مايو 3 2015
هاجس التصويب في نقد المؤلفات الأدبية عند العرب …. د. عبدالعظيم رهيف خورشيد
هاجس التصويب في نقد المؤلفات الأدبية
عند العرب في القرن التاسع عشر
_________________
د. عبدالعظيم رهيف خورشيد (*)
يمثل النصف الثاني من القرن التاسع عشر عند العرب خيوط الفجر الأولي يعد مصاحبة طويلة للظلام ، بكل مستوياته وأبعاده ، المعرفية ، والاجتماعية ، والاقتصادية . إلخ ، وفي مرحلة المخاض الحديث هذه طبعت بعض الكتب الأدبية ، سواء أكانت هذه الكتب تحمل مؤهلات الكتاب الأدبي ، أم أنها اختيارات تراثية ، انطلقت من ذوق عصرها المتواضع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر .
وفي هذه الحقيقة من الزمن بدأت المجلات العربية بالظهور ، فأخذ بعض القاد بنقد (*) تلك المؤلفات ونشروا ذلك النقد في وسائل الايصال المتاحة آنذاك ، وقد مثلت المجلات وسيلة النشر المناسبة ، سواء بتشجيع المجلات للنقاد علي النقد أو استثمار النقاد للأبواب التي خصصتها تلك المجلات لهذا الغرض المتمثل في نقد الكتب أو الاقتصاد علي عرضها أو تقريظها .
وهذا البحث يحاول كشف ذلك الجهد النقدي المنصب علي تلك المؤلفات الأدبية وقراءاته في ضوء عصره ، وتحليله بوصفه خطاباً نقدياً صادراً عن بنية معرفة لها مقوماتها وخصوصياتها التي أدت إلي ارتكاز ذلك النقد علي نقطة واحدة تمثلت في ذلك الهاجس التصويبي الذي وسم نقد المرحلة بميسمه علي الرغم من أن الدارس عن الأطروحات الواردة في النقد التطبيقي ، الذي هو محور بحثنا هذا .
___________
* باحث مصري .
لا شك في أن سمة العصر الحديث – منذ بداية – أنه عصر الاتصالات بكل آلياتها ووسائطها وتمثل الصحف ( مجلات وجرائد ) إحدي أهم تلك الوسائط في القرن التاسع عشر ، وقد اضطلعت الصحف بمهمة نشر المعارف المختلفة وتنوير العقول ، حتي صار حجم انتشارها دليلاً علي رقي أمة من الأمم .
ومعلوم أن الأمة العربية عاشت عصور الرقي الحضاري وانتشار المعرفة بإنتشار حركة التأليف إبان العصر العباسي ، وما تلاه من عصور لصيقة به ، ثم قدر لهذه الامة أن تتراجع لتنكفئ حضارياً ، واستمر الحال كذلك حتي لاحت بوادر الاستفاقة في العصر الحديث وبدأت الأمة تتلمس طريقها إلي النور لنفهم أبعاد تلك الغيبوبة وما صاحبها من تداعيات أوصلتها إلي حالة من العفن الفكري .
ومن بوادر نهوضها نشوء الصحافة العربية ، التي جاءت نتيجة لنمو الوعي ، وفي الوقت نفسه فقد أسهمت الصحافة بشكل مباشر في نشر ذلك الوعي وتعميقه .
ولم تكن البقاع العربية متساوية الحظ من حيث درجة الاستجابة للنهوض الحضاري بسبب اختلاف مقومات البلدان العربية ، من حيث جغرافيتها وتكوينها الاجتماعي ودرجة تماسها مع الحضارة الغربية .. إلخ فبرزت بيئتان عربيتان رائدتان شكلنا عاملي إشعاع عربيين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
ومن بين تجليات ذلك الإشعاع تأسيس الصحف أولاً ، وتأليف الكتب ونشرها ثانياً ، وهاتان البيئتان هما الشام وبيئة مصر . ومركزاهما بيروت والقاهرة ، إذ شهدت المدينتان حركة واسعة نسبياً من حيث التأليف والنشر وإصدار الصحف ، فمن المجلات المهمة التي شكلت ثقلاً ثقافياً واضحاً في الحياة الأدبية والعلمية آنذاك مجلة والمقتطف التي صدرت في حزيران في العام 1876م .
وتعد المقتطف شيخ المجلات العربية (1) ، ونظام صدورها شهري في مدينة بيروت ، ثم انتقلت المجلة إلي القاهرة عام 1884 م إثر اشتداد مراقبة الدولة العثمانية علي المطبوعات ومعلوم أن مدينة بيروت كانت تابعة لحكم العثمانيين (2) ، وكانت مجلة المقتطف ، من أكثر المجلات العربية الراقية انتشاراً ، بل من عظمها شهرة وأوسعها مادة وأدقها بعثاً وأجلها فائدة ( … ) لو جمعت موادها العديدة علي ترتيب حروف الهجاء لتألفت منها دائرة معارف (3) ، وهذه المجلة متنوعة الاتجاهات المعرفية فهي عملية صناعية زراعية .. وللأدب منها نصيب وافر ومجلة الهلال هي المجلة الثانية التي استقي منها البحث مادته وهي مجلة علمية تاريخية أدبية (4) ، أنشأها الأديب جرجي زيدان في مصر ، وصدورها شهري ، وأول عدد منها صدر في العام 1892 م ، ولم يتوقف صدورها خلال القرن التاسع عشر .
وثالثة المجلات المعتمدة في البحث مجلة المشرق لمنشئها الأب لويس شيخوا اليسوعي وهذه المجلة كانت تصدر مرتين في الشهر ..وتحوي مباحث علمية وأدبية وأول عدد صدر منها كان في العام 1898 م (5) .
ورابعة المجلات مجلة الضياء ، وهي مجلة علمية أدبية صناعية لصاحبها الشيخ ابراهيم اليازجي ، الذي أصدرها بمصر عام 1889 م ، وتصدر مرتين في الشهر (6). هذه هي أهم المجلات التي كانت تصدر في مصر والشام ، أما في البلدان العربية الأخري فلم يكن للصحافة شأن يذكر ، ولاسيما المجلات التي تعني بما نحن معنيون به في بحثنا هذا وكثير من تلك البلدان العربية لم تكن تصدر فيها أي مجلة خلال القرن التاسع عشر (7) .
(1)
لا شك في أن نقد أية دراسة أدبية يمكن أن ينطلق من أكر من منطلق ، وأن يتجلي بأكثر من مستوي وبأكثر من آلية نقدية لأن مشروعية وجود الدراسة الأدبية إنما ينبع م حتمية احتوائها مضموناً لها سمة الخيرية الخالية من أي ابتكار أو تفرد للمؤلف أم كانت أفكاراً متفردة وهذا المضمون المطروح في الدراسة الادبية لابد أنه حمل علي وفق نظام تأليفي يؤدي إلي إيصال ذلك المضمون بترتيب معقول نابع من طبيعة الموضوع الكلي الذي يعالجه مضمون الدراسة ، فضلاً عن أن ذلك المضمون المطروح قد أنتج بآلية تفكير معية مستندة إلي مرجعيات مختلفة ، وهذا النظام بشقيه النظام التأليفي ونظام التفكير ، يؤلف ما يسمي بمنهج الدراسة الأدبية موضع النقد .
وهنا المضمون حملته لغة ، وهذه اللغة يمكن أن تكون قد اختفت سواء في مرجعيتها المعيارية ( صرفاً ونحواً .. ) أو دقتها التركيبية المفضية إلي أدبية تلك الدراسة بوصفها دراسة أدبية ينتظر منها مستوي معين من نكهية الأدبية .
ومن هنا صار مشروعاً للنقد – من حيث المبدأ – أن يخوض بحرية في هذه المسارات الثلاثة الرئيسية : المضمون ، المنهج ، اللغة غير أن مستوياتخوض النقد في هذه المسارات متباينة أيضاً فمن النقد ما يمكن أن يقف عند مستوي حدود المعلوماتية أي اقتصادر دور النقد علي تقديم معلومات سواء في مسار المضمون أو المنهج أو اللغة وربما في المسارات الثلاثة : مجتمعة أي أن دورة النقد لا تتعدي دائرة التصويب .
ومن النقد ما يتجاوز هذا المستوي المعلوماتي إلي مستوي أكثر أهمة يتمثل بتفاعل النقد مع كل مسارات التأليف الثلاثة أو بعضها بحثاً عن شئ جديد ، أو إيحاء بجديد ، وهو – أي النقد – بهذا المستوي يكون عنصراً خلافاً وكاشفاً لعوالم جديدة وآفاق جديدة في المضمون أو المنهج أو اللغة ، وصار يبحث فيما يمكن تطويره في مسار المضمون المنقود أو اللغة المنقودة والحلقات المعرفية لتلك المسارات لفتح آفاق جديدة لعالم التأليف .
والسؤال هنا هو : عند عتبة أي مستوي توقف التأليف الأدبي في القرن التاسع عشر ؟! إن استقراء المتاح من نقد التأليف الأدبي العربي في القرن التاسع عشر يكشف عن أن ذلك النقد لم يتمكن من تجاوز حدود النقد المعلوماتي سواء في مسار نقد المضمون أم مسار نقد المنهج ، أم في مسار النقد اللغوي ، فنقد مجلة المقتطف مثلاً
– وهي من أهم المجلات آنذاك – لكتاب ، لامية العرب يصوب للمؤلف ضبطه مفردة الأعلام بالرفع في حين أن مجري الكلام يحتم عليه ضطبها في حالة جر ، وأن المؤلف أخطأ في ضبط مفردات الأبيات الشعرية التي أوردها في كتابه ، والمؤلف أيضاً نون بعض قواف ، حيث كان ينبغي ترك التنوين وتصويبات أخري لا تخرج عن كونها تصويبات صرفية أو نحوية أو دلالية ، فالمؤلف : قال معدي بن براق وصوابه عمر بن براق ، ونون القوافي والصواب ترك التنوين لأن القافية لا تنون ، وجعل الشث والطباق علمي مكانين وهما إسما شجرين (8) ، ولا يخرج الأمر عن سياق التصويب في حقل الأحكام إذا وضع الناقد قصيدة الشنفري في الطبقة الثانية من شعراء العرب ليصوب بذلك حكماً نقدياً أصدره المؤلف الذي عد هذه القصيدة من أفضل القصائد العربية (9) ، فالنقد هنا خاضع لمنطق تصدير معلومات لغوية وتصويب أحكام نقدية .
ومن النماذج النقدية الاخري ما قدمته مجلة الهلال نقداً لكتاب أراجيز العرب ، لمؤلفه الشيخ محمد توفيق البكري ، مقارنة إياه بكتاب الحماسة لأبي تمام الطائي ، غير أن ذلك النقد لم يتجاوز عتبة تصويبة المنهج التأليفي للكتاب ، لأن المؤلف – في نظر المجلة – لم يرتب كتابه علي هيئة أبواب ، كالمديح والرثاء .. إلخ ، وإنه – أي المؤلف – لم يشفع التفسير اللغوي الذي أثبته بإيضاح تاريخي أو جغرافي أو أدبي .. وبهذا تكون المجلة قد أضاعت فرصة سانحة علي طريق النقد المنتج ، لأنها بدأت بمنهج موازنة بين الكتاب المنقود ” أراجيز العرب ” وكتاب الحماسة لأبي تمام إذ كان بالإمكان استثمار ذلك لإنتاج نقد معرفي بناء ، في حين أن نقدها لم يثمر إلا عن معلوماتية مستقاة من منهح تأليفي تراثي ، وهذه المعلوماتية صيغت بآلية تصويبية فالمؤلف في نظر الناقد أخطأ في منهجه التأليفي ، والصواب – في نظر الناقد – أن يترسم منهج أبي تمام في حماسته أما مجلة المقتطف فقد أصدرت حكمها النقدي علي هذا الكتاب ، وجاء فيها : ” فأخذنا نقلب الكتاب فنتصفح الأرجوزة بعد الأرجوزة ونتلو ما علي أبياتها من الشرح ( .. ) حتي أتينا علي جانب كبير منه فأغلقناه آسفين علي الوقت الثمين الذي أضاعه المؤلف في جمعه وتحريره لقلة نفعه (11) .
وأعربت المجلة علي رغبتها بأن يتولي أحد النقاد هذا الكتاب بالنقد الممحص فاستجاب محمد المويلحي لتلك الرغبة وشرع بذلك النقد(12) ، فدار نقده في مسار نقد المنهج ، فالمؤلف – بحسب ما يطرح الناقد – قد أهمل إسناد مرورياته التراثية ، إذ روي أن الرسول صلي الله عليه وسلم ، كان يحب سماع الشعر ، إلا أنه لم يسند هذه الرواية ويحيلنا إلي مصدرها الذي اعتمد عليه كما أن المؤلف فضل الرجز علي أصناف الشعر الأخري مستأنساً بما قاله أبوهريرة حين أنشده الحجاج رجزا إذ قال : ” كان النبي صلي الله عليه وسلم يعجبه نحو هذا من الشعر ” فرأي الناقد أن المؤلف قد استنتج من هذه الرواية ما لا يمكن أن تقضي إليه وحملها ما لا تحمل فقول الرسول صلي الله عليه وسلم ، لا يقصر الإعجاب علي الرجز دون غيره فضلاً عن أن نصدر الإعجاب متأن من مضمون ذلك الشعر لا شكله الفني .
لذا راح الناقد يثبت في نقده مجموعة أدلة أشارت إلي أن العرب قد فضلت الشعر علي الرجز وخلص إلي أن المؤلف لم يخطئ في منزلة الرجز عند العرب فحسب وإنما أشاع الخلل في الكتاب كله ، إذ صدر جامع الاراجيز كتابه بقوله : ( هذا الكتاب وضعناه في ذكر المختار من أراجيز العرب وتفسير غريبها وشرح معانيها وتبيين مقاصدها ) ، ومن يتصفح الكتاب يجد أن جامعه لم يستوف شيئاً مما جاء في هذا القول وقد قصر كل التقصير عن الوصول إلي هذا البيان . وأشوي الغرض وأخطأ الإصابة (13) . والمؤلف – بحسب رأي الناقد – لم ينهج في شرحه النهج المعقول ،فهو لم يفهم القارئ – الغامض من معني الأبيات وغريب المفردات فكأنه يكتب تلغرافاً صادراً من ابيوت التجارية ، وقد يترك ألفاظاً عسيرة الفهم ، قد ماتت دلالاتها لدي قراء القرن التاسع عشر ، وقد يسهب في شرح ما هو واضح ولا يحتاج إلي كثير شرح وتوضيح وهو في شرحه قد يستعين بإجتزاء جمل من الشعر موضح الشرح لينقلها إلي الشرح نفسه فيستحيل شرحه بذلك إلي تشويش لفهم القارئ فضلاً عن أن المؤلف لم يبين للقارئ المناسبة التي قيلت فيها تلك الأراجيز الواردة في كتابه ، وأغفل أيضاً التواريخ التي قيلت فيها تلك الأراجيز (14) .
ونقد المويلحي وإن كان يمثل النقطة الأقرب إلي تخوم النقد المعرفي في كل نقد التأليف العربي في القرن التاسع عشر – إلا أن هذا النقد في حقيقته ما زال معلوماتياً وما زال بعيداً عن النقد المعرفي النابع من علاقة تخصيب النقد للتأليف ونقد المويلحي ما زال يدور في آلية التصويب ولا سيما التصويب في المسار المنهجي للتأليف .. وإن السبب الذي جعل هذا النقد يتصدر نقد تلك الحقبة هو إتسامه بمجموعة من المؤهلات التي ساعدته علي تخطي الشائع من نقد المرحلة ، إذ اتسم نقد المويلحي بالتثبت والإستقصاء والاعتماد علي الأمثلة الكثيرة واستنداه إلي حيثيات معرفية في حكمه النقدي رافضاً بذلك النقد الذي يلقي جزافاً .. مثلما نقد صراحة ذلك التقريظ والثناء الذي يغدقه بعض المشتغلين بنقد التأليف علي بعض المؤلفات ومؤلفيها ، إذ رأي المويلحي أنها تضليل للقارئ فالتقاريظ التي أرفقها البكري مؤلف الكتاب المنفرد في نظر المويلحي لا ينبغي أن يلتفت إليها لأنها لا تعبر عما في الكتاب بل يصح معك أن تنقلها من كتاب إلي آخر إلي ما يشاء إليه بعد رفع اسم الكتاب والمؤلف منها ، وهي كما هي عليه لدينا اليوم مثل شهادة الفقر التي يسارع كل إنسان إلي التوقيع عليها لينال الأجر(15) .
ومن زاوية أخري فإن نقد المويلحي الجري ، هذا يكتسب أهمية مرحلية مضافة هي كونه موجهاً إلي كتاب يكتسب مؤلفه أهمية اجتماعية بوصفه شيخ مشايخ الطرق الصوفية . ولكن الذي يبدو هو أن المويلحي بالإضافة إلي جرأته الشخصية فقد استند إلي جرأة مجلة المقتطف أيضاً تلك المجلة التي تعد من أرقي المجلات العربية – آنذاك وأجرتها في الطرح النقدي ، ولعل ما ينبغي أن يذكر هنا دليلاً علي ذلك ، أن مجلة المقتطف الت سبق لها أن نقدت هذا الكتاب قبل أن ينقده المويلحي تلقت من مؤلف الكتاب المنقود – البكري – مقالاً جاءت فيه مجموعة اعتراضات علي نقد مجلة المقتطف لكتابه فردت عليه المقتطف رداً حازماً وقوياً جاء فيه : تقتضي آداب الإنتقاد أن من يعرض كتابه للنقد لا يرد علي ما يقال فيه من استحسان أو استهجان ، وإنما – يجوز له أن يرد علي من يخطئ في فهم شئ من أقواله أو يحمله علي غير المقصود منه ورده حينئذ من قبيل التفسير والتوضيح ودفع الشبهات لا من قبيل المناظرة والمساجلة لأن من يكلف غيره قراءة كتاب يبدي رأيه فيه ليس م كرم الأخلاق أن يناقش رأيه ويجازي جزاء سنمار (16) .
ومجلة المقتطف بذلك إنما تحدد معايير أخلاقية سليمة لتعامل المؤلف مع الناقد فجرأة المقتطف لا تعني الخشونة في النقد بل الشدة والحزم حين تدعو إلي ذلك ضرورة ولاسيم ما يتعلق بجوانب كتدخل المؤلف في النقد الذي وجهته المجلة لكتابه ، وإن كانت هذه الشدة قد مثلت سلبية في مرحلته ولا سيما حين يتم التوغل في الشدة إذ كانت المرحلة في حاجة إلي تأسيس جسور ثقة ودية بين الناقد والمؤلف ، وليس في حاجة إلي تأسس مساحات توعر بينهما ، وهي في حاجة إلي نقد هادئ يؤسس لحوار يدفع بحركة التأليف إلي الإمام وذا جسدته المجلة نفسها في بعض نقدها مثل نقدها لكتاب مفتاح الأفكار في النثر المختار إذ اتسم ذلك النقد بالرشاقة والشفافية والابتعاد عن التوتر إذ جاء فيه ، ونود لو أن حضرة الشيخ الفاضل مؤلف شمل هذا الكتاب حلاه بحلي أربع تزيد نفعه وتقرب شأوه من المجتبي : الأولي إسناد كل شذرة من شذور لا بعضها إلي الكتاب الذي نقله عنه ، والثانية ضبط بعض كلماته بالشكل وفصل جملة بالنقط والثالثة طبع الشرح بحروف صغيرة تميزه عن المتن ، والرابعة هي أجلها كلها الإكثار من الحواشي والشروح فإن هذه الشذور كثيرة الغوامض (17) .
واجترحت مجلة الضياء لنفسها طريقاً خاصاً لنقد كتاب مجاني الأدب في حدائق العرب لمؤلفه الأب لويس شيخو البسوعي ، إذ تلقت عدداً من الأسئلة من قرائها بشأن هذا الكتاب وراحت تجيب عن تلك الأسئلة فتبين الاخطاء والتصحيفات وتصوب كل ذلك ويبدو أن القراء استغلوا ميل المجلة إلي التشهير والتخطئة في نقدها فأسرفوا في الأسئلة .. فأحد قراء المجلة سأل عن فساد الوزن في الشرط الأول في الأبيات الواردة في الكتاب ، وهو : وكأنما اللازورد مخرم بالخط في ورق السماء سطورا
فأجابت المحلة قائلة إن المسألة هذه من غرائب المسائل بل طرائف النكات لأن الشاعر أراد وكأن ماء اللازورد ، فوصل الناسخ لفظة ماء بـ كأن فصارت كأنما ولما نقص الوزن بسقوط همزة ماء قطع المصحح همزة آل من اللازود فعاد الوزن واللفظ جميعاً ، وحينئذ فالبيت غلط وصواب في آن واحد ، أي غلط في عين القارئ وصواب في أذن السامع وهو لغز لطيف (18) .
وأورد قارئ آخر مجموعة من الأسئلة يستفسر فيها عن عدد من المسائل التي تخص هذا الكتاب منها أنه ورد في الجزء الرابع من الكتاب نسبة بيتين من الشعر للبهاء زعير لم يجدهما السائل في ديوان الشاعر ، فأجابت المجلة بأنهما لزهير بن أبى سلمى وليس للبهاء زهير . وأضافت المجلة أنه وقع للمؤلف فى هذين البيتين نادرة غريبة لا ندرى كيف يقع مثل ذلك وهى أنه استبدل عجزى البيتين بعضهما ببعض (19) واسترسلت مجلة لضياء (20) بالاجابة عن أسئلة القراء ، كاشفة عن ثراء معلوماتى فى مخرون نقدها . ولاسيما فى مسارى النقد المضمونى واللغوى . وفى نقدها المضمونى لم تتجاوز المضامين الاخبارية . وهى – أى المجلة – تعتمد فى كل نقدها على آلية التصويب أخطأ المؤلف فى كذا والصواب كذا .. واسترسال المجلة بذلك النقد أوصل المؤلف – الأب لويس شيخو – إلى مرحلة ضاق فيها صدره ، فكتب فى مجلته ” المشرق ” ردودآ طويلة على ذلك النقد ، مبينآ أن صاحب مجلة ” الضياء ” بتخطئته لمواضع كثيرة فى كتابه لم يكن منصفا فى إهمال حسنات الكتاب وتركيزه على السيئات واستلالها ، إذ ” ظل يفتش عن العيب والنقص في كتابنا مجاني الأدب ،وليته أخذ طبعتنا الأخيرة ، وإنه – أي صاحب الضياء – يسكت عن الحسنات ويشهر السيئات ، وأن الكتاب كبير الحجم ووجود نحو عشرين تصحيفاً يعد نسبة ضئيلة إذا قيست بحجم كتاب يشتمل علي أربعة آلاف صفحة وبأننا بيناً لصاحب الضياء بأنه هو المخطئ في كثير مما ذكر في انتقاده ، وبأن صاحب الضياء ( إبراهيم اليازجي ) أراد أن يتشفي بتفلية مجموعنا مجاني الأدب ، لكننا نراه في انتقاده كحطاب ليل يخطئ كثيراً(21) .
فهاجس التصويب كان أساس رئيساً نهض عليه خطاب نقد التأليف آنذاك وهذا الهاجس نفسه صار سمة رئيسة من سمات ذلك الخطاب ، وهاجس التصويبهذا وجدناه أحياناً يستحيل إلي هاجس تخطئة وهو بهذا يكون قد أسرف في سلبيته من جهة وخطورته علي حركة التأليف من جهة أخري ، إذ انتج أجواء مشحونة بالتوتر فصلت مواضع التحام النقد البرئ بالتأليف لتخصيب التأليف ثم أن هاجس التخطئة أفرز سلبيات مضافة تجسدت في تضخيم الأخطاء والتهكم والسخرية من المؤلف .. إلخ فمثلاً نقد الناقد ثلاثة أبيات مختلة الوزن في الكتاب المنقود وعلق عليها الناقد قائلاً ، كذا نقلنا هذه الأبيات برسمها وانظر إلي أي بحر تردها أما ألفاظها فأكثرها فيما نظن من البحر الهندي (22) ، وعنوان مقالته النقدية نفسه يكشف شكلاً من أشكال خطابه النقدي التهكمي إذ جاء جزءاً من نقده – بعنوان ” عي الصمت أحسن من عي المنطق في إشارة إلي ردود المؤلف علي نقده ، إذ قال : وددنا لحضرة الأب شيخولو ثبت علي ما وعد به آخراً من أن يعيرنا سكوته ويمسك عن الكلام فيما نظهر من أغلاطه وإن كنا نود أن لا يفوتنا سماع أجوبته والتفكه بما يورد علينا من فنون احتجاجه (23) . ويبدو جلياً – من خلال ما سبق ذكره من أمثلة – توتر خطاب نقد التأليف وحدته ، وهذا تمظهر في أشكال مختلفة في لغة ذلك الخطاب، وفي إجراءات طرحه ، وفي تهكمه .. إلخ فأضيفت هذه العناصر إلي الهاجس الأساس لذلك النقد ، وهو هاجس التصويب للمؤلف ، ذلك الهاجس الذي تجاوز التصويب في أحيان كثيرة إلي هاجس تخطئة فكأن لا هم للناقد سوي البحث عن أخطاء المؤلف وإظهارها .
وماكان أغني الحياة الأدبية آنذاك عن هذا النوع من خطاب نقد التأليف التطبيقي السلبي ، لأنه دخل عنصراً مساهماً – بشكل أو بآخر- في تحجيم حركة التأليف الأدبي في مرحلة ه أحوج ما تكون إلي تشجيعها ، إذ شكلت تلك المرحلة بدايات التأليف الأدبي عند العرب في العصر الحديث .
وهذا ليس معناه أن المرحلة خلت خلواً تاماً في نقد هادئ أنيق يقف مبرزاً للجوانب الإيجابية من الكتاب المفقود ويقف عند سلبيات الكتاب ولكنه يقتصر علي تلك السلبيات ، إذ ليس مسؤوليته مقتصرة علي نبش الأخطاء الصغيرة والكبيرة وتجاهل مبدأ الجواز ومبدأ اختلاف الرأي .. إلخ فمن هذا النقد ما أوردته مجلة المقتطف نقداً لكتاب فلسفة البلاغة لجبر ضومط إذ عرضت الكتاب في مقالة نقدية اتسمت بالدقة والشمول والإيجابية ، وخلصت إلي القول ، هذه فلسفة البلاغة ، وهذا هو الكتاب الذ نود أن يدرس في كل المدارس وأن ينجو البيانيون نحوه في تأليف كتاب البيان (24). ومثل هذا النقد نجده أيضاً في نقد مجلة المقتطف لكتاب المعين لمؤلفه سعيد الشرتوني الذي تناول تعليم طرق الإنشاء وأساليب البلاغة (25) . ولكن حجم هذا النقد الهادئ لا يشكل نسبة مهمة إزاء النسبة الكبيرة لذلك النقد المشحون بالسلبية علي الرغم من تأكيدنا علي اهمية عنصر التصويب بذاته بوصفه مستوي من مستويات نشر المعلومة الصحيحة وهو بهذا الوصف عنصر إيجابي ، ولكن سلبية التصويب تنبع حين يستحيل إلي هاجس هذا أولاً وحين يبالغ في هذا التصويب ثانياً ، وحين ينزلق التصويب إلي التخطئة ثالثاً ، ويمكن أن نقول أيضاً أن التصويب بطبيعته وبوصفه إجراء نقدياً لإثارة مساحات من التوتر تفصل المؤلف عن الناقد لأن التصويب يحمل بين طياته بذور الاستفزاز .
(2)
إن استقصاء النقد التطبيقي العربي للمؤلفات الأدبية في القرن التاسع عشر يكشف عن قلة ذلك النقد من حيث الكم ، وإن فرز ذلك النقد ودراسة العوامل التي أدت إلي قلته ، يوقفنا علي ثلاثة أسباب رئيسية ساهمت في أن ينكون ذلك النقد بهذا الحجم فالسبب الأول يعود إلي شحة الكتب الأدبية العربية الصادرة آنذاك ، والنقد إنما يقوم علي الكتاب الأدبي فإذا شحت الكتب الأدبية الصادرة شح النقد القائم عليها ففي تلك الحقبة كان الاهتمام العربي مركزاً علي التأليف العلمي ونشره (26) ، سواء كان تأليفاً عربياً – وهو القليل جداً – أم ترجمة لمؤلفات أجنبية ، إذ ساهمت المؤسسة التعليمية في توجيه التأليف من خلال منحها الأولوية للتأليف العلمي استجابة لحاجات منهجية تعليمية معاصرة تنسجم وروح النهضة في حين استعاضت عن المؤلفات الأدبية الحديثة بالمؤلفات الأدبية التراثية ، مع رافد آخر وهو المؤلفات الحديثة القائمة علي الجمع والتصنيف ،وتصفح المجلات الرئيسية التي كانت تصدر آنذاك يكشف عن ذلك بوضوح إذ يطالعنا عرضها المكثف ونقدها للكتب الطبية والعلمية الصادرة آنذاك والقائمة بمجملها علي الترجمة ، بما في ذلك روايات أدبية مترجمة ، ولكن لم يطالعنا – مثلاً – كتاب نقدي مترجم أو دراسة أدبية مترجمة .
فنشوء حركة التأليف في العصرالحديث كان نشوءاً مزدوجاً ، إذا نشأ خطوطاً متوازية لا تطمح إلي التفاعل ، وكأنها تؤسس لتشكيل رؤية عربية ملفقة ، ففي الجانب العلمي كان الاقتصار علي المؤلفات الغربية المترجمة ، وهذا هو الخط الأول المستقل ، وأما في الجانب والأدبي فوجد خطان وهما متوازيان أيضاً ، الأول المؤلفات الأدبية الإبداعية المترجمة والتي شكلت الروايات والقصص مادتها الرئيسية والخط الأدبي الثاني هو الاقتصار علي العناية بنشر الموروث الأدبي العربي (27) ، شعراً ونثراً ونقداً – وإن كانت تلك المؤلفات قليلة نسبياً إذا ما قورنت بالمؤلفات العلمية كما ذكرنا
والسبب الثاني في شحة النقد التطبيقي يعود إلي الإشكالية المتعلقة بالتمويل والمتداخلة مع مسألة العدد الضئيل للنقاد القادرين علي النقد التطبيقي . ففي الوقت الذ نجد فيه عدد النقاد قليلاً فإننا نجد قدرة الصحف التمويلية لذلك النقد أقل ، وقد أشار محرر المقتطف إلي ذلك صراحة ، حين قال إن : ” عدد القادرين علي الانتقاد قليل جداً ولا نكاد نعرف واحداً منهم يؤجر قلمه له .
والمال عند أصحاب الجرائد (** ) العلمية والعربية غير موفر كما تعلمون(28) ، فالمشكلة إذا متداخلة مقسومة بين مسألة عدد النقاد وضعف القدرة التمويلية للصحف فالمردود المالي علي المشتغل بنقد المؤلفات – بشكل عام – أقل من أن يكفيه للتفرغ لذلك النقد .
فالكتاب الذي فيه مائتا صفحة لا يسهل علي المنتقد أن يقرأه بالإمعان لإظهار حسناته سيئاته في أقل من أسبوعين فإذا انقطع عن كل أشغاله واقتصر علي تلاوة الكتب وانتقادها لم يستطع أن ينقد أكثر من كتابين في الشهر (29) .
والسبب الثالث في قلة النقد التطبقي آنذاك هو ضعف الوعي النقدي للقارئ والمؤلف ، فآفاق وعي معظم القراء آنذاك لم تكن من السعة بحيث تتجاوز الفهم المسطح للعلاقة بين أهمية كتاب ما والنقد المنصب عليه ، فقد يتصور القراء حينها أن ذلك الكتاب لا يستحق الاقتناء ، لأن ثمة نقد وقف علي بعض سلبياته ، مما كان يؤدي إلي كساد سوق الكتب وبالتالي إلحاق الضرر بالمؤلف ، وهذا ينعكس علي الحياة الأدبية بشكل عام ، إذ يؤدي إلي انحسار حركة التأليف ، لأن الناقد – ضمن هذه الرؤية – خصم للمؤلف والمؤلف سيئ الظن ، لأنه بذلك – في نظر المؤلف – يؤلب القراء ضد المؤلف .
وضمن هذه التداعيات التي تحكم ثلاثية العلاقة بين القارئ والمؤلف والناقد تفضي في نهايتها إلي المواجهة الشخصية بين المؤلف والناقد .
وكثيراً ما أدت هذه التداعيات إلي إحجام بعض النقاد عن النقد في نهايات القرن التاسع عشر وقد سلط يعقوب صروف- وهو أحد النقاد المعنيين بنشر النقد أيضاً – سلط الضوء علي هذه المسألة بوضوح حيث قال : “طالما كانت النفس تحدثنا في نقد المؤلفات والمقالات جرياً علي عادة الجرائد والمجلات الأوروبية ونحن نمسكها عنه مخافة أن يضر فيقل عدد الراغبين في نشر العلوم ونكسد العلم بعد أخذها الرواج(30).
وثمة ملاحظة طريفة تكشف المفارقة التي نحن بصدد تحديد أبعادها المتمثلة في علاقة التوتر بين المؤلف والناقد والتي ساهمت إلي حد كبير في تحجيم النقد من حيث الكم ، إذ صدرت المجلة المقتطف نقدها لكتاب ، أراجيز العرب ، قائلة : ” فلما وقع نظرنا علي كتاب أراجيز العرب الذي ألفه صاحب السماحة السيد محمد توفيق البكري شيخ المشايخ في القطر المصري قلنا هذا الكتاب يستحق الانتقاد لأن مؤلفه لم يؤلفه للاكتساب ولا هو ممن يخشي أن تعرض بضاعته للنقد ” (31) .
ولا شك أن المؤلف ليس وحده المسؤولعن تلك العلاقة المتشنجة مع الناقد والتوجس من النقد فمسؤولية تتأتي في جهة عدم احترامه لسلطة النقد في حين تتجسد مسؤولية القارئ في قلة وعيه النقدي وعدم فهمه لمهمة النقد ومغزاه . ولكن مسؤولية الناقد في ذلك التوتر تتمثل في أنه كان محكوماً بهاجس تصيد أخطاء المؤلفين والتشهير بهم من خلال الانتقالية وتضخيم ما هو سلبي في الكتاب وتجاهل ما هو إيجابي فيه .. مما ساهم في إشاعة ذلك التوجس والتخوف الذي يساور المؤلف تجاه النقد المنصب علي كتابه والخطاب النقدي بوجه عام يمكنه أن ينهض بأدوار خطيرة في كلا الاتجاهين، السلبي والإيجابي في نفس الوقت الذي يمكنه توجيه حركة التأليف ودفعها من خلال وعي ذلك الخطاب النقدي لمسؤوليته وتمييزه بين إستراتيجية تلك المسؤولية وآنيتها .
فآنية المرحلة آنذاك والمتمثلة في كونها مرحلة بدايات تأسيس للتأليف الأدبي العربي المعاصر ونشره لم تكن تحتمل توتر ذلك الخطاب ، ولم تكن تحتمل انتقالية النقد، ولم تكن تحتمل هيمنة هاجس التصويب الذي تحول في أحيان كثيرة إلي هاجس تخطئة .. لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلي تحجيم التأليف الأدبي أو حتي ضموره فيما لو تعاضد هذا الأمر مع العوامل الأخري مثل تشجيع نشر الكتب العلمية لأغراض تعليمية في حين يتم الاعتماد علي المؤلفات التراثية في الحقل الأدبي .. وهذا هو الذي حصل في القرن التاسع عشر . فنقد التأليف لو نهض بدوره – آنذاك – بوعي شمولي لمرحلته لأعطي حركة التأليف الأدبي زخماً مضاعفاً ، ولما اقتصر علي إنتاج تصويبات جزئية هنا وهناك .. وإنما من خلال المساهمة الفاعلة مع حركة التأليف لإنتاج معرفي مستقبلي أوسع وأشمل ، من خلال إقامة حوار هادئ مع التأليف وإقامة شراكة معرفية نبيلة مع المؤلف ، بدلاً من لعبة النقض والتسفيه التي مارسها النقد في القرن التاسع عشر ، فالناقد ليس في حاجة إلي إثبات وجوده من خلال سحق المؤلف وإلغائه .
الهوامــش :
(*) معلوم أن مصطلح “نقد ” المعاصر هو المصطلح البديل الذي تجاوز مصطلح الانتقادات الذي كان شائعاً في القرن التاسع عشر .
(1) ينظر : المقتطق وأثره في النهضة الشرقة – سعيد شقير ، مجلة المقتطف : م 69 (1926م) ، ص 7-15 .
(2) ينظر : تاريخ الصحافة العربية ، الفيكونت فيليب دي طرازي ، بيروت ، المطبعة الأدبية ، 1913 م ، 2 : 52- 56 .
(3) المصدر نفسه ، 2 : 54 .
(4) ينظر : مجلة “الهلال ” : م1 (1892م) ، ج1 ، فاتحة الجزء الأول .
(5) ينظر ” مجلة المشرق ، م1 ، 1898 م ، ج1 .
(6) ينظر مجلة الضياء ، م1 ، 1989 م ، ج1 .
(7) ينظر : تاريخ الصحافة العربية : 2 ، 206 ، وينظر أيضاً تاريخ الصحافة العراقية ، عبدالرازق الحسيني ، بغداد ، مطبعة الزهراء ، ط1 ، 1957 م ، ص 25 ، وينظر أيضاً : تاريخ الصحافة العربية نشأتها وتطورها ، محمد صالحه وسميح أبومغلي الأردن ، عمان ، دار الكتاب العربي ، د. ت : 130 – 134 .
(8) ينظر : لامية العرب ، مجلة المقتطف ، م7 ، 1881 م ، ح7 ، ص 416 – 417
(9) المصدر ، ص 417 .
(10) ينظر : باب التفريط والانتقاد ، مجلة الهلال ، م4 ، 1895 م ، ج6 ، ص 238– 240 .
(11) باب الهدايا والتفاريط ، كتاب أراجيز العرب ، مجلة المقتطف ، م19 ، 1895 ، ج11 ، ص 856 .
(12) ينظر : باب المناظرة والمراسلة ، مجلة المقتطف ، م15 ، 1895 م ، ج12 ، ص 938 .
(13) المصدر نفسه ، ص 938 .
(14) المصدر نفسه ، ص 938 .
(15) مجلة المقتطف ، م20 ، 1896 م ، ج1 ، ص 50-51 .
(16) باب التفريط والانتقاد ، كتاب مفتاح الأفكار من النثر المختار ، مجلة امقتطف م22 ، 1898 م ، ج9 ، ص 706 – 707 .
(17) باب أسئلة وأجوبتها ، مجلة الضياء ، م2 ، 1899م ، ج3 ، ص 84- 85.
(18) ينظر المصدر نفسه ، ص 86 .
(19) ينظر : باب أسئلة وأجوبتها ، مجلة الضياء ، م2 ، (1900م) ، ج9 ، ص 275- 277 ، ج10 ، ص 301- 308 ، ج12 ، ص 368- 373 .
(20) باب شذرات ، انتقاد صاب الضياء ، مجلة المشرق ، م2 ، 1899 م ، ع 42 ، ص 1132 – 1133 ، وينظر أبعاد تلك الردود ومجالها القائمعلي التخطئة والتصويب في باب شذرات ، م3 ، 1900 م ، ع1 ، ص 44 .
(21) عي الصمت أحسن من عي المنطق ، مجلة الضياء ، م2 ، 1900م ، ج10 ، ص 308
(22) المصدر نفسه ، ص 308 .
(23) باب مطبوعات شرقية جديدة ، مجلة المشرق ، م2 ، 1899م ، ع 19 ، ص 909 .
(24) ينظر : باب التقريظ والانتقاد كتاب المعين ، مجلة المقتطف ، م 24 ، 1900 ، ج1 ، ص 71- 72 .
(25) ينظر : بالتقريظ والانتقاد ، مجلة المقتطف ، م8 ، 1884 م ، ج8 ، ص 12 ، نتائج الأقوال في أمر اضباطنية الأطفال في م 8 ، ج7 ، ص 448 ، مختصر علم الحساب ج6 ، ص 382 ، مسميات تمدد آلات المساحة وغيرها وكثير من الكتب الاخري الخاصة بمناح حياتية وعلمية مختلفة .
(26) ينظر : باب التقريظ والانتقاد ، مجلة البلال ، كل أعداد المجلة الصادرة في القرن التاسع عشر .
(**) لا تعني كلمة الجرائد ما تعنيه اليوم من تخصيص بنوع وشكل معروفين مميزين عن المجلات ، بل أتخذها المحرر وصفاً للصحف الجرائد والمجلات ، بدليل أن حديثه كان يشمل مجلته ، المقتطف نفسها ، ثم إن كلامه جاء إجابة لسؤال يتعلق بقلة النقد في المجلات عامة أورده أحد القراء .
(27) باب المناظرة والمراسلة الانتقاد ، مجلة المقتطف ، م22 ، 1898 م ، ج1 ، ص 58 .
(28) المصدر نفسه ، ص 57 .
(29) الإنتقاد ، مجلة المقتطف ، م12 ، 1887 م ، ج3 ، ص 169 .
(30) بابا الهدايا والتقاريظ كتاب أراجيز العرب ، مجلة المقتطف ، م19 ، 1895 ، ج11 ، ص 856 .
مصــادر البحــث :
الكتب :
1- تاريخ الصحافة العراقية : عبدالرازق الحسني ، بغداد مطبعة الزهراء ، ط1 ، 1957م .
2- تاريخ الصحافة العربية : الفيكونت فيليب دي طرازري ، بيروت ، المطبعة الأدبية ، 1913 م .
3- تاريخ الصحافة العربية نشأتها وتطورها ، محمد صالحة وسميح أبومغلي ، الأردن ، عمان ، دار الكاتب العربي ، د . ث .
المجلات .
1- الضباء : مصر ، مطبعة المعارف ، 1898م .
2- المشرق : لبنان ، بيروت المطبعة الكاثوليكية 1878م .
3- المقتطف : لبنان بيروت ، ثم مصر القاهرة ، 1876م.
4- الهلال : مصر ، القاهرة ، مطبعة التأليف ، 1892م .
مايو 3 2015
الوضعية العلمية والنقد الأدبي …. د. حبيب مؤنسي
الوضعية العلمية والنقد الأدبي
نقد الموضوعية العلمية في المناهج الأدبية
المنهج الاجتماعي نموذجاً
_________________
د. حبيب مؤنسي *
1- الوضعية وهاجس الموضوعية العلمية :
يجد الدارس تلازماً معرفياً بين الموضوعية كأدعاء حافل بالتجرد والالتزام وبين الوضعية كرؤية علمانية ، تصوغ لنفسها الوجود والعالم وفق إدراك حاد قائم علي الملاحظة والتجريب وصياغة القوانين، وكأنها عندما تبلغ عتبة التقنين والوجود نستعد – بعد صياغة القوانين – إلي تجاوز القائم حتي نقدم العالم في سلسلة من القوانين المنتهية التي تم تعليبها سلفاً ، وهي إذ تفعل ذلك تنفي عن ساحتها كل ذاتية وتلحق بها كل نقيصة وقد شاع مصطلح الموضوعية العلمية ، وذاع وكأنه يحوي في ذاته إقصاء للذات الفاعلة وتجاوزها إلي صنيعها وإبداعها مباشرة وكلما تراجعت الذات وراء المطلب الموضوعي ، ورضيت بأن المعرفة عارية من كل روح فردي حققت الوضعية مثلها البعيد وتراجعت الفردية لتحصر كقيمة متحولة في الفن وحده .
لقد حدد فيبر M. WEBER خاصتين للعلم يتم من خلالها بناء الفصل الحاسم بين العلم والفن وقد كان لهما الشأن الكبير عند تابعيه ذلك أنه يري للعلم شرطين : العلم غير منته خاضع لتطور مستمر دون الوصول إلي الكمال والعلم ينشد الموضوعية ويسعي إلي التحرر من الذاتية وأحكام القيمة (1) .
تستند الخاصية الأولي إلي أن الإنجاز المعرفي في تنام مطرد لا يعوق مسيرته البحث في الغايات المطلقة التي أثقلت كاهل التفكير الفلسفي التقليدي وإنما ديدنه التجدد باستمرار ويقوم في التطور علي مبدأ الاستمرار ، والاستثمار ، خلاف التفكير الفلسفي الذي يراوح مكانة في كل المحاولات الفردية التي تسمه بالتراكم ، كما أن شرط الموضوعية يجنب العلم الخوض في أحكام القيمة وتلونها بما يضمن له ” الصدق ” وهو المطلب الذي جعلته الوضعية عنوان معرفتها في جميع الفروع التي أجرت فيها المنهج العلمي ، ما دام العلم في أبسط تعاريفه – عندها – كونه النشاط العقلي الهادف إلي صياغة أحكام واقعية ذات صدق عام ، وهي في ذلك لا تري للصدق من قيمة وإنما هو – عندها – مطابقة النتائج للوقائع وحسب . وإذا أعدنا النظر في التعريف ، ألفينا النشاط العقلي يتوقف عند صياغة الأحكام التي تكون نتيجة التفسير واكتشاف القضايا العامة ، فالنشاط العقلي هو المرجع الأول في المعرفة وسبيله الفهم بيد أن مقوله ، الفهم لا تصح بهذا الإطلاق الوضعي ما دامت العلوم ليست واحدة وإنما اختلافها وباختلاف مواضيع ، فلا يكون الفهم واحداً في هذه وتلك ، لأن العلوم الطبيعية علوم خارجية EXTERNE ، تجريبية ، كمية ، فهي مدركة بالحواس ، أما الإنسانية فهي معارف داخلية INTERNE تتجسد في الخبرات البشرية فهي تدرك بالحدس وشتان بين السبيلين في عملية الفهم ، بل يظل الفهم سبيلاً نسقيا يتخلل المحاولات الإدراكية لإنشاء المعرفة .
يبدو أن أشركنا مصطلحين ومتقابلين في الإدراك البشري ، لا تنكشف الفروق بينهما إلا من خلال تلمس الفروق القائمة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية .
فإذا حاولنا تمييز الحاصل منهما كان الأول وو” معرفة ” Savoir وكان الثاني فهما Comprehension ذلك أن السبيل الموصلة إلي المعرفة (العلم) هي في خواص المنهج المتبع والتأكيد علي :
ويتبدي فيها لون المقاربة الخالية من كل تماهي عاطفي ، الأمر الذي يضمن والموضوعية الكافية لنقاء الناتج وقابليته لأن يكون قانوناً منتهياً في ذلك الجزء من المعرفة .
ويقوم السبيل الموصول إلي الفهم علي الخصائص التالية : تطوير الفكرة عن الموضوع أو الظاهرة من خلال تصور ذاته داخلاً في الموضوع أو جزءاً منه
( تماهي عاطفي ) .
جعل التفسير أو التأويل التعاطفي قنطرة تصل بينه وبين الآخرين ، إدراك المعني عن طريق نوع من الخبرة الحدسية Experience Intuitive (3) .
كم هناك ، كيف هنا ، وفيهما يتجمد الفرق الجوهري في المطلب وفي السبيل الموصل إليهما ، وإذا فهمت هذه الفروق وأكدت الدراسات خصوصية وتتراجع معه الخطوات المنهجية القسرية التي أجريت علي الفنون الأدبية بالأمس واليوم وقد يصعب عليها – في هذا المقال – مراجعة أثرها السيئ في الأدب والنقد – تأخذ نتائجها سريعاً في المنهج التاريخي – علي سبيل التمثيل – لتأكيد مسعاناً في هذه القراءة .
2- النقد وعلم الاجتماع :
يتحتم علينا قبل البدء ونحن نعالج الوضعية العلمية ، في التفكير النقدي أن نشير إلي أن المشروع التاريخي عند لاتسون كان يشير إلي ضرورة قيام ” الفريق القارئ ، الذي يتحامي الظاهرة من جميع أقطارها قصد الوصف والتفسير ولم تتحقق هذه الصورة إلا في بعض الدراسات السيوسيولوجية الحديثة انطلاقاً من برامج تتجاوز حدود الاقتدار الفردي .
فإذا كان المنهج التاريخي يعني بالزمن وصيروته وتوالي الأحداث فيه فإن المنهج الاجتماعي يعني بالمكان ومشكلاته الاجتماعية والبيئية ، وبذلك يكون التصور الاجتماعي تكملة للتصور التاريخي الذي رسمه لانسون بيد أن المكان الواقع لا يقدم ذاته في بساطة عناصره ، وإنما يغدوة مقولة فلسفية تتأسس عليها كثير من الرؤي الخاصة في الإطار المادي والمثالي ، وكل إدراك للواقع من هذه المشكاة أو تلك يكسبه سمات خاصة ذات تأثير بليغ في تشكيل الرؤية الإبداعية التابعة منه .
لقد جعلت المثالية الواقع ، تصوراً ذهنياً خاصاً ، متعدداً منحصراًَ في الذات لا يبرحها إلي خارجها ، ما دام الفرد يدرك الكون من واقع الصورة المرتسمة عنه في ذهنه ، لا من واقع كيانه الحقيقي : ( فإنه سيدركه إدراكاً ذاتياً لا موضوعياً أي : سيدركه بحسب ما يراه هو لا بحسب حقيقته الواقعية ، وفي هذه الحالة سيكون حكمه علي ظواهره ، وكل مشكلة من مشكلاته مبنياً علي صورها الممثلة في ذهنه ، المكيفة بأهوائه الذاتية ، ومصالحه الخاصة ، بل إنه في هذه الحالة لن يفهم الواقع الفعلي ومشكلاته مجتمعه وسينطوي وعلي نفسه وينشغل بها ، ويصبح أنانياً انعزالياً (4) ، وفي مقابل ذلك يكون المطلب المادي (الواقعي) التزاماً واعياً بالواقع وإقراراته المختلفة لأن الواقع يشكل الإنسان وفكره ويوجه إلي مستقبله وينبت مضامين فنه وأدبه عارضاً النماذج البشرية الحية المتصارعة وسابراً لأغوارها مدركاً لعللها ما دام الأدب وسيلة اجتماعية يناط بها كشف ميكانزمات التطور ، الكامنة في المجتمع وبذلك يكون الأدب طرفاً حياً في معادلة التطور مهمتهت الفهم ، والتوجيه والانتقال من الكائن إلي الممكن الذي نصبو إليه الجماعة .
لقد أوحي هذا الوضع باعتبار المؤلف الفرد ، طرفاً منجزاً Executants ينوب عن الجماعة في إخراج الأثر إلي الوجود ، كما اعتبر الأثر من جهة أخري حاملاً لخطاب النخبة الموجهة في المجتمع والتي لا تلتزم بأوهام الفرد ومشاغله بل يعلل المجتمع وكشفها أمماً أجهزة الإصلاح ولهذا السبب نعت الادب الواقعي الاجتماعي أدباً متفائلاً في شقه الاشتراكي ، عكس ما حقلت به صفحات الأدب المثالي من تشاؤم وانطواء وغموض – فالفن والأدب – إذن – يصدران عن تنظيم اجتماعي معين ولا عن نظام مطلق يصلح لسائر المجتمعات ، ويخضع لتطور هذا المجتمع المعين فلا يجمد عند مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي (5) ، ويسبغ التنظيم علي الفن والأدب قسطاً وافراً من الانسجام الذي يعتبره النقد الاجتماعي مبعثاً للإحساس بالجمال ويري في غيابه الفوضي والقبح .
إن ارتباط الأدب بالتنظيم الاجتماعي ، جعل هذا الأخير – كما قال لانسون من قبل – قوة منظمة ، تتمتع بقدر كبير من التأثير في الواقع وفي تحديد وجهاته المستقبلية ، واستمرار الأفكار التي تتقصد عن الواقع في خضم المطالب الحياتية الجديدة ، لقد واجه الأدب الواقعي والاشتراكي تطور المجتمع في شقيه : المدني ، والحضري ، وبروز الأفكار المتناقضة التي خلفتها الأزمات المستجدة في الصناعة ، والتجارة ، والسياسة ، وكان عليه – في كل الأحوال – استيعابها وفحصها ، ثم الوقوف منها موقفاً صريحاً ، يجسد الإدارة الجماعية في ذلك الموقف .
وحاول التنظير الواقعي والاشتراكي علي صعيد واحد تبرير التزام الأدب واهتمامه بواقع الناس ، فجدد مفاهيم الفن والابداع والجمال والقيم حتي تتلائم مع المطلب الجديد للتفكير الفني والأدبي الذي سعي إلي تعميم تصوراته ، ما دام يري أن ليس هناك أدب أو فن ملتزم ، وأدب وفن غير ملتزم .. فكل أدب ، وكل فن يتضمن رأياً ، وحكماً ،وموقفاً .. وسواء أراد الفنان ذلك أم لم يرده ، سواء أكان واعياً أو غير واع ، هو فدان ملتزم (6) .
فكل فكرة يقيمها الأديب ويجسدها في رؤية معينة ، تعد التزاماً فكرياً أو فدياً من قبله ، نعبر عن موقف اختص به ، حتي وإن سعي إليه من خلاف تلافيف الغموض والتجريد لأن الحيثية التي يستند إليها إنما تمثل ثقافة الطبقة التي ينتمي إليها انتماء إذعان وقبول ، أو انتماء رفض وتجاوز فهي جماع مكونات عناصره الحياتية بل لقد عمل هذا الاعتراف الأخير علي رفع الذاتية قليلاً في وجه المطلب العلمي ، حين رأي أن الفنان : ” خليط معقد بين الذات والموضوع ذاتية الفنان وموضوعية أدواته وخبراته وملابسات حياته (7) ، فلا يفهم من المؤلف الجماعي إلا الصورة المجازية لوحدة المطلب الفني والجمالي عند الجماعة الخاصة ، فأصالة الذاتية في هذا الموقف هي التي تعمل علي إخراج الصنيع في الصورة التي يرضاها الكل ، وهو اعتراف ضعيف الصوت واهي الحجة ، أمام تعنت التوجيه الإيديولوجي النخبوي لذلك يصر غولدمان Goldman علي أننا لا نستطيع فهم الصنيع الأدبي من المكتوب فقط (النص) ، بل يجنح إلي مفهوم جديد يسميه رؤية العالم ويعتبره المبدأ العلمي الذي يربط بطريقة مفهومة الأثر والفرد والجماعة والذي يكون أساس كل تفسير ثقافي ، ذلك لأنه مجموع التوجهات والمشاعر والأفكار التي توحد عناصر الجماعة أو الطبقة في مقابل الجماعات الأخري (8) .
لقد سعي التحليل التكويني عند غولدمان أولاً إلي كشف رؤية العالم داخل النص وقد سمي غولدمان هذه الخطوة في تحليله بالفهم ، أو الدراسة الفينومتولوجية ، والتي تظل دون معني حتي تتعزز بالتفسير أو بالدراسة التكوينية ، وهي خطوة وإن كانت تنطلق من النص (المكتوب) إلا أنها تقع خارجه ، مستعينة بكل المعارف التي تؤسس شروط الفهم ، والتي تكفل للدراس حصر السيمات المشتركة للرؤية عند جماعة ما ، ذلك ما أشار إليه غولدمان قبلا ، من أن المكتوب لا يفسر الصنيع الأدبي ما دامت الحمولة الاجتماعية والإيديولوجية تقع خارجه ، ثم أتبع الرؤية بالدراسة التكوينية التي تقتضي سلفاً إدراج البنيات الصغري في أخري أكبر منها ،وهكذا حتي نبلغ أشمل وأوسع هي رؤية العالم أو الأيديولوجيا في أشمل صورها ، ويقول غولدمان وأن الكشف عن بنية دالة يشكل سياق الفهم Processes de Comprehension أما إدماجها في بنية أخري أوسع منها ، فإنه يشكل سياق التفسير Processus de’explication لذلك كان التفسير التكويني تأويلاً بنيوياً يسعي غلي وضع البنيات في علاقة مع بنيات الجماعة التي تمثل تعبيرها المتناسق ، وفي هذا يكون غولدمان مخلصاً لاعتقاد لوكانش في أن الخلق الفني يهدف إلي تشكيل بنيته مجانسة للبنية الأساسية للواقع الاجتماعي الذي شهد ميلاد الأثر (10) ، إن ما يقترحه علينا غولدمان من خلال الفهم / التفسير – هو إحداث مجموعات إستثنائية للكتابات والتي من خلالها نبحث في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لحقبة ، لجماعات اجتماعية مبدئية والتي نستطيع أن ندمج فيها جزئها آثاراً مدروسة مقيمين بينها جملة من العلاقات الواضحة والمطابقات في الحالات الملائمة ، ولا يتواني غولدمان عن التصريح قائلاً إن الفاعلين الحقيقييين للإبداع هم المجموعات الاجتماعية ، وليس الأفراد المعزولين (11) ، وكان هناك علاقة خفية بين تراجع الشخصية في الرواية منذ القرن التاسع عشر إلي اليوم ، وتراجع الشخصية علي المستوي الاجتماعي ثم اختفاؤها تدريجياً لقد أفصح هذا الحدس لدي الكتاب عن تحول .
لقد أفصح هذا الحدس لدي الكتاب عن تحول خطير في طرائق إدراك العالم ، وفي تفسير العلاقات القائمة فيه بين الأفراد ، وعندما سجل الروائيون هيمنة الإيديولوجي علي القيم التقليدية لاحظوا تلاشي الفرد وذوبانه إلي غاية ظهور رواية غياب الذات التي تحركت أحداثها من دون الفاعلين الفعليين ، وكأن الأحداث التافهة تتولي قيادة الآلة الإنسانية عبر دروب المصادفة والحظوظ ، لقد أدرك غولدمان أن تحلية التكويني السوسيولوجي لا يزعم استيفاء الأثر الأدبي في كليته ( داخلياً وخارجياً) ولكن هم الفهم أن يبرز العلاقة بين رؤية العالم وعالم الأشخاص وهم التفسير إبراز العلاقات بين هذا العالم وبين الوسائل التقنية والأدبية التي أختارها والمؤلف للتعبير عنه ويدرك كذلك أن سياق الفهم ، وسياق التفسير يستفيدان من كل المعارف الحديثة المتاحة والتي بإمكانها تقديم حلول جديدة لمشاكل الدلالة ، واللغة والمعني وتفسير التلاحم داخل العمل الفني في جملته ما دام التلاحم وهو عين الرؤية للعالم التي نجدها في كل من الدين ، والفلسفة ومظاهر الحياة اليومية ، وهي بذلك إن حددت قيمة الأثر الفني فإنها تقع خارجه ، عكس التلاحم الذي يراه بارت في الشكل الذي يسمح يتسرب البعد المتعالي للغة الأدبية المشكلة للمعني الجوهري ، وعكس ما يراه مورون في التلاحم العاطفي غير الواعي يتحدد الأثر الأدبي والفلسفي عند غولدمان بأقصي استيعابه للوعي الممكن ، والذي تفرزه رؤية العالم لدي جماعة كائنة ، وفي حالة من الغموض عدد كل واحد من أفرادها ، ذلك لأن المبدع الحق هو الذي يستطيع خلق عالم متجانس وتوافق بينته ما تصبو إليه الجماعة ، ولا يكون الأثر جيداً أو رديئاً إلا بمقدار قريه أو بعده من تحقيق هذه الرؤية .
وقد التفت الدرس السيوسيولوجي مع روبير إسكاربيت إلي جملة المتحكمات التي تعتور الصنيع الادبي من ساعة قيامه فكرة في خلد صاحبه إلي شكله مطبوعاً ومقروءاً عند ألوان متعددة من الجماهير القارئة ، في ألوان من البيئات ذات التمايز الفكري والإيديولوجي ، ما دام : وجود أفراد مبدعين يطرح مشاكل في التأويل النفساني والأخلاقي والفلسفي كما تطرح الآثار نفسها مشاكل جمالية وأسلوبية ولغوية ونقدية ، أما وجود جماعة الجمهور فنطرح مشاكل ذات طابع تاريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي أيضاً هناك علي الأقل ثلاثة آلاف طريقة لارتياد الحدث الأدبي ودراسته(12) .
لقد غدا الأثر الأدبي ظاهرة تزداد خطورة كلما إزداد تمدد الجبهات التي يواجهها الدرس السوسيولوجي بغية الإحاطة بالظاهرة من جميع جوانبها حتي يتسني له تجديد القول في مفاهيم ظلت عامضة من قبل كالكتابة والقراءة والأثر والوسيط والواقع حينما تنظر وإليه طرفاً في معادلة الإبداع الفني عموماً إذ هو في جملته : ” ليس إلا محصلة لجميع العلاقات المتشابكة بين الذات والموضوع لا الماضية فحسب وإنما المستقبلية أيضاً ولا ينحصر في الأحداث الخارجية وحدها ، وإنما يشمل أيضاً التجارب الذاتية والأحلام والنبؤءات ، والعواطف والأخيلة (13) ، وبذلك تتبدي صعوبة المسلك الجديد الذي تخوضه اجتماعية الأدب في صراعها المرير مع الصنيع الأدبي في رحلته من واقع إنشائه فما إلي واقع استهلاكه لذة ومتعة .
3- نقد المنهج الاجتماعي :
إننا ندرك جيداً أننا في حديثنا من المنهج بشقيه الاشتراكي والنقدي أوصلناه بجهدي غولدمات الماركسي وإسكاربين السوسيولوجي لوحدة المسعي في كل نشاط لذلك بدأ المشرع السوسيولوجي مطلباً ضخماً يتحدد بصرامة موضوعية تستند إلي معطيات العلوم الإنسانية في فروعها المختلفة ، إلا أن التوجه الإيديولوجي – في كل مسعي – يحدد المطلب النهائي ، ويضفي علي المصطلحات والمفاهيم دلالات تظل مشبعة بالحيثيات التي أفرزتها ، ومن هنا كان الفهم – في كل محاولة – مؤطراً بلون خاص من ألوان التفكير الفردي والجماعي .
إن ضخامة المطلب الاجتماعي من لانسون إلي إسكاربيت يؤكد مرة أخري علي تجاوز الجهد الفذ إلي الإنشاء الجماعي الموجه ، وفق مشروع قد يستغرق حياة أصحابه ، وقد كانت محاولات جاك لنهارت في تجاوز حدود الوطن ( إلي المعسكر الشرقي ) وتسجيل الفروق القرآئية عند هؤلاء وهؤلاء ، وما يمليه اتلسياسي والأيديولوجي علي الذات القارئة ثم إفراغ ذلك كله في تصنيف دقيق يضم أنساق القراءة إلي أنماطها (14) ، عملاً رائداً سجل نتائج خصبة مع أن الفريق يعترف أن جهدهم لا يشغل إلا حيزاً صغيراً داخل المطلب السوسيولوجي في كليته ، وكلما اتسع الحقل وتعددت تشعباته كلما كانت الهيئات تلحق هذا الجهد ونحاول وإجمالها في الملاحظات التالية .
الفكر واقع :
كلما اعتورت الواقع تلقبات تشدد وتضيق ، وجدت في الصنيع الفني والأدبي الذي هو إفرازها – انعكاساً يطوعها لاحتواء شكل الواقع واهتماماته وتصيد العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع أحال الجهد الاجتماعي علي الشرح الميكانيكي الجاهز الذي تردد في العديد من الأعمال وخص الكتابات النقدية بوتيرة واحدة لا تخطئها الأذن .
جبرية الواقع :
إذ كان الفكر تابعاً للواقع ونابعاً منه فلسفياً ، فإن الفهم الوضعي أعطي لعناصر الواقع المادية سلطة علي الاذت ، وألزوها جملة من السلوكيات والأخلاق والأذواق وجعلها تابعة له ، ونتحرك نحو المستقبل وفق اقتضاءاته الخاصة ، ذلك ما جعل الفحص السوسيولوجي يقوم علي تتبع النشاطات العملية في النصوص فكلما كان النص حافلاً بها كان جديراً بالملاحظة والمتابعة ونبذ كل نشاط يحتفل بالذاتية والخيال والتأمل ووسمه بالانطواء والمرض الاجتماعي .
الأدب وسيلة :
لقد حدد المطلب الاجتماعي وظيفة الأدب وأناط به قيمة فلسفيبة وجودية فكان الإلتزام في أبسط صورة متابعة للواقع والمجتمع ووترجمة عنه لا يرتفع بعيداً عن سمائه وكان الالتزام في أعقد مفهومه موقفاً من العالم تمليه والمصالح الآنية والبعيدة في المشروع الوجودي المشايع للفهم الماركسي ، لقد كان في ربط الأدب بالوسيلة . قصر الاهتمام عن صميم والأدبية وتجاهل الخيال الحافل في كل إنجاز وانشغال عن الذاتية القائمة وراء كل أثر .
الأدب صراع :
لا تكتسب الفكرة اصالتها إلا إذا قامت علي مبدأ الصراع الطبقي أولاً وعلي الصراعات الشخصية الأخري ما دام التحول الذي يحدد المجتمع يقوم – هو الآخر – علي الصراع شأنه في ذلك شأن التاريخ ، كما أن التطور الذي يشهده الادب والفن لا يند عن هذا التفسير ويكون تعارض أشكال الأدب وأنواعه حاسماً في تطوره وتجدده .
واحدية الناتج :
لقد ردد الدرس الاجتماعي والاشتراكي عين المقولات وشهدت الكتابات أنماطا ً متقاربة في الصباغة والنتائج وكأن المحالاوت الأولي قد قدمت القول الفصل المنتهي لذلك لم يكتب النقد الاجتماعي إلا نصاً واحداً بطرق شتي ، يدلون فيها المضمون ولا يتحول حاملاً نغمة البيان السياسي الذي تدور فيه الألفاظ مدارات خاصة بها وكأنها تنتمي إلي لغة تبتعد كثيراً عن لغة الأدب .
الشرح والحكم :
لم تتجاوز الكتابة الاجتماعية عتبة الشرح السياقي مستفيدة من عطاءات …
بواسطة admin • 06-الأديب والرؤية • 0 • الوسوم : العدد الحادى عشر, د. حبيب مؤنسي