مجهول الشعرية شعرية النشأة / شعرية التحول الدكتورة خيرة حمر الدين

مجهول الشعرية

شعرية النشأة / شعرية التحول

الدكتورة خيرة حمر الدين *

أثيرت أسئلة الانزياح ، ويشيء من الريبة والحذر وكثير من التقصي ، والتأمل والبحث ولقد حاولت معظم الاتجاهات النظرية ارساء مفهوم اصطلاحي لظاهرة بدت وكأنها ضد الاصطلاح وهكذا تنوعت الرؤية الموجهة إلي ضبط نظام هذه الظاهرة . فتعددت بتعدد الشعريات ، غير أنها شملت تصوراً واضحاً وضعت فيه لأول وهلة وهو السياق الذي ظهرت فيه اللغة . وبذلك استطاعت معظم الكفاءات النقدية مقاربة ظاهرة الانزياح دلالياً ،

وجماليا وتاريخيا من داخل اللغة نفسها ، وانبعثت هذه الظاهرة لترافق انحراف اللغة الشعرية وأنماط انزياحاتها لكنها ارتطمت باشكالية القاعدة أو المعيار الذي تتحدد في ضوئه هذه الظاهرة .

هكذا نشأت الشعريات محاولة فك الحصار عن اللغة الشعرية ونزع القيود عنها إلا أنها لم تنه الاشكالية بل سرعان ما أثارتها من جديد .
1-شعرية النشأة / شعرية التحول

لقد كان من الصعب على الشعرية أن تضع حدودا قاطعة لمسألة الأدب وإعادة فهمه بمعزل عن نظام اللغة . بيد أنها أستبعدت مختلف المسلمات التي كانت سائدة وظهر مفهوم الشعرية ليد حض تلك المسلمات ويعيد الواقعة الأدبية إلي جوهر انبثاقها الأول ( اللغة ) ، فكان موضوعها الأدبية وليس الأدب ، أي ما يجعل من عمل معين عملا أدبيا”[1]

وهي تعني باستخلاص القوانين العامة وكونات الخطاب الشعري ” إذ ليس هدف البيوطيقا البحث عن معني الأعمال المفردة بل الكشف عن القوانين العامة التي تساعد على إنتاج الأعمال الأدبية “[2] . وإذا كان البعض يطلق عليها الأدبية أو الأدبوية قياسا على المفهوم الاصطلاحي والدلالي ، فان البعض الآخر يسميها البيوطيقا تماشيا مع المعني الاشتقاقي Poetica المأخوذ عن اليونانية .

وتجاوبا مع هذا المفهوم وجد أولئك وهؤلاء في اللغة وتجسيدا حقيقيا لمبادئهم ، وتم نبذ بعض التجليات السوسيولوجية والنفسية التي سيطرت على الواقعة الشعرية ( Le fait poetique ) وراحوا يبحثون عن نظامها في حيثيات اللغة نفسها باعتبارها انبثاقا عنها ، ولما كان غرضهم هو تميز اللغة الشعرية عن اللغة اليومية والاستخدامات اللغوية الأخرى فقد تطلب ذلك وعيا باللغة والأسلوب والصياغات المختلفة والبنيات الايقاعية السائدة والمبتكرة ، والمستويات النحوية والصرفية وغيرها مما يدخل في علوم البلاغة ، واللغويات والجمالية ..

وإذا أرادت الشعرية القفز أو الوثب على هذه المنظومات التي تشكل كل واحدة منها نسقا يشمل جملة أو عبارة أو نصا ، ويدخل في النظام التركيبي والدلالي لها ، فان عليها أن لا تبحث فقط في مكونات الشعري أو الأدبي وخصائصه ، وانما أيضا في ما يضمن لها الخصوصية شيئا من الاستقلالية ويجعلها نادرة ومستوحاة .

من الواضح أن الشعرية قد بدأت كثورة ضد المعايير الخارجة من النص ، والتي فرضت تمسكها به واعتبرته امتدادا لها ، وكان في وسعيها حينئذ أن تتبني قانونها الخاص . وقد ساعدت اللسانيات على مد الشعرية بالأساس العلمي حتي أمكن لها ” أن تعرف بوصفها الدراسة اللسانية للوظيفة الشعرية في سياق الرسائل اللفظية عموما وفي الشعر على وجه الخصوص “* وبدافع من ارساء منهج علمي ، فقد ظل هدف الشعرية هو اقتراح نظرية لكيفيات انبثاق الخطاب الأدبي واشتغاله . وهي لا تجعل من نفسها البديل الوصفي أو التاريخي أو الدلالي لنظرية الأدب ولكنها نشأت في ظل تطورات جمالية وأبستيمولوجية أخذت الكثير من النظام الأدبي نفسه . محاولة بذلك تجنب إخضاع الأدبي أي نمط تحليلي قسري ، وانما تطلعت إلي اكتشاف القوانين الذي جعلها تتبني مبادئ اللسانيات على حد ما جاء لدى جون كوهن من أن ” اللسانيات قد صارت علما يوم تبنت مع سوسير مبدأ المحاثية أي تفسير اللغة باللغة نفسها ويجب على الشعرية أن تتبني المبدأ نفسه ، فالشعرية محاثية للشعر ويجب أن يكون مبدأها الأساسي والشعر بقوله لابتفكيره وإحساسه . إنه خالف كلمات وليس خالق أفكار ، وترجع عبقريته كلها إلي الإبداع “(4) ما من شك في أن إبداعية الفن الشعري قد تجاوزت بلاغة المضمون لتبحث عن شكل جديد للمقول تصبح فيه العلاقة بين الدوال والمدلول علاقة تشكيل وتكوين غير أن اللسانيات ليست الحل القطعي أو المنهج النهائي ، وإنما تبقي مجرد رؤية نطل بها علي تخوم اللغة وفضاءات النص اللامتناهية بينما لا يمكنها أن تمنحنا كل الأدوات التي نطيح للحصول عليها . وهكذا فقد أشار تودوروف إلي قصور اللسانيات لاهتمامها بنمط معين من البني اللسانية ، ولذلك فمن الضروري العودة إلي الأنماط التي تعالج في ضوء الانتروبولوجيا والتحليل النفسي . ويبدو أن نظرة تودوروف ستكون أكثر شمولية لأنه في الواقع ، يتجاوز العلاقة بين الشعرية واللسانيات إلي العلاقة بين اللغة والأدب .(5)

ومن الملفت للنظر ، أن تودوروف يقارب الشعرية في ضوء المفاهيم السابقة واللاحقة ، ويحاول أن يستمد مقومات التأمل الذي يسعي إلي تعميقه من التاريخ والعلوم الإنسانية والجماليات ، كما يطمح إلي توسيع أفقها لتشمل منظومات القراءة الوصفية والتأويلية دون أن تقع في وهم التعليق بإحداها ، وإنما يرغب في التماس نمو حقيقي لشعرية جمالية وعلمية وإجرائية استنادا إلي فن التأويل الذي ” يسبق الشعرية ويليها(6) وفي الوقت الذي فيه تودوروف الصلة بالتأويل ويري العلاقة بينه وبين الشعرية هي ” بامتياز علاقة تكامل” تبدو العلاقة لدية بين الشعرية والعلوم الأخرى علاقة تنافر”(7) والحقيقة أن تودوروف حين يبدي تمسكه بالتأويل فلأن علاقة الشعرية به تستمد خصائصها من داخل النص ذاته وتتخذ النص موضوعا لها . أما العلوم الإنسانية فانها تبتعد عن النص وتركز علي المنهج الذي يجعل من النص موضوعا لتأمله وحسب ” وجاءت فوضعت حدا للتوازي القائم علي هذا النحو بين التأويل والعلم في حقل الدراسات الأدبية وهي لا تسعي إلي تسمية المعني بل إلي معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل “(8) .

لقد حملت الشعرية بواعث ظهورها ومن شأن هذا الظهور أنه قادها إلي متاهات تشتبك بسؤال المنهج والنظرية . لقد حاولت تطوير رؤية جديدة لفهم النصوص وتحليل شروط وكيفيات نشأتها ، وقد رافق هذه الرؤية ضرورة استقلالية الأدب واستقلالية نظريته ، ومن ثمة أقبلت الشعريات علي تعددها وتنوعها إلي تصور موضوعها الذي هو الأدبية لكنها ظلت مترددة أمام تحديد خصائص هذا الموضوع ولعله المأزق الذي جرها إلي اشكالية اللغة الأدبية بوصفها نظاما يختلف عن الأنظمة اللغوية الأخرى .

فكيف نبرر هذا النظام في حين أن خصائصه الأكثر تميزا قد يشترك مع بعض الملفوظات أو الخطابات غير الأدبية ؟

فمن خلال هذه الالتباسات تعرف الشعرية اختلالا بصفه ” فان ديك ط بمفترق طرق الشعرية من حيث إنها تقع في الجانب الأخر للغة وفي قلب اللغة معا وهذا ما يجعل من الناقد الاسباني خوسيه ماريا يعتقد علي وجه التحديد أننا أمام مفترق يؤثر في الواقع علي مكان النظرية الشعرية (9) .

وتماشيا مع الرغبة في إثراء هذا العلم الذي يعني ” بالأدبية ” كان علي الشعرية أن تضيف إلي حقل الدراسات القديمة ما يضمن لها بعدا معرفيا مغايرا يتحقق بفعل التعامل مع النص أو العمل الأدبي بوصفه ذلك الشكل من الانبثاق الذي يجسد حضوره الخاص . واذ قامت معظم الشعريات علي تمييز ما هي ” أدبي ” فإن ذلك سوف لن يتحدد الا في ضوء من الامكانات الواضحة والمستقلة ولذلك نجد جاكبسون يؤكد علي أهمية الوظيفة الشعرية ( المهيمنه ) التي لا تحدد وجود ” الشعري ” في أي ملفوظ لغوي وحسب ولكنها تكشف أيضاً عن درجة استحواذه وانتشاره ؟ ” ومن وجهة النظر هذه ، فإن العمل الشعري لا يحدد بوصفه العمل الذي لا يحقق الوظيفة الجمالية وحدها ، ولا الوظيفة الجمالية مع الوظائف الاخر ، بل ان العمل الشعري يحدد بوصفه تلك الرسالة اللغوية التي وظيفتها الجمالية هي المسيطر فيها “(10) ومن بواعث الاهتمام أن يطور جاكبسون الشعرية بالنظر إلي وظائف الاتصال اللغوي مبرزا طبيعية كل وظيفة ليبرهن بعد ذلك أن الوظيفة الشعرية ليست مناقضة لتلك الوظائف ولكنها تدخل في نسيج أعلي يثمن حضور الشعر وكماله من حيث هو ” اللغة في تحققها الجمالي وأن ملمحها هو ”  Un enonco v1eant pex preslon ” بمعني الوظيفة الشعرية ( أو الجمالية ) يؤكد شكل ( أو تعبير القول ) وأن العامل المهني في اللغة الأدبية هو شكل الرسالة واللغة الشعرية تفضل الرسالة ( الشكل ) علي أس عامل آخر ، والكلمة في اللغة الشعرية ليست مجرد احلال للشئ المتعين ( كما يحدث في الرسائل التي تسود فيها الوظيفة الاشارية ) وليست تفجيرا العاطفة ( كما يحدث عندما تسود الوظيفة التأثرية ) , فالكلمة الرسالة – ف باللغة الشعرية ينظر اليها بصفتها كلمة في شكلها نفسه وفي وضعها الصوتي والنحوي – الصرفي ، والمعجمي . وهذا ما أراد جاكبسون أن يقوله عندما قال بأن الوظيفة الشعرية هي ” التوجه نحو الرسالة بصفتها رسالة “(11) وقد يعكس هذا التصوير موقف الشعرية من البلاغة القديمة التي لم تعطنا معرفة بالنص بل قدمت لنا أوصافا ومعايير ، بينما استعادت الشعرية استقلالية الفرع الأدبي والشعري علي الخصوص في ضوء نظرية الانزياح التي تأرجحت بين النسبية والاطلاقية غير أنها أسفرت عن وعي متقدم بالأشكال المنبثقة ، وأفرزت وجهات نظر متطورة حاولت تنمية نظيرة عامة للشعرية واستطاعت ربطها بالجمالية واللغويات .

حتى وان قامت الشعرية علي دحض المناهج السابقة التي اتخذت من الادب موضوع لتحاليلها واستطاعت ( الشعرية ) تشييد صرحها علي استقلالية موضوعها ( الخطاب الأدبي ) فإنها لم تحقق التكامل الشامل الذي تطلعت اليه في البداية في مبادئ التأويل ثم في اللسانيات .

فهل يمكن بعث الشعرية من جديد في ظل التاريخ الأدبي ؟

لا يستعبد تودوروف الاهتمام بالشعرية التاريخية مبررا ذلك بارتباط الجنس الأدبي بالاشكال اللسانية ارتباطه بتاريح الأفكار(12) وسوف يسعي إلي تعميق هذا التبرير بالتركيز علي ما يسمي ” المهمة الثالثة للتاريخ الأدبي ” وقد تكون هذه المهمة هي التعريف علي قوانين التحويلية التي تتصل بالانتقال من عصر أدبي إلي اخر(13) واضح أن شعرية تودوروف تلتبس بالتاريخ ، وبالجماليات وبأفق البنيوية بوصفه الحيز الملائم للشكل وينمو هذا الالتباس كلما اصطدم ” بمفهمة ” التاريخ الأدبي ورد سماته النواتيه الى ممارسة حوارية غير حوارية غير ناضجة بين أجناسه لم تتبين أثار خصائصها وسماتها ، فلم تفلح الشعرية التاريخية في تبلور أكثر عمقا وشمولية ، أما حصن الشعرية الجمالية فقد اقترن بصياغة قوانين جمالية وبمسأله القيمة ” Lavaleur “. ولكن حتى وان تمكنت هذه الشعرية من اكتشاف مواضع الجمال والروعة في ابداعات واعمال عديدة فانها لم تعد حدود الوصف . بينما استطاعت الشعرية اللسانية – باعتمادها مبدأ المحاديثة – تعميق صلتها بالنصوص الشعرية ف اطار علاقة اللغة بالأدب ، ولكن ” النظرية التي تبحث عن اعادة الاعتبار الي اخطاب الشعري وفي نفس الوقت الي تعميق سيمير طيقا الشعرية ملزمة في فترة أولي بمواجهة نوعين من العوائق :

* ادراكنا بأن الخطاب الشعري هو في الحقيقة خطاب مزدوج ينمي مكوناته من حيث مستويين – ذلك الخاص بالتعبير وذلك المرتبط بالمحتوي – وفي نفس الوقت عليه أن يتشكل كجهاز مفاهيمي متطور لتعميق وترير طرائق استيعاب مكونات هذين المستويين .

* وبانتظام عدة مستويات لسانياتية منسقة بالنسبة للغة كل من المستويين علي السيميوطيقا الشعرية أن تكون في حكم المؤسس لنموذجية Typologie الصلات الممكنة بين مستوي التعبير ومستوي المحتوي وذلك وفق رؤية استبطانية لابتكار طوبولوجيا أهداف شعرية مرتكزة بالنظر إلي صلاتها علي تحمل المسؤولية لبعض المستويات اللسانياتية للخطاب الشعري “(14) وسيكون في وسع التوجه النقدي الجيد الذي أسس تطلعاته علي مقومات علمية تستمد صلابتها من السميوطيقا ، وسائر أنماط الاتصال الاشارى ، أن يعيد النظر في فهم وتحليل النص أو الخطاب الشعري وذلك بالعودة إلي مكوناته وخصائصه اللغوية . وفي هذا الشأن فإن اقصاء شروط الكتابة أو تأكيدها لايتضمن بعدا تاريخيا يعقبها أو يسبقها وحسب وأنما هي محكومة أيضا بما يجعل منها أدبا في اللغة وبالغة . ومن شأن الشعرية في هذا المضمار أن تنتقل بنا من نظرية الأدب إلي مفهوم النص . ومما لاريب فيه ، أن نظرية القراءة وشعرية التقبل سوف تفتح أفقا مغايرا لابراز القيمة الكامنة في العمل ضمن اللحظة التي يبدأ فيها القارئ في مداعبة الدال وسوف يكون وارداً يكاد يكون صحيحا وأكيدا أن الشعرية الشكلانية قد تبنت نظام استجابة خاص انطلقت من النص ذاته واستنت بذلك رؤية متقدمة القوانين العامة التي تنظم تشكيل النصوص وكيفيتها انبثاقها . فماذا عن هذه الشعرية ؟ .

أ – الشعرية الشكلانية

لقد تواصل تأمل الظاهرة الشعرية – بخاصة مع ظهور الشكلانية – في ضوء التمييز بين اللغة الأدبية وغير الأدبية ، وتمكن هذا التمييز من أن يكون محور جميع التأملات التي خاضت ما يؤدي إلي هذا الاختلاف وإذا كان جاكبسون قد واجه المسألة بترجيح الوظيفة الشعرية بوصفها الوظيفة المهيمنة فأننا نجد ايختبارم – B. Eik henbam يقول في ” نظرية المنهج الشكلي ” La theorie de la methode formlle  : ” ما يميزنا هو تلك الرغبة في إبداع علم أدبي مستقل انطلاقا من الصفات الذاتية للأدوات الأدبية لقد طرحنا وما نزال نطرح كأكيدة أساسية مبدأ مفاده أن علي موضوع Objrt العلم الأدبي أن يكون دراسة الخواص النوعية للموضوعات الأدبية التي تميزها عن أي مادة أخري “(15) وبالتالي فإن تلك الرغبة التي أصر عليها ايخنباوم كانت قد حددت معالمها منذ الوهلة التي تطلعت فيها إلي ابداع ذلك العلم الذي تدعيه . وإذا أردنا أن نفهم طبيعة الانزياح في الشعرية الشكلانية فلابد أن نناقش المنظور الذي انطقت منه .

تبنت الشكلانية – مثلما هو متداول – مبدأ المحايثة لانه أكثر تلاؤما معها ، واشترطت لتحقيق شعرية متكاملة استقلالية النسق الأدبي وكان غرضها هو اعادة الدب إلي ينبوع اللغة ولاجل ذلك ظل تعاملها مقتصرا علي الجانب الشكلي في القصيدة ، وقد تضمنت طروحات جاكبسون ما يسميه ( نحو الشعر / شعر النحو ) متعقد أن النظام النحوي ينطبق علي ابداعية خاصة ومتطورة فخصه بحضور متميز لما يتمتع به من جاذبية وتأثير ، ذلك ” أن التعارض في قصيدة ما ، بين ما ينمي الي اللغة التصويرية الاستعارية ، وبين ما يعود الي مستوي مباشر ، يمكن أن يحدده ، بشكل قوي ، تباين بين المكونات النحوية (16) .

علي عكس البلاغة التقليدية التي أولت اهتماما بالصور المجازية . مع العلم أن هذا الافراط لا ينطبق كليا علي البلاغة العربية فقد رأينا كيف تأسس جانب كبير من بلاغة الجرجاني علي شعرية النحو التي أسدت إلي الصور النحوية كثير الفضل في تفجير القيم الجمالية واثارة كثير من الشاعرية والايقاعية . ويبدو أن الشعرية الشكلانية لم تشأ اهمال شاعرية النحو فحسب ولكن أيضا أن تجعل منه أفقا جديدا للكشف عن ابتكارات وصور شعرية قد لا تنطق بها الاستعارة ولانها تطلع إلي ارساء معالم العلم الذي تدعيه فقد كرست لذلك كل ما يعنيها علي تجسيد منظورها علميا وجدليا ونظريا ومنهجيا ، واستندت إلي اللسانيات متجاوزة أفق البلاغة المغلق . وأخذت من النحو النسق والقاعدة وذلك من خلال قول جاكبسون : ” وكقاعدة عامة فان ” صورة النحو ” في قصيدة بلا صور هي التي تصير مهيمنة وهي التي تحل محل المجازات (17) . ومن اللافت أن الشعرية الشكلانية ترتبط في جانب كبير منها بالنقد النصي “La critique textuelle ” حيث العمل الأدبي هو قبل كل شئ “نصا” أي أنسجة من الشكيلات ( Figures) .

ولتوطيد هذه التشكيلات ” أعطي الشكليون مفهوما جديدا للشكل يتحدد من خلال استخدام خاص لمكونات العمل الأدبي ، وليس من خلال المكونات ذاتها ” (18) ويرافق هذا المفهوم تصورا لفهم شعرية الانزياح من منظور الطريقة التي يؤدي بها الدليل الأدبي وظيفته الشعرية علي أن الأدبية ” ليست صفة ملازمة للنص بأسره وإنما صفة لبعض المظاهر الأدبي وهي نتاج لعملية أدبية تعرف بمفهوم “التشويه” أو الخروج باللغة من استخدامها العادي إلي استخدامها الأدبي “(19) .

وعلي الرغم من الموقف العليم الذي أبدته الشعرية والتي يفترض أن جزءا كبيرا من تطلعها كان نتتيجة الفراغ الذي رافق البلاغة ، فانها لم تدخل التنافض ، والالتباس فيما يخص طبيعة الموضوع الذي اتخذته سبيلا لنشاطها . ويرجح أن اللغة الشعرية التي هي موضوع تأملها بالاساس ظلت تعاني من الالتباس المربك – فمن حيث اعتمادها نظرية الانزياح كمنظور للفصل في كمنظور في مميزاتها .

وخصائصها نجد خوسيه ماريا يقول “بأنه حوالي عام 1970 سقط في منطقة عدم الثقة مفهوم أن اللغة الأدبية يمكن أن تحدد في مقابل قاعدة تنحرف أو تبتعد عنها أو تمزقها أو تنتهكها”(20) – أما من حيث تأكيد المنهجية فيمكن اعتبار الشعرية الشكلانية نظرية متطورة في فهم وتحليل بعض مظاهر الخطاب الشعري ، وليس كله وبين هذه الأسباب وتلك تراجع بعض المفاهيم وتبتعد ، وتنبثق أخري وتتجدد معها الأدوات والوسائل ، والنظم ، والمعارف .وقد لا نستطيع تصور الواقع الذي يمكن ان تصير اليه الشعرية لكننا مع ذلك ندرك تماما السياق الذي تتوسل به أو تتعاطاه (اللغة).

فماذا عن الشعرية البنائية ؟

ب – الشعرية البنائية :

لعل الفرق بيت الشعرية الشكلانية والشعرية البنائية هو أن الشعرية الشكلانية تطمح إلي انشاء علم يشمل جميع الرسائل الأدبية ويشكل مع ذلك نظرية في فهم الظاهرة الأدبية عموما . أما الشعرية البنائية فقد اكتفت بتحديد القاعدة التي يمكن للنص أن يحظي من خلالها ، بشعريته المفقودة .

ونعتقد أن الفضل في شعرية بنيوية زائدة يعواد إلي جون كوهن الذي استطاع أن يبدع بعض القواعد النظرية ، تنم عن كفاءة نقدية وتبصر تحليلي ، ومعلوم أن جميع الشعريات قد توقفت طويلا عند القاعدة والانحراف ولكن أشد ما يدهش المتأمل هو افلات اللغة الأدبية من كل معيار يشتبك بها حتى وهو يحاول أن يجعل منها انبثاقا مفردا وتجليا حرا. ونحن اذن ، مرة أخرى أمام مفارقة اللغة الشعرية التي تأبي أن تتحدد بالنسبة إلي أي معيار سواء كان لغة نثرية أو يومية أو عملية أو قواعدية … وقد أشرنا إلي هذه المفارقة في اسئلة الانزياح ، ولكننا في هذا الموضوع لا نريد أن نقبض علي مفهوم عام للانزياح بل أن نقف علي ما يمكن أن يعزل الظاهرة عن التناقص والغموض الذي ظلت تتخبط فيه. واذا عدنا إلي الشعرية البنائية فأننا نجدها لا تخلو هي كذلك من نقائص يمكن أن تجر الشعرية إلي فشلها الوارد .. لأن فكرة الانزياخ تعتبر فكرة سالبة لعدم تفسير العلاقة بين الانحراف والشاعرية ” ولان الانحراف بنفسه لا يخلق تأثيرا شعريا(21) .

بالاضافة إلي أن علم القواعد الوصفي ، والبنوية التوليدية لم يسهما في بلورة مفهوم نظرية عامة للانحراف ، ولتصنيف الانحرافات ومعرفة طبيعتها ومجدي استجابة الافراد والعصور لانماط انحرافية دون أخري … واكتفت الشعرية البنائية في هذه الحال بعزل الجمل الشعرية عن الجمل القواعدية علي الرغم من سعيها المبكر لتأسيس علم قواعد لتفسير الكفاءة الأدبية .

ج الشعرية الأسلوبية

استهوت اللسانيات جميع الشعريات النصية التي تناولت الخطاب الأدبي وحاولت استنباط القوانين العامة من داخل هذا الخطاب وكان من نتيجة التفاعل – الشعري اللساني – تلاحم الرؤى ضمن ما يعرف بالمفهوم العلائقي الذي ينسجم مع مختلف التصورات سواء ما تعلق بالاسلوب كظاهرة لغوية منزاجة أو ما تعلق بالوظيفة الشعرية المهيمنة ، أو ما ارتبط بالفرق بين النثر والشعر واعتبار الشعر ماضد النثر ، فان ما يجمع هذه التاملات هو الدافع المشترك لتميز اللغة الشعرية من حيث كونها تمتلك نظاما خاصا متميزا وشاعريا . أما طريقة تحقيق هذه الشاعرية وتفسير طبيعتها فيكاد يختلف من شعرية إلي أخري .

واذا كانت الاسلوبية المقارنة تبحث في أنواع الاساليب فان علي الشعرية الاسلوبية أن تنعطف باتجاه البحث في ما يجعل من أسلوب ما “أديبا” وذلك بتكثيف التأمل في الانزياحات الاسلوبية الأكثر جمالية وشعرية والتي اكتفت البلاغة بوصفها دون أن تمسك بطبيعتها الاختتراقية وذلك لا يمكن وصف الاساليب المغايرة بمجرد المخالفات اللغوية والمعجمية والدلالية . بل ينبغي . بل ينبغي تعليل النظام الذي يكتنف كل أسلوب .

ولقد استمر الصراع بين الاسلوبية المثالية والاسلوبية التوليدية بحيث سارت كل منهما في محور . اذ في الوقت الذي تساير فيه التوليدية مخاض المعرفي – اللغوي بغرض توطيد المنظور الذي تسعي اليه ، تبقي المثالية وفية لأسطورة ( الاسلوب هو الرجل ) ، وعلي الرغم من محاولة فهم استبرز ظاهرة الانزياح علي أنه خلاصة ” الاشكال اللغوية الشاردة الا أن ذلك لم يمنعه من التركيز علي الاصل الروحي والنفسي لخصائص الاسلوب واعتبارها الجزء الاكبر في تفسير الانحرافات . ويتفق معه في ذلك أمادو ألنصو الذي “لم يمل أبدا من الحديث عن الطابع المتكامل والموحد للشكل الفني الذي تتداخل فيه الادوات الشكلية الخالصة ( الانحرافات ) في نسق تعبيري يتكون من العناصر الجوهرية ( النفسية والموضوعية والفلسفية ) والمادية ( الادوات اللفظية ) . وهذا النسق التعبيري ، أو الشكل الاعلي للغة الادبية ، هو موضوع علم الاسلوب ، الذي سوف يدرس كل هذا علي أنه شكل متعمد ( تطور النية الخلاقية ) ، أو شكل مستهدف من أصل روحي ، أو روح ذاتية”(22) وانطلاقا من هذا الموقف أفرط الاسلوبيون المثاليون في الاقبال علي ذلك النوع من التأمل الذي يدعو الي تصور الاشياء بكل ذلك النبل الخلاق وظل قائما في عرفهم ” تفسير الانحرافات بواسطة الخصائص النفسية التي تثيرها . فاللغة الادبية انحراف لا بسبب المعطيبات الشكلية التي ترد عليها بل لأنها بصورة خاصة نترجم عن أصالة روحية ، وعن قدرة ابداعية ومتفردة ، هي التي علي المنهج النقدي أن يكتسفها “(23) . ومن الطبيعي أن تنم الاسلوبية المثالية عن مثل هذا الموقف دفاعا عن الطابع الروحي والمعنوي لفن الكتابة اعتقادا منها أن المواقف الاخري تحاول تجريب الادب من خصوصياته الروحانية بتكريسها الادوات اللسانية التي تتعامل مع الالفاظ والمفردات والتركيب بالنظر الي اللسياق الذي ترد فيه وتهمل الحدس الجمالي الذي ابعثت في ضوئه كل الانزياحات . ” لكن في حين يحول البنائيون هذه الانزياحات إلي لتحليلهم ، تجد الاسلوبية ترنو إلي هدف اخر هو تفسير الاصل أو السبب في نشوء هذه الملامح الانحرافية “(24) . ونحن نري أنه من المستحيل تفسير طبيعة الاساليب لمجرد انها تتضمن انزياحات حتى وأن كانت تدخل في نسيج أدبي مغاير ، ذلك أنه يمكن لبعض الأساليب الابداعية أن توصف بأنها “شعرية” دون أن تنطبق علي أي من الانزياجات . وقد أشار جاكيسون إلي براعة الصورة النحوية في اثارة المشاعر كدليل علي صحة ما نرمي اليه . – وليس المهم – في تصورنا – رصد الانزياحات الواردة والمحتملة وتصنيفها بحسب قواعد معيارية وسياقية ، وانما هو كيف تتشكل هذه الانماط وتدخل وتدخل في سلسة من التعالقات التي تؤدي إلي معني أو دولالة ؟

ولقد حاولت الاسلوبية أن تتصدي لهذه الاشكالية ، واعتبرت الاسلوب ” انزياحا عن الاستعمال المألوف . ذلك أن اللغة توفر للمتكلم طرقا مختتلفة لتعبير عن شئ واحد فيتولي المؤلف اختيار ما يشاء من اللغة وفي ذلك يكمن اسلوبه – ويتولي الاسلوب النظر في طبيعة ذلك الاختيار ومنشئه ووظيفنه وذلك الاختيار هو الذي يعبر عنه جاكبسون بـ “التحول” من محول الاختيار إلي محور التأليف “(25) .

ومما لاشك فيه أن البنائية والشكلانية قد وجدت منهما حلولا في اللغة والحقيقة أن ذلك يمنع من القصور في الالم بجميع مظاهر الخطاب الادبي ولا يمكن اعتبار ذلك مجرد تطلع ذكي الي ابداع شعرية لسانية بواسطة النظام اللغوي ، لكن انعطاف الاسلوبية باتجاه العودة إلي العلة أو السبب لم يف بالحلول المرجوة


1-

2-

(4)

(5)

(6)

(7)

(8)

(9)

(10)

(11)

(12)

(13)

(14)

(15)

(16)

(17)

(18)

(19)

(20)

(21)

(22)

(23)

(24)

(25)