أغسطس 26 2014
دحوار الفنون بين الشعر والرسم / قراءة في سينية البحتري……أحمد درويش
دحوار الفنونبين الشعر والرسم والمعمار والغناءقراءة في سينية البحتريبقلم الدكتور أحمد درويشأستاذ النقد الأدبي والمقارن جامعة القاهرة تعد سينية الشاعر العباسي الكبير أبي عبادة الوليد بن عبد الله الطائي المشهور بالبحتري (206 – 284هـ) واحدة من روائع الشعر العربي القديم ومن القصائد المقروءة في تراثه الجميل.وهي تحفة فنية فنية جديرة بالتأمل والقراءة وإعادة القراءة مرات متعددة ومن زوايا مختلفة، فهي نموذج جيد لتيار رئيسي في شعراء القرن الثالث الهجري وفي الشعر العباسي بصفة عامة يجنح إلى ما يسمى بشعر الطبع الذي كان البحتري أبرز ممثليه في مقابل شعر الصنعة الذي كان شعر أستاذة أبي تمام أبرز معبرعنه،وكان تقابل هذين النموذجين مصدر ثراء كبير للحوار النقدي الواسع الذي دار حول طبيعة الشعر بصفة عامة، وشعر أبي تمام والبحتري بصفة خاصة، وأنتج فيما أنتج، كتاب الموازنة بين الطائيين للآمدي، وهي من ناحية ثانية إحدى قصائد الجرس الموسيقي المتميز من خلال إيقاع بحر الخفيف الغنائي، وقافية السين التي هي إحدى القوافي العصية القليلة الشيوع في الشعر، وهي إلى جانب ذلك حرف يحمل سحر الهمس الذي يقع في منطقة بين الكتمان والبوح والإخفاء والإظهار ، ويشف صوتياً عن بعض جوانب هواجس النفس، وقد كانت من هذه الزاوية موضع عناية ومعارضة شعراء بارزين في العصور اللاحقة، ومنهم أحمد شوقي في سينية الشهيرة.لكن محور القصيدة أو مضمونها يضعها في طائفة مجموعة قليلة من القصائد التي تدور حول تأمل الفنان الشاعر في حصاد إبداع فنانين آخرين مثل الرسام أو المعماري أو المغني أو الموسيقى أو التمات، وغيرهم من أرباب الفنون الجميلة، التي تلتقي مع الشعر في دائرة الفن وتتسم العلاقة بينها وبينه برهافة خاصة تمتاز بها عن الأنماط الأخرى الشائعة في بقية معنى مبني القصائد، التي يكون فيها أحد الطرفين فقط وهو الشاعر منتمياً إلى دائرة الفن، ويكون الطرف الموصوف “ذائاً” أو “موضوعاً” لا ينتمي بالضرورة إلى هذه الدائرة، كما هو الشائع في قصائد الشعراوي.واللافت للنظر أن القصيدة وهي تلج هذه “الدرب الخاص” اتكأت على دعامتين رئيسيتين. ينتميان إلى “الدرب العام” في المنحنى الشعري وهما دعامة “الوقوف على الأطلال، ودعامة “الرحلة” فقد كانت القصيدة العربية في تقاليدها كما رصدها ناقد مثل ابن قتيبه ترتكز على البدء بالوقوف على الأطلال، وبكاء الديار، لتتسلى في إثر ذلك بالرحلة التي تكل خلالها المعطي، ويلحق الجهد بالراحلين، ولا يخفف من ذلك كله إلا لقاء وجه المحبوب، وهو هدف القصيدة الرئيسية الذي تنطلق القصيدة في وصفه ومدحه انطلاقا من هاتين الدعامتين التقليديتين. لكن الذي قد يلفت النظر مرة أخرى أن الشاعر هنا خالف في الترتيب المألوف يبنى الدعامتين، وهو الترتيب الذي يجعل الوقوف على أطلال ديار المحبوب، دافعاً إلى الرحلة نحو ديار الممدوح، أي يجعل الوقف على الأطلال سابقاً على الرحلة دائماً، أما هنا فقد عكس الشاعر ترتيب الدعامتين فبدأ بالرحلة وانتهى بالأطلال، ولأنه بدأ بالرحلة، فقد كان لا بد أن يسبقها مثير شعوري يتكافأ مع مثير الرحلة في قصيدة الغزل والمدح التقليدي، وإذا صح أن يقال إن المثير هناك كان يدور غالباً حول “محبة ابنة العم” التي رحلت عن الديار، وتم الوقوف على أطلالها، فإنه قد يصح أن يقال إن المثير هنا هو “جفوة ابن العم” الذي مازال يسكن الديار: ولد رابني نبو ابن عمي بعد لين من جانبيه وأنس واذا ما جفيت كنت حرياً أن أرى غير مصبح حيث أمسى حضت رحلي الهموم فوجهت إلى أبيض المدائن عنسى أتسلى عن الهموم وآسي لمحل من آل ساسان درس ذكرتنيهم الخطوب التوالي ولقد تذكر الخطوب وتنسى إن الرحلة هنا، لم تأخذ من الحيز أكثر مما يأخذه المعبر القصير المؤدي إلى الميدان الرئيسي، ولهذا فإن أداة الرحلة وهي الناقة لم تأخذ الوصف الذي كانت تحظى به غالباً عند طرفه بن العبد والذي تكاد تحول عبره إلى غابة بدلاً من كونها وسيلة، واكتفى الشاعر هنا بالإشارة إليها في نصف بيت “هو وجهت إلى أبيض المدائن عنسى”.إن الشاعر يلج من هذا المعبر القصير إلى المحل الدارس” وهو التعبير الأثير عن الوقوف على الأطلال: “وآسي لمحل من آل ساسان درس” . لكننا ما نلبث أن نلمس فرقاً رئيسياً بين طريقة توظيف “المحل الدارس” هنا، وتوظيفه في قصيدة الوقوف على الطلل التقليدية، ويأتي هذا الفرق من الرغبة في توظيف هذا الرمز باعتباره رمز “إحالة إشارية” كما هو الشأن في مجمل قصائد الوقوف على الأطلال في التراث القديم، إذ تم توظيفه باعتباره “دالاً رئيسياً” يتم التأمل فيه والحوار معه لذاته، ولا يكتفي منه بوظيفة “الإحالة الإشارية” السائدة كما هو الشأن هنا.والذي يتأمل توظيف “دال” الأطلال في مجموعة قصائد مثل المعلقات يتبين له الطبيعة الإشارية العابرة لمفرداتها. ولا يكاد يختلف مغزى مكان منها عن مغزى مكان آخر، سواء كان هذا المكان هو سقط اللوي” الذي يحدده امرؤ القيس بأنه بين “الدخول فحومل فتوضح فالمقرأة” أو كان هذا المكان هو ” برقة ثهمد” التي تلوح عند طرفة كباقي الوشم في ظاهر اليد، أو كانت الأطلال بالعلياء فالسند” كما هو الشأن عند النابغة، التي لم تنل من وصف النابغة، إلا أنها أقوت وطال عليها سالف الأمد” ومع أنه فصل بعض جوانب الإقفار فيها فإنه لم يلبث أن دعا سامعه إلى الإضراب عنها صفحا، باعتبارها لا ارتجاع لها: “فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له”، وهي إشارة يكاد يكمن فيها المفتاح الفاصل بين توظيف القدماء للطلل، وتوظيف البحتري له كما سترى.ونتيجة الفناء والإقفار التي انتهى إليها النابغة هي التي انتهى إليها عبيد بن الأبرص في صدر معلقته بعد أن وقف أمام أطلال “ملحوب” وما جاورها عدة أبيات انتهى بعدها إلى أنها: بدلت من أهلها وحوشا وغيرت حالها الخطوب أرض توارثها شعوب فكل من حلها محروب وربما كان عنترة بن شداد في معلقته، أكثرهم محاولة لبث الحياة، في الطلل، حين دعاه إلى أن يتكلم، وألقى عليه تحية الصباح يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعم صباحاً دار عبلة واسلمي ومع ذلك فإنه لم يلبث أن ذكر أن الطلل قد تقادم عهده، واقفر بعد رحيل محبوبته: حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم لكن البحتري في المقابل، لا يهيل الفناء على طلله، وإنما يمنحه علائم الحياة ويجعله مكتسياً باللون الأبيض، لون الصباح المشرق ورمز الحياة المتجددة، ويجعله مثيراً للتسلية والاعتبار، جاذباً نحوه متأمليه ليجدوا المتعة في تأمله، وليس طارداً لهم لكي يبحثوا عن العوض في فيافي الصحراء، أو في عطاء الممدوحين: حضرت رحلي الهموم فوجهت إلى أبيض المدائن عنسى أتسلى عن الحظوظ وآسي لمحل من آل ساسان درسي أذكرتنيهم الخطوب التوالي ولقد تذكر الخطوب وتنسى إن الطلل هنا موضع جذب وتأمل، وليس مجرد إشارة إيحاء وتحول ونقطة الجذب في الطلل هنا تكمن في قيمته الفنية، فهو حصاد إبداع فنان، سواء كان نحاتاً أو بناء أو رساماً، وليس مجرد بقايا ظاهرة طبيعية تداعت وماتت، ولم يبق إلا آثارها، إن ما شاهده امرؤ القيس في سقط اللوى، وما شاهده طرفة في “برقة ثهمد” أو شاهده النابغة في “العلياء” والسند، أو شاهده عنترة في “الجواء” كانت بقايا ميتة صامتة، لأشياء كانت ذات يوم حية ناطقة، شجرة كانت تظل المحتبين، ولم يبق إلا جذعها الجاف، وموقدا كانوا يستدفئون عليه، ولم يبق إلا حجارته الباردة، وبيتاً كانوا يلتقون في ستر حيطانه، وتحت سقفه الذي هوى، وتداعت بعده الحيطان، فضلاً عن حفرة كانت موضعاً لوتد تشد اليه خيمة لم بعد لها وجود. ومثل هذه المعالم حتى وهي حية، كانت تقام استجابة للضرورة المعيشية، وليس تلبية للمتعة الفنية، ولكن أطلال البحتري التي يقف أمامها، لا تنتمي إلى مجال الضرورة، وإنما إلى مجال الاختيار والمتعة الفنية، وعلى حد تعبير الشاعر نفسه: حلل لم تكن كأطلال سعدى في قفار من البسابس ملس وفي هذا الإطار، فإن الطلل يبقى موضع تأمل لذاته من ناحية، وباعثاً على التأمل فيما وراءه من ناحية أخرى، شأنه في ذلك، شأن أي عمل فني آخر في الفنون القولية أو الجملية.والفنانان اللذان تقف القصيدة هنا أمام حصاد فنيهما هما المعماري والرسام، مع الإشارة إلى فن المغني من خلال التعرض لروعة بناء القصر، وجمال لوحة معركة أنطاكية المعلقة على أحد جدرانه، ولم تجيء اللوحات الشعرية الراصدة لإبداع كل من الفنانين منفصلة تماماً فيما بينها، وإنما جاءت متداخلة تداخل مبنى الإيوان واللوحة التي يحتويها، وقد جاء معمار القصيدة في هذا المجال شديد المواءمة مع معمار العملين الفنيين اللذين ترصدهما، فكما أن معمار الإيوان سابق وملازم ولاحق لمعمار اللوحة، لأنه هو الذي يحتوبها، ويشد عينى الوافد الناظر إليه، قبل أن تقع عليها، ويستمر الإنبهار به بعد التأمل فيها، فقد جاءت الأبيات التي تصف الإيوان، سابقة على أبيات اللوحة، ولاحقة لها وكأنها تحتويها بين طياتها.وقد جاءت ترنيمة الافتتاح في وصف القصر، متصلة بالحديث عن آل سآسآن مقصد رحلته التي يتسلى بها عن الحظوظ، وجاء رصد المكان الذي خلا منهم، لائقاً بشموخهم وقت أن كانوا يعمرونه في عيش خفيض. وهم خافضون في ظل عال مشرف يحسر العيون ويخسى وقد عزف الشاعر على نغمة التقابل بين العيش الخفيض والقصر العالي، ونغمة التناغم بين “الشرف” الذي يقع من خلاله القصر على جبل مرتفع والشرف” في جانبه المعنوي الذي ينصرف إلى علو المكانة، كما تظل عبارة يحسر العيون ويخسى، قابلة للتأويل في الجانبين الحسي والمعنوي.وتظل الصور تراوح بين المكان ومن كانوا ساكنيه ، وتخلع ما يحل بأحد الطرفين على الآخر، وفق قانون الزمن، الذي يجعل الثبات من نصيب البنيان والتغير من نصيب الإنسان، ونحن هنا مرة أخرى نكاد نرصد لحظة مضادة، لما كان يرصده الواقف على الأطلال في صورتها التقليدية في القصيدة العربية، حيث كان التغير هنالك من نصيب البنيان والصمود والمقاومة من نصيب الإنسان، فيندفع العاشق وراء المحبوبة من المكان القفر الذي خلا منها، إلى المكان العامر الذي حلا بها كما كان يقول عنترة: وتقيم عبلة بالجواء وأهلنا بالحزن فالصمان فالمتثلم كيف اللقاء وقد تربع أهلها بعنيزتين، وأهلنا بالغيلموفي المقابل، تأتي صورة البحتري للقصر الذي ما زال شامخا وراسخا وأهله الذين رحلوا عنه، فكأنه أصبح مأتماً لليالي بعد أن كان عرسا لها. نقل الدهر عهدهن عن الجدة حتى غدون أنضاء لبس فكأن الجرماز من عدم الأنس وإخلافه بنية رمس لو تراه علمت أن الليالي جعلت فيه مأتماً بعد عرس وهو ينبيك عن عجائب قوم لا يشاب البيان فيهم بلبس وسوف تشكل هذه الصور، نغمة الافتتاح في عظمة المبنى، وعظمة من حلوا به عبر الإشارة إلى بهو الجرماز، أحد الأبهاء الرئيسية في القصر والتي كانت تتجلى فيها أبهة المكان وساكنية.ولن تكون هذه الأبيات، هي كل ما يحظى به المعماري من الشاعر فسوف يعود إليه مرة أخرى، بعد أن يقف أمام لوحة الرسام التي يزدان بها أحد جدران القصر، والتي تعد من عجائب القوم التي تفصح عن نفسها دون شك أو ريبة، ويبين عنها هذا الصرح المعماري المحكم: وهو ينبيك عن عجائب قوم لا يشاب البيان فيهم بلبس ومع أن الشاعر يدلف بعد هذا المدخل مباشرة إلى الوقوف أمام اللوحة في ثمانية أبيات تستنطق كوامن الفن فيها، فإن المدخل اللغوي للوحته المتمثل في عبارة “فإذا ما رأيت صورة إنطاكية” يشي بأن حجم البناء المعماري أكثر وضوحاً وتألقاً وجذباً للأنظار، لأن مدخل الشاعر إليه كان يكمن في البيت: وهم خافضون في ظل عال مشرف يحسر العيون ويخسى دون أن يكون في حاجة إلى تعبير “إذا” التي تدل لغوياً على أن من الممكن أن ترى أو أن يفلت ذلك الأثر من عينيك، لكن صرح الإيوان العالي، هو الذي يسعى إلى العيون قبل أن تسعى العيون إليه. إن الصورة الشعرية حول اللوحة تعكس رؤية الشاعر وقد امتزجت برؤية فنان آخر. هو الرسام، وبعد الاندماج تتحول الصورة الصامتة من ضوء خلاق يعانق العيون إلى كلمة منغمة تشربها الأذان يرد الشعر من خلال ذلك جانباً من الجميل الذي أسداه له فن الرسم على مر العصور عندما ساعده على تحويل المشاعر المتوهجة من هواجس تطوف بالنفس غامضة تبحث عن التشكل إلى صور تستقر أمام الحواس، وتستطيع أن تغالب الفناء الذي يعتري الكلمات عندما تذوب في طبقات الهواء أو تتشابه بين طبقات الورق. ويرصد الشاعر هنا الخطوط العامة للوحة الرسام في الأبيات الستة التالية: المنايا مواثل وأنوشروان يزجي الجيوش تحت الدرفس في اخضرار من اللباس على أحمر يختال في صبيغة ورس وعراك الرجال بين يديه في خفوت منهم وإغماض جرس من مشيح يهوى بعامل رمح ومليح من السنان بترس تصف العين أنهم جد أحياء لهم بينهم إشارة خرس يغتلي فيهم ارتيابي حتى تتقراهم يداي بلمس إن عناصر الارتياع والصراع والتذبذب بين الحياة والموت تضج بها جوانب اللوحه، فالموت هناك ماثل يترقب بل إنه ليس موتاً واحداً، إنه منايا مواثل وفي مقابل هذه المنايا وهي رمز للعدم، يوجد رمز الحياة والمجد “أنوشروان”. وإذا كان الموت جمعاً فهو ليس مفرداً، إنه يزجي صفوف الجيوش التي تؤازره وهذه الجيوش، لا تمثل لحظة زمنية عابرة، إنها تمثل امتدادا حضارياً متصلاً، لأنها تقاتل تحت الدرفس علم الأمة الكبير الذي فنيت من قبل تحته صفوف من الجيوش لكي يبقى مرتفعاً خفاقاً.وليس رصد الزهو والاختيال ومهرجان الألوان عنصرا ثانوياً لا في لوحة الرسام. ولا في ريش الطاووس المختال، ولا في حمرة فك الأسد المتعطش للدماء، ولا في ملابس الملك وهو يقود الجيوش ويتميز عن الجند بألوانه الزاهية التي يتألق فيها اللون الأخضر ، لون النضرة والنعيم ويكاد يشكل اللون الأصفر زهرات متراصة من نبات الورس اليمني ، إنها ألوان تكاد تعلن تفتح الحياة والخصوبه والنضارة بكل عنفوانها في مواجهة المنايا المواثل بكل رعبها وترويعاها.ويكاد جوهر المعركة الصوتي يتحدي تقنيات الرسام، فإذا كانت الصورة البصرية قد ساعدته على أن يجعل اللون الأخضر والأصفر تعبيراً ناطقاً عن عنفوان الحياة، فإن اللوحة لا تستطيع أن تنقل الصوت، ولكنها تبث الغياب المكتوم لذلك الصوت، الذي كان يرج أرض المعركة، ويأتي الشاعر، لكي يمد يده إلى الرسام، وهو يكاد يعبر بأدواته، ولنتأمل كيف يحول الشاعر الصورة السمعية “رنين الجرس” إلى صورة بصرية حين يشير إلى نقيضها بأنه” إغماض الجرس” والإغماض لا يكون إلا في حركة العين منبع المرئيات، لا في صخب الأصوات، وهكذا يتعارك الرجال في اللوحة بين يدي كسرى، وقد لفهم الخفوت وأغمضت الأجراس.وكما يعجز الرسام عن رصد الأصوات، يعجز أيضاً عن رسم الحركة، فهو يختار لحظة سكون، فيثبتها، وكل ما يستطيعه هو أن يوحي بالحركة المتخيلة قبلها أو بعدها ، والشاعر هنا يلتقط مشهدين يوحيان بالحركة المتخيلة، فالرجال في اللوحة بين مهاجم مندفع مشيح يهوى بسن رمحه على عدوه، وآخر حذر مدافع يليح بترسه، لكي يتقى السهام والسنان، وكل صورة منهما تقابل الأخرى، وتكمل معها الدائرة، إقبالا وتراجعاً، صعوداً وهبوطاً هجوماً ودفاعاً، وتنتقل عدوى الحركة، فتفلت اللوحة من صمت السكون.إن الصورة الشعرية تعيد لصورة الرسام، عناصر الحياة، وليس مجرد الحياة فقط. ولكنها شدة الحياة: “تصف العين أنهم جد أحياء” وإذا كان هؤلاء “الأحياء” قد فقدوا الصوت أو أغمضوا أجراسه، فإن الشاعر من جديد يمد يده إلى الرسام لكي يعطيه دليلاً من عالم الرموز على إمكانية أن تستغني الحياة عن الأصوات أحياناً، أن تستعيض عنها بإشارات الخرس الصامتين وجاءت كلمة بينهم منسجمة مع لغة اللوحة كلها، فلا تحس فيها النشاز ولا القصور.وتأتي قمة انبهار الشاعر بفن الرسام كامنة في هذه اللمسة البسيطة العميقة، فهو قد انجذب إلى عالم اللوحة، فكاد أن ينسى به العالم المحيط به وبدأ يرتاب في أن يكون شخوص اللوحة مجرد خطوط ورسوم وألوان، لقد نفث فيها الرسام من فنة، فكاد الشاعر يظنها حية، تتحرك، وبعد أن كان من قبل يحتكم إلى عينيه، فنؤكد له أنهم جد أحياء، ويحتكم إلى أذنيه فيسمع ما وراء السكون الظاهر، ها هو يزداد شكا في الخط الفاصل بين الواقع الحي والفني المتخيل، فيحتكم إلى يده يمدها إلى اللوحة تتحسسها فتتأكد باللمس أنها أمام مشاهد مرسومة بدقة وإحكام، وليست أمام جنود يتحركون داخل اللوحة.إنها نص شعري يسجل شهادة انبهار فني من شاعر عربي عظيم نعرف أن لقبه هو البحتري، وكنيته أبو عبادة، واسمه الوليد بن عبد الله، يقف مستنفراً حواسه الفنية، أمام لوحة رسام فارسي عظيم من عصر كسرى أنوشيروان، نسى البحتري أن يتأمل في إحدى زوايا اللوحة ليلتقط لنا توقيعه المنمنم، وينقل لنا اسمه الذي ظل معطراً بسحر الغموض، وروعة الفن.إن الشاعر يصحو من سكرة الفن التي غمره بها الرسام، على وقع لمس أصابعه للوحة ذاتها، حين يكتشف أن أبطالها ليسوا من لحم ودم، وإنما هم من خيال وفن، ولكنه فيما يبدو، لا يريد أن يصحوا من هذه السكرة، وإنما يريد أن يظل فيها أو أن يعود إليها، ومن ثم فهو يتلمس طريقاً إلى امتداد موجة “السكر” بالفن، لكي تحمله اللوحة إلى ما وراءها من حياة الذين كانوا يتمتعون بالنظر إليها، وهم في حالات راحتهم ومتعتهم وسماعهم للأغاني، وتعاطيهم الشراب، وبحثاً عن طريق استمرار الموجة الدافعة يقول: قد سقاني، ولم يصرد، أبو الغوث على العسكرين شربة خلس وعندما نتأمل دلالات الوحدات اللغوية في البيت، نستطيع أن ندرك أننا ما زلنا في امتداد نشوة الفن وسكرته، فالشراب كان على العسكرين وليس معنا من العسكرين هنا سوى اللوحة الفنية التي ترصدهما والذي سقاه هو أبو الغوث. وسواء كان هذا اسم ابنه كما تقول بعض الشروح أو لم يكن، فإن الدلالة اللغوية في إغاثة الملهوف إلى استكمال الإشباع الفني ظاهرة، والتعارض الطفيف بين عدم التصريد الذي يقتضي السخاء في العطاء، وشربة الخلس التي “تكاد تذهب في الاتجاه المقابل، كل ذلك يشجع على عدم الالتزام بحرفية المعنى وإفساح المجال لفكرة “الإنتشاء الفني” رغم استطراد البحتري في وصف ملامح الشراب: من مدام تقولها هي نجم أضوأ الليل أو مجاجة شمس وتراها إذا أجدت سروراً وارتياحاً للشارب المتحسي أفرغت في الزجاج من كل قلب فهي محبوبة إلى كل نفس لقد كان الشاعر في حاجة إلى قوة الدفع الثانية هذه، ليخترق اللوحة إلى ما وراءها، ولينتقل منها إلى تصور مناخ الحياة الذي كان محيطاً، وليكسر عن نفسه حاجز العزلة الذي يقضي منه، في أفضل حالات الإعجاب أن يكون متلقياً متمتعاً بالعمل الفني، لكنه بالطبع يظل واقفاً خارجه، هذا الحاجز الذي يود الشاعر من شدة إعجابه بالفن أن يتخطاه، إنه يريد أن يقفز إلى داخل اللوحة والحياة المحيطة بها من خلال المشاركة، ولأنه لا يستطيع أن يشارك أصحاب الرماح والقسى أفعالهم، فقد كانت “قنطرة” الشراب والنشوة أكثر ملائمة له، وله أن يتصور أن أبرز بطل في اللوحة وهو كسرى أنوشروان، سيحل محله حفيده كسرى أبرويز الذي يمكن أن يكون شريكاً للشاعر في الشراب، لكن ذلك اقتضى أن تتغير لحظة اللقاء لكي تكون ملائمة للشراب، ولن يكون اللقاء وقت المعركة، حتى وإن كان قد صرح من قبل بأنه “شرب على العسكرين” ولكنه سيلقاه في مجلس الغناء الذي يبدو ملائماً للقاء الملك والشاعر. وسيكون مؤنس اللقاء هو المغني الفارسي الشهير “البلهبذ” وهو الفنان الثالث الذي يتلقى تحية الشاعر في هذه القصيدة، بعد أن تلقاها من قبله الرسام والمعماري. وتوهمت أن كسرى أبرويز معاطي والبلهبذ أنسى ان الشاعر هبط بجناحية في ساحة الإيوان مما دفعه مرة أخرى إلى ساحة الفنان المعماري الذي شيد هذا الصرح كأنه قوس نحت في حضن جبل أشم: وكأن الإيوان من عجب الصنعة جوب في جنب أرعن جلس وينبغي أن نفهم كلمة “الصنعة” في إطارها التاريخي التي تكاد تعادل تماماً ما نطلقه اليوم على كلمة “الفن” وعنوان كتاب مثل “الصناعتين” لابي هلال العسكري وكتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشاء” وغيرهما لا يفهم إلا في ضوء مرادفة الصنعة للفن، وإن أضاف إلى ذلك كلمة “العجب” فقد أراد أن يعبر عن مبلغ الخروج على العادي والمألوف في صناعة المعماري الذي شاد هذا البناء المحكم، ولسوف يحاول الشاعر في لقطات تالية تفسير بعض جوانب هذا الفن المحكم، ومنها جوانب الهيبة المنبعثة من ارتفاعاته الشاهقة فهو مشمخر البناء، وهو عالي الشرفات، حتى ليبين للناظر إلى هذه الشرفات، كأنه يراها معلقة في رؤوس الجبال الشاهقة مثل جبل رضوى بالمدينة المنورة، وجبل القدس ولا يخفى ما في اختيار هاتين المدينتين من الإيحاء بالقداسة إلى جانب الشموخ: مشمخر تعلو له شرفات رفعت في رؤوس رضوى وقدس لابسات من البياض فما تبصر منها إلا فلائل برس ولعل اختيار اللون الأبيض الذي يطل من كلمة البرس التي تقترب من القطن وما شابهه وقد نسجت منه فلائل كأنها ضفائر متناثرة، لعل هذا الاختيار يضيف إلى البناء الذي يمثل الحضارة الفارسية العريقة، صفات يضفيها البياض غالباً على الأشياء التي يحل بها وهي شديدة التنوع في معجم الشعر العربي، ويصيب معظمها في قنوات الإيجاب.وكما اندفع الشاعر أمام شدة الإعجاب بإبداع الرسام إلى ساحة الارتياب في الشخوص التي يراها في جوانب اللوحة فإذا به يتحسسها بأصابعه، اندفع هنا أمام شدة الإعجاب بإبداع المعماري فأصبح لا يدري إن كان الذين شيدوا هذا البناء العجز هم من الإنس الذين قدروا أن عظمه سكانة تلحقهم بمصاف الجن، أم أنهم من الجن وقد صبوا مهاراتهم في بناء يسكنه عظماء الإنس: ليس يدري أصنع انس لجـــــن سكنوه ام صنع جن لإنس غير أني أراه يشهد أن لم يك بانيه في الملوك ينكس وهنا تبدو صورالشاعر، كشأنها على امتداد المشهد المعماري في القصيدة، شديدة التنقل بين المكان وساكنيه. وسريعة نقل الإحساس من أحدهما إلى الآخر، ويبدو هذا من خلال لوحتين عالجتهما القصيدة بتقنيات فنية عالية:أولهما: لوحة خلع المشاعر على المكان، وإلصاق كل أحاسيس الكآبة والحزن والأسى في لحظات الفراق به، وقد كان يتحلى بنقائضها في لحظات الأنس، وتبلغ لحظة التصوير قمتها حين يصور المكان وكأنه طلق عروسه أو فارق أليفه: يتظنى من الكآبة إن يبدو لعيني مصبح أو ممسي مزعجا بالفراق عن انس الف عز، أو مرهقاً بتطليق عرس عكست حظه الليالي، وبات المشتري فيه وهو كوكب نحس فهو يبدي تجلداً وعليه كلكل من كلاكل الدهر مرسي وكأنما يعزى البناء حين يقول: لم يعبه ان يزمن بسط الديباج واستل من ستور الدمقس واللوحة الأخرى: تتمثل في نفاذ الخيال إلى تصور ما كان يدور في أبهاء ذلك القصر الشامخ من مظاهر العظمة والإجلال والمهابة، ومن ألوان البهجة والمرح والتسلية، وسعة المكان الهائلة تجعله يتصور أحجام الوفود المتتابعة التي تنتظر أدوارها ليؤذن لها بالدخول إلى قاعات الاستقبال، ولكل فيها مراتب ومقام معلوم. فكأني أرى المراتب والقوم إذا ما بلغت آخر حسي وكأن الوفود ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس لكن جوانب المهابة والاستقبالات الرسمية في قاعات الحكم، لا تمنع أن تكون مقاصير الراحة والتسلية لكسرى وأمرائه وحاشيته منبثة في جوانب هادئة يتسلى فيها الفتيات الجميلات على أراجيحهن فيطبعن جواً من الدعة والاسترخاء، لعله يتعادل في مناخ القصيدة مع جو التأهب والانضباط في صفوف الماثلين للسؤال أو المساءلة في القاعات المجاورة، أو في صفوف المحاربين بمعركة إنطاكية: وكأن القبان بين المقاصير يرجحن بين حو ولعس وكأن اللقاء أول من أمس ووشك الفراق أول أمس إن عمر الواقع الذي رصدته القصيدة قصير قصر المسافة بين أمسين بسبق الأول الثاني منهما بقليل ولكنهما مضيا، أما عمر الفن الذي رصد اللحظة عبر المعماري والرسام والمغني والشاعر، فهو أشد مقاومة للفناء وأكثر جدارة بالبقاء.
العلاقة التكاملية بين الأدب الفارسي و العربي في القرون الإسلامية الأولى” أبن المقفع أنموذجاً “سيد حميد رضا مهاجرانيالمركز الثقافي الإيراني بالدوحة – قطر علاقة الآداب الفارسية بالآداب العربية في القرون الإسلامية الأولى: من المواضيع الجديرة بالاهتمام وبخاصة في تاريخ الحضارة العربية والفارسية وتاريخ تطوراتها هي الآداب وأواصرها المشتركة وكما نعلم فإن أول جسر اتصالي بين الحضارتين هو اللغة والآداب. إن هذه العلاقة قديمة وترسخت بعد الإسلام وعبر العقيدة الإسلامية بعد انتشار الإسلام في بلاد إيران كان سبباً هاماً وعاملاً رئيسياً لترسيخ وتوطيد العلاقة حيث تأثر العلماء والأدباء الإيرانيين بالعقائد الإسلامية لا سيما القرآن والحديث الشريف واستفاد الشعراء والحكماء من بلاغة القرآن في أشعارهم وحكمهم فضلا عن سعيهم لتفسيرها بلغة الشعر من جهة أخرى، كما نلاحظ في شعر المولوي وحافظ الشيرازي حيث نرى أن للغة العربية والفارسية دور هام في تطور الحضارة الإسلامية لاسيما بعد اهتمام المترجمين في القرون الإسلامية الأولى في ميدان التفاعل الأدبي والحضاري بين اللغتين. ومما يلفت الانتباه في هذا الأمر بوجه خاص وفرة ما نقل من الكتب عن الفارسية في تلك الحقبة وتشعب موضوعاتها وتنوع موادها وبالغ أثرها في أدب ذلك العصر وعن الجذور العميقة والتاريخية التي تشهد العلاقات الثقافية والحضارية والجهود التي بذلها العلماء الأولون من العرب والفرس على صعيد الحضارتين وتطورها عبر القرون. إن ما يميز الآداب الفارسية عن سواها من المؤثرات الأجنبية بالنسبة للثقافة العربية أن التفاعل بينها وبين العربية كان متبادلاً لأن صلة العرب بالفرس كانت صلة مباشرة بالشعب ولغته ونظمه وأفكاره العلمية عن طريق الترجمات. هذه الصلة الوطيدة المتفاعلة هي التي جعلت الفارسية الساسانية (الفهلوية) المؤثر الأقوى في تطوير الأدب العربي في أوائل العصر العباسي الأول. وهي التي جعلت العربية (حين اكتملت آلتها التعبيرية واتسعت دائرتها وتشعبت فازدادت مقدرتها العلمية) تعود فتؤثر بدورها في لغة الفرس وتطورها من اللغة الفارسية الوسطى (الفهلوية الساسانية) إلى الفارسية الإسلامية (الرؤية الحديثة). ومن الطبيعي أن التأثير الفارسي في الحياة العباسية وأدبها لم يقتصر على ميدان واحد بل امتد إلى ميادين شتى من تلك الفترة والترجمة والنقل اللذين اتسع نطاقها في العصر العباسي الأول. كان الأدب الفارسي الذي اتصلت به اللغة العربية أول اتصال خارج الجزيرة العربية الفارسية الوسطى تميزاً لها عن الفارسية الإسلامية التي تكتب بالخط العربي. كانت الفارسية التي احتك بها العرب في أول امرهم لغة العلم والحضارة في عصر الساسانيين وفي أنحاء امبراطورية شاسعة من العراق حتى حدود صغد وخوارزم وكانت تحتوي فنوناً مختلفة من أدب السياسة والحكم إلى الأدب التعليمي والأدب الأخلاقي وأدب الرسائل والعهود والخطب والحكم والتاريخ والسير والتراجم وغيرها من الفنون المعروفة. وكانت اللغة في عهد أونشروان تهدف إلى نقل آداب الأمم الأخرى فترجم إليها من الهندية بعض الكتب الأدبية والطب وغيره كما ترجم إليها بعض الكتب اليونانية في المنطق والحكمة وسواهما ككتاب كليلة وودمنه وكتاب سندباد الذي ترجم اليها في القرن الثامن للميلاد بل إننا نرى الكنيسة الإيرانية قد تبنت اللغة الفارسية الفهلوية لغة دين وتبشير وتدلنا على ذلك النقوش السريانية باللغة الفهلوية موجودة في كنائس جنوب الهند يرجع تاريخها إلى سنة 430 (1) إذا فالأدب الذي احتكت به العربية في أول أمرها في العراق كان أدباً له إرتباط في كل ميادين الحياة الثقافية ، لقد جرى هذا الإحتكاك وقت كانت العربية فيه لا تزال في بدء التطور سواء كان ذلك في حقل الإدارة والسياسة او في ميدان العلم والأدب أو في إطار الحياة الاجتماعية كانت بحاجة إلى كل ذلك لتصبح لغة مجتمع جديد له علاقة بعلوم العصر وحضارته وتستوعب أدباً كالأدب العباسي في عصر إزدهاره فكانت اللغة الفارسية هي التي زودتها في تلك المرحلة بمعظم ما كانت تحتاج إليه في فروع الإدارة و الدواوين وفي فنون الكتابة والرسائل الديوانية وفي أقسام من العلوم كالنجوم وعلم النبات وغيرها. وكانت الكتب الفارسية أول ما ترجم إلى العربية من الآثار الخارجية في الأدب والسياسة فوضعت بمتناول حكام العرب وفي مجال الحكم والسياسة والعلوم والآداب فكانت هذه التراجم الفارسية أقدم كتب وجدت في اللغة العربية. ولكن ماهي العوامل التي ساعدت على ان يتم النقل والتفاعل على هذه الصورة؟ هناك عوامل عديدة أهمها أن العرب لم يكونوا بعيدين عن الحياة الفارسية حتى قبل الاسلام فكانت هناك صلات تربط عرب الحيرة واليمن بالدولة الساسانية وكان في دواوين تلك الدولة كتاب عرب كعدي بن زيد و زيد بن عدي وغيرهما وكانت هناك اتصالات أخرى جعلت العرب على علاقة بتلك الحياة وخير مثال أشعار الأعشى و غيره من الشعراء الذين كانت لهم صلات ببلاط الساسانيين، ولقد ساعد على هذا التمازج كذلك عامل آخر هو أن الأدب العباسي الذي يمثل هذا التفاعل أفضل تمثيل قد تكون في بيئة الجغرافية مشبع جوها الروح الفارسية اذ إن بغداد كانت تعد من المراكز الهامة للتجارة قبل الإسلام سوق عظيمة يختلف إليها التجار في المواسم المختلفة من مختلف أنحاء المملكة وقد ظلت على حالها ذلك في العهد الإسلامي. أما المدائن (فهي عاصمة الساسانية بقرب بغداد) قد استمرت الحياة فيها حتى ما بعد قيام بغداد إلا أن سكانها بدأوا ينزحون تدريجياً إلى العاصمة الجديدة مدينة السلام بغداد عندما أخذت هذه تنمو وتزدهر بسبب إنها صارت مقرأ للخلافة العباسية. فأخذ نجم المدائن بالافوال بعد أن غادرها سكانها وفارقها أصحاب المهن والصناعات والحرف الى بغداد ناقلين الى جانب منهم وصناعاتهم حياتهم الاجتماعية نهجهم في العيش و خصائصهم في السوك والتفكير والتصرف 2من هنا فإن ابن النديم يذكر قائمة ببعض الأعمال التي نقلت من الفارسية الى العربية وأبرز الأسماء وهم:إبن المقفع.آل نوبخت.علي بن زياد التميمي 3الحسن بن سهل.أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري.جبلة بن سالم كاتب هشام.اسحق بن يزيد4.محمد بن الجهم البرمكي.هشام بن القاسم.موسى بن عيسى الكسروي 5.زادوية بن شاهويه الأصفهاني.محمد بن بهرام بن مطيار الأصفهاني.بهرام بن مردانشاه.عمر الفرحان..وما دمنا بصدد ابرز المترجمين فإن الأسم الأبرز هو عبدالله بن المقفع والذي يعتبر النموذج الأمثل.أن ابن المقفع الذي وضعه ابن النديم في رأسم قائمته في كتابه الفهرست اشهر المترجمين كان اسمه قبل ان يسلم روزبة واصبح اسمه بعد اسلامه عبدالله واشتهر بالمقفع.وقد يكون توليه عمل بعض كور دجلة أو كورة بهقباد في العراق في زمن سليمان عبد الملك (99-96) ، كما أن أبن المقفع كتب لداود بن يزيد وذلك بعدما ولى أبوه يزيد بن عمر بن هبيرة العراق من قبل الخليفة الأموي مروان بن محمد أي بعد سنة 127 وبعد مقتل داود في بدء الدولة العباسية سنة 132 دخل ابن المقفع في خدمة عيسى بن علي وأخيه سليمان في البصرة وكان كاتبا لعيسى على كرمان وأسلم على يده وبقي مواليا لهذه الأسرة طوال حياته وأصبح ولاؤه لها سببا لمقتله وذلك لتشدده في الأمان الذي كتبه عن المنصور الخليفة العباسي لعبدالله بن علي أخي عيسى بن علي هذا مما لم يرق للمنصور وذكروا ان هذا كان سببا في ان المنصور اوعز الى سفيان بن معاوية (والي البصرة الذي خلف سليمان) بقتله ولما قتله سليمان بتهمة الزندقة سكت عنه الخليفة.كان ابن المقفع من بلغاء العربية المعروفين وكان شاعراً ايضاً ولكنه كان شاعراً مقلا وقد نقل ابو تمام اشعاره في ديوان الحماسة “هذا وذكروا ان ابن المقفع لاقى الخليل بن احمد الفراهيدي المتوفي سنة 170 بواسطة عباد بن عباد المحلبي وجالسه بضعة الأيام.ومما ذكروا من أخباره في الوفاء ذلك ان عبدالحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمد آخر خلفاء بني امية كان صديقا حميما لابن المقفع فالتجأ إلى بيته لما طلبه شرطة بني العباس فدخل الجند البيت وقالوا: أيكما عبد الحميد؟ وقال كل واحد منهما: أنا عبدالحميد خوفا من أن ينال صاحبه مكروه و أوشك الجند أن يقتلوا ابن المقفع لو لم يوجههم عبد الحميد إلى من يعرف علاماته فأخذوه.نقل ابن المقفع كتبا عديدة عن الفارسية وقد اورد ابن النديم قائمة لمنقولاته تتضمن ثمانية كتب هي:كتاب خداي نامه في السير كتاب آيين نامه في الآيين.كتاب كليلة ودمنة كتاب مزدككتاب التاج في سيرة أنوشروانكتاب الأدب الكبيركتاب الأدب الصغيركتاب اليتيمة في الرسائلوهناك كتب أخرى نقلها ابن المقفع منها الذي ذكره المسعودي في كتابه مروج الذهب.وذكر ابن ابي اصيبعة في كتابه طبقات الأطباء ان ابن المقفع ترجم الى العربية من كتب ارسطا طاليس كتاب قاطيغورياس (المقولات العشر) وكتاب باري ارميناس (العبارة) و كتاب انا لوطيقا (التحليل) كما انه نقل ايضا كتاب المدخل الى كتب المنطق المعروف بايسا غوجي من تأليف فرفوريوس الصوري وعده القاضي صاعد الأندلسي وابن النديم في جملة من اختصروا كتابي قاطيغورياس وباري ارميناس لأريسطو في طبقة الكندي واسحق بن حنين واحمد بن طيب والأرجح ان ابن المقفع اختصر هذين الكتابين وغيرهما مما نسب عليه ترجمته عن اليونانية عن ترجماتها الفارسية لاننا لا نعهد من ابن المقفع ان يكون قد عرف لغة اخرى غير الفارسية والعربية ولم يذكر له ذلك احد ممن ترجم له او تعرض لذكره وهذا ما يؤيده قول ابن النديم في الفهرست؟وبناء على ما ذكره المسعودي في مروج الذهب نقلا عن محمد بن علي عبدي الخراساني نقل ابن المقفع الى العربية بعض كتب ماني وابن ديصان ومرقيون ايضاً.فقد كانوا احيانا يأخذون رسالة او كتابا او مجموعة من تلك الكتب الفارسية ويضيفون اليها مطالب ومقتبسات من كتب اخرى ليصنعوا من الكل كتابا جديدا يحمل صيغة جديدة واسما مغايرا كما فعل ابن مسكوية في تأليف كتابه “أدب العرب والفرس” إذ جعله على اساس كتاب فارسي ساساني باسم “جاودان خرد” أي “الحكمة الخالدة” ثم اضاف اليها مطالب اخرى فارسية وغير فارسية منسوبة الى الهند والروم والعرب مما يناسب موضوع الكتاب منفصلا بعضها عن الآخر ثم جمع هذا كله في مجموعة جديدة أطلق عليها اسم “أدب العرب والفرس” ويرجح ان يكون من هذا القبيل الكتاب الذي ذكره ابن النديم لعلي بن النصراني في الآداب والأمثال على مذاهب الفرس والروم والعرب ايضاً.وقد يكون هذا النهج في الجمع بين الفارسية والعربية بصورة أقرب الى الربح بأن ياخذ المؤلف احد الكتب الفارسية كقاعدة لمؤلف جديد يضيف اليه معلومات اخرى مماثلة من هنا وهناك ولكن لا بصورة اقسام مستقلة بل بصورة تأليف واحد متماسك الأجزاء متزن العبارات ونظير ذلك في الكتب الأدبية “كتاب التاج في اخلاق الملوك” المنسوب الى الجاحظ. فكان التاريخ العربي الإسلامي هو المرحلة الطبيعية هذا الامر الذي لاحظه المستشرق الشهير “كيتاني” في تاريخ تجارب الأمم لابن مسكوية وهذا ما نلاحظه ايضاً في الدينوري واليعقوبي والمسعودي وسواهم.وهناك مرحلة أخرى في الإقتباس او صورة اخرى من صورة يصعب معها ضبطه واكتشافه دون تعمق وتدقيق ودون ذكر لمصدرها بل انهم يغيرونها ويبدلون من معالمها ليجعلوها ملائمة للبئة العربية الإسلامية وأكثر قربا لمفاهيم قراءها فتبعد تلك المنقولات عن اصلها الفارسي وتكتسي بطابع اسلامي صرف.ومن ذلك ما أورده كثير من المؤلفين من الرويات والأقوال المنسوبة الى ملك من ملوك الفرس او حكيم من حكمائها مع تغيير اسم الملك او الحكيم ومثله حكاية وردت عن انوشروان حين تقاضي لديه رجلان اشترى احدهما ارضا من الآخر فوجد فيها كنزا وكيفية الحكمة في الأمر وهي حكاية معروفة في كتب الأدب اوردها الامام محمد الغزالي في كتابه نصيحة الملوك الذي الفه بالفارسية للسطان سنجر منسوبة الى انوشروان.وكذلك وردت منسوبة اليه في كتاب “عقد العلي” أيضاً. ثم نرى القصة نفسها في تاريخ ابن عساكر (الذي الف بعد كتاب الغزالي) منسوبة الى ذي القرنين و “بعض المدائن” و نظير ذلك ايضاً تبديل اسم الملك والحكيم بكلمة “بعض الملوك” أو “بعض الحكماء ” مما يكثر في كتب الأدب والتاريخ ومما يؤثر في تعمية اصولها ومصادرها.وقد زاد في إخفاء هذه العناصر إن أصولها الفارسية ضاعت على مر الزمان وتغيرت الظروف والأحوال بأسباب مختلفة ذات اثر هام كاستبدال الخط العربي والدين الاسلامي واقبال المثقفين والأدباء والمؤلفين من الإيرانيين على اعتماد العربية لغة دراسة ومطالعة طيلة القرنين الأولين مما جعلهم غير مكترثين بحفظها فلم تعد هناك حاجة لنسخها وروايتها والمحافظة عليها بالطرق التي كانت متداولة في تلك العصور لحفظ الكتب واستمرارها واكثر من ذلك ان الحماس للعقيدة الإسلامية دفع بعضهم إلى ابادتها واتلافها قصداً.يروي المؤلف الفارسي دولت شاه سمر قندي في كتابه “تذكرة الشعراء” حكاية يقول:”حكي إن الأمير عبدالله بن طاهر امير خراسان في ايام الخلفاء العباسيين” “كان ذات يوم جالساً في ديوان نيشابور إذ جاء شخص وأتحفه بكتاب” “وضعه بين يديه فسأله عن الكتاب وقال: هو قصة ” وامق وعذراء” وهي قصة لطيفة الفها الحكماء لكسرى انوشروان فقال الامير: نحن قوم نقرأ القرآن ولا نريد شيئاً غير القرآن والحديث النبوي ولا شأن لنا بهذا الكتاب فأنه من تأليف المجوس وهو عندنا مردود فأمر ان يطرح الكتاب في الماء وأمر ايضاً ان يحرق كل كتاب من تصانيف “العجم والمجوس يعثر من حدود ولايته”.هذه العوامل كلها جعلت من العسير الاهتداء الى هذه العناصر الفارسية لمن يدرس الأدب العربي وهذا هو سبب في عدم تقدير قيمتها التاريخية ومدى تأثيرها في الأدب العربي وعلى ان روابط الأدب العربي بالأدب الفارسي وتفاعله معه موضوع لا يزال بحاجة الى مزيد من الدرس والتمحيص بل والى تبديل الأساليب التي قام عليها بحث هذا الموضوع حتى الآن وبدلاً من ابداء الآراء والنظريات العامة القائمة على الذوق الشخصي وعلى العواطف احياناً.علينا أن نعمد إلى دراسات موضوعية دراسة قائمة على أسس علمية قويمة وان نستفيد من المناهج الحقيقية التي مارسها العلماء في دراسة آداب عالمية اخرى وان نستفيد أيضا من الدراسات التاريخية والحضارية لعصور ما قبل الإسلام في هذه المنطقة الفارسية العربية.ولا شك في أن أول خطوة يجب أن نخطوها في مثل هذا الأمر ان نوضح المعالم و الطرق الرئيسية التي كانت تربط بين اللغتين مباشرة أي طرق الترجمة والنقل وذلك بالبحث عما يمكن العثور عليه من المتون المنقولة عن الفارسية والمبعثرة في بطون المصادر العربية وخاصة في أمهات كتب القرنين الثالث والرابع لندرس موضوعاتها وأنواعها وما تدور حوله من المطالب والأغراض اولا وكيفية تفاعلها مع الأدب العربي.ثانيا: هناك قضايا شائكة تعتري الباحث في هذا الميدان لا سيما بعد ما رأينا من تأثير العوامل التي يجب ان نجتازها في هذا المضمار ذلك أن العلاقة بين الآداب العربية والفارسية علاقة تكاملية منذ أن انتشر الإسلام في بلاد فارس.الهوامش 1 . راجع كتاب “نقش بارسي بر احجا رهند. علي أصغر حكمت – ص 9و10 – طهران- ايران 1306 2- التقريب والأصول ص 61 دارصاد – بيروت – 19853- انه ترجم كتاب زيج شهريار.4- إنه ترجم كتاب خد اينامه أو سيرة ملوك الفرص.5- في مطبوعة فلوكل “الكردي” وهو خطأ. 38ـ انظر أمل دنقل : المصدر السابق ، أوراق الغرفة (8) ، ص387 .
ديسمبر 31 2014
اللغة والهوية مقارنة بين الحالة العبرية والفرنسية والعربية .. د/ أحمد درويش
اللغة والهويةمقارنة بين الحالة العبرية والفرنسية والعربيةالدكتور أحمد درويشناقدوأكاديمي من مصر يسعى هذا البحث إلى دراسة علاقة التأثير المتبادل بين اللغة والهوية في أشكالها المختلفة إحياء أو إنعاشاً أو إضعافاً، وتنبع الصور المتولدة عن كل علاقة من هذه العلاقات على مختلف مستويات التجربة الحضارية في مجالات مختلفة مثل التعليم والاقتصادية وحالة الروح القومية للأمة وما يترتب عليها من تماسك أو تفكك، وما يؤدي إليه هذا كله من تقدم أو جمود أو تخلف ومن قوة أو ضعف. ويتخذ البحث مجالاً له، التجارب الحية الكبرى في العصر الحديث، عبر القرنين التاسع عشر والعشرين ممثلة في ثلاث لغات، هي العبرية ودورها في إنشاء الوطن القومي لليهود، والفرنسية ودورها في إنعاش المكانة المتميزة لفرنسا بعد سقوط الإمبراطوريات التقليدية إبان حرب السويس، ثم اللغة العربية التي نود الوقوف أمام علاقاتها المضطربة بالهوية في العصر الحديث والآثار المترتبة على ذلك الاضطراب في المجالات المختلفة. مدخل إلى اللغة والهوية:يقول الشاعر الصقلي إجنازيا بوتينا من قصيدة جميلة تحمل عنوان ( لغة وحوار): ضع شعباً في السلاسل جردهم من ملابسهم سد أفواههم. لكنهم يمكن أن يظلوا أحراراً خذ منهم أعمالهم.. وجوازات سفرهم والموائد التي يأكلون عليها والأسرَّة التي ينامون عليها لكنهم يمكن أن يظلوا أغنياء إن الشعب يَفتقر ويُستعبد عندما يُسْلبُ اللسان الذي تركه له الأجداد وعندها يضيع للأبد نعم فالدور الذي تلعبه اللغة في حياة الفرد والجماعة، يتجاوز بكثير مجرد كونها أداة ناقلة ومجسدة لما يدور في الذهن من معان مجردة، يراد لها أن تنتقل من مرحلتها التجريدية، إلى مرحلة التجسيد لتنقل الرغبة أو الأمر أو النهي أو الرجاء، أو تفتح باب التواصل والحوار. فكل هذه الأهداف، على اختلاف درجاتها، يمكن أن تتحقق للكائن الحي، وليس للكائن البشري وحده، بوسائل تعبيرية متعددة وهي ليست بالضرورة وسائل لغوية، فالحيوان الأعجم ينقل حاجته إلى الطعام أو الري أو الإشباع، وينقل مشاعره خوفاً وتهديداً وترحيباً، من خلال تنوع في درجات الصوت، وحركات الوجه، وتقلص الأعضاء أو تهللها، وهز الذيل أو سكونه، وغير ذلك من الوسائل التي ندركها وقد تعارفنا على فك شفرتها، ومن الوسائل الكثيرة الأخرى التي لا ندركها والتي تشكل في ذاتها شفرة بين الجماعات المتجانسة، ومجالاً لاجتهاد الإنسان للتعرف على خفاياها. ولا ريب أن الأمر لا يقف عند عالم الحيوان، وإنما يتعداه إلى عالم النبات، بل وإلى الظواهر الطبيعية، التي لا شك أنها تمتلك وسائلها الخاصة في التعبير عن حاجاتها ورغباتها، وفق سنن الكون الدقيقة، وأن جزءاً من أسرار عمار الكون يكمن في محاولة التعرف على هذه الوسائل وتشكيل رد الفعل الملائم لها من الإنسان سيد الكون وخليفة الله في أرضه. وإذا انتقلنا إلى عالم الإنسان نفسه، فإننا نجد أن اللغة ليست هي المعبر الوحيد عن حاجاته ومشاعره وأفكاره، وأنه يستطيع أن يمارس حياته كلياً أو جزئياً، في غياب اللغة المؤقت أو الدائم، مستعيناً بوسائل التعبير الأخرى التي تتاح للكائنات الحية، التي يشترك معها في صفة الحياة، والحاجة للتعبير، ويتفوق عليها في مراحل أخرى، بامتلاك ” اللغة ” والصعود درجات متفاوتة في تحقيق مفهوم إنسانيته، وانتمائه من خلال عنايته بها، فالطفل يقطع فترة من عمره تمتد للعامين أوتتجاوزهما – وهي فترة تكاد توازي في حياة بعض الكائنات الأخرى، عمراً كاملاً – يقطع هذه الفترة مستعيناً بالأصوات والإيماءات، والتعبيرات الحركية الغريزية للتعبير عن الحاجة، ويكاد يتساوى في شفرات الرموز والحركات في هذه الحالة كل الأطفال من كل اللغات التي سينتمون إليها لاحقاً وهم يجتازون مرحلة ما قبل اللغة. والذين يحرمون نعمة النطق من البشر، ويعيشون في حالة لا يكلمون الناس فيها إلا رمزاً، يطورون وسائلهم غير اللغوية في الاتصال، بطريقة تشكل لهم شبكة متكاملة من الرموز تفي باحتياجاتهم من ناحية، وتشكل الشبكات العالمية، لهذه الفئة، من ناحية أخرى، ما يمكن أن يكون لغة موازية للغات الأخرى في مرحلة الحياة ” خارج اللغة “. وحتى الأسوياء من البشر الذين اجتازوا مرحلة الطفولة وما “قبل اللغة”، ونجوا من مرحلة الحياة الصامتة “خارج اللغة” – هذه الفئة التي ينتمي إليها أغلب البشر، في مراحل نضجهم، لا تعد اللغة عندهم هي الأداة الوحيدة الناقلة للمشاعر والأفكار، بل إنهم يلجؤون إلى وسائل أخرى كثيرة، للإبانة عما لديهم، وتحقيق “بيان” ما في نفوسهم. وقديمًا كان الجاحظ شديد الدقة وهو يعبر عن هذه الأدوات البيانية المستغنية عن اللغة أو المتعاونة معها حين قال في كتابه الشهير “البيان والتبيين”، “والبيان اسم جامع لكل شيء كشف لك قناع المعنى، وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله كائناً ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي إليها يجرى القائل والسامع، إنما هو الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع “. ثم يوضح الجاحظ بعد ذلك خمساً من وسائل الدلالات على المعاني، فيها وسيلتان لغويتان هما اللفظ والخط، وثلاث غير لغوية، وهي الإشارة والعقد والحال الدالة. ويقف الجاحظ في مواطن كثيرة عند بلاغة الإشارة باعتبارها مكملاً لبلاغة العبارة فضلاً عن كونها وسيلة تعبيرية في غياب اللفظ والخط، ويقف كذلك عند فن العَقْد، وهو ضرب من الحساب يكون بأصابع اليدين، وله كتب في فك رموزه في التراث العربي، وقد وردت الإشارة إليه في الأحاديث النبوية، وكذلك فن دلالة الحال التي كانت تسمى بالنَّصْبَة، ويغنى فيها الحال عن المقال(). ليس الدور الذي تلعبه اللغة – إذن – في حياة الفرد والجماعة، منحصراً في القدرة على الإفهام وتوصيل المعاني المجردة، فتلك أهداف يمكن أن تؤدى حتى في غياب اللغة، ولكن اللغة هبة، تمثل أول درجات تميز الكائن البشري على ما عداه من الكائنات، ولعل هذا يبدو في عدها الميزة الأولى التالية لخلق الإنسان نفسه، في التعبير القرآني في الآيات الأولى لسورة الرحمن حيث يقول سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ القُرْآنَ (2) خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ (4)، فالامتنان بالبيان يأتي مباشرة بعد نعمة الخلق ذاتها، وهذه الهبة يتم اكتسابها التدريجي مع النمو الأول لخلايا الطفل في شهور عمره الأولى، من خلال لبن الأم وصوتها، ومن هنا جاء مصطلح ” لغة الأم ” الذي نطلقه دائماً على اللغة التي تلقاها الإنسان بفطرته وغريزته، وتعلمها كما تعلم الأكل والشرب والمشي، ربما بدون جهد إرادي منه، ولكن من خلال الاستجابة الغريزية لدوافع البقاء والتحضر، ولغة الأم هذه تكاد تعاصر في تخلقها في نفس الكائن البشري مرحلة تخلق خلايا المخ والذاكرة، وأوعية الاحتفاظ بالمشاعر ذاتها، ولهذا فإن لغة الأم، تصبح جزءاً لا يتجزأ من شخصية صاحبها، وتظل حتى وإن زاحمتها لغات أخرى فيما بعد، هي أقرب اللغات للتعبير عن الخلجات الدقيقة إرسالاً واستقبالاً، على اختلاف ميادين الإرسال والاستقبال. وهذه اللغة هي التي تختزن المشاعر الأولى، والأفكار الأولى، والتشكيلات الأولى للكون من حول الإنسان، وفيها ومن خلالها يتشكل معنى ولفظ البهجة والحزن والانتصار والانكسار والحب والكراهية والألم والسرور، ومن منظورها تتحدد مفاهيم المباح والمحظور والملاطفة والمخاشنة والرضا والإنكار، وانفتاح أبواب الفهم أو انغلاق مفاتيحه، وإلى هذه المفاهيم الأولى، ترتد أية مفاهيم تالية يمكن للإنسان أن يحصلها من اللغات المكتسبة في مراحل تالية من العمر، فيترجمها المرء دون إرادة إلى مفاهيم لغة الأم، أو يتقرب منها لكي تزداد وضوحاً أمام خلاياه الذهنية والنفسية. ويقول علماء النفس : إن هذا النمط من البناء اللغوي هو القادر وحده على تشكيل ما يسمى بالذاكرة الطويلة الأمد، في مقابل الذاكرة القصيرة الأمد، التي قد نحتاج إليها لفترة عابرة، ثم ننساها. فنحن عندما نواجه مهمة طارئة في حياتنا، تحتاج إلى حشد طاقة الذاكرة، لحفظ أرقام معينة، أو الإلمام بتفاصيل خريطة مكان معين، أو الإلمام بخصائص شيء معين، فإن الذاكرة غالباً ما تحتفظ بهذه الأشياء المؤقتة في أدراج الذاكرة القصيرة الأمد، لكي تفرغ منها أو تنساها بعد انتهاء المهمة المؤقتة، فنرى أنفسنا بعد حين قد تخلينا عن الاحتفاظ بهذه المعلومات لانتهاء الحاجة إليها، وليس الأمر كذلك بالنسبة للذاكرة الطويلة الأمد التي تحتفظ بالمعلومات أو المفاهيم أو الخصائص الدائمة، فنحن لا نحتفظ بأسماء الألوان فترة ثم ننساها، ولا بأبعاد الجهات الأربع أو الست، لمدة قصيرة، ولا بمعايير الصواب والخطأ واللياقة والخروج عليها في فترة دون غيرها. وفي هذه الذاكرة الطويلة التي يتشكل وعاؤها الأول من لغة الأم، تدخل كثير من أنواع العلوم والمعارف، وهو ما يدعو كثيراً من الباحثين الجادين إلى الحديث عن أن توطين المعرفة بالمعنى الحقيقي لا يمكن أن يتم في غياب لغة الأم، وتلك نقطة سنعود إلى الحديث عنها بالتفصيل عند إثارة قضية اللغة القومية وتوطين المعرفة(). ولعل هذا هو ما عبر عنه الفيلسوف الألماني هيدجر (ت 1889 م) حين قال: (إن لغتي هي مسكني، هي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها من خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع”. إن الإنسان مهما تأثر في مراحل تالية بلغات أجنبية – ومن حقه أن يستفيد منها ويتأثر بها – سوف يجد نفسه في اللحظة الحميمة، أو لحظة الغفلة عن التصنع، يعود إلى لغة الأم من تلقاء نفسه، وتلك خاصة يستغلها علماء النفس وخبراء التجسس في كشف لحظات التصنع المحكمة، وفي أدبيات الحرب العالمية الثانية يدور الحديث عن جاسوس ألماني، استطاع أن يتقن اللغة الفرنسية إتقانًا كاملاً، بحيث لا تبدو في نطقه أية لكنه أجنبية، واستطاع من خلال ذلك أن يتسرب إلى أكثر الأوساط خصوصية في عالم السياسة والحرب، حتى شك خبراء مكافحة الجاسوسية أنفسهم في ظنونهم المثارة حوله، وأخيراً، دلهم أحد الخبراء اللغويين على إمكانية استثارة لغة الأم في لحظة انفعال مفاجئ فتعقبه أحد المراقبين أثناء سفره في القطار وهو منهمك في قراءة الجريدة، ووجه إليه صفعة مباغته أغضبته فرد عليه بعبارة استنكار بالألمانية قبل أن يشتبك معه، وكان هذا وحده كافياً لإثارة لغة الأم عنده، ولإدراك أن لغته الفرنسية المتقنة، إنما هي لغة مكتسبة، وأنه في نهاية المطاف جاسوس، وذلك ما أراد خبير اللغة أن يكشفه، من خلال استثارة لغة الأم، وعلاقتها الحميمة بهوية الفرد. لغة الأم تشكل عاملاً رئيسيًا في هوية الفرد المنتمي إليها، وهي من خلال هذا تؤهل الفرد لكي يلتحق بجماعة أكبر تنتمي إلى نفس اللغة، بدءًا من الجماعة الصغيرة في الأسرة الواحدة وامتداداً إلى الجماعات الأكبر في القرية أو الإقليم أو القبيلة أو المنطقة أو الولاية أو الدولة أو غيرها من مسميات التجمعات البشرية، ونحن جميعاً نستشعر أنه – حتى داخل اللغة الواحدة – تتشكل ملامح للهويات الجماعية الصغيرة من خلال الملامح اللهجية والخصائص الصوتية، التي تمثل ملامح ” لغة الأم ” ويجرى الاعتزاز بها والتعرف على الهوية من خلالها، ومن منا لم يستشعر في القرى والتجمعات الصغيرة درجات الاعتزاز بهذه الخصائص التي تتميز بها قرية عن قرية أخرى لا يفصل بينهما سوى جدول ماء صغير، أو طريق زراعي يعبره المسافرون، ومع ذلك فإن الخلاف في التفخيم أو الترقيق أو الإشباع أو الترخيم أو نطق الجيم أو القاف أو الهمزة أو الراء أو استخدام مفردة هنا لا تشيع هناك، كل ذلك يتحول إلى ملامح في الهوية تكون مصدر اعتزاز وتفاخر، ولا يُسلم أحد أبداً بأن خصائصه اللغوية المميزة أقل قدراً من خصائص الآخرين، وكم من المفارقات الاجتماعية تحدث، عندما تتزوج فتاة في قرية أخرى، ويحدث بالتدريج تقارب الخصائص أو الخضوع للخاصية الغالبة، واستغلال الفروق في تشكيل النكات الاجتماعية الطريفة، واتساعها عندما تبتعد لغة الأعمام عن لغة الأخوال، ومن منا لا يدرك على الفور بصمة أهل الصعيد، أو أهل الوديان أو أهل المدن الساحلية أو الصحراوية أو البدوية أو الحضرية وغيرها من المناطق الأخرى، من خصائصهم اللهجية المتميزة، وهي بصمات لا تتصل فقط في وجداننا بكيفية النطق والتعبير ولكن أيضاً بكيفية التصرف والتدبير، وهذه المفارقات هي المجال الأوسع لإبداع الأعمال الأدبية، والحكايات الاجتماعية، والنكات الفكاهية، وهذا لا يحدث في لغتنا فقط، وإنما في كل اللغات الأخرى، تجاه شرائح المتحدثين بها وخصائصهم اللهجية، سواء في إنجليزية شمال المملكة المتحدة وجنوبها، أو في فرنسية سكان بلجيكا أو سكان جنوب فرنسا أو غربها، مع تنوعات متعددة في الأقاليم، أو في إسبانية القارة الأوربية وأمريكا اللاتينية وهكذا في بقية اللغات. ولعله من أجل جمع شتات هذه الهويات الصغيرة المتقاربة والمختلفة في آن واحد، اهتدت اللغات منذ القدم إلى فكرة ” اللغة المكتوبة ” التي تشكل ” بؤرة ” تلتقي فيها أشعة ” الهويات ” اللغوية الصغيرة مكونة منها ” هوية ” لغوية كبيرة لجميع المنتمين إليها، تاركة في الوقت ذاته جانباً من حرية الحركة، والتطور يختلف من لغة إلى لغة، وهو يبدأ عادة في اللغة المنطوقة الحية، ويمتد أثره شيئاً فشيئاً إلى بؤرة التجمع الكبرى في اللغة المكتوبة، فتتطور بدورها إلى آماد مطلقة في بعض اللغات، وإلى آماد محدودة نسبياً في لغات أخرى كالعربية التي تملك أقدم هجائية كتابية في تاريخ اللغات الحية()، لارتباطها بنص ديني مقدس، يحفظها ويمنعها من التغير الكلي ويحميها من الزوال، ولكنها في نهاية المطاف، شهدت وتشهد تطوراً كبيراً على مختلف مستوياتها، لا ينكره إلا الذين لم يعطوا لأنفسهم فرصة التأهيل والنظر والتأمل، قبل إطلاق الأحكام غير الدقيقة. إن هذه اللغة المكتوبة، وما يتبعها من ثقافات وتقاليد، لا تساعد فقط على مزج الهويات الصغيرة في ” هوية ” واحدة، ولكنها قد تعمل أيضاً على توسيع حدود الهوية اللغوية، لكي تضم إليها أتباع لغات أخرى، تقلص دورها التاريخي أو ضعف، من خلال الدخول في حوار أو تنافس حضاري بين اللغات، ويشهد التاريخ العلمي أن اللغة العربية قد كسبت كثيراً من الجولات، في مجال الحوار أو التنافس مع اللغات الأخرى، سواء في جولات الانتشار والتوسع، أو في جولات وقف الانحسار وصد الهجوم. ولقد عرفت العربية موجات الانتشار والتوسع منذ عهد ما قبل الإسلام، حيث تدل كثير من الآثار المتناثرة على نمط من انتشار العربية بدرجة أو بأخرى خارج دائرة الجزيرة العربية، سواء في المناطق الواقعة على تخوم الإمبراطوريتين الكبيرتين للفرس والروم، أو في السواحل الشرقية لإفريقيا، حيث تشكلت إمارات عربية هناك منذ القرن الميلادي الأول في بعض الجزر الساحلية في زنجبار وما حولها، وسجل المؤرخون الإغريق أن ساحل شرق إفريقيا كان يزدحم بالسفن العربية القادمة من شمال إفريقيا، وكان يكثر الاختلاط والتزاوج بين العرب والأفارقة ()، ولذلك لم يكن من المستبعد مع بدء الدعوة الإسلامية أن يلجأ عرب مكة من المسلمين المضطهدين إلى أصدقائهم في بلاط النجاشي ملك الحبشة ( وهو مصطلح كان يطلق على معظم شرق إفريقيا ). والحوارات التي تدور بينهم وبين مطارديهم من قريش أمام النجاشي، وتنتهي بأن يحمي الملك وفادتهم، ويمنع تسليمهم ويتأثر بالقرآن الذي سمعه منهم – تدل في مجملها على عدم غرابة العربية في هذه البلاد، إن لم تكن تدل على شيوعها، وليس أقل منها دلالة في الزمن الأكثر قدماً، وفود الأعشى على بلاط كسرى إمبراطور فارس وتغنيه بقصائده هناك، ولا وفود امرئ القيس من قبله على بلاط قيصر إمبراطور الروم طالباً للنجدة والحماية. والذي لا شك فيه أن العربية قد عرفت لوناً من موجات الانتشار خارج الجزيرة العربية، مهدت للانتشار والاستقرار الواسع العظيم بعد الدعوة الإسلامية، حيث تغلبت على بقايا اللغات المنافسة، وقُدر لها أن تستقر إلى الأبد في جانب كبير من الأرض التي انتشرت فيها في البقعة الجغرافية المتصلة التي تسمى بالعالم العربي الآن، وأن تنحسر جزئياً أو كلياً عن جانب آخر منها. ولا شك أن ارتباط العربية بالدين الإسلامي ساعد كثيراً على سرعة وازدياد رقعة هذا الانتشار، لكن مبدأ معيناً من مبادئ هذا الدين، يندرج في إطار التسامح واتساع النظرة، أوجد رابطة قوية بين اللغة والهوية الثقافية، ويتمثل ذلك المبدأ في الأثر النبوي الشريف : ( ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمه، وإنما العربية لسان فمن تكلم العربية فهو عربي “. ولقد حول هذا المبدأ صفة ” العربية” من كونها صفة تنتمي إلى مجال العصبية والقبلية والنسب، إلى كونها صفة تنتمي إلى مجال الثقافة واللغة، وليس بالضرورة إلى مجال الدين، وفتح المجال أمام شعوب كثيرة لكي تدخل طواعية تحت مظلة هذه الهوية الجديدة، دون أن تكون مضطرة إلى تغيير عقائدها، مع الاحتفاظ بكل مزايا الانتماء إلى ” هوية ” نبيلة، والتمتع بحقوق المواطنة. وكان أبرزها في المجال الثقافي الذي نحن بصدد الحديث عنه، فتح الأبواب على مصاريعها أمام المشاركة في التغيير الثقافي الكبير الذي شهده العالم من خلال اللغة العربية، من خلال المنتمين ( الجدد ) إليها، سواء عبر الوظائف الكبرى للكتاب والوزراء أو الإنتاج الغزير للمترجمين والعلماء والمبدعين في شتى المجالات، بلسان عربي مبين، أصبح يشكل الهوية والموروث الثقافي والفكري، أياً كانت الأصول العرقية للمشاركين فيه. على أنه من الحق أن يقال : إن هذه الموجه الواسعة من تشكيل الهوية من خلال اللغة مثلث ظاهرة تاريخية فريدة، كادت العربية أن تتميز بها على كل اللغات، على الأقل في مجال اللغات القديمة، فهذا النمط من الوحدة اللغوية الكبيرة المستمرة لم تستطع أن تخلقه لغة عالمية كبرى كاللغة اليونانية، مع أن رقعة نفوذها السياسي، امتد فيما بين القرنين الثامن والسادس قبل الميلاد إلى مناطق واسعة عبر البحار. فانتشر الإغريق على شواطئ البحر الأسود والبسفور وبحر مرمرة والدردنيل، وجنوب إيطاليا وصقلية، وجنوب فرنسا وإسبانيا وشمال إفريقيا، وأنشأوا عدداً من الحواضر الثقافية كانت الإسكندرية في طليعتها، وتركوا بصماتهم الثقافية، حتى على من هزموهم عسكرياً، كما حدث مع الرومان الذين غزوا اليونان عسكرياً عام 146 ق.م. ولكن ثبت فيما بعد أن اليونان هم الذين غزوهم ثقافياً من خلال تأثيرهم البالغ في الثقافية اللاتينية، ومع ذلك فمل تنجح اللغة اليونانية في أن تستقر في المناطق التي بلغتها، وأن تشكل منها هوية ثقافية لغوية واحدة كما صنعت العربية فيما بعد. ومع ذلك فلم تنجح اللغة اليونانية في أن تستقر في المناطق التي بلغتها، وأن تشكل منها هوية ثقافية لغوية واحدة كما صنعت العربية فيما بعد. وكذلك الشأن مع اللغة اللاتينية، التي بلغت شأواً واسعاً في التطور، انتقل بها من كونها لغة محلية لروما القديمة، إلى كونها لغة نموذجية لمعظم مناطق الإمبراطورية الرومانية، ومع ذلك فقد بدأت تتراجع أمام عامياتها منذ القرن الثامن الميلادي، وتفتت إلى لغات من خلال تطور هذه العاميات، مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية، وتراجعت اللاتينية القديمة إلى ردهات الكنائس، وقاعات ترتيل الصلوات الدينية. على أنه من الحق أن يقال أيضاً : إن هذا النجاح الكبير للعربية في مرحلة الاتساع والانتشار، كانت تقف وراءه جهود مخلصة، وخطط علمية محكمة، إذا كانت كثير من تفاصيلها غائبة عنا، فإن نتائجها الباهرة تدل عليها، وينبغي أن تكون داعية لنا لبذل مزيد من الجهود في التعرف عليها والتأسي بها في المحافظة على الإرث العظيم الذي تركه لنا السلف، ونحن لا نكتفي فقط بالتفريط فيه، ولكن يحرص بعضننا على المشاركة في إضاعته وتبديده. إن خطوة هامة مثل “تعريب الدواوين”() في عصر عبدالملك بن مروان تكاد تمثل النقيض الإيجابي لخطة ” تغريب المعاملات الدولية والمحلية ” في عصرنا، ولنا أن نتصور مدى الجهد الذي يتطلب قيام آلاف الموظفين في أرجاء الإمبراطورية الواسعة وملايين المتعاملين معهم بتغيير لغة التعامل، من لغات قديمة ذات مصطلحات وظيفية راسخة، ونظم حسابية متداولة، إلى لغة كالعربية لم يكن لها تاريخ في الوظائف والدواوين قبل سنوات قليلة معدودة، ولنا أن نتصور أيضاً مدى الفائدة التي تعود على اللغة العربية من ذلك الانتشار الواسع، والتعود على الاستجابة للمطالب الديوانية وللحياة اليومية، بدءاً من تحرير رواتب الموظفين، وشكاوى المتظلمين إلى توقيع الوثائق والمعاهدات بين الدولة الإسلامية وأقاليم الأرض المتسعة، وكيف ستنشط جيوش من شباب المتعلمين من الأصول غير العربية لإتقان العربية، للحصول من خلال ذلك على وظائف مرموقة في الدولة، خاصة أن الأبواب كانت مفتوحة أمامهم دون حواجز عنصرية، وقد وصل بعضهم إلى منصب الوزارة ذاتها، مثل عبدالله بن المقفع، ورأس بعضهم جهاز الترجمة، مثل حنين بن إسحاق، بل كيف نشط آلاف المترجمين في البلاد الخارجة عن نطاق الإمبراطورية الإسلامية، لكي يتعلموا العربية ويتعاملوا معها، باعتبارها ” اللغة الرسمية ” لدولة الخلافة الإسلامية. ولم يكن أمر التعريب سهلاً أمام منافسة لغات قوية عريقة مثل الفارسية والسريانية، خاصة أن بعضها كان قد ارتبط بممارسة الشعائر الدينية، ولا شك أن هناك كثيراً من وقائع الحوار أو المقاومة بين اللغات الآفلة واللغة الصاعدة، ويذكر ابن النديم في كتاب ” الفهرست ” واحدة من هذه الوقائع تتصل بوقائع ” تعريب الدواوين” في العراق في العصر الأموي، وكانت لغة التعامل به من قبل، هي الفارسية، فيقول : ” ثم نُقل الديوان، وكان باللغة الفارسية إلى العربية أيام الحجاج، والذي نقله صالح بن عبدالرحمن مولى بني تميم، وكان والده من سجستان يعمل في بلاط الحجاج، يخط بين يدي كاتبه ( واسمه زاد انفروج ) بالفارسية والعربية، فقال صالح له يوماً : والله لو شئت أن أحول الحساب إلى العربية لحولته. فقال له : فحَوَّلْ منه أسطراً حتى أرى. ففعل، فلما مات زاد انفروج. ولَّى الحجاج صالحاً مكانه، وأمره بأن يواصل محاولة التعريب، وعلمت الفرس بذلك، فأغروه ببذل مائة ألف درهم له، على أن يظهر العجز عن نقل الديوان إلى العربية، فأبى، وقال له أحدهم : ” قطع الله أصلك من الدنيا كما قطعت أصل الفارسية “. ولا شك أن حوارات مماثلة خلال المواجهات الحضارية بين العربية واللغات الأخرى في أقاليم الخلافة الإسلامية الواسعة، ونقول : إنها مواجهات حضارية، لأنها كانت تتم من خلال التفاعل، وليس من خلال قوانين الإجبار، وكان التحول عندما يتم يأتي استجابة لواقع الحال، كما حدث مع اللغة القبطية في مصر، التي تراجعت بعد الفتح الإسلامي شيئاً فشيئاً عن أن تكون لغة التخاطب والثقافة، وحلت محلها العربية، حتى برزت الحاجة إلى ترجمة الإنجيل للغة العربية لتسهيل أداء المواعظ الدينية به، ثم انتهى الأمر بأن أصدر البطريرك القبطي غبريال بن تريك، في القرن الثاني عشر الميلادي ( 1131 – 1145 ) بعد نحو ستة قرون من دخول العربية إلى مصر، أصدر أول قرار يقضي باستخدام اللغة العربية في الخدمة الكنسية وتلاوة القداس، استجابة لحاجة المصلين الأقباط في الكنائس، الذين لم يعودوا قادرين على متابعة الشعائر الدينية باللغة القبطية. إن هذه التحولات اللغوية لم تعمل أبداً على محو الخصائص الثقافية أو الدينية أو الفكرية لمن انضوى تحت لوائها ممن كانوا ينتمون إلى لغات أخرى، وإنما خلقت هوية ثقافية كبرى من خلال اللغة العربية. وهي هوية تفاعلت داخلها، وزادت من تماسكها كل ألوان الحوارات والخلافات داخلها، فكتب بها علماء وأدباء ومفكرون من كل الأجناس والديانات، واتسعت لآرائهم جميعاً، ولم تعجز عن رصد حماس المؤيدين، وشك المترددين، وتجديف المنكرين، وإغراق الصوفية، ورموز الشعراء ومحاورات الفلاسفة، ومعادلات الرياضيين والكيمائيين والصيادلة والأطباء، وعقائد أتباع ومفكري الديانات، وكانت قادرة، من خلال هذه الروح الجماعية، أن تواصل مسيرتها فتستوعب وتتغذى وتتمثل، وتسقط الأوراق الذابلة لتخلفها أوراق أخرى أكثر ملاءمة وحيوية ونضارة، ولكنها تحافظ على صلابة الجذور وسلامة الهيكل، معتمدة على جهود حملة هذه الهوية الثقافية العريقة في حمايتها من الأعشاب الضارة، والحشرات الزاحفة أو الطائرة، والإهمال القاتل. وفي الوقت الذي يحرس فيه حملة هذه الهوية شجرتهم، فإنها تظلهم وتحميهم وتمنحهم من الشخصية الثقافية ما يعطيهم كياناً جديراً بالاحترام والثقة في عيون الآخرين، ويبعد عنهم شبح التسكع أو التطفل تحت أشجارهم، بوهم أننا سنصير منهم، عندما نفرط في لغتنا، ونحاول التحدث بلغتهم، أو نتنازل عن هويتنا، ونحاول تقليد هويتهم، وهُو وَهْمُ يدفعه كبار مفكري الغرب أنفسهم وفي مقدمتهم المفكر الشهير صموئيل هنتجتون صاحب نظرية صدام الحضارات، فقد نشر سنة 1996 دراسة له بعنوان ” الغرب متفردٌ وليس عالمياً West unique not universal ” يقول فيها : “إن شعوب العالم غير الغربية، لا يمكن لها أن تدخل في النسيج الحضاري للغرب، حتى وإن استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأمريكية، واستمتعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة هي اللغة والدين، والقيم والتقاليد والعادات، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارات اليونانية والمسيحية الغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون، والتعددية في ظل المجتمع المدني والهياكل النيابية، والحرية الفردية”(). ليس أمامنا مفرُّ إذن من العودة إلى إدراك أهمية الربط بين اللغة والهوية، وإدراك أن المحافظة على إحداهما محافظة على الأخرى، وأن إنقاذ إحداهما إنقاذ للأخرى، ولابد أن ندرك أن الضعف والتراخي إذا كانا نتيجة طبيعة لظروف تاريخية وحضارية متراكمة، فإن التنشيط والتجديد واستعادة التوازن إنما يتم من خلال العزم والتخطيط، ورسم السياسات، وإصدار القرارات وتنفيذها، على مختلف المستويات العلمية والتعليمية والاقتصادية والإعلامية والإعلانية، وتنسيق الجهود المتناثرة، وليس من المحال، عندما يتم بذل الجهد المناسب، أن تعود حالة القوة والانتعاش لكل من اللغة والهوية، حتى وسط أجواء سيطرة ثقافة العولمة، ونزعة الحرب المعلنة ضد اللغات الأخرى، وفي مقدمتها اللغة العربية، رمز الهوية التي يراد ألا تقوم لها قائمة قد تهدد مصادر الثروة، أو تحد من حرية الحركة المطلقة أمام مطامع الصهيونية العالمية وحمايتها المتطرفين. تجربة الفرنكفونية وإنعاش اللغة: إن تجربة إنعاش الفرنسية وربطها بنمط من الكيانات الثقافية والمعنوية والاقتصادية والسياسية، لا تزال قيد التشكيل أمام أعيننا، ولهذا فإن من المفيد أن نتأمل في بعض جوانب التجربة، لنرى كيف يخطط الآخرون لإنقاذ لغتهم وهويتهم، وكيف يتقدمون خطوة خطوة وفقاً لتصور مدروس، وهدف واضح. ومن المعروف أن اللغة الفرنسية كانت مع الإنجليزية إحدى اللغتين الكبيرتين اللتين كادتا تقتسمان النفوذ في العالم، في فترة المد الاستعماري خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وأن الفرنسية خلال هذه الفترة سادت في كثير من الدول التي كانت تحتلها فرنسا في إفريقيا وآسيا وبعض مناطق القارة الأمريكية وجزر المحيط، لكنها سادت كذلك كلغة ثقافة وفنون، وكلغة للطبقات الراقية والمنتمين إلى البلاط في كثير من البلاد الأخرى التي لم تكن خاضعة للنفوذ الاستعماري الفرنسي المباشر، ومن بينها مصر التي كسبت فيها الثقافة الفرنسية جولات كثيرة للمنافسة قبل البعثات التي أرسلها محمد علي في نهاية الربع الأول من القرن التاسع عشر، حيث كانت حملة العلماء الفرنسيين المرافقة لنابليون، والتي يقودها مؤلفو كتاب “وصف مصر” الشهير ومكتشفو رموز لغة الفراعنة، قد مهدت للتأثير الثقافي الفرنسي في مصر على امتداد القرن التاسع عشر، وهو تأثير لم يتمكن الاستعمار الإنجليزي من إيقافه فامتد إلى مرحلة التأثير على خريطة القرن العشرين مع نفر من الساسة والأدباء المشهورين من أمثال مصطفى كامل، وهيكل، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وتيمور، وشوقي، وحافظ، والمنفلوطي، وغيرهم من مشاهير العصر. لقد بدأ مد النفوذ السياسي والثقافي الفرنسي في التوقف والتراجع، بعد ظهور القوة الأمريكية بشكل واضح في النصف الثاني من القرن العشرين، مما جعل كفة اللغة الإنجليزية وتأثيرها الثقافي أكثر رجحاناً، ومع الانكماش الواضح للمستعمرات الفرنسية، وعودة الجنود الفرنسيين إلى بلادهم بدأ التخوف من تخلخل الرابطة اللغوية الفرنسية بين فرنسا الأم ومناطق نفوذ اللغة والثقافة الفرنسية، وازداد الأمر وضوحاً مع بداية ظهور ثقافة العولمة والرغبة في فرض الثقافة الأمريكية ولغتها على أرجاء العالم، وفي هذا المناخ تم إنعاش مصطلح فرنسي قديم، كانت قد عرفته الفرنسية في القرن التاسع عشر وهو مصطلح الفرنكفونية ” la francophonie وعاد إلى الظهور في فترة الستينات في القرن العشرين على يد مجموعة من المتكلمين بالفرنسية خارج فرنسا، من أمثال سنجور في السنغال، وسيهانوك في كمبوديا، وبورقيبة في تونس، ودعوا إلى تشكيل هوية لغوية ثقافية من المتحدثين بالفرنسية في أرجاء العالم، وأسفرت المناقشات عن عقد أول مؤتمر للفرنكفونية سنة 1969 في نيامي الإفريقية، برئاسة وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو، ومنذ ذلك التاريخ بدأ التخطيط الدقيق لتحديد أبعاد المشكلة اللغوية الفرنسية وأماكن المتحدثين بها، ومواطن استخدامها الكلي أو الجزئي، المفرد أو المشترك، وأسفرت الإحصاءات عن أن الفرنسية يتم استخدامها في إحدى وخمسين دولة وتسعة وثلاثين إقليماً في أرجاء العالم، وهي بذلك تأتي تالية للإنجليزية التي يتم استخدامها في تسع وخمسين دولة وخمسين إقليماً، ومواطن الفرنسية موزعة على كل القارات في بلجيكا وبنين وسويسرا وبوركينافاسو وشمال إفريقيا وجزر القمر والكنغو وجيبوتي ولوكسمبورج والنيجر ومصر والجابون وساحل العاج.. الخ، وصنفت الاستخدامات بين بلاد تستخدم فيها الفرنسية باعتبارها لغة الأم مثل فرنسا وكندا وبلجيكا وسويسرا، والمتحدثون بالفرنسية من هذه الفئة حوالي ثمانين مليوناً، يمثلون 82% من السكان في فرنسا و 23% في كندا و 41 % في بلجيكا و 18% في سويسرا و 58 % في موناكو، وإذا أضيف إليهم من ينتمون إلى هذه الفئة في المستعمرات القديمة، في إفريقيا وآسيا وجزر المحيط، يصل العدد إلى نحو مائة وعشرة ملايين ولنلاحظ أن الذين يتحدثون العربية كلغة أم يقتربون من ثلاثة أضعاف هذا العدد. ثم تقف الإحصاءات الدقيقة أمام الذين يتلقون تعليمهم بالفرنسية، جزئياً أو كلياً في أرجاء العالم، فتصل بهم إلى نحو مائة وخمسين مليوناً، ثم تتبع الذين يستخدمون الفرنسية في الحياة التجارية أو الفنية أو القضائية أو العسكرية أو غيرها من مجالات الحياة، فتصل بهم إلى نحو 500 مليون متكلم للفرنسية بدرجة أو بأخرى (). ولا تقف الجهود التخطيطية عند مجرد الإحصاءات، وإنما تتتبع كل فئة من حيث درجة الزيادة أو النقصان، فترصد زيادة إقبال الطلاب على دراسة الفرنسية كلغة أجنبية في كل من فنلندا وإيرلندا والنرويج والسويد والنمسا وبلغاريا ومصر وتركيا وإسرائيل والإمارات وبيرو وأمريكا وكندا، وتصل الزيادة ذروتها في إفريقيا الفرنسية، والمغرب رغم جهود التعريب بها، وعلى هذا النحو يتم رصد الحالة الواقعية للظاهرة من خلال الدقة الإحصائية، ليتم وضع الحلول، على أساس التشخيص العلمي. ولا أدري إن كانت لدينا نحن إحصاءات دقيقة مماثلة بالنسبة للغة العربية، وإذا كنا نعلم كم عدد الذين يتحدثونها كلغة أم أو لغة دينية، أو الذين يدرسونها أو يدرسون بها في مختلف أرجاء العالم، وكم عدد المتعاملين معها على مستويات مختلفة وأماكن مختلفة. وعندما انتهى حماة الفرانكفوية من تجسيد الظاهرة أمامهم بدأوا يشرعون في إتخاذ الوسائل والخطط اللازمة لمعالجتها، والاهتمام بها على أعلى المستويات، فدعا رئيس جمهورية فرنسا ميتران إلى عقد أول مؤتمر لرؤساء الدول الفرانكفونية في باريس سنة 1986، وتتابعت بعده مؤتمرات القمة الفرانكفونية لتعقد في كندا والسنغال وبنين وفيتنام ولبنان وبوركينافاسو، وتشكلت من خلال هذه المؤتمرات مؤسسات فعالة في مختلف المجالات لحماية اللغة الفرنسية، والعمل على انتشارها ودفع المخاطر عنها. مثل : المركز الفرانكفوني لتوطين استخدام الفرنسية في البحوث العلمية. المؤسسة الفرانكفونية الإعلامية المرئية T.V.5. هيئة مؤتمر وزراء الرياضة والشباب للدول الفرانكفونية. هيئة مؤتمر وزراء التعليم العالي، والبحث العلمي. الجمعية الدولية للبرلمانيين المتحدثين بالفرنسية. الاتحاد الدولي للصحافة الناطقة بالفرنسية. اللجنة العليا للدفاع عن اللغة الفرنسية والعمل على توسيع انتشارها. الاتحاد الدولي للمدرسين الناطقين بالفرنسية. المجلس الأعلى للفرانكفونية، وهو مؤسسة تعمل على رصد نقاط التلاقي بين المجتمعات الناطقة بالفرنسية، وهي ذات صوت بارز في الحوار العالمي. وكان يتولى رئاستها منذ سنة 1997 سكرتير عام الأمم المتحدة الأسبق الدكتور بطرس غالي.إن مثل هذه المؤسسات التي تنتشر فروعها في أكثر من خمسين دولة تحرص على سياسة مركزية واحدة، قائمة على التخطيط وعدم إهدار الجهود الفردية أو تكرارها، وتكتسب قراراتها سلطة التنفيذ، كما حدث مع القرار الذي تبنته الجمعية الوطنية الفرنسية سنة 1994، والذي ينص على عدم السماح بعقد المؤتمرات العلمية المتحدثة بالإنجليزية على الأرض الفرنسية، كما وضع البرلمان قائمة بالكلمات السوداء التي يحظر استخدامها في لغة الإعلام والإعلان. ويثور التساؤل من جديد : إلى أي مدى نمتلك نحن جانباً من المؤسسات التي تعمل على خدمة اللغة، وتكتسب قراراتها قوة التنفيذ، مقارنة بما يحدث في التجربة الفرانكفونية ؟ وهل يمكن أن يحل عندنا التخطيط والتنسيق العلمي، في مواجهة المشكلة، محل اللامبالاة، او جهود النوايا الطيبة غير المنسقة في أحسن الأحوال؟ وهل يمكن أن نعمل على إنقاذ هويتنا من خلال لغتنا كما يحاول أصحاب الفرنكفونية ؟ إن انعدام الدراسات التشخيصية العلمية الدقيقة عن حالة اللغة العربية ودارسيها في الداخل والخارج – بشكل الخطوة الأولى في تشكيل تصور غامض ومشوش حول هذه القضية الخطيرة في حياتنا، والمتصلة اتصالاً مباشراً بهويتناً وموقعنا على خريطة العالم المعاصر، ومستقبلنا الذي نتحرك في اتجاه مخاطرة دون وعي كاف بجبال الثلج الضخمة التي تترصد مجرى السفينة المندفعة، وتتداخل ألوانها مع ألوان المياه التي تجري فوقها السفينة، والدراسات القليلة التي تحاول أن ترصد واقع الحال، كثيراً ما تقع في المجاملة ومحاولة (ستر العيوب) وعدم كشف المستور، خاصة إذا كانت تتم تحت إشراف جهات رسمية يهمها أن يبدو الأمر في قطاعاتها وكأن كل شيء (على ما يرام) وحتى عندما تصدر الدراسات وبها بعض الإشارات إلى المخاطر المحتملة وبعض التوصيات المفيدة، فإن الهوة الواسعة بين التوصيات وبين مجرد التفكير في قراءتها من المسئولين التنفيذيين – تبدو هوة شديدة الاتساع، وحتى عندما تصل بعض أصدائها إلى آذان المسئولين، فإن القاعدة الذهبية في التعامل معها هي قاعدة (أذن من طين، وأذن من عجين)، وربما كانت قرارات مجامع اللغة العربية، وتوصيات المجالس القومية المتخصصة هي خير شاهد على ذلك.وفي غياب سياسة قومية لغوية، استشرت فوضى (التغريب) على كل المستويات بدءاً من تصريحات وخطب المسئولين في المحافل الإقليمية والدولية، والتي تجيء في كثير من الأحيان بلغات أجنبية على عكس الأعراف الدبلوماسية السائدة، والتي يحرص من خلالها كل مسئول عن الحديث بلغة قومه، فلا نجد دبلوماسياً إسرائيلياً يصرح بغير العبرية، ولا إيرانيا يتحدث بغير الفارسية، وتجيئ خطب الصينيين والروس بلغاتهم الأصلية، ومع أن العربية واحدة من لغات العالم الأساسية المعترف بها في المحافل الدولية، فإن المسئولين العرب هم أكثر الناس تطوعاً بالتخلي عن حقهم وحق لغتهم عليهم في هذا المجال.وتبلغ الفوضى مداها في عالم التجارة والاقتصاد والسياحة، وعالم الأزياء والمأكولات والمشروبات، ويكفي أن ينظر الإنسان إلى أسماء محلات بيع المأكولات والمشروبات والملابس، ليبدو له وكأن العربية عاجزة عن أن تجد اسما لهذا النوع من النشاط، مع أن اللغات الأوروبية استعارت منها ي الأصل اسم المكان الذي يمارس فيه هذا النشاط فكلمة magazine في الفرنسية مأخوذة من كلمة (مخزن) العربية، وهي شديدة الشيوع في الفرنسية المعاصرة، أما نحن فقد فضلنا كلمات أخرى مثل (سوبر ماركت) و(مول) و(كوفي شوب) و (شوبنج سنتر) وغيرها من المصطلحات الوافدة، إضافة إلى آلاف الأسماء الأجنبية، التي تستخدم دون وعي، ودون حاجة.وتجتاح هذه الظاهرة المدن العربية، حتى لتحس في كثير منها – إلا ما عصم الله – أنك تسير في مدن الرطانات والمحاكاة الساذجة، التي تختلط فيها الكلمات الأجنبية بالحروف العربية، وكأننا بمحاكة الكلمات تحاكي التقدم في ذاته، وإذا نظرنا إلى المجهودات الإيجابية المشكورة، فإننا نجدها تفتقد كثيراً من أوجه التنسيق والتنظيم بين المؤسسات والهيئات التي تقوم بها، في شرق العالم العربي أو غربه أو شماله أو جنوبه، سواء تمثلت في المجامع اللغوية أو في مكاتب تعليم اللغة للأجانب، أو جمع التراث العربي وتحقيقه، أو الدخول بذلك التراث إلى عالم شبكات المعلومات والأقراص المضغوطة، أو محاولات تيسير اللغة للتعامل مع عالم الحاسوب، وكلها مجهودات طيبة في ذاتها، لكن ينقصها هذا النمط من التنسيق الذي رأيناه في سياسة الفرانكفونية لحماية اللغة الفرنسية، ونستطيع بقدر ميسور من هذا التنسيق أن نضاعف من نتائجه الإيجابية، ونعمل على صد كثير من المخاطر عن اللغة العربية والهوية القومية. وإذا أضفنا إلى ذلك، الجمود الشائع في طرق تعليم العربية لأبنائها()، وعد تطوير وسائل ترغيبهم فيها، أسوة بما تفعله اللغات الأخرى، أدركنا أن الدائرة تكاد تكوم مغلقة إذا لم نطور في أنفسنا الوعي بالمخاطر واتخاذ الحلول العملية لمواجهتها.تجربة العبرية وإحياء اللغة للهوية: وإذا كانت تجربة إنعاش الفرانكفونية، قد وضعت أمام أعيننا، تصوراً لإمكانية التخطيط العلمي وتشكيل الآليات التنفيذية لإنعاش لغة عريقة والمحافظة على مظلة ثقافية لغوية للمنتمين إليها، والأمل المستقبلي في أن يؤدي التخطيط المحكم والتنفيذ والمتابعة إلى تحقيق الأهداف المتوخاة، فإن الوقوف أمام تجربة إحياء اللغة العبرية في العصر الحديث يضعنا أمام أمل صعب تم إنجازه، وجهد بشري خارق يستحق كل التقدير والإعجاب، ويحق للذين ينتمون إلى هذه اللغة أن يصفوه بالمعجزة(). فلقد ظلت العبرية لغة شبه دينية على امتداد قرون طويلة، لا تستخدم إلا في أضيق نطاق حتى إن اليهودي الكبير موسى بن ميمون وضع جميع مؤلفاته باللغة العربية، فيما عدا مؤلفاً واحداً كبيراً وضعه بالعبرية، عن أصول الشريعة اليهودية وقواعدها. لكنه منذ أواسط القرن التاسع عشر، برزت مجموعة من الشباب اليهود الأوربيين شكلت حركة لإحياء اللغة العبرية، كان من أبرز قادتها اليعازر بن يهودا، الذي أطلق شعاراً، ربما نكون في حاجة إلى التذكير به واعتناقه الآن، وهو شعار: ” لا حياة لأمة بدون لغة “، ودعا إلى إحياء اللغة العبرية لدى الأجيال الجديدة، من خلال جعلها لغة التخاطب في الحياة اليومية ()، ولكنه أمر بدا صعباً إن لم يكن مستحيلاً. حتى بالنسبة لغلاة المتشددين من اليهود، إذ كيف يمكن أحياء لغة ميتة قديمة لا يجيدها إلى قلة من المتخصصين، ولا تستخدم إلا في الشئون الدينية، وتفتقر إلى معظم مفردات الحياة المعاصرة، ولا يصبر على الكلام بها رجال الدين اليهودي أنفسهم، فكيف تصير لغة الأطفال والفتيان والفتيات والرجال والنساء، وتستخدم في الصحافة وتدريس فروع المعرفة وإجراء البحوث العلمية، وكيف يمكن تحقيق هذا الحلم الخيالي، بخاصة أن اليهود وقتها كانوا موزعين على نحو أكثر من مائة دولة على خريطة العالم، ويتكلمون نحو ثمانين لغة حية، ليس فيها العبرية إلا في الصلوات والشعائر الدينية لمن يتابعها منهم. ومع ذلك كان أليعازر بن يهودا متمسكاً بفكرته رغم سخرية أصدقائه منه، وبدأ في اتخاذ الخطوات العملية لها، فقرر الهجرة إلى فلسطين، مع زوجته وأسرته سنة 1881م، وانشأ أول بيت يهودي، تفرض فيه اللغة العبرية لغة للتخاطب والحديث في كل الشئون لكل أفراد الأسرة، وساعده على ذلك أفراد أسرته، رغم سخرية كل الناس منه، ولكنه ظل متمسكاً برأيه، عاملاً على إنجاحه أربعين سنة متصلة. أسس رابطة للمتكلمين بالعبرية في فلسطين، وصارت داره منتدى يلتقي فيها الشباب اليهودي، ويتحمسون للفكرة يوماً بعد يوم، ويمارسونها باستخدام اللغة في لقاءاتهم، وأصدر مجموعة من الصحف باللغة العبرية في القدس، وجعل بعضها مخصصًا للأطفال، وحرص على أن يسمى أبطال القصص بأسماء عبرية، وعكف على إنجاز مشروع كبير لقاموس اللغة العبرية القديمة والجديدة، فانكب ينقب عن كنوز اللغة في كتب الأقدمين في العهد القديم والتلمود، والأدب العبري في الأندلس، واللغات السامية، التي انتقى منها مواد طوعها للاستعمال الحي، وكان يلجأ إلى ابتكار المصطلحات الجديدة عندما لا تساعده كتب التراث، وقد استطاع في حياته أن ينجز تسعة مجلدات كبيرة من هذا المعجم وأكمله تلاميذه من بعده إلى ستة عشر مجلداً. وأثمرت دعوته، فاستيقظ اليهود لإنشاء مدارس حديثه تدرس كل موادها بالعبرية، وتهتم بمراحل اللغة في العهد القديم والمراحل التالية له وتاريخ بني إسرائيل والجغرافيا والرياضيات والطبيعيات وكلها بالعبرية، وقد كان حرصهم في كتب الجغرافيا، على ألا يذكر اسم أي مكان إلا باللغة العبرية، ويقول أحد الباحثين الإسرائيليين “تسيبورا شاروني” في كتاب التوجه القومي في برامج التدريس باللغة العبرية: “من منا يذكر كتابًا واحدًا في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية؟ الأسماء العربية لا وجود لها”، وهي نزعة لا تزال تشكل ركناً رئيسيًا من السياسة الإسرائيلية في تسمية الأماكن الفلسطينية بأسماء عبرية، والحرص على استخدام هذه الأسماء في كل مواقع الإعلام حتى تثبت في الأذهان ويتعود عليها الآخرون، حتى في المناطق التي لا يوجد فيها إلا العرب الذين يطلقون عليهم في أفضل الأحوال ” عرب إسرائيل “، ومن هنا فإن القدس هي أورشليم، والضفة الغربية هي السامرا، وغزة يهودا، والخليل حبرون، ونابلس شكيم وبئر سبع هي بئر شيفع.. وهكذا. وانطلاقًا من دعوة أليعازر بن يهودا، بدأت الجماعات اليهودية، تصدر صحفاً بالعبرية في أوربا مثل صحيفة ” هاتسفير” و “هاميلتش” إلى جانب صحف، تصدر بلغة ” الإيديش” وهي اللغة التي يتداولها اليهود في أوربا الشرقية. إن المحاولة العبرية الناجحة جسدت أبرز محاولة لتماسك الهوية من خلال لغة يتم إحياؤها من العدم، وتوجيهها نحو هدف معين، ولقد كان من الصعب إيجاد هوية متماسكة للمتفرقين في مائة دولة والمتحدثين بثمانين لغة، وكانت فكرة أليعازر مركزة في شعاره : ” لا حياة لأمة بدون لغة “، وقد وضع فكرته التي بدت خيالية في حينها موضع العزم والإصرار والتطبيق، فأصبحت العبرية الآن شديدة الحيوية، تدرس بها كل العلوم الحديثة في الكيمياء والفيزياء والصيدلة والطب والهندسة والإحصاء فضلاً عن العلوم الإنسانية بكل فروعها، وتعقد بها كل المؤتمرات العربية.لا يتمحكون في الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو الروسية أو الإسبانية، مع أن كثيراً منهم يجيدون هذه اللغات، ويصلون في هذه العلوم إلى مدى متقدم، يجعل جامعاتهم في صدارة الجامعات المتقدمة في العالم، ويتركوننا نحن بإنجليزية عرجاء، بشهادة خبراء العالم، ندرس المعرفة المتقدمة فلا ندرك منها إلا القشور، ونعود إلى المعرفة الإنسانية، فلا نكلف أنفسنا بمجرد إجادة لغتنا، لكننا نقترح أن نعمل فيها معاول الهدم والتغيير، دون أي معرفة كافية ولا تقدير للعواقب الوخيمة على اللغة والهوية.العربية واضطراب العلاقات بين اللغة والهوية:يود البحث بعد استعراض العلاقة بين اللغة والهوية في الحالتين الفرنسية والعبرية وتأثيرها إنعاشا في الحالة الأولى، وإحياء في الحالة الثانية أن يقف أمام نمط هذه العلاقة في الحالة العربية المعاصرة والتأثيرات السلبية التي تركتها على واقع الحياة التعليمية وما يتفرع عنها وعن نتائجها في مختلف مجالات الحياة. من خلال مناقشة نظرية ” توطين المعرفة ” وعلاقتها الضرورية بتداول المعرفة عبر ” لغة الأم ” وما أدى إليه فقدان هذه الخاصية لدينا على مستويات رأسية وأفقية متعددة من تدهور في استيعاب التاريخ القومي للمعرفة ومن اكتفائنا بمساهمات متواضعة في نادي المعرفة الدولية في معظم الأحيان راضين بموقع المستهلك أو المشاهد دون أن نتطلع إلى موقع المحاور أو المنتج. ومن خلال التعرض لبعض التجارب العربية والنتائج الحية في هذا المجال والوقوف أمام بعض أوجه القصور التي تجعل العربية المعاصرة مكبلة بالقيود عاجزة عن التغلغل إلى نفوس الراغبين من أبنائها في تشربها ومزجها بهويتهم.اللغة القومية وتوطين العلم:تمثل قضية العلاقة الكائنة بين اللغة العربية وواقع تلقي المعرفة لدى أبنائها واحدا من أبرز مظاهر الاضطراب في العلاقة بين اللغة العربية والهوية، وذلك لأن اللغة تحتل بعداً شديد الأهمية في التكوين العلمي الفردي والجماعي للأمة، ولا يقف دور اللغة في تلقي العلم أو توصيله، عند مجرد دور الأداة الناقلة أو القناة الموصلة، تعبر خلالها (المعلومة) إرسالا أو استقبالا، وإنما يمتد دور اللغة، ليشكل ضفيرة قوية مع المعرفة ومع الهوية، تتبادل فيما بينها وسائل التغذية والتنمية، فتقوى اللغة بقوة العلم المتشكل من خلالها، والذي يبحث لنفسه خلال تشكله وتمدده وتفرعه عن أوعية لغوية ملائمة، وخلال هذا البحث تجدد خلايا اللغة التي يتعامل معها، فتعرف إحياء الخلايا الضامرة، وتنشيط الخلايا الحية، وتوليد خلايا أخرى مناسبة، وتزداد صلتها قوة بالحياة وبالأحياء. وفي الوقت ذاته يقوى العلم خلال انتشاره وتمكنه في النفوس عندما يتحرك في هذه النفوس باللغة التي تألفها، وتتصل بها اتصال الوجود وتتكون فيها مع تكون الحواس، فيصادف العلم خلال مسيرته في هذه النفوس مرايا من شانها أن تكون أكثر صفاء وجلاء، وأن تنعكس عليها أشعته بطريقة أكثر تألقا، وأن تتسرب هذه الأشعة إلى مناطق أكثر عمقاً وأبعد غوراً، وأن تستقر بها وتتفاعل فتولد دورة للامتزاج بين اللغة القومية والعلم الذي يصاغ بها تتوالد عنها دورات لا نهاية لها في نفوس الأفراد والجماعات، ويتشكل من خلال هذا كله ما يعرف بتوطين العلم. إن “توطين العلم” هو وحده الذي يستطيع أن يتيح أمام الفرد وأمام الأمة فرصة المشاركة الفعالة في العملية العلمية “إنتاجاً واستهلاكاً”، وهي مرحلة ضرورية لكل الأمم، التي تود أن تشارك في صنع الحضارة الإنسانية أو تنتسب إليها انتساباً فاعلا، وتلك مرحلة تختلف عن مراحل أخرى في العملية، كالتي يعيشها العالم العربي الآن، ويمكن أن يكون هدفها في أحسن الأحوال “استهلاك” العلم أو تعلم مبادئه، لكنها لا يمكن ابداً أن ترقى إلى مرحلة الإنتاج أو المشاركة الفاعلة، في غياب الصلة القوية بين اللغة القومية والعلم، أي في غياب الأساس الأول لتوطين المعرفة. وقد استوعب كل الحضارات هذا الدرس الأولى، ففكرت وأنتجت بلغاتها دون أن تغلق الباب أبدا أمام الاستفادة والاستيعاب والهضم، بل والاقتراض من الثقافات الأخرى، ولم يكن متصورا أن يصوغ الفراعنة تقدمهم المعرفي في الطب والتحنيط وهندسة البناء والحكمة وغيرها من فروع المعرفة، بلغة اليونان، ولا أن يصوغ اليونان انجازاتهم في الفلسفة والمسرح وعلوم السياسة والاجتماع بغير لسانهم القومي، ولا أن يستوعب الرومان حضارة اليونان التي تأثروا بها، وحاولوا الإفادة منها والإضافة إليها بغير لغتهم اللاتينية، وكذلك كان الشأن بالنسبة لحضارات الشرق التي نقلت ميراث الحكمة الإنسانية بلغاتها المتألقة على صفحة الحضارة الإنسانية والتي تسجل إسهامات كل أمة في رصيد العلم من خلال لغتها. وقد استوعبت الحضارة العربية الإسلامية هذا الدرس الخالد، عندما آلت إليها تركة الثقافة الإنسانية المتراكمة عبر العصور، فأزاحت أولا من طريقها معوقات الاستقبال والتحصيل، من خلال فتح النوافذ الواسعة، وإلغاء الحواجز، حتى ما كان يظن انه ضروري لحماية العقيدة، ثم من خلال خلق الوسائل وتشجيع تفعيلها، فكانت حركة الترجمة العظيمة التي عرفتها هذه الحضارة في العصر العباسي وما بعده، وكانت حركة النهم التي قادتها الخلافة الإسلامية والعلماء المسلمون، ممثلة في الحصول على تراث الأوائل بكل ثمن. يقول العالم الكبير أبو الريحان البيروني (ت1048) “وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم، فازدانت وحلت في الأفئدة”. وعبارة البيروني ذات مغزى عميق، فصب العلم في اللغة الأم يحقق هدفين رئيسيين أولهما أن تزدان اللغة وتتألق وتصبح حيوية جذابة، وثانيهما أن يحل العلم المنقول بها في الأفئدة، فيستقر في النفوس والعقول تعمقا وأخذا وعطاء، ولا يظل قشوراً ورطانات على النحو الذي يكون عليه العلم في الأمم غير المتقدمة. (1)لقد كانت الدقة العلمية البالغة للعلماء عاملا هاماً في إثراء لغتهم العربية، التي صبوا فيها معارفهم، وتحولت هي بدورها إلى وسيلة معرفية ليس لأبنائها فقط، ولكن لأبناء الإنسانية كلها، تقول المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه، وهي تعلق على نص كتبه بالعربية الطبيب المصري على بن رضوان في القرن الحادي عشر، منذ نحو ألف عام : “يخيل إلينا ونحن نسمع ما قاله ابن رضوان، أننا أمام أستاذ في الطب في عصرنا الحاضر”. إن تعليق المستشرقة على تاريخ العلوم عند العرب يثير في النفس آلاما مريرة، عندما نتساءل عن حجم الدارسين العرب في هذه التخصصات العلمية، الذين يملكون اهتمامات عميقة بالتراث العربي العلمي. ولا ينبغي أن يتسرب إلى الأذهان أن الدعوة إلى دراسة الكتب على يد العلماء وتحقيقها وتحليل محتوياتها، يعني بالضرورة الدعوة إلى تجميد تحصيلهم العلمي في فروع تخصصاتهم عند محتوياتها، بل إن دراستها ينبغي أن تكون مقترنة باليقين بأنها جزء من تاريخ العلم، وهو على أهميته جزء قد تم تجاوزه، ولكنه مع ذلك جزء ينبغي الاهتمام به لسببين رئيسيين : الأول : غرس الثقة بالعقلية العلمية الحضارية التي ننتمي إليها، وتأكيد القناعة بأن هذه الشريحة التي استطاعت جذورها أن تتفاعل مع فلسفة العلم ودقائقه، وتستجيب لحاجات الإنسانية فيه، يمكن لفروعها أيضا أن تواصل العطاء، إذا أعادت تكوين نفسها، واستطاعت أن تصحح مواقع خطواتها ؟، وهذه الثقة في مجال العطاء العلمي شديدة الأهمية. الثاني : هو المساعدة في اختيار كثير من المصطلحات التي أثبتت دراسات المدققين في تاريخ العلوم وحاضرها، أن التراث اللغوي فيها شديد الفائدة، وأن محاولة البحث الدائم عن اصطيادها من خارج المياه الإقليمية غالباً ما يحمل معه من المحارات والطحالب والأعشاب الضارة، أضعاف ما يحمل من بعض اللآلئ المتفرقة. ولعل هذه القضية تكون من أكثر القضايا التي أسيء استخدامها لتعويق عملية تعريب العلم، زعماً بأن العلم الحديث مصطلحات معظمها باللغات الأوروبية، وأن ذلك يقتضي دراسته وتدريسه بهذه اللغات، ويحول دون تعريبه، فقد أثبتت دراسات وإحصاءات كثير من العلماء المتخصصين في فروع تعريب العلوم، عدم دقة هذا الزعم، مثل ذلك البحث الذي أجراه الدكتور مصطفى بن يخلف، وانتهى فيه إلى أن نسبه الكلمات المصطلحية في المادة العلمية لا تجاوز 25% منها، في حين تحتل الكلمات العامة 75% من لغة تلك المادة، وفي هذا الإطار يرى الدكتور حسني سبح الرئيس السابق لمجمع دمشق أن الاهتمام ينبغي أن ينصب على اللغة الوسيطة بنفس الأهمية التي يعيرها للمصطلحات، وأن مقاومة الكثيرين للتعريب ما هي إلا لتدنى القدرة على استعمال لغة وسيطة رصينة، مع أن اللوم ينصب في معظم الأحيان على المصطلحات والرموز.. إن قضية المصطلح ليست بصميم المشكلة، وإنما صميم المشكلة هو الاقتدار على وعي المعاني العلمية، وتصورها ثم الإبانة عنها.(1)تبقى الصورة في مجملها بعيدة عن تحقيق هدف توطين المعرفة او الربط بينها وبين اللغة القومية، وتبقى الصورة المضطربة المشوشة واحدة من أهم عوامل إضعاف العلم واللغة معاً في وطننا العربي (2). يحدث هذا رغم أن القرن العشرين شهد، على مستوى العالم، كثيرا من مظاهر التقدم في الربط بين اللغات القومية وتوطين العلم، لدى شعوب كنا قد سبقناها في خوض التجربة بقرون طويلة، ومع ذلك فقد استطاعت أن تعقد بين العلم ولغتها مواءمة رائعة، ومنها اللغة العبرية التي كانت في عداد الموتى عندما بدأ محمد على تجربته في تدريس الطب بالعربية سنة 1827، قبل أكثر من خمسين عاماً من صيحة اليعازر بن يهوداً ” لا حياة لأمة بدون لغة”. وقد أصبحت اليوم كل فروع المعرفة العلمية الدقيقة تدرس من الألف إلى الياء باللغة العبرية التي تم إحياؤها من العدم، ومنها الشعوب التي لا تنتشر لغاتها إلا على مناطق محدودة من الأرض والناس، كما هو الشأن في اللغة الكورية، التي لا وجود لها خارج شبه الجزيرة الكورية بملايينها السبعين، ومع ذلك فقد تم تطويعها لكل فروع المعرفة الدقيقة وتقنياتها، وحتى القوميات الصغيرة الناهضة في شرق أوربا أو في أرجاء آسيا، أصبحت لها لغاتها التي تطوعها للعلم، وتطوع العلم لها، حتى وإن بدا البون شاسعا والعقبات كثيرة كما حدث مع اللغة الصينية بأبجديتها المعقدة العملاقة والتي تم في النهاية تذليلها لشاشة الحاسب الآلي المحمول، في الوقت الذي لا نستثمر فيه الإمكانيات الهائلة الكامنة في اللغة العربية لتعاملها مع ثورة الاتصال اللغوي في عصر المعلومات كما يقول الخبراء(). لقد أصبح من الممكن القول بأنه لا توجد أمة متحضرة في العالم تدرس العلوم بغير لغتها ولا توائم بالقدر الكافي بين لغتها ولغة عصر ثورة المعلومات فيما عدا الأمة العربية.
د. أحمد درويش: :إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية. دار نهضة مصر- القاهرة- ط2- 2007م. :إنقاذ اللغة من أيدي النحاة. دار الفكر – دمشق- 1999م. د. أحمد فؤاد باشا: :أساسيات العلوم المعاصرة في التراث الاسلامي. دار الهداية 1997. د. جابر عصفور (إشراف وتقديم) :التنوع البشري الخلاق، تقرير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية”. المجلس الأعلى للثقافة، مصر- 1997م. الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر): :البيان والتبين، تحقيق عبدالسلام هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي 1985، الجزء الأول. د. سليمان المالكي: :العرب وتأثيرهم في شرق أفريقيا، بحث في كتاب “العرب وأفريقيا”، دار الثقافة العربية، القاهرة ، 1987. د. ضياء الدين الريس: :عبد الملك بن مروان. سلسلة أعلام العرب، القاهرة، 1962م. عباس محمود العقاد: الثقافة العربية أقدم من الثقافتين العبرية واليونانية. الأعمال الكاملة- بيروت- 1974م. د. محمود المناوي: :في التعريب والتغريب. مركز الأهرام للترجمة والنشر 2005. د. نبيل على: :الثقافة العربية وعصر المعلومات. عالم المعرفة- الكويت- 2001م. يهو شواع بلاو: :إحياء اللغة العبرية وإحياء العربية الفصحى. مجلة لقاء- 1985م. أهم المراجع: A short History of the Herbew Language. New York 1998. Hoffman. Loeul:
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : أحمد درويش, العدد الثامن والعشرون