سحر القص فى قصيدة “موعد العاشق الأشل” لأحمد درويش … حســــن البنــــــدارى

سحر القص فى قصيدة

“موعد العاشق الأشل” لأحمد درويش

د. حســــن البنــــــدارى

أستاذ النقد الأدبي – جامعة عين شمس

تتجلى روح القص فى أغلب أشعار أحمد درويش التى ضمها ديوانه “أفئدة الطير” (الصادر عن الدار المصرية اللبنانية عام 2005) ، نرى ذلك فى قصائد مثل: “الطوفان، وغريمان، وأغنية حزينة لطائر المساء، والنقر على الأوتار، وإلى الشهيد المجهول، وزفرة، وتائه في المدينة، وأحجار القدس، وموعد العاشق الأشل”، وغيرها من قصائد الديوان التي تحتاج إلى دراسة مطولة أرجو أن أنجزها في القريب .

لكن أكتفي بتناول قصيدة واحدة من تلك القصائد وهي : “موعد العاشق الأشل” التي تأثرت بها حين سمعتها منه فور كتابتها، فكتبت قصة المفقود التي ضمنتها مجموعتي القصصية الأولى “الجرح”، ولا أجد غضاضة في الإشارة إلى هذا التأثر في مناسبة أو أخرى، وكيف لا يحدث التأثير والقصيدة تعتمد على مرتكزات أساسية هي الوعي القصصي والتكثيف التصويري والخيال الناصع ووضوح العلة والتصعيد الدرامي .

يتناول الشاعر في هذه القصيدة موقفًا “مفردًا” هو معاناة الراوي نتيجة الشلل المفاجئ الذي ألم به وهو يتهيأ للخروج من مسكنه لملاقاة حبيبته حسب الموعد الذي حدداه من قبل، وهو الآن عاجز عن الخروج إليها . صاغ الشاعر هذا الموقف في ثلاثة مقاطع هي في الواقع لوحات فنية حافلة قد رسمها بسردٍ قصصي مهد لها – بمدخل وصفي – ، تولته ثلاثة أبيات هي :

الليل عاد .. عاد ليل الشجن .. أكفه تغـــزل لي في كـــفني

الليل عاد .. شوكة من طاقة بالأمس كانت ثرة بالسوســـــن

الليل عاد .. معول الصمت الذي يهدم في جنبي لا يرحمــــني

فهذه الأبيات ليست ” سوى مقدمة تمهيدية” حكائية لتجربة القصيدة، وهي في الوقت نفسه خاتمة الموقف أو نتيجته الحتمية، وهي العجز عن الفعل العطائي؛ فهي بذلك “المقدمة الخاتمة”؛ لأن المقدمة كما نرى تضمنت النتيجة أو الخاتمة؛ إذ هي تتناول حالة ميئوسًا منها ومقدرًا لها العجز والإحباط، فهي حكم مسبق أو قرار متقدم لا يتوقع منه “التحول المفارقي” ، ومن ثم احتاج المتلقي من الشاعر أن يسوق له المسوغ السببي لهذه الحالة، وهو ما عمد إليه في الأبيات اللاحقة .

لكن الذي يجب أن نقف عنده قليلًا أو كثيرًا في هذا المدخل” المقدمة – الخاتمة “هو حركية القص ذات العناصر الموحية؛ فثمة زمن “الليل” أثار في نفس العاجز الشجن ودفعه إلى حافة الانهيار، وهذا الزمن الليلى لم يعد مريحًا كما كان في الماضي. إنه الآن يبدو كشوكة مرشوقة في جنبه الواهم، وهو يضغطه بشدة ويقطع جنبه، فهو بمثابة “معول” لا يرحم ولا يكف عن الحفر في هذا الجزء من جسده الواهن، فيحرمه من الاستقرار في نومه وفي صحوه، كما أن الشاعر قد حرص على تقوية هذا الإحساس بالفقد بأن جعل لليل حركة، وهي “كف تغزل كفنه” وتنذر برحيله عن العالم .

هذه الحركة الثلاثية لليل: الشوكة المرشوقة والمعول الهادم والكف الغازلة – تجعلنا نطرح سؤالًا عن علة هذا الشجن الهائل، لاسيما أن تكرار جملة “الليل عاد” ثلاث مرات يدعم هذه الرغبة في معرفة السبب أو العلة، ولذلك جاء المقطع الأول بوصفه تفسيرًا وإضاءة لتلك المقدمة الخاتمة، وهو تفسير ثنائي” إجمالي وتفصيلي” لمعاناة هذا العاجز الموشك على الرحيل .

أما التفسير الأول” الإجمالي” فيظهر في ثلاثة أبيات من هذا المقطع الأول هكذا :

فليلة الموعد جاءت .. لم تجد غير جريح في إهابي مثخـــــن

غير بقايا مقعد .. وحفنة من الدموع لم تزل في أعينــــــي

وحجرة جفّ على حيطانها عتابي المر لهذا الزمــــــــن

يمثل هذا التفسير الإجمالي توضيحًا لإحساس الراوي باليأس، وكيف لا يكون  يأس وهو جريح النفس معطل الجسد، وهو باكٍ دامع العينين، بينما تطالعه حيطان حجرته الكالحة الحالكة، التي اعتادت العتاب فألفته واللوم فقبلته، ولم تعد تعبأ بمشاعره ، فقد تحجر قلبها أو جفّ إن كانت ذات قلب .

لكن الشاعر عمد إلى توفير مزيد من التوضيح والإضاءة بإذكاء مشاعر المتلقي؛ قصدًا إلى الاستحواذ على رغبته في متابعة هذا الموقف الإنساني، وذلك بالوسيلة الثانية وهي” التفسير التفصيلي”المضاعف لقوة معاناته كما نرى في الأبيات (4 – 13) :

1- المقعد الحزين : والأريكة الملقاة في حضن الجدار الخشـــــن.

2- ستارة قد أسدلت أطرافـــها “شلت على شباكنا ترمقــنـــي”.

3- وباقــة من الزهور : غاضت ابتســامة في وردها المـــلون.

4- وكومة الأوراق بيضاء فما خطت بها كفي حكايا حزنــــــي.

5- ولوحة على الجدار: لم تعــد أبعادها توحي بغير الشجــــن.

6- البحر : والضياع في مياهه، وزورق ضل طريق السفـــــن.

7- وغاب عن ملاحه المنار، غاب مرفأ الشاطئ .. لم يســـــتبن.

8- وقصــة قرأت من كلامــها سـطرين جامدين .. لم أفتـتـن.

9- تلوك عيني الكلام، تزدريــــه لم يعـــد كلامها يجذبنــي.

10- فكلمة الحب تهيج في دمي بقيــة من أمسي المكفـــــن.

يتضح من هذا التفسير التفصيلي أن الشاعر حرص على بيان شدة اتصال الراوي المنكسر بمنظورات المكان؛ فليس المكان هنا مجرد حجرة تحتويه، بل هو مكان ضاغط ومضاعف لتوتره بعناصره التي يزدحم بها : فثمة مقعد وحيد، وأريكة قديمة أسفل جدار باهت اللون، وهذه الستارة انزاح طرفاها العلويان، فاتخذا شكل صليب فصارت الستارة تذكره بمصلوب موشك على الموت، وتطل عليه شاهدة على مأساته، وها هي باقة زهور زابلة تثير في النفس الكآبة، وتلك حافظة أوراق رسائل بيضاء خالية من أي سطور، كم كتب في أوراق منها الرسائل والخواطر وضرب المواعيد . إنها تطالعه بأسى؛ فشأنها أن تتلقى كلامه المرسل إلى حبيبته، وأما لوحة الجدار فقد صارت مثيرة للشجن العالي، كانت قبل العجز مبهجة وجاذبة للبصر، ولم يضره أنها عن زورق تائه في موج متلاطم  .. كان يسعد بها بوصفها عملا فنيا له دلالة مؤثرة تريح النظر وتمتعه .. لكنها الآن لم تعد كذلك، أوحت اللوحة بالمغاير  ؛ فالبحر متاهة خطيرة، والزورق تتقاذفه الأمواج السوداء – وكانت من قبل زرقاء – لاسيما أن ملَّاحه – الذي كان ماهرًا – قد ضل الطريق، ولم تعد لديه القدرة على رؤية المنار الهادي المرشد .

هذه العناصر : الستارة ، الباقة، أوراق الرسائل، اللوحة – قد مثلت لوحة كلية رسمتها ريشة فنان مبدع بكلمات اتخذت طاقة الحركة الداعمة لقصصية القصيدة، فهي حركة مجازية تشخيصية جعلت “الجوامد” ذاتية الحركة والفعل والتأثير .

وقد أضاف الشاعر إلى هذه العناصر عنصرًا آخر وهو “هذه القصة” التي سبق له أن قرأها واستمتع بها، لكنه الآن ليس مقبلًا عليها، لاسيما أن محورها “عاطفة حب” لم تعد تستثيره، بل إن “هذا الحب المقروء” صار سياطًا تنهال على جسده المنهك المكدود .. وها هو الآن يزدريه ولا يرغب في الوقوف عنده ولا استعادته .

ويضيف الشاعر في المقطع الثاني ستة أبيات تسري فيها “موجة شجنية متحسرة” بدأه بمناداة حبيبته بصيغة “حبيبتي” على هذا النحو:

حبيبتـــي ..  وكل شيء هاهنا ما عاد غير مغزل في كفنـي.

لـــــن يرجع اللقاء .. لن نعود طائرتين يسحران كل فنـن.

لن تقضى حبيبتـــي أمام مرآتك ســـاعتين كي تزيّنــي.

لن ننفق المساء فوق شاطئ النهر .. وبين خصلات السوســن.

حتى الرسـالات عجــزت أن تلمــس  الأوراق منــذ زمن.

الورق المعطـر الأزرق راح .. لم يعـد إشعاعه يغمرنــــي.

أكد الشاعر في البيت الأول على يأسه الشديد من الحياة؛ لأنه يحس باقتراب الموت منه ليفيد سياق البيت مسوّغات الصور الحركية الواردة في الأبيات (2، 3، 4، 5)، فهي صور نفت عن المحب العاشق إحساسه بالأمل في استئناف علاقته بمحبوبته ؛ إذ كيف يكون أمل في أن يعودا طائرين يسحران أغصان الشجر، ويملآن الحياة بالسعادة، ويرسمان البسمة على  وجوه المراقبين والمقاومين لقصة حبهما البريئة .

وما دام قد قدر لهما الفراق فلن تنفق المحبوبة الزمن لتتزين أمام مرآتها استعدادًا للقائه . ذلك اللقاء الموعود الواعد بالشوق، الحافل بالمشاعر الفياضة، كما أن “الفراق” يعني حرمانهما من نزهة المساء التي كثيرًا ما سعيا إليها ليجمعهما الشاطئ المفضل الحبيب ، إن هذه النزهة المرجوة لن تتحقق.

وعندما يفكر العاشق في أن يكون البديل عن اللقاء – كتابة رسالة تفصح عن فيض شجنه – فإن هذا التفكير سرعان ما يتراجع ويتوارى؛ لأنه لم يعد قادرًا على الكتابة، فقد عجزت أصابع كفه عن القيض على القلم، وعن مجرد لمس الأوراق، كيف يمكن له أن يخط رسالة إلى معشوقته وهو العاشق الذي ضربه الوهن والعجز والقنوط ؟ ! .. لكن عليه رغم ذلك أن يأسى بقلب مستسلم على أوراق الرسائل الزرقاء المعطرة؛ فقد انسربت معالمها لاسيما أن شعاع الدافع إلى الكتابة قد خبأ منه وزايله وتوارى عنه إلى الأبد .

وتواصل صوت الراوي في المقطع الثالث بسبعة أبيات “يستشرف” فيها المستقبل، ولكن بنغمة إضافية بلغت قمة اليأس والقنوط :

حبيبتــي غدًا تجيئين هنا لزورتي .. تجلدي .. لا تحزنـــي.

في لحظة خرســاء؛ ما أمرها! قد جففت من العتاب الليّــــن.

ستجديـــن كل شيء ها هنا ما عاد  غير مغزل في كفنــي.

المقعد الحزين، والأريكة الملقاة في حضن الجدار الخشــــن.

ونظرة الإشفـاق، حتى نظـرة الإشفاق يا حبيبتي تقتلنـــــي.

نقول كل ما تتمتم الشفاه.. يبعــــدون وقعه عن أذنــــي.

واأسفاه!.. مسكين!.. كان طائرًا وشل! .  ما أقسى صنع الزمــن!

يستشرف العاشق العاجز” المستقبل” في هذه الأبيات السبعة بقلب مفعم بالأسى واليأس اللذين أوصلاه إلى تفكير حركي موّار، فرآها عقب رحيله تزور المكان الذي شهد مأساة شلله وعجزه .. هذا مكانه الذي كم عرفته وزارته، وعليها أن تتجلد وتصبر وتتماسك ولا تحزن، كما أن عليها أن تعذره وتسوّغ خلفه الموعد، وكيف لا تعذر وتسوّغ وقد رحل إلى الأبد ؟ ! .. وهذا مقعده الوحيد قد خلا منه، والأريكة التي ضمتهما ذات مرة بجوار الجدار مهملة غطاها الغبار . وربما ترى نظرات الإشفاق في عيون جيرانه ومعارفه وأصدقائه ومحبيه ، وهي النظرات التي كم آلمته وأسهمت في شدة يأسه وقنوطه فعجلت برحيله النهائي .. وكم حاول المقربون منه أن يحففوا عنه ويخملوا وقع تمتمة شفاههم عن سمعه ، لاسيما أن هذا الوقْع ينذر برحيله الأبدي، وربما سمعهم يرددون كلمات التعاطف معه والثناء عليه، فقد كان العاشق طائرًا غردًا، أشاع البهجة والسرور في النفس يومًا لكنه أخيرًا سقط وشل .

ويتبين من” المقدمة الخاتمة” ، والمقاطع الثلاثة أن الشاعر قد حرص علي أن تبلغ تجربة القصيدة وعي المتلقي وقلبه، وذلك بتوظيف طائفة من البنيات الفنية : بنية التكرار، وبنية النفي، والبنية التفسيرية..وغيرها..

تتعين “بنية التكرار” في ترديد جملة: “الليل عاد” ثلاث مرات دليلا علي شدة تحسرالعاشق على العجز عن الفعل الحركى الذي حرمه من ملاقاة معشوقته التى يعلم حرصها على انتظاره وسعادتها باستقباله حينما تراه مقبلا عليها في مكانهما المعهود .

وتدل: “بنية النفي” المتمثلة في: ” لن ومدخولها: ” المكررة ثلاث مرات في أبيات المقطع الثاني. علي فقد الأمل في اللقاء ، وتأكيد الإحساس باستمرار الفقد وتواصل الحرمان اللذين حاصرا العاشق ، وهدما تجربته، وحكما عليه بالرحيل الأبدي، وعلى معشوقته بالأسى والحزن.

وتتمثل “البنية التفسيرية ” في ظاهرتين هما : الوصف المكاني، والتعقيب التنويري ، أما الوصف المكاني فيظهر في رسم مسرح الحدث حيث برع الشاعر في تحديد معالم غرفة العاشق وبيان ما تحفل به من موجودات مثل المقعد والأريكة واللوحة والستارة .. وهي الموجودات التي لها دور في تصعيد حركة قص هذه التجربة الإنسانية . وأما التعقيب التنويري فنرا ه في توظيف حرف الفاء المقترنة بالجملة وهي فاء فاعلة ملائمة لتجربة القصيدة ، وظفها الشاعر في ثلاثة مواضع : في بداية المقطع الأول تعقيبا على “المقدمة الخاتمة”: (فليلة الموعد جاءت )، وفي خاتمة هذا المقطع (فكلمة الحب )، وفي البيت الخامس من المقطع الثاني (فكفي عجزت). هذا التعقيب بالفاء أمدّ تجربة  القصيدة بطاقة إضافية فأرضت الفاء الأولى فضول المتلقي، وهدأت من خاطره بوصفها تفسيرا مضيئا ، ووضحت الفاء الثانية رفض الوقوع في تجربة حب أخرى تزيد من عذاب العاشق وحسرته وتذكره بعجزه عن الفعل والتصرف، بينما أفادت الفاء الثالثة العجز التام عن الحركة واختفاء شعاع الرغبة في الحياة .

د. حسن البنداري