ديسمبر 31 2014
أنْثى …, ………………………. فاضل العبدالله
أنْثى … فاضل العبدالله كاتب من سوريا ( لقلقٍ خمريٍّ تَكَلَّس في العَسَلِيِّ الدَّاكنكان هذا العبث المُقَدَّس من وراء حجاب )في البَدْء كان البدويّ .؟ راعٍ .. هاذٍ .. مقدس .. يكره الشِّياخة , موَكلاً بغسل جِزَز الصُّوف وترويض الأحصنة , يجفف خاثِر الدَّوابّ بهيبة حضوره الآسر, عالم بأنْساب الحِدآن والبُؤُوز والأيَايل . ليس من طبعه الاسْتِئناس .. يناطح ” كليجة العيد ” بكباش أسنانه الفُلج , يا لفطرته التي ذبحت ” الكافي شوب ” فمع التَّمر مازال يحتسي اللَّبن البارد , يتعبَّد بين الشِّعاب والوَعْر, يتعلم مع الوشق أصول القَنْص , يتجاهل زهرة البرقوق ويلتحم مع الشِّيح , يركض في براري الضَّوء (طافخ ) على حيله , لا توقفه قبائل قُرَيْش وهي تشَّكُّ بالرَّبِّ , يريد تغيير العالم ويلفه تحت ردنه المحمّل بالحامض الحلو والدُروبَس . فدفئ الثوب يختزل حرارة الجسد مع أنه يحمل الحنان ذاته .. ” هذه سخافةٌ من كلاسيكيَّات الماضي . أشرب الكوكتيل حبيبي الملك أو أذهب لقضاء الحاجة ” ما أمتن وجه المفردة وأوقح معانيها , بعلم المَعْز العفريت والضَّأن الحيّ فتى هبوب العجاج يعيش في الظِّلِّ , لا أحد يهتم لأمره إذا حضر . اسمه يدّون على هامش دفتر الحياة عادة , خارج موكب التَّصْفيق , وفي الولائم لا يوضع أمامه رأس الذبيحة ولا أول من يشرب الفِنْجال ثم يكسره , بل من المحرّم جلوسه حتَّى في الصُفُوف الأمامية أثناء الدعوات الخاصّة والعامّة , ولم يكن يوماً الدَّريئة التي ترمى بالزهور أو ينثر فوقها الرُّزّ , ولا خطر في البال تحطيم الجرار عند قدميه لطرد بلاء العين الحسود . ولا البَخْت جلب له سيارة ” الليموزين ” الفارهة فتنزل منها سيِّدة اسْتَوَت أكثر من شمّام القَيْظ ..تنتشله من الوحل ..تلبسه البذلة السّوداء ,وبأناقة ” إيف سان لوران ” تربط الببيونة على يافطة قميصه الأبيض ..ثم تدور به أمام أهل الزَّفَّة وهي تنظر إليه بارتياب مريح ..ناسية عُريها أمامه بعدما صار إكليلها لحصانه المجنّح رسناً . تصوّر بكلِّ بساطة حبيبته خطفها أحد الكهنة , أو بالمعنى الذليل هي التي تركت الحناء وذهبت للغطس في زيت الميرون , وأضعك بالصُّورة أكثر .. خرجت من دمعته ابتسامة باركت لها التعميد الجديد . وظلّ الصافن يفكر بإتباع دورة تأهله للاحتفاظ بالحبيبة قدر المستطاع أطول فترة ممكنة . هو هكذا لا يليق به الفرح , يتكلم دائماً عن إمكانية نهوض دول الطَّوْق للمرة العاشرة . ولنفس المرة شخَّص دخان الحَرْمَل للحظاتٍ أبرد من البلاستيك .. فثغّت معه نِعاج غَوايته هائمة إلى الفلت الطَّبيعيّ الذي لا يضبطه قانون أهل السهول الخاضع لسيطرة لهجة أهل الجبال. إذْ لغيابه مذاق السَّفرجل يغوَّر في المهجة غصَّةً كنتُ أخشى أن أبوح بسر آلامها,ولكن بعدما أقتلع الفؤاد سأقولها : ذلك الدكتاتور النبيل , ملك الحِسّ كما كانت تناديه .. يتبعه التَّكْسِيرمثل كلب الورّادات . تراكمت هزائمه الحُلوَة حتى بدأ يجفل من رفة عينيه الملونتين فتقطّر من الهمِّ . تَبادَت الحضرِيَّة : وأخيراً انْشَخَبَ اللَّبنُ الشائط ؟ صَيَّف شجوه الجوّانيّ : أولاً احْتُلِبَ الدَّمُ . ؟ وقبل همستها …لاستخراج النَّمَش من فخّ الصِّياغة , اشتدَّ حرّه حول أفكارها الراكِدَة .. ورَفَّتْ . ؟ فأتاها على جياد الرِّيح تهَذَب خيوله أكحيلات , ويعتصر قلبه بهاءً حتى تكاد تخرج منه أنَّة الكاهن الملوّث بخميسيَّات الرِّيف المشبعة باليباس .. قال الواهمون : يا لحظَّه العاثر يرتاد أودية الجراح مدمدماً بالبَهار ..فروحه الخربة بحاجةٍ إلى تهندس يهذب جغرافيته من الهزال , حسناً ليترك ميكروب الجذور وليمم وجهه شطر الرّغوة المترعة بنُفّاخات التمدّن . ذلك التَّمّار..الغَنَّام..المَشّاء..مُتتبّع الأثر, فرّ من حضارة الطَّسْت وغطس بالزِّيِّ الخرافيّ لسَحنتيَّها ,المثيرة لجدلٍ له وقع أوجع من ضرب الخَيازِر ونظرة العِقبان , لذا جَنَّسها على أنها مفلوقة تماماً من حبة الهِيْل , فلونها الثَّقيل بين الفواتح الباهتة جعلها طَعاماً خاصّاً لثورة السحنة تحت سماء النِّيُون . أنه امتداد مختزل لجسدها ببعده الأنثوي المفعم بالطقسية والروحية . ويمتلك من التعبير ما يجعلك تعرف أيّ رأس يجب أن يمتلك .تهالك من شرق المنفى يَزْهوّ في بريد الغبرة يعبُّ ظهيرة لاهثة , يتوّج حيتان السّاحِل بشهرياريات يتصاعد منهم البخور الحجازي , و بالزَّفير الطالع من روحه تفرَّعت شهرزاد واحدة نزَّت بالعرق تنضح : كالرُّمح الرّاعش ِ ارتجف بحضني مشبوب العاطفة ثم تلاشى رماداً قلويَّاً .. ياحداةَ القافلة : أبحثوا عنه فوق ظهور الإبل فلقد أبصرت وجهه الترابي هشاً يفولذُني .. فاستيحاشه تأثر بتلوين عمله تبعاً للمكان , كانت ” التَّمرة الحُلوة ” اللَّوْحة التي تعود إلى حقبته السَّمراء . تعتبر أحد أهم الألوان المشغولة موسيقياً بعناية فائقة , أما لماذا مُنع التَّنزُّه فيها وفي مزارع البُنِّ المتوقع وجوده واقفاً كما شجرة جردتها الرِّيح من أوراقها وهجرتها العصافير مبكراً . فهذا يعود إلى التعمق في فهم المكان , وفلسفته , ومرحلة التحول التي تخضع لسيطرة الراوي على مادته أكثر مما يخضعه تسلسلي أنا ؟ خاصّة ويعلو النَّصّ طائر يخفق بجناحيه أمام ثقافة العواء داخل الجروح البليدة , فللجرح ذئابه الجرباء تعو بجراثيم الجُوْع على بلسم الثورة الشافي , وبالوقوف على الحِياد , ” ما أحقر الحِياد ” أغثته في بعض نوبات جنونها العاقل بترجيع عطشه الملتاع للبرِّيَّة الفسيحة … ومن خطِّ الأفق انْفَدغ الحكواتي النَّورس مغرداً بالرِّيش الهاطل, ملوِّحاً بمَزامِيره : …تحرر من بؤس الوجود بعدما خرجت أنثاه من صلب الحكاية..حاول إعادة رائحتها الهاربة إليه بطريقة سيميائية مباشرة ؟ لكن روحه أكبر من المكان الهادئ , يحتاج إلى مدينة فوضويَّة تحوي داخله المشاغب والمسحوب بعقل إلى تحت.! ولعدم الترابط بين السُّلُوك الخارجيّ والعالم الدَّاخليّ للنَّصِّ . …
( الآن نفتح ملف الحكاية؟ ) حادثتي اللَّهْو والتنَسُّك .. حسب الجَوّ العامّ في النَّصِّ …..؟ بلغني أيها الملك السَّعيد أن الجرعات الإضافية من لقاحات البادية جفَّ لحنُها في صوت التُّراب , وتوهج العجاج بإيقاع الشَّكل السّاحب ألوان المساحيق , حملها البدويّ على ظهره مثلما كانت تُكوّر جدته كرازل الخُضْرَة لترسخ في أنفه حضارة الخيار البلدي المملح . لم يعجبها اسمه ولا شكله ولا حتّى سيرته .؟ ربما بسبب حياة الجُوْخ تناست التقاط المبادئ الأولية لصناعة الرَّجُل الرُّوحانِيّ المترع بفورة الغضب . يُخيف هذا الصِّنف من الرِّقَّة , فقلبه لا ينبض إنما يرسل وَعْوَعَة تصل بكامل وحشتها لمّاحة . جعلها ترمي بثقلها عليه في محاولة منها لإعادة تشكيل فنِّ أساطير الأوَّلِين . وبهمسات تعود إلى مرحلة اللغة الأولى صبَّت في أذنيه حقيقة القرط مباشرة : لأنك تنده بوله مراهق ٍ ” أنت ِ تمرتي الحُلوة ” ولأشياء أفظع تنفثها ملامحك .. سأخطفك لساعاتٍ , شرِّف بلا حرجٍ ٍ . خلقت حالة إبداعية وتشكيل جمالي من مادة لم يكن لها في يوم من الأيام قيمة فنيَّة . إلا صراخه النبيل الذي يطفئ وجع القلب , فإذا ما تعب ارتاح هامساً حزيناً شفيفاً , يهذي في غفوته الضّاجة بالقيم , مقدماً حالة درامية .. ومونولوجاً داخليّاً, لم تعرفه قصاصات الذكرى الجديدة , فتراه يبكي .. ويغني .. وينشد الهوسة .؟ حنَّ إلى اللقاء .. وكالميت عندما تُبعث فيه الرُّوح مدَّ شاهدته ذراعاً يلوِّحُ بمنديلٍ يزركش البَياض المستهلك بلعنة المألوف ” يا للمسافات البعاد ” انحدرت .. كسيرةٌ .. تلتحف السَّماء , ذابت ملامحها كالزُّبدة على نار خشب الزنزلخت . كلّ ما ملكه في تلك اللَّحظة أنه صاح عليها ” أبوس روحك “انفعل تعبيرها , وغمغمت شيئاً لم يفهمه إلاّ أنها لّمت جزءاً من إشعاعاتها وأرخت حولها جزءاً .. همس قلبه ” يا لجمالها في لحظات التفُّتح ِ ” ( لكن من حدِّة ضيم قُبْلَته فلسفتها نظريات الوقت الفائت على إنها السِّفْر. فكيف صارت من الفِدائِيات .؟ وهي مجرد فكرة بسيطة ومطروقة كثيراً في المسرح والسِّينما والتِّلفاز.. ولا تحمل جديداً .. )حين يحسّ المرء بالعجز عن إيصال شُعوره بوسائل الحوار العادي يطلب الغَوث الوَحْشِيّ من الشَّفَة الرَّغُوث .فيتم ترْوِيضه بقصد إعادتها إلى طعم الفُسْتُق النِّيئ , وتأتي إمدادات البُرتُقال اليُوسُفيّ , من خلال التصدي المباشر للشَّهوة الراغبة بالترَّهُّب , فتنفضك كهربة اللَّحم اللَّدن بتيارات واهية الخفة.؟ إنها القوة الهادئة .. هل أحدٌ نجا من تذوق عظمة القوة الهادئة .؟ حتى الغامِض البهيّ بعد أن يرتدي ثوب المتعة يثير فِتْنة الغُبار وتزّيَّنَه بالإخْصاب .. فيتحول غِلاف القلب وحَبَّتُه وسُوَيْداؤه إلى شغاف . ثم تيار من الغِبطة يشحن رغبة سقفك المنخفض , وتتواطأ مع ذاتك المغطسة بالهزائم . فتطرق بابك المتهرئ جلالة البوسة كطرح ٍ إشكالي للنَّصِّ المغاير, فتكد عبراتك المحبوسة بإسطبل خيولها . تفتح حضنها بولع العمّات الخارجات من جرار الكُحْل “ويْ أهلاً ” وتستسلم لصراخ ٍ مكتوم القيد يُدَّخر صمتك0الفائر . لكن تفاوت الخبرات بفنّ الحكي جعل من كلام المخلوقين المهمشين حواراً فنيَّاً يحمل التنوع والاختلاف . وأغلبه لم يرق إلى مستوى المطلوب من حيث البناء الفني من ” شخصيات ولغة وحوار وحدث …الخ ” , بالإضافة للأخطاء الحركية أثناء العناق , وهي كثيرة جداً . هنالك في الوادِي الآخر من الشَّوق ينمُوّ الفرح المُرّ , يوازي تماماً الانكسار الجميل .. أيوجد شرخ بلا طعم الدِّفلى يا صاحب السُّمُوّ , مهما تحنظلت الإجابات واندفعت إلينا فيما يشبه تفجرنكاح القُنْدُس . لا يمنح اكتئابَك تاجه الملكي سوى سكتتك الداوية . فأرضه البكر تزهو فيها الحشائش والأعشاش والنباتات الجارِحَة , و الطير والجُحُور وآفاته تألف أمام أول تنهيدة مهذبة .. تخرج من زجاجة الفودكا تتثاءب بدلعٍ بار بوالديه , ثم تُحطّم البارّ وتنهي ماهية الاغتراب والإيمان الكامل بالكحوليَّات , وتبدأ حُرُوب الرِّدَّة من داخله السِّكِّيت , آه .. كم هو مأهول بالهَوامِّ وِسِباع الليل . لم تكن تعلم بأن البدويّ البرولِيتاري يملك جنون الجاز والأضواء , وأنه مكتظ بالألوان والسَّفر وحداء الإبل . ولم تتوقع بأن المَزْحَة التي بَلَّتها بَلّأً ستتحول إلى مراكب تحترق , وصواري تنصلب على جسدها النحيل . أعلم أيها المَلْك السَّعيد ما تلاشى ليخرَّ وجده حسب هذيان العرَّافة المحصورة بحوْصَلة الحكواتي النَّورس , أنما وجهه المنقوع في التَّمر الهِنديّ مضغته تجاعيد المَساء . فتحول إلى سنونوٍ لبيوت الطِّين الواطئة .. هي تصفق للحياة وتكره التثاؤب , وهو ينتمي إلى قافلة البَدْو الرُّحَّل التي مازالت في طابور الخبز متعبة ٌ .. لذلك قال لها : زيارةٌ أولى لمدينتي تكفي لاحتساء القهوَة المُرَّة وإعلان رحيلك ِ النهائي عنها .. فرمقته بتوجسٍ حذر أضحَكَ جسدها النّاحِل في ارتعاش ثم قذفته بتنهيدة ٍ طيرت لقالقَ روحه التي ارتوتْ منها وعاد يتمزقُ لولا عقارب العَرَق السَّاخِن التي لسعته آلاف المرات حتى تخدر واستسلم للهِياج .
( .. ومما يُحكى في سالف العصر والأوان أن البدويّ ركّز على الكثير من الإشارات الحسية وخصوصاً الحركية منها للإيحاء بأنها ستخرج من النَّصِّ وتتركه فيه يضاجع الحكاية البسيطة والجمل الشعرية كمرتكز نهائي للتناسل ؟ لذا هبت نسائم مسامها رقيقة , فصرخت رياح باديته مذعورة بحنين فحل القطا القاطع البراري : ـــ ” أفردْ قميصَ الشوق ِ حين تطلُّ سيِّدة ُ البعد الواسع …. ) الحكاية الأكثر تلفيقا ً لعدم إدراك شهريار الصَّباح .مزّق بيرقَها الأزرق نوق البادية .. فتحت نافذة للغَيْم جففت قميصها الذي أعيا من شِدَّة الرَّطوبة . نامت كالشَّمس على زنده المهيّل بالحكايا , ثم تنهدت : ـــ ” اّه ما أعذب لهجتك المشحونة بالشَّجَن..” . قطَّعت أنفاسها زفرة الشَّهْوَة اللِّبْدة والتي بجسارة حضنها البدويّ وصهل .. فتداعت صواريها أمام اختلاجات مواويله القديمة : أيتها الآتية إليَّ من بوابة الأزل وسحر الملحمة” : أنا لا أملك شيئاً .. كلّ ما أملكه أن أغني للرِّيح , فالجَزِيرة بدون قلعة ينقصها الإحساس لا مجرد خربة ٍجمعت أعطا شنا الزَّاهِيات ” . يدٌ لشعرها الفاحِم يخصي الفُحُول , وقلبٌ لأكواخ القرى البعيدة المصابة بعقلية التَّخُوم , وعينان للظلمة المكتسية بالرَّمادِيِّ ,يباه.؟ لنظراتها الفرحة وأسرارها العميقة جعلته يُصاب بإرهاب أقلِّيّات الإنقيليْس الذائع الصيت, حتَّى نقشها المذهل لا يعود إلى عبقرية الآثار مع روعة الصخور! أنما إلى الإزْميل الناحت كان عبقريَّاً. ( .. وكأن الموسيقى هنا تفعل فعل الراوي في أكثر من مقطع لتصبح الهدف البعيد من وراء الحكاية التي تتماهى معهما وشيئاً فشيئاً يتفقان مع الجملة الأولى التي تركت مساحة للحكواتي النَّورس أن يبدأ المسامرة لعُتَّابه : إن الطريق إليها أبعدُ من ليالي البدو , وأقرب من دهشة الفرح العَسَلِيّ , وأقوى من تصادم قبلتين عشوائيتي السُّرْعات ) . رمقته نشوتها في ارتعاش ٍ .. المسافة بينه وبينها حين يشتعل الوجدُ آهلة .كانت نفائس القلعة مبهورةً بتحفة العناق , يعتُقها الزمنُ المتجددُ , والفتى المَشْرِقيّ يبعثر أشجانه , يكسر عرف القبيلة .. يعيد تفاصيل خضابه حينما يُقبل جلد السّاحِل . ليعرف تاريخ رِفْعَته الرَّسْمِيّ . تنبعث منه روائح الخشب العتيق وهو يعبق في الهواء , تربطه من الداخل خطوطه القوية وكأنها تعيش صراع فقدان الترابط , وفي الوقت ذاته نجد الترابط فيه قوياً لايمكن قطعه . يا لغرابته كم يشبه تناقضاتها ؟. ففورتها غضب الفهد لحظة الوثب , وفي تموجاتها انحناءات الحرير وتدفق الموسيقى . هو التزاوج بين العمق والبساطة .. أنهما لغة التجريد في عالم النَّحت . لطالما نهض الدَّم من عروقه , وزعق جلده الخِلاسِيّ الملفوف بالباستيق زعيق اللَّمسة النابحة , ويالشِّدَّة الرَّوعة عندما تموع خشونته من اللَوْعة دِبس . أكمل العُتّاب ما أنهاه المسامر ” … تلتصق به رَيّا الشَّباب ناعِمة ٌ, فتزدهر القلعة بتنهيدة يذّبلها النُّعاس , وينبت فقط الوردُ الذي يسكره الضوءُ , وكان للكرنفال شعاره ” يجب إيلاء شفاهنا اليابسة بوح العبارات في مهرجان القُبل الفصيح ..فالجسد ُ قلعةً قلبي تعلق برتاجها ” ؟ أناه المبعثرة توازنت زئبقياً . وهذا يدل على ضعف عام في فهم وقراءة النَّصّ الحكائي الإبداعي المتعارف عليه على مستوى النَّصّ ومستوى العرض .. وضبابية الرؤية , وعدم وضوحها , وتشتتها إلى حدِّ التساؤل : ماذا تريد السّاحليَّة من حمل الصحراء على ظهره ؟ في النتيجة لا تقول شيئاً يهم المستمع أو المشاهد البتَّة . أنما بالفعل لوَّنت زغبَ الثواني الشُّغُوفة بسرقةٍ عمدَّها التاريخ بزيُوت المعابد العتيقة , جعلته يراقب أبراجاً مؤقتة في مياه استحمامها . عادا حذرين لاقتناص هيام الإوَزّ المتنكرة في أردية السّلاحِف . حبيبها المخطوف من جهة لم تستطع تحديدها عرَّافات الحيّ مازال يتضخم المارِد في صمته .. يا للحزين هذا الشَّهِيُّ البالغ العُمْق يرصف درب رهبنته بما تيسر من سورة مريم , فروحه ما أكثر” عاقولها ” وصل إلى أشعة مصابيح المدن ..حتى سَمَك الشَّبُّوط ” سُولف ” للبلام خرافة الميناء : ( عمي يا بلام ضلوعي سفن لا توجد فيها زعانف أمينة ؟ إلا الشواطئ التي تقيأت أهلها وانكسرت بأرواحهم المجاديف , تلك الأنثى المملوءة بالشَّوق والبنزين لبَّت وانفرطت إلى خرز للدزادين والحقائب الجلدية , كانت له الإدام وفاتحة للشَّهِيَّة .. يغمس عرقها الزَّيْتيّ بألق الرّاوْند . فحين أغوته.. شغَفَها حُبّاً وفاضت نفسه وروحه , وألْبَدَ بالأرض الشّاطِر .. يتهيأ للمثول الحِسِّيّ أمام المَلَذّات المادِّيَّة .تلويه الهموم ؟ ماذا يفعل بموج دمعها ؟ كل دمعة بحّارة أكبر من بيضة الديك . تلطم رمال قبيلته المتزلجة على … الأزمنة . أكثر من تزلجها على الثلوج .. ماذا بقي من العُمْر والعُثَّة نخرت السّاري , وولولات الرُّبّان وصلت إلى مؤخرة الدنيا بعدما أخذته وحشة الخجل بالمرساة , وفي كلِّ نفس ثمة قراصنة صوماليون يذبحون إرث المضافة بسيف العنتريات . ( لم يكن السبب في تألق الحكواتي النَّورس من فنه هو إحساسه العميق بفنه العامّ الذي حقق توازناً بين التعبير عن الشهوات الدفينة وتصويرهما بإتقان , بل تمكنه من الدخول إلى أعماق عواطفهما , وبراعته الفائقة في تقديمهما بموضوعية ظاهرة , كما أظهر أن نتائج تصرفاتهم تثير فينا المشاعر بشكل عميق .؟ ) .
مُذ رآها .. هرطق قلبه وورّق حنيناً تعربش على فانتازيا الملل كي لا تكون موطئ قدم لإله الشر .؟ كيف يكون البدويّ منكسراً حيال نفسه وحيال الآخر .؟ ماذا يفعل ببراثنه ؟ حاول انتهاز لحظة الارتجاج . فطرح نفسه موجة صوفية كخيار للخلاص , هذه متاهة سريالية تنتهي عند خيمته فيقدم لها الشّاي قبل الغروب .. تذهب الشّمس ويأتي الهواء العليل . هي في حضرة زمن آخر , وثقافة أخرى ولهذا تمنى أن يكون جميلاً؟ فقط لإرضاء رغبتها الأولى قبل عهد التصحيح .فتقاطيع وجهه لم تدهشها أبدأً بقدر التعبيرات الصوتية الفاقدة عقلها , فهي دائماً على كورنيش ذاكرته المكتظ بالنِّسْيان يطوف بها في الهزيع الأخير , يفركُ الطِّيب في أذنيها ؟. . حسناً ماذا يفعل بشيب الأربعين والدفء أتاه بآخر القيظ …. في نفس الوقت كان قلبي يعتصره هذا السؤال المباغت.؟ الذي أبكى الرجولة المدكوكة فيه ؟ لذا تبخرت إلى غيمةٍ هطلت عليها بالبَزْر تحت العَلم الوَطنيّ حيث كانت تلهو بكُرات ِ الدَّم .؟… فلقحت .. لإنجاب الإناث وخصوبة الخيال . روافد النَّهْرالمكتوب بفضاءات حرف الفاء كان حديثاً ودياً للولوج إلى البوليفار .. المطعم الفخم الذي ينكسر على أمواج المتوسط لهجة ساحلية تشرَّبته تماماً . والنَّور الأصفر المبهر يتجمد على الشّارِع باهتاً وكأنه يبس بأعواد المشانق . خطواتهما تتعهر بالمَشْي .. تتشاغل بنسيان مطربها المشهور, وهو يحمل أصناف أخرى لها لونُ الرُّوح ِ . هي ليلكية ذلك المساء ..” مساء القرنفل سيدتي ” قالها بعدما فاض عُمْره, ويسراها مرتاحةٌ حول يمناه , ضحكتهما تشتلُ الأفقَ بالحبِّ والورد ِ واللَّهفة العارمة ؟ . ” أن يقتلع الرِّيف من داخلك هذا يعني أن تكون إنساناً بلا طعم أو رائحة ” من يقف وراء اقتلاعه .. سؤالاً كان لابدَّ منه في ذلك الجوّ المفعم بالجُنُون والخجل والشَّوق . إنَّ منطقَ أن يكون غيمة مشبعة بالرَّذاذ المشاكِس يجتاحه , لكنها لم تهطل بعد على يباس روحه . لذلك حدق في عينيها الشاربتين حليباً ممزوجاً بالكاكاو . فوجد الدكنة ُ ذاتُ الدكنةِ والزلّ , وعِرق السُّوس , وأسراب الصعو الهاربة من الصياد الذي لا يفهم إلا لغة المناجل الهاوية على أعناق الحِنطة التي تشبه كثيراً حاجبيها المعقوفين حيث يكون للرِّياضِيَّات معنى . (غزارة التصوير في التعبير سادت وانتشرت في مفاصل الحكاية دون المساس الكبير بتشكيل النَّصِّ من الخارج لأن الحكواتي النَّورس يعتقد أنه في العمل النحتي يجب احترام خصوصية المادة وعدم تغييرها .) العابرون اليومَ ” البوليفار ” يذرفون لأجلهم نظرتين . سأتركهم في نور آلامهم ْ يتذوقون مُتعة التعميد في زيت الكهف البكر , ويفركون أعينهم بعفريتاتها الضائعة. كانت من هواة النظرة الأولى لحضارة تشرب خُلاصَة الشَّعِير مستمتعة باسمه العصري على أنه من سلالة نبيلة تنتمي إلى الأشرِبة الرُّوحِيَّة .. تأسرها حِظْوَة الخُبز السِّياحي ناسية بأن العاقر تحبل من رائحة عفونة التُّربة ليومٍ مَمْطُور . أيها الغامِق فينا أطفأ صمت عطشهما المتهدم .. والمتدحرج في العدم ,لا تتصوّر أناقة الجرسون الباردة كيف ترجمته بحرارة .. لها مفعول الرطوبة الزائدة : ـــ كم أنت غائرٌ في الخدِّ أيها البدوي ُ . ساعته العجوز كالحيَّة تخنق معصمه تعلن عن استيائها من الوقت , وبنات أفكاره المسربات بدافع القهر والبحث عن اللّذة لا يدخلن المدرسة ..يعبرن عن ذلك التمرد بالهمس وتماسك الأيدي . رأيت اللَّقالق تحوم على ” بهو البوليفار ” واستطاع برعونة أن يجفل غزالات دمعها , لكن هل رأت في عين اللَّقالق الحائمة ذكر الغزال الأعْفَر . قلبه المغلف بهالة الوصايا العشر غامِقاً أكثر مما ينبغي , يقصد الغرفة الصَّاخبة .. يخترع لحظات لا يفهمها الناس ” إذاعة .. يا إذاعة ” وبعدم الرد يتوحش كالأسد الهَصُور, لا يزال بعيداً جداً عن تكنولوجيا التلوث , يحمل كل ذلك التاريخ في وجهه الذي يضج بالإيحاءات الهائلة حول الصراع , والآلام , والعبث , يعكس هاجسه مع العالم وحتّى مع نفسه .. أين هو الخلاص .؟ ( وكم هو معذب التاريخ ! ) هي حالة نصب يعيشها مع حاله فترجمها على الفور : ” .. الناس هنالك في بلدي يا رغوة الكابتشينو في طيبة عينيك الطيبتين ” . ( .. ساهمت معرفة أبعاد الأصوات وعلم خاص في دلالة الكلام المرافق للأصوات الرخيمة من جعل ” التشيلو والكونترباص والفيولا والفيولنسيل ” متسيدة على مفاصل الحكاية وإيصالها للمستمع على أنها صور لحالات الراوي .؟ لكن على أيِّ نغمة أخرى تم خطف صوته الهَدّار حتى دك بكل هذه الموسيقى … .. الأصوات لم تكن منسجمة مع حركة الجملة الأولى ..لذا لم ترتفع ذائقة المستمع وتتسع رؤاه التأملية . فكلما حلّق الحكواتي النَّورس بعيداً ازداد الظلام من حوله .. أقترح حجب السرد كله , لعدم توفر المأمول من الشّخصيَّة الغائبة ومن مختطفها , فكلما امتلأ بالكارثة يرمي بجثث أفكاره عند أبراج الصمت لتأكلها الطيور الكاسرة . هكذا تبقى تلافيفه نظيفة ونقية , وإلى فرصة أخرى بتمكن أرقى واقتدار أكبر . ) وقبل السكوت عن الكلام المباح ..؟؟! أعلم أيها البدويّ السَّعيد .. بأنني الحَرامِيَّة التي نفذت عملية خطفك بجسارة محارب .., وكنت َ الأسْمَر الشّاب الذي احتضن آلة الكيتار وامتصَّ آخر ما بُحَّ في حلقها من نغم ٍ . ظهرتَ قُبالة شواطئي بغبار ٍ كاسح , عقرتَ نوقك في داخلي الحالم بمشوار ٍ فني إلى البرِّيَّة ِ , خلعت العباءة المطرزة بأرْغِفة التَّنُّور , ..رميت عصا البداوة بعيداً نحو الغيم .. وصهل أدهمك اللِّين في مراكض الزَّلق ِ المريح ِ : ( القيصر .. أنا القيصر .؟ ) فدائماً تتهيأ للنهوض الهاطل ..يجذبك جوع الطِّين الشبق حيث تتكون منه مفرزاتك البدائية , وبعبقريّة اجترَّت المرارات لهثتُ وراءك كاللّبْوة الداركة ما فاتها من جوع باسِل ؟ أصرخ من أعماقي : خطفتُ من ضحكتكَ الصَّوْت … وتعمقتُ فيه حتَّى سحبتَ داخلي … أنتَ صرخة الدمع المخبأ في تفاصيل الجسد . ارتوتْ روحي قلقاً وكدْتُ من الهِيام أهوي .
ديسمبر 31 2014
لكل مرآةٍ فى الحرب وميض …………. قاسم مسعد عليوة
لكل مرآةٍ فى الحرب وميضقاسم مسعد عليوةكاتب من مصرنعم .. صدري مثقلٌ بالنياشين..لكننى فى الـمـرايا لا أراهـا.البنت الجميلة والمدينة الحطام من كل العمارة المنهارة، من طوابقها وسلالمها وأثاثاتها وموبيلياتها، لم يبق سليماً سوى التسريحة. لا شظايا أصابتها ولا خدوش نالت منها. على الرغم من قصفات الهاوزر، مرآتها كما هى، رائقة براقة، وأدوات الماكياج ثبتت، هى وزجاجات البرفان ومياه الكولونيا، والأمشاط، والفُرَش. فوق المفارش المذهبة المفرودة فوق لوح البلور ظلت فى مواضعها. لم تمِلْ أو تتدحرج، ولم تسقط لتختلط بحطام الأشياء أسفل منها. وأدراج المجوهرات ظلت على حالها، مستوية، مقفلة، ومقابضها لامعة لم يَِعْلَقْ بها أى عُفار، ولم تنل منها شظية أو رطمة حصاة.
والبنت فوق كرسيها، الذى بلا مسند، جالسة إلى المرآة، منهمكة فى عقص شعرها، والراديو الترانزستور الذى كانت تتلهى بموسيقاه عن هدير القصف ما زال يبث أنغامه في الهواء المفعم بالأدخنة والأتربة وروائح البارود.
توقفت دانات الهاوزر، ومن البعيد أتت دبابة، هرستْ الحطام وإلى يمين تل الركام الذى تجلس فوقه البنت وقفتْ. ما إن انقشعت دوامات الغبار التى أثارتها الجنازير المتحركة حتى جعلت أخرى من التل مصطبةً لها، وأرسلت بقذيفة مرقت من فوق المرآة ورأس البنت، واتجهت إلى العمارة القريبة. الدبابة التى إلى اليمين اقتربت فى تحركها من البنت المنهمكة لاتزال فى عقص شعرها، وحَفتْ بذيل جوبتها الموشاة بالدانتيلا، وأرسلت بقذيفة أخرى نحو العمارة الأبعد. مع ارتدادة القذف والاندفاع المفاجئ إلى الأمام أسقط جنزير الدبابة بعض الركام من التلة التى تجلس فوقها البنت فلم تهتز.. لا هى ولا أشياؤها ولا صورتها فى المرآة.
مقاومون تقافزوا بملابسهم المدنية بين تلال الركام وصوبوا البازوكا إلى جسمى الدبابتين. من برجيهما خرج جنود يطلقون رشاشاتهم بكل اتجاه. إلى جوار البنت اندفع الرصاص وامضاً. المقاومون باغتوا الجنود رصاصاً برصاص، الحشرجات اختلطت بالدمدمات والصراخ بالصفير، ومثلما ظهر المقاومون قفزاً ومباغتة اختفوا لتظهر عربة مستشفى الميدان ويهبط منها حاملو النقالات. وفيما هم منهمكون فى حمل الجثث هبطت قذيفة هاون فوقهم بالتمام فتطايرت أشلاؤهم هم والجثث والنقالات وصاج السيارة وإطارتها وكُوَرُ النيران، والبنت لم تفعل أكثر من أنها غمزت لنفسها إعجاباً بعقصة الشعر التى أظهرتْ جمال عنقها وبهاء قرطيها.
وفي الأعالى تقاطعتْ أدخنة النفاثات، ودمدمتْ أصوات تخطى حواجز الصوت، وأَطلقتْ أسراب القاذفات صواريخَها على العمارات البعيدة فحطمتها، وألقتْ بحمولات النابالم على العمارات الأبعد فأشعلتها، وحملتْ الريحُ شُهبَ النيران وعبرتْ بها فوق رأس البنت، والبنتُ تُكمل زينتها وتضع باهتمام البودرة أسفل عينيها، والآى شادو فوق جفنيها.
بحذر انبثقت من خلف التلة القريبة من البنتِ ثلةٌ من الجنود. أجهزة الإشارة تحنى ظهورَهم، ولفاتٌ من الأسلاك الثقيلة تتدلى من أكتافهم وسواعدهم. بسرعة الأرانب يتقافزون. يتوقفون ريثما يفردون الأسلاك ويثبتونها ثم يفرون. حول الركام الذى تعلوه البنت التفوا، والبنت انتهتْ من وضع الماسكرا فوق رموشها وبدأت بالكاد فى استخدام الآى لاينر. حاملو أجهزة الإشارة ارتكزوا على ركبهم بالقرب من البنت وفى سماعات تليفونات الميدان أخذوا يصرخون، ومثلما ظهروا اختفوا بسرعةِ وخفةِ الأرانب.
ظهر ضابطٌ كبيرٌ فوق الركام المواجه للركام الذى تجلس فوقه البنت. وضع منظارالميدان فوق عينيه. تطلع يُمنة ويُسرة، ثم أشار باتجاه اليسار فاتجهت إلى حيث أشار طوابيرٌ من المشاة مكتملة التسليح. بخطى منتظمة وزوماتٍ منغمة يمشون. خلفهم رتلٌ من عربات الإمداد والتموين.. ذخائر وطعام وفرن ميدانى وفِنطاسا ماءٍ ووقود.. وقططٌ ضامرةٌ وكلابٌ متسخة، نسيتْ عداءاتها وتبعت ـ مهطعة رؤوسها ـ رتلَ العربات. المشاة يحاولون تفادى الارتطام بأشلاء القتلى والوخوذاتِ والداناتِ التي لم تنفجر، فتتعرج الطوابير، ويتعرج الرتل، وتترنح أرجل القطط والكلاب.
فى اللحظة التى أخذتْ البنت تتأمل فيها تأثير الخطين الأسودين الرفيعين، المائلين إلى الأعلى، على جمال عينيها؛ كانت الطوابير قد عادتْ هرولة ورصاص المقاومين يشتتها، وفيما يتساقط الجنود ويختلطون بالحطام والأشلاء الممزقة، تشبثَ جريحٌ بالركام الذى تجلس فوقه البنت، وجاهد ليصعد فوق أحجاره وأخشابه، وكاد يلمس المسطح الذى ترتكز عليه قدما البنت لولا زَخَّات الرصاص التى ثقبت ظهره، ليتدحرج إلى سفح التلة فتهرسه عجلات سيارة فزعة. عندئذ أمسكت البنت بقلم الروج ووضعته بالكاد فوق إحدى شفتيها.
بالمظليين بَذرتْ الطائراتُ قبة السماء، فصعد المقاومون أكوام الركام ونصبوا مدافع المورتر وأطلقوها عليهم. أكثر من مقاوم اعتلى حواف الركام الذى تجلس فوقه البنت الجميلة، ومن أوضاع الوقوف والارتكاز والجلوس والرقود أطلقوا رصاصهم باتجاه المظلات التى بدت قناديل بحر هائجة فى خليج مائج بالأحمر والبرتقالى والأسود الدخانى. وإذ يلملم الناجون من الهابطين حبال مظلاتهم هرول إليهم المقاومون بالرصاص والسناكى، متعثرين بالأخشاب والأحجار والجثث يهرولون، وبكل ما تطوله أياديهم غير الرصاص والسناكى راحوا يُذَبِّحُونهم. والبنتُ أمسكتْ، بعدما انتهت من طلاء شفتيها بالأحمر الدامى، بقلم تحديد الشفاة ومالت برأسها أكثر باتجاه المرآة ليكون التحديد أحكم وأدق .
صاح المقاومون وهللوا لمَّا أجهزوا على المظليين. وفيما أعطتْ البنتُ كل اهتمامها لطرف إصبعها الذى تمسح به ما شذ من الخط الذى رسمته بقلم التحديد، ظهرت من كل الأجناب أرتال لا نهاية لها من المدرعات وحاملات الجنودِ والصواريخ وقاذفات اللهب، وتجمعتْ فلولُ المقاومين واحتشدتْ فوق وأسفل وإلى أجناب أكوام الركام.
طيورُ الخرائب بعضها نعقَ وبعضها سكتَ وتَنَصَّتَ. فى لحظة الهدوء المتوتر هذه كانت البنت الجميلة قد انتهت من كامل زينتها، وكانت الموسيقى المنبعثة من الراديو الترانزستور قد استحالت إلى نغمة كمان رقيقة طافتْ فوق المشهد كله. ببطء فتحتْ أدراجَ المجوهرات وأخذتْ تبحثُ عما يليق بهندامها. قلَّبتْ فيها دُرجاً بعد درج حتى عثرتْ على الطقم المكتمل الذى ترتضيه. طقمٌ ذهبىٌ مُطَعَّمٌ بالألماس. استبدلتْ قُرطيه بالقُرطين المتدليين من أذنيها، وأحاطتْ عنقهَا بالقلادة وثبتتْ البروش على صدرها، ثم وضعتْ الإسورة والأونْسِيَل فى رسغيها والخواتم فى أصابعها.
هى الآن أكثر جمالاً وبريقاً. دَسَّتْ القُرطين المخلوعين فى الدُرج الذي يخصهما وبتؤدة أعادتْ قفل الأدراج. برشاقةٍ تناولتْ البرفان ووضعتْ نِقاطاً محسوبة فى مواضعٍ محسوبة، ثم رشت اسبراى الكولونيا على عموم ما ترتديه. بعدها نهضتْ وسَوَّتْ جوبتها، وشدَّتْ قوامَها، وأرسلتْ قُبلةً على أطراف أصابعها إلى صورتها المطبوعةِ على المرآة. وللمرةِ الأولى تستدير إلى الفوهات المتقابلة والخراب المحيط، وبمهلٍ شديد بدأتْ تتجمع على شفتيها ابتسامةٌ تجمع بين الشر والطيبة.. ابتسامةٌ راحتْ تتسع وتتسع وتتسع.. تتسع وتتسع.. تتسع .لماذا لم يرتج الموقع بقذائف العدو؟ شيء ما غير عادي حدث داخل الخندق. الجنود متسخو الوجوه والأيدي والأفرولات انتفضوا مشدوهين. وَهْمٌ ما يرونه أم حقيقة؟! يبدو أنه حقيقة.. لا.. لا يمكن أن يكون وهْمَاً. ليستْ بلادة تلك التي أصابتهم، لكنه الاندهاش. هو الاندهاش الذي أنهضهم وأجحظ عيونهم وشدها إلى حيث أسلمتْ الفنانات المبهجات المبتهجات أياديهن للضباط لمساعدتهن على الهبوط إلى داخل الخندق. من فرط اللهفة في الالتفات ارتطمتْ خوذتان، إلا أن ضحكاتهن علتْ على طرقعة المعدن. من فورهم عرفوهن.. “ريم” النجمة المتألقة على شاشتي السينما والتليفزيون، هي بوجهها النضر وعينيها البريئتين وشفتيها اللتين إنْ فتحتهما لأي بطل أسكرته. و”ميريت” الراقصة التي طالما انطرحتْ أبصارهم فوق فخذيها وردفيها ووركيها، هي التي أعطتْ العيون سُرَّتها فتزاحمتْ للانغراز فيها، ومنحتها نهديها فتزلجت فرحة فوقها.. و”وهيبة”، نعم وهيبة، المطربة التي تيمهم صوتها الرخيم، وشغفهم بها عشقاً.. و”زمردة” فنانة المسرح التي تجيد الولولة والنحيب، إنها تضحك مقهقهة وهي تلم فستانها على فخذيها حتى لا يُطَيِّر الهواء أطرافه. أتكون هذه النحيلة هي “لؤلؤة” ؟.. نعم يا لئيم يا بن اللئيمة.. هي بعينها “لؤلؤة”، المونولوجست خفيفة الظل سليطة اللسان؟.. نعم.. نعم.. أية مفاجأة.. أي عيد!!.. فساتينهن المبهجة أداختهم، فتصايحوا وصخبوا، ونطقوا بأسمائهن بكل ما في الدنيا من تهتك ورعونة. وعلى الرغم من أنهن كن قريبات جداً منهم، وأنه من البادي منذ الوهلة الأولى أنهن سيمررن عليهم في مواقعهم، فقد انهمكوا في التلويح لهن، كُُلٌّ يريد أن يلفت أنظارهن إليه، بل إن منهم من ترك موقعه وأقبل عليهن ليتشمم روائحهن ويتملى أكثر من جمالهن. الجنون أصاب الجميع.. الضباط الذين حاولوا التماسك، وصف الضباط والجنود الذين انفلتوا تماماً وخرجوا على قواعد الضبط والربط.. إلا هو.. ذلك الذي ظل إلى جوار “الجرينوف” معتمراً خوذته حاكاً شعيرات ذقنه. كان قريباً جداً من زحام الفنانات والجنود، لكنه ظل في مكانه مكتفياً بالتطلع إليهم والاستماع إلى صيحاتهم المجنونة، وصخب الضباط إذ يهتفون بهم ـ ربما لتأجيل جيشانهم وربما لإشعاله أكثر ـ “الليلة فانتازية”..”الليلة غناء ورقص وتمثيل”.. “الليلة ليلة العمر”. كان يمكن أن يظل الحال على ما هو عليه لولا أن التقت ـ بعفوية ـ عينا “ريم” بعيني الواقف إلى جوار الجرينوف فانجذبتا. برشاقة تخلصتْ من الزحام واتجهتْ إليه. هو أيضاً انجذب إليها، لكنه ظل في مكانه. لم يفعل أكثر من ضبط وقفته ليكون في مواجهتها بالتمام. “ريم” لم تتكلم. فقط مدت كفها الملساء وسلمت عليه، وحدث شيء، غير عادي ربما، أبقت كفها في كفه حتى أفرج عنها. لحظتها سكن الضجيج تماماً، والتفت الجميع نحوهما.. الفنانات والضباط وصف الضباط والجنود.. وران صمتٌ له ملمس المخمل على المشهد كله. هُم في جزء من الخندق وأمامهم “ريم” والجندي المتسخ ناتئ الذقن ومدفع الجرينوف. مَنَّ الله عليها فتكلمتْ: “إزيــــــــك؟” “الـحــمـد لله.” “عـامـل إيه؟” “كــل خـيـر.” مثل الآخرين بدأ يرتجف، لكنه تماسك. طافتْ عيناها بأوراق الخروع المثبتة فوق خوذته وتوقفتا عند الجرح البسيط الذي يشق أحد حاجبيه. استهوتها لمعة عينيه، لكنها فرت منها إلى اللطخات السوداء والبنية من أثر السحجات والجروح التي اندملت، وإلى القشف الذي أحدثه البرد في أذنيه وأسفل ذقنه حتى رقبته. رأتْ اسبلايت الأفرول مُدلى من أحد كتفيه، وبان لها فتقٌ تحت الإبط، فاقتربت منه أكثر حتى ظن الناظرون أنها ستقبله، لكنها فقط مدتْ إصبعاً أدخلتْ به الخيوط المشرشبة داخل الفتق، وبكفيها أمسكتْ بالاسبلايت وأعادتْ زره وتسويته، ثم أعطته ما كان ينتظره الجميع، لثمة يسيرة بسيطة طبعتها على أحد خديه لينفتق الصمتُ المخملي عن “هـــــــااااا” طويلة فرحة ومشجعة، وتصفيقات من الأكف المحتشدة أمامهما فيستيقظ الجندي من غيبوبته.. يده على الخد الذي نال اللثمة ، والعينان بالكاد تدركان أنَّ ما حدث حقيقة وليس خيالاًً أو وهماً. أما “ريم” فقد التقطتْ شفتاها القرمزيتان من خده بعضاً من تراب بدا أنها لم تشعر به.
قبل أن يهجموا عليهما كان قد أدخل يده في جيبه وأخرج لها شيئاً بدا من تعابير وجهه أنه عزيز عليه.. سلسلة مفاتيح تتأرجح فيها شظية..”أخرجوها من كتفي”.. لم يقل أكثر من هذا وهو يقدمها لها. حارتْ أي شيء تقدمه له.. ليس معها سوى نقود، وتقديمها له لا شك سيجرحه.. عبثتْ بحقيبة يدها فتعثرتْ أصابعها في أدوات الزينة.. أقلام الروج والتحديد وزجاجة الآي لاينر وحُق الآي شادو والملقاط والمقص. كان يجب أن تحضر معها عدداً من صورها لتهديه إحداها وتوزع الباقي على الآخرين.. هي تفعل هذا في كثير من المناسبات فلماذا نسيتها هذه المرة؟.. توقفتْ أصابعها عند شيء. أخرجته بسرعة وقدمته له.. مرآة.
فرح بها كثيراً، فما من واحد من هؤلاء الشُعث الغُبر، الذين يقاسمونه هذا الخندق يمتلك مرآة. داس الجنود على الانضباط ودواعي الأمن، ونسوا العدو المتربص وراء التباب المواجهة، وهجموا عليه ورفعوه، وقذفوا به هو ومرآته في الهواء، فيما عادتْ “ريم” إلى صويحباتها والشظية في قبضتها. قالتْ لهن:
“معايا شظية”. ومن أعلى الجميع.. من الهواء المقذوف إليه صرخ: “معانا مراية”. وأسقطتْ الشمسُ شعاعاً احتضنته المرآة والتمعتْ به. ومن المدهش أن المكان لم يرتج بقذائف العدو.ربما هذا ما قاله ابنى أمام المرآة سأتركُ زوجتي وابني الذي أخرجه الطبيبُ مبتسراً في شهرهِ الثامن. ابني الذي استلمته من حَضَّانة المستشفى ووزنه كيلوجرامين اثنين. سأتركُهُ وأتركُ بيتي وعملي المضني ومقهى الأصدقاء. قد أَمُرُّ على أبي وأمي وأخوتي وقد لا أمر. سأتركهم بوداعٍ أو بغير وداع وأذهبُ إلى الفرقةِ الرابعةِ مدرعات. إلى الحرب. وداعاً للمتعِ التي تعودتُ عليها وللمقهى والإنترنيت وقمصاني رائقةِ الألوان. كل هذا سأُنـَحِّيه جانباً ولن أصحب معي سوى مرضِ السكر الذي داهمني بَغْتة. سأذهبُ إلى المجنزرةِ التي لازمتني فترة تجنيدي، وإلى المعسكرِ الذي لفظني برغبته، ثم ها هو يستعيدني رغماً عني، لأهتف في طابورِ التمام ” تحيا جمهورية مصر العربية”.
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : العدد الثامن والعشرون, قاسم مسعد عليوة