفير من الأمثلة (بالمناسبة سبق و أن قدمت سلسلة من العيّنات في إطار تعليقي على الفصل الخامس عشر، “بمنأى عن الغبار”، من مصنف “مقالة عن شيتاو، أحاديث حول رسم القانت الأقرع المرير”)، (1) منها أنه “إذا ما كانت القيمة الأخلاقية للإنسان متسامية فلا إيقاع رسمه، و لا نفحته أيضا، يمكنهما أن يحيدا بدورهما عن هذا التسامي”، “مزايا الرسم، كما شوائبه، ليست، في المحصّلة، سوى مواظفة يرجى منها إمّا تسامي الإنسان أو ضعته أخلاقيا”، “من كانت قيمته الأخلاقية متدنية لن يقوى على الرسم بالمرة”، ” إن أولئك الذين يتلقون التربية على الرسم يعملون، أول ما يعملون، على استدخال تكوين شخصيتهم الأخلاقية في لبّ رسم من حالفهم التوفيق في بلورة هذه الشخصية الأخلاقية و حيث تسري نفحة متمادية، ساطعة، من السداد و الاستقامة تتسامى على كافة المصاعب الشكلية، لكن عند افتقار الرسام إلى هذا المؤهل فإن رسوماته لن تقدم، مهما بلغ شأو ظاهرها المغري، غير صنف من نفحة ضارّة و مفسدة ينكشف أمرها مع أول ضربة من ريشه الرسام. إن الأثر الفني ليعكس الإنسان، و على قدر ما يصح هذا المبدأ في الأدب يصدق أيضا، تمام الصدق، في الرسم”.على أن نقّادا بعينهم سيغالون في سعيهم إلى التحقّق من أعمال ممهورة بتوقيع فنانين مرموقين، أحيانا من تعبيرية الفضائل الخاصة التي يكونون قد أبانوا عنها في غضون حيواتهم، و أحيانا أخرى من مدى انعكاس ما يكبّل مخيلاتهم من نقائص أخلاقية: “فما يكتبه امرؤ ما يمدنا بصورة لقلبه، الشيء الذي يجعلنا قادرين على فك شفرة فضائله و رذائله. و لأن الرسم يرتجع إلى ذات الأصل الذي تنبثق منه الكتابة فهو يتخذ متّخذ مرآة للقلب. في البداية، و أنا أتملّى رسومات القدماء، كان لا يزال يساورني شك في القاعدة الصلبة لرأي كهذا لكن بمقدوري الآن، بعد أن أتيحت لي دراسة سير الرسامين، التوكيد على صائبيته. و هكذا فإذا ما نحن أخضعنا مختلف فناني عصر يوان (أي حقبة الهوان الوطني في ظل الاحتلال المغولي) للمعاينة و الاختبار سنلفي ني زان يقطع جذريا مع العالم الشعبي كما أن رسمه لشدّما يحفل بكساح من القسوة و القتامة بمكان، بأناقة مهلهلة لا تبقي إطلاقا على أيّما مشخّص تزييني. أمّا زهاو منغو فلم يكن، بالمقابل، يعرف أخذ الحذر في أثناء محاولاته و الاحتراز، من ثم، من ركوب المجازفة (كان يتعاون مع الغزاة)، و لطالما شابت تزاويقه الخطية ملاحة مترصدة و وجهتها رغبة شعبوية مكينة في انتزاع الإعجاب..”. (2)و لا شك في أن هذه الفقرة، التي تقيم نوعا من التقابل بين وجهين رمزيين، ني زان و زهاو منغو، لا تتوانى، علاوة على هذا، عن استثارة انزلاق نقدي جسيم: فالدلالة الغائرة لأية قراءة أخلاقية للأثر الفني سوف تنزاح مخلية المكان لتطبيق ضيق و دوغمائي من صنف ما يمكن نعته ب “العقاب السياسي”. إن رسومات ني زان تكسوها، بالتأكيد، مهابة و جلال فائقين – رؤية شفافة قائمة على تقنية المباعدة للمشهديات القانية و الفارغة – مثلما هي معافاة من أي عيب اجتماعي، سوى أننا لا نملك، بما فيه الكفاية، معرفة بالشخصية التاريخية لهذا الرسام كما تنقصنا المحكيات الطريفة التي تمجّد طهرانيته و تخلّد نقاء سريرته، و مع ذلك فإن موقفه الانفصالي ذاك لا يمكنه أن يكون، في جانب عريض منه، غير ضرب من إسقاط خيالي لمنظومة الفضائل التي كان يلحّ بها عليه فنّه. (3) و إذا كان هذا شأن ني زان فإن وضعية زهاو منغو تتلامح أكثر مجلبة للاستغراب، فهو الأرستقراطي الذي ارتضى أن يصبح تحت إمرة الغزاة و يكون خدوما لمصالحهم و إملاءاتهم و النتيجة هي اعتباره، و على مدى أجيال، خائنا، بله نذلا. غير أن المشكلة، مشكلته، تكمن في أنه يعلن عن نفسه، ضدا على هذا، في رسمه و أكثر من ذلك في فنّه الخطي، كفنان موهوب و معجز بلا منازع. و من أجل الإفلات من مطب هذه المقارنة المربكة لا يتورع النقاد، بوجه عام، متواطئين على هذا ما في ذلك ريب، عن تبخيس أو، على الأصح، إدانة “تبسيطية و تعميمية” فنّه الخطي المبهرج (حكم يذكرنا، نسبيا، بالتهمة الشهيرة التي لفّقها السرياليون لبول كلوديل و فحواها أنه “لا يعقل أن يكون المرء سفيرا لفرنسا و شاعرا في نفس الوقت”، كما لو أن كلوديل لم يكنهما سوية !إن المزايدات الساذجة و الهابطة المستوى لم يحصل أبدا أن أعفت على هذا الإدراك العميق لمستوجب تنفّذ البعد الأخلاقي في العمل الفني الذي ظل يرافق كبار الفنانين الصينيين، بل إن الخطاطين، بخاصة، يعون أكثر من نظرائهم في المجالات الفنية الأخرى بأن ممارسة فن الخط فسحة للانغمار في تزهد يومي، برهة لكي تتنفس الكينونة برمتها، البدنية و النفسية و الأخلاقية، تنفّسا حقيقيا و صميما هم وحدهم يستطيعون مقايسة مفاعيل هذا التّنفس و تداعياته بكيفية فورية و ملموسة. و في هذه الوجهة، و بالإضافة إلى ما أوردنا، نشير إلى أن فن الخط ليس مجرد نتاج لشخصيتهم ما دامت هذه الأخيرة تتحول هي نفسها إلى نتاج لفن الخط ممّا يمكن تسميته ب “منقلب سببي خطاطي” سيعرض له بالذكر جان – فرانسوا بيلتير في “فن الكتابة الصيني”، (4) مدعما ملحوظاته، في هذا الصدد، بإثباتات مفحمة.فالجمال الأسنى لفن الخط سوف لن يرتهن، من الآن فصاعدا، بالجمال على وجه الدقة لكونه، ببساطة، ثمرة لتقاطب الطبيعة و “الحقيقة” الذي لا يتراخى الخطاط عن تغذيته في دخيلته تعلقا منه بأصالة ما، نقاوة ما، أو، بالأولى، بمطلق طبيعي ما (ما يدعوه الألمان أصالة). ف “في فن الخط ليس من المستصعب نيل الإعجاب و إنما الأصعب هو تلافي هذا الإعجاب أصلا. إن الرغبة في بث الإعجاب تحكم على الكتابة بالاتفاقية و الاعتيادية أمّا انتفاؤها فيسبغ عليها وافر العفوية و الحقيقية”، و ذلك استئناسا بما كان قد سطره الخطاط ليو كسيزاي الذي سيستشهد به بيلتير محاولا، عند حديثه عن ستاندال، تسليط مزيد من الضوء على محمول هذه الكلمات بحيث سيصرح قائلا” ” برأيي كيما يكون الإنسان عظيما في أمر ما، و بصرف النظر عن هذا الأمر، يلزمه أن يكون ذاته”.و الواقع أن مداناة ستاندال الواردة هنا تبدو لي ذات أهمية بالغة، أقصد أن كمال الأثر الفني ينشرط كلية بحقيقة الإنسان الفنية، و إذا كان لا مراء في حضور هذه الماهية الأخلاقية، التي ينهض عليها جماع الجمالية الصينية، في الغرب أيضا مع ذلك ما أحرانا بتسجيل كونها تبقى عصارة لبعض الأرواح المتفردة، و من بينها ستاندال الذي سيبين عنها حقا بكيفية مرضية و مقنعة: إن جماليته بأسرها ترفل في فائض شغف بما هو أخلاقي و انشداد إليه، و لنستحضر، على سبيل المثال، اتهامه لشاتوبريان عند قوله: “لم أقدر بتاتا على قراءة و لو عشرين صفحة من هذا الذي يدبجه شاتوبريان.. و عمري وقتها سبعة عشر ربيعا كنت سأتورط في مبارزة ثنائية بالثنية السادسة لا لشيء سوى ما كان من هزئي ب “الذروة المستبهمة للغابات” الذي كان يحظى بإعجاب الكثيرين و ثنائهم. فالأسلوب البديع للسيد شاتوبريان يبدو لي و كأنه يمرّر كمّا من الأباطيل المتضائلة و لعل منتهى اعتناقي بخصوص الأسلوب تتشرّبه هذه الكلمة”. ضمن نفس هذه العائلة الروحية من القرائح المهيبة و العبقريات الغريبة الأطوار (و ذلك بالمعنى الصيني للكلمة) يجب علينا إدراج اسم سيمون فيل أيضا (التي تضع بين أيدينا جمالية كاملة ممتدحة يمكن استخراجها من المنجم الثري ل “الكرّاسات”)، و اسم فيتغينشتاين الذي لا أرى ضيرا في إيراد مقتطف له يلوح لي ملائما كبير الملاءمة لخاتمة هذه المقالة، الوجيزة ما في ذلك شك، المخصوصة لشهرية “الماغازين ليتيرير”، خصوصا و أنه يقترح معيارا أدبيا لا يخلو من صدقية، و من نجوع أيضا، إذ يقول (في معرض تناوله لتولستوي): “ها هو ذا رجل حقيقي يتمتع ب “الحق” في الكتابة”.———————-(*) عالم حضارة صينية و كاتب (اسم مستعار ل بّيير ريكمانس)، مؤلف لمجموعة من الكتب من بينها “الملابس القشيبة للرئيس ماو”، منشورات سلسلة “كتاب الجيب”، “مقالات عن الصين”، منشورات لافون، “غرقى باتافيا”، منشورات أريبا.بّيير ريكمانس: “مقالة عن شيتاو، أحاديث حول رسم القانت الأقرع المرير”، ترجمة و تعليق، منشورات هيرمان.زهانغ جينغ (1685 – 1760)، أديب، خطّاط، و رسام، أعيد نشر مقالته ضمن “يو أنلان، هوا لون كونغام” (غير متوفر باللغة الفرنسية).ما يجرنا إلى حالة فرا أنجليكو كون: ” الكنيسة تنتهي إلى تطريب الراهب الورع..”، 1983. لكن هل يمكن لهذا التطويب، بما هو ارتقاء أحد الأموات، ممّن تطالهم بركة السلطة الكنسيّة، إلى مرتبة الأبرار فالقدّيسين، أن يعثر على سند الجلاء و الشفوف الذي يؤسسه، ببساطة، الرسم، أو على (و لو أن ذلك يدخل في باب اللايقين) ما يحتمل أن تسعفنا به سيرته الذاتية ؟جان – فرانسوا بيلتير: فن الكتابة الصيني، منشورات سكيرا، سوي.
أغسطس 26 2014
فن الخط الصيني التقليد و الرهانات ……. يولين إيسكاند
فن الخط الصيني التقليد و الرهاناتيولين إيسكاند (*)
إن فن الخط الصيني يضمر، باعتباره فن النخبة، بحثا شخصيا روحيا، فالأثر ليس أكثر من استمداد مباشر من شغاف قلب الخطاط يجلوه نصوع الورق، لكنه يبقى أحد رهانات السلطة لكونه يخدم الدعاية الإيديولوجية..
يصنف “فن الخط” في الصين ك “نظام تربوي” انضباطي أو “منهجية كتابة” و ذلك على العكس ممّا ترخيه الترجمة الفرنسية من تداعيات. إنه لا يتصل قطعا بمعنى “الكتابة بطريقة بديعة” بقدر ما ينصب في دلالة تربوية ذاتية صارمة و يستنهض فكرة إنماء الشخصية و تصليب مؤهلاتها. و لأنه يجد مرتكزه في المزايا الجمالية و الشكلية للكتابة التداولية، كتابة سائر الأيام (مراسلات، عقود رسمية، وثائق إدارية..) فإن هذا الفن الذي سينشأ في مطالع عصرنا الحالي سيحظى بصفة الفن الأوفى كمالا و الأكثر نبالة. فلقد كان يمارس من لدن تلك الزمرة من المتأدبين الذين كانت تسند إليهم مأمورية تسيير دواليب الإدارة الإمبراطورية، قوامه التضلع في الكتابة و الأخذ بناصيتها بينما غايته نقل القيم الأخلاقية و بثها. و كونه فنّا متأبّيا على العامة تستأثر به النخبة لوحدها فإن هذا الملمح هو ما سيجعله فنّا منذورا لترميم نقائص الشخصية و مثالبها، أداة للتقصي الروحي و الدعاية الإيديولوجية دفعة واحدة.إن تقنية “فن الخط” أو الرسم، لا فرق، و هي تساوق أجرأتها العملية في عرض ورق رهيف، لدن و نشّاف، لا تحتمل تصويبا و لا تنقيحا أو تنميقا، فالتطبيق، توسطا بريشة الرسم، لا يجيز الوقوع في نوع من التردد عدم إجازته اللجوء إلى أيّما تعديلات استدراكية، و هذا ما يفسر اعتماد التقييم ليس النتيجة النهائية للأثر المتحصّل، مثلما قد يراود الذهن، أو للحركية التي تؤطره، و إنما كفاءة المسلسل الإبداعي في شموليته، في تكثيفه لبرهة استبصار – تركيز حياها ناسخ يدوي، و كذلك المفعول البصري لأثره في نفسية المشاهد.و للعلم فإن الكتابة الصينية، بما هي الكتابة الوحيدة في العالم التي لازمت، منذ فجرها و حتى وقتنا هذا، نمطا ترميزيا خالصا ليست مجرد استنساخ وفيّ للكلام، بل إنها، و على النقيض من الكتابات الألفبائية، مركبة من جملة أحرف يمثل كل واحد منها كلمة قائمة الذات. فالصينيون يكتبون، عادة، على شكل أعمدة، من أعلى إلى أسفل و من اليمين إلى اليسار. أمّا على الصعيد الفلسفي المحض فإن مادة التدوين لا يمكنها أن تنماز أو تنفرز، مثلا، عن الأثر بالنظر إلى أنهما يجسمان كلاّ كوسمولوجيا: إن المداد ليناظر مبدأ “يين” (الذي يتضمن حمولات العتمة، الرطوبة، الليونة، الأنوثة، القمر..) و يتعالق مع يحيل إليه من سديم أصلي، في حين أن الورق أو الحرير، السند الأبيض، فيعبر عن “يانغ” (أي الضوء، الاجتفاف، الاستدامة، الذكورة، الشمس..) و يمت بصلة إلى عالم الظواهر، بمعنى أن الصور المدونة أو المرسومة لا تجد سبيلها إلى التجسّد إلاّ بفضل السند أو الدعامة، و بحسب هذه الرؤية فالذي تصنعه الريشة التي تمسك بها الأنامل هو، في العمق، إنشاء وشيجة بين السماء – يانغ و الأرض – يين و ذلك بما يندغم مع دور الإنسان الذي هو من يستحكم في زمام الأشياء و الموجودات المؤثثة للفجوة الفاصلة بين هذين الحدّين، و الخلاصة هي أن ممارسة الكتابة الصينية تجد مغزاها، أساسا، في اصطناع كون مصغّر شبيه بالكون الهائل، المتراحب، لا في التعبير عن مزاج روحي أو حالة ذهنية.ففي التقليد الصيني لا يقتصر خوض غمار صنيع فني و التمرّس بخبرته على ملاقاة موضوع مستقل ذاتيا يتوافر على العديد من المزايا الإيديولوجية و الجمالية و الأخلاقية و الإيمانية و التلقينية.. بل يتعدى هذا فيحثّ على الملاقاة الحميمة مع المبدع ذاته. إن الأثر ليرتدي لبوس استمداد مباشر من شغاف قلب الناسخ يتعهده بالسند بالتشخيص و الإبراز، و لأن الأمر كذلك، لهذا الاعتبار لا يطغى التوصيف “الموضوعي” للأعمال الفنية على العنصر النظري في المسألة، بحيث إن “الجمال” لا يعتدّ به كمعيار وارد لتقييم الأعمال الفنية أو أصحابها و المعيار المرجعي هو “الطبيعي” لأنه جمالي (فلسفي) و فني (تقني) و تشكيلي في نفس الآونة. فالطبيعي يقوم بتعيين الأثر دونما عناء يذكر بينما يكتسب هذا الأخير مزيته من غير ما حاجة إلى حركية، لكنه يحيد عن روح المبادئ التنظيمية للطبيعة، و لهذا لا داعي إلى الاستغراب إذا كان ما تطلبت الخبرة المسعفة على إنجاز أثر من هذا الطراز سنوات من الكدّ و المران.إن الكتابة و لا الفن المتنسّل منها سوف يمثلان، على الدوام، أحد رهانات السلطة: فالإمبراطورية ستحقق وحدتها بفضل الكتابة بالذات، زد على هذا أن ما يلحقها، أي الكتابة، من تبدلات شكلية يرمز، باستمرار، إلى تبدلات يعيشها الحقل السياسي. فقد جرت العادة أن تسخر السلطة متأدبين – خطاطين أبرياء الذمة و مشهود لهم بالاستقامة و تمنحهم وظائف سامية و ذلك بغاية إضفاء الشرعية على وجودها، و هؤلاء يعاملون كحكماء يستحقون تبجيل الرعية و تعلقها بسمعتهم التي تشعّها مناقبهم الأخلاقية، لقاء هذا هم لا يستنكفون، من جانبهم، عن إدماج فضائلهم الفعلية، أو المفترضة، في منتسج آثارهم الفنية، أمّا السلطة فتعمد، من جانبها، إلى استملاك هالة هذه الشخصيات و سنّ قواعد مضبوطة للأشكال المعبرة عن مناقبهم الأخلاقية المذكورة موظفة إياهم، على هذا النحو، لتأدية مهامّ إيديولوجية دعائية، بل و في هذا النطاق، تحديدا، فإن عددا لا يستهان به من الأباطرة عرف عنهم تجريبهم لفن الخط.من هذا الضوء ليس أمرا فجائيا أو عرضيا أن يشعل ماوتسي تونغ فتيل الثورة الثقافية من خلال صور تقدمه كخطاط يمسك بريشة مغدقا، هكذا، على هذه الممارسة الفنية صبغة ديمقراطية، بل منزّلا إياه من عليائه إلى عرض الشارع العام عبر “ملصقات مطرّزة بأحرف متضخمة” (دزي باو). و للإشارة فسيتم اعتبار فن المتأدبين، و لا فكرهم، مع إطلالة القرن العشرين، بمثابة علة انحطاط الصين و رضوخها للقوى الغربية حتى إذا قام النظام الشيوعي، الذي سيستولي على مقاليد السلطة عام 1949، وقف منه موقف اعتراض و رفض، بل و بادر إلى تمييعه و هو يعطيه “طابعا شعبويا” صارخا.إن تقليد الأدابة أو المثقفية المترسخ لم يحصل قط أن توقف مجراه لأنه ينتقل عرفيا عن طريق التلقين، من أستاذ إلى تلميذ، لكن في إبان الثورة الثقافية مع ما رافقها من تضييق للخناق على “اليمينيين” و قدامى المتأدبين سيتعرض كثيرون منهم لشتى ألوان الاضطهاد و التنكيل في حين سيوالي كثيرون آخرون منهم، في أضعف الأحوال، تعليم حفنة تلاميذ خصوصا في الجهات و الأقاليم النائية. و بدءا من ثمانينيات القرن العشرين، و بفضل تلاميذ قدامى في هذا الميدان، ستجري إعادة استكشاف أو، بالأدق، تأهيل فنانين كبار منضوين إلى تقليد الأدابة أو المثقفية، رسامين أو خطاطين، و اليوم لا مفر لرجل سياسة من الانضواء إلى ائتلاف خطاطي الصين إن هو أراد انتزاع نصيب من التقدير من عموم الشعب.—————————(*) باحثة في المركز الوطني للبحث العلمي، تدرّس فن الخط في مدرسة الهندسة المعمارية بباريس – لافيليت. أصدرت ضمن منشورات كلينسكيزيك “مقالات صينية حول الرسم و فن الخط”، الجزء الأول “النصوص التأسيسية” (من أسرة “هان” إلى أسرة “سوي”).
بواسطة admin • 02-ملف العدد • 0 • الوسوم : العدد الخامس والعشرون, يولين إيسكاند