يونيو 25 2014
روسيا تحتفل بثلاث قمم إبداعية كلاسيكية …. د. أشرف الصباغ
روسيا تحتفل
بثلاث قمم إبداعية كلاسيكية
د. أشرف الصباغ
موسكو
يبدو أن الأدب الحديث في روسيا يواجه منعطفات تاريخية، قد يكون جزء منها خاصا بروسيا وبأوضاعها. لكن الجزء الأكبر “عولمي”، إذا جاز التعبير، وهو ما ينسحب بدرجة أو بأخرى على الآداب الحديثة في الكثير من دول العالم. هذه المنعطفات دفعت الأوساط الثقافية الروسية الرسمية وغير الرسمية إلى العودة قليلا إلى الوراء وإقامة الاحتفالات والمناسبات الاحتفائية بالأدب الكلاسيكي الروسي، وكأنها تعلن بشكل غير مباشر أن الوقت لم يحن بعد للخروج إلى العالم بأدب روسي جديد.
لقد عادت الآلة الثقافية الروسية إلى جوجول في العام الماضي لتحتفل بمرور 200 عام على ميلاده. وظلت المحافل الثقافية تلوك شخصية جوجول مبتعدة قدر الإمكان عن جوهر إبداعات الرجل لكي لا تثير حساسيات اجتماعية. فالقيصر الروسي نيقولاى الأول، وبعد أن شاهد عرض الافتتاح لمسرحية “المفتش العام” عام 1836، قال: “حصل كل شخص على ما يستحق، وأنا أكثر من غيري”. هذا النص مثلا أغضب الطبقة الأرستقراطية الروسية آنذاك. ولشدة حيويته وحدة سخريته، فهو لا يزال يبحلق في وجه المجتمع الروسي الحالي. أما رواية “النفوس الميتة” فهي لا تزال أيقونة على جبين الأدب العالمي بكل ما تضمنته من تفاصيل خاصة بالنفس البشرية عموما وبأرواح الروس في المرحلة القيصرية على وجه الخصوص. والأهم في هذه الرواية أنه من الممكن أن تلتقي الكثير من شخصياتها الآن وبعد أكثر من قرن على كتابتها.
لم تكن عبارة ديستويفسكي: (كلنا خرجنا من معطف جوجول) مجرد مبالغة أو محاولة بلاغية قصد منها إجلال الرجل، وإنما كانت نابعة أساسا من قناعته بأن الأدب الروسي الحقيقي قد بدأ فعليا بجوجول. أما المقصود بـ “معطف جوجول” فهو قصة المعطف التي اعتبرها ديستويفسكي مثالا نموذجيا للعمل الفني. هنا نأتي إلى الروح الروسية التي لا تزال هائمة. لقد جسدها كل كاتب بطريقته، لكن هناك غصة لدى الروس؛ رغم كل ما يحملونه من احترام وتبجيل لديستوفيسكي، من تعامل هذا الكاتب (ديستويفسكي) مع الروح الروسية، إذ تمكن من إعمال مشرطه الحاد في أعمق أعماق الجوانب المظلمة فيها. لم يغفر له الكثيرون – إلى الآن – هذه الطريقة المرة التي سلط بها الضوء على تلك الجوانب المظلمة. أما جوجول فقد تعامل بطريقة أخرى نسبيا مع تلك الروح، ففضحها أيضا وكشف عن عوراتها. أي أن الكاتبين وجهان لعملة واحدة. وهناك أوجه شبه بارزة الملامح، بينهما: التدين، والمرض النفسي، واستعداء السلطة، الكشف-الفضح (وإن اختلفت الأساليب). واختلاف الأساليب هو الذي كاد يودي بديستويفسكي إلى الإعدام، بينما دفع جوجول إلى حالة من الجنون المرضي.
في هذا العام اختلفت الأمور قليلا؛ فقد قررت جهات ما في روسيا الاحتفال ليس بذكرى ميلاد الكاتب ليف تولستوي، وإنما بذكرى رحيله؛ ما أثار موجة من الاستياء والاستهجان في أوساط عديدة داخل روسيا وخارجها. هذه الجهات قررت فجأة الاحتفال بمرور 100 عام على وفاة ليف تولستوي (9 سبتمبر 1828 – 20 نوفمبر 1910). بل وطالبت اليونسكو بإعلان عام 2010 عام تولستوي. وما يثير الدهشة هو أن الروس عادة يحتفلون بيوم ميلاد الكاتب وليس بيوم وفاته. ولكن لا أحد يعرف إلى الآن مغزى هذه الفكرة!
لا شك أن الأدب الروسي الكلاسيكي شكَّل ظاهرة عالمية إلى جانب الآداب الكلاسيكية الأخرى؛ وكان أحد الساحات الخصبة إلى جانب الأدبين الفرنسي والإنجليزي تحديدا، نظرا للعلاقات المميزة التي ربطت روسيا القيصرية بكل من فرنسا وبريطانيا. وليف نيكولايفيتش تولستوي يقف إلى جانب ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمونتوف ونيقولاي جوجول وديستويفسكي وإيفان جونتشاروف وإيفان تورجينيف وتشيخوف شامخا بأعماله الملحمية الخالدة بالفعل. وليس غريبا على دولة مثل روسيا أن تعيد طباعة الأعمال الكاملة، أو مختارات من أعمال كل هؤلاء الكتاب بشكل دوري يكاد يكون سنويا في طبعات فخمة وأنيقة، حتى إن مكتبة أي بيت لا تكاد تخلو من طبعة أو اثنتين. إضافة إلى تدريس الأعمال الكلاسيكية لكتابها الكبار في المدارس والجامعات. بين كل هؤلاء يقف تولستوي شامخا رغم ما أصاب روسيا ما بعد السوفيتية من خراب في حقبة التسعينات وانعاكاسات كل ذلك على الثقافة الروسية عموما. ولا يمكن أن نتجاهل إطلاقا الترجمات الدورية لأعمال الكتاب الروس الكلاسيكيين، بدون مبالغة، إلى جميع لغات العالم. لكن لماذا تحتفل روسيا بيوم وفاة تولستوي، وليس بيوم ميلاده كما جرت الأعراف والتقاليد؟! سؤال سيبقى بدون إجابة!
وجاءت الحلقة الثالثة في هذه السلسلة لتضم الاحتفال بمرور 150 عاما على ميلاد الكاتب أنطون بافلوفيتش تشيخوف (1860 – 1904) الذي تعرفه الثقافة العربية ككاتب قصة أكثر من كونه كاتبًا مسرحيًّا من الدرجة الأولى على الرغم من قلة إنتاجه في هذا المجال.
لسنا هنا بمعرض تقييم النصوص السردية للكاتب الروسي، ولكن النظرة الأحادية العامة والشاملة لمجمل إنتاج تشيخوف – تجعلنا نخشى على العقلية العربية المثقفة عموما، وعلى أصحاب الإنتاج الفني على وجه الخصوص. والخوف الأشد قد يكون من النظرة الكلاسيكية المتحجرة له، سواء من حيث التعظيم أو التقليل من الشأن. هناك مشاكل كثيرة في إنتاجه السردي، وهي مشاكل وإشكاليات قابلة للنقاش. غير أن إنتاجه المسرحي القليل على مستوى الكم، والمهم على مستوى الكيف، يجعلنا نتوقف كثيرا لإعادة قراءة مجمل إنتاجه المسرحي والسردي، والتعامل مع هذا الإنتاج بآليات أخرى. ولحسن الحظ فقد تم إحياء إبداعات تشيخوف الدرامية بإقامة مهرجان تشيخوفي دولي، انتهت دورته التاسعة في يوليو 2010.
لقد جرت فعاليات الدورة الأولى لهذا المهرجان في صيف 1992، أي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بأقل من عام واحد. وتعطلت 4 سنوات كاملة بسبب ظروف كثيرة، من بينها حالة الانهيار العامة والشاملة التي ضربت روسيا في سنوات التسعينيات. وجرت الدورة الثانية في صيف 2006. واستقر الأمر على إقامة المهرجان كل عامين إلى أن أصبح أحد أهم ثلاثة مهرجانات مسرحية في أوروبا إلى جانب مهرجان أفينيون الفرنسي وأدنبره الإسكتلندي.
منذ بداية النقاشات حول إقامة هذا المهرجان في فترة البيريسترويكا في مطلع النصف الثاني من سنوات الثمانينيات، حيرني سؤال: لماذا لا يشارك المسرحيون العرب فيه؟ وظل هذا السؤال يتردد إلى يومنا هذا!
على الرغم من عرض مسرحيات تشيخوف في العديد من المسارح العربية، إلا أن التفكير السائد لدى الأوساط الثقافية العربية يتمحور حول إنتاج تشيخوف السردي. والغالبية العظمى ترى فيه كاتب قصة عظيمًا ورائعًا ورياديًّا. كثير من المسرحيين المصريين والعرب قاموا بمسرحة قصص تشيخوف. ومع ذلك فالقليل هو الذي انتبه إلى كون أنطون تشيخوف مسرحي، ودراماتورج من الدرجة الأولى على الرغم من أنه كتب 5 نصوص مسرحية فقط، هي “النورس”، و”الشقيقات الثلاث”، و”بستان الكرز”، و”الخال فانيا”، و”إيفانوف”، إضافة إلى نص “الدب”.
الدورة التاسعة لهذا المهرجان بدأت بالفعل في أول يونيو عام 2010. وكان أمام المسرحيين العرب وقت لمعرفة التفاصيل، ومن ثم المشاركة. فالمسرحيون الروس يشاركون بشكل دائم، على سبيل المثال لا الحصر، في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، وكان من الممكن أن يتوفر الوقت للاستفسار منهم عن هذا المهرجان. هناك أيضا وزارات الثقافة العربية، وما يتفرع منها من مؤسسات وأشكال كان، ومازال، بإمكانها الاستفسار رسميا عن مدى إمكانية المشاركة. فهل هناك إمكانية لدى المبدع المسرحي العربي للنظر إلى إنتاج تشيخوف والتعامل معه بعيدا عن الأطر التي رسمت له طوال السنوات الماضية؟
اليوم نصادف اسم تشيخوف في كل نشرة ثقافية سواء في روسيا والدول الأوروبية، والولايات المتحدة، وغيرها من دول العالم. فقد نظمت في عام 2004 وحده عشرات المؤتمرات، منها ندوة تشيخوف البحثية في لندن، ومؤتمر في هوفجايسمر، وأيام تشيخوف في كارولينا الشمالية، ومؤتمر ثقافي في وارسو.
إن مسرح تشيخوف يحظى بشهرة واسعة خارج روسيا، إذ قدمت له أفضل المسارح في الكثير من دول العالم، ومازالت تقدم مسرحياته إلى الآن. كما تقدم في الوقت الحاضر مسرحيات جديدة خاصة تعتمد على إبداع تشيخوف المسرحي. ففي مسرح بيلتمور في نيويورك جرى في شتاء 2004 العرض الأول لمسرحية “الغراب الغارق” لريجينا تايلور المقتبسة من موضوع مسرحية “النورس” لتشيخوف. أما في الهند فقد أدرجت مسرحية “الشقيقات الثلاث” قبل 6 سنوات في عصر إمبراطورية ماوريا التاريخية. وفي ألمانيا وسويسرا فقط (في موسم 2003/2004) جرى عرض 12 مسرحية تعتمد على مسرحة “الشقيقات الثلاث” منها عدد من الأعمال الرائعة في مسرح برلين الألماني للمخرج ميخائيل تالهايمر، ومسرحية أنطوان ويدهاج في مسرح ليبزج، ومسرحية بيوتر هيلينج في لوتسيرن.
أما في بريطانيا فقد نال تشيخوف استثناء خاصا في الدليل الأدبي الإنجليزي الراقي:
(“The Oxford Companion to English Literature”)
بحيث وضع اسمه بين اسمي تشوسير وتشيسترفيلد. واستمر الكاتب المسرحي الأيرلندي برايان بريل أكثر من
30 عاما يتعامل مع إبداع أنطون تشيخوف، فكتب في عام 1972 نسخته المسرحية من “الشقيقات الثلاث”، وفي عام 1998 ألف النسخة الأيرلندية من مسرحية “الخال فانيا”، وفي عام 2001 حول قصة “السيدة والكلب” لتشيخوف إلى مسرحة تحمل عنوان “مزحة يالطا”. كما قام الكاتب الأيرلندي باقتباس مسرحية “الدب” في عمل آخر. وأخيرا قام الكاتب برايان بريل بتأليف دراما “بعد المسرحية” التي يصف فيها مصير بطلي تشيخوف- سونيا في مسرحية “الخال فانيا”، وأندريه بروزوروف في مسرحية “الشقيقات الثلاث”.
د. أشرف الصباغ
مايو 1 2015
بــلا غــد ، فيفان دينون …. ترجمة : د.أشرف الصباغ
بــلا غــد
———
فيفان دينون (*)
ترجمة : أشرف الصباغ (**)
الحـرف يقتل ، أما الروح فتحيي ” الرسالة الثانية إلي أهل كونثوس : عشقت الكونتيسة “دي … ” إلي حد فقدان الوعي . كان عمري عشرين عاماً ، لم أكن خبيراً فخدعني ، أثرت مشهداً عنيفاً فتركتني ، لم أكن خبيراً وندمت علي ذلك ، ولكن كان عمري عشرين عاماً ، فصفحت عني ، ولأن عمري كان عشرين عاماً ولا أملك الخبرة: فقد خدعت كسابق عهدي ، ولكنني لم أجهر واعتبرت نفسي عشيقاً سعيداً ، وبالتالي أسعد الناس ، كانت صديقة لمدام ” دي ت .. ” التي بكل الشواهد ، كانت قد علقت بعض الآمال علي شخصي ، ولكن بما لا يمس كرامتها ، وكما سنري ، فمدام
” دي ت .. ” كانت لديها مفاهيم حازمة عن اللياقة والاحتشام نلتزم بها في دقة متناهية .
ذات مرة كنت أنتظر الكونتيسة في مقصورتها وإذا بي أسمع فجأة –
من المقصورة المجاورة ، أحداً ما يناديني ، هل من المعقول أن تكون الفاضلة
مدام دي ت.. ؟
– ولم أتصور ، أو حتي أخمن أي مغامرات عاطفية وغير عادية يحمل لي هذا اللقاء ، عقل المرأة سريع ومبتدع وذو دهاء ، وفي هذا المساء هبط علي مدام ” دي ت .. ” وحي خاص .
وسمعتها تقول :
– لا يمكنني أن أسمح لكم بإثارة سخرية الناس ببقائكم هكذا وحدكم في مقصورتكم وبما أنكم قد أصبحتم بالفعل هنا ، فمن الضروري .. فكرة رائعة الرب وحده هو الذي أرسلكم لي هل لديكم مشاريع لهذا المساء ؟ لن تتحقق ، هكذا عليكم أن تعرفوا ، بدون أية أسئلة ، وبدون أية اعتراضات .. استدعوا خادمي – أنتم في غاية الرقة !
انحنيت محيياً وملبياً – يطلبون مني عدم الإبطاء ، وأنا امتثل .
قالت السيدة للخادم الذي ظهر :
– اذهبوا إلي بيت ذلك السيد ، وأبلغوا بأنه لن يأتي الليلة للمبيت .
بعد ذلك تهمس في أذنه بشئ ما ثم تصرفه ، أحاول قول كلمة ، ولكن الأوبرا تبدأ وتطلب مني عدم التشويش : تسمع أم تتصنع هيئة وكأنها تسمع ، وبمجرد انتهاء الفصل الأول يظهر نفس ذلك الخادم ويسلم مدام ” دي ت .. ” ورقة وهو يقول بأن كل شئ جاهز فتبسم وتتأبط ذراعي ” ثم تقودني إلي أسفل وعيي وتدعوني إلي الركوب في مركبتها . أما أنا فلم أكد أعد إلي وعيي حتي وجدت نفسي خارج المدينة دون أن أدري إلي أين تنقلني ولماذا ؟ .
الإجابة علي جميع محاولاتي بتوجيه أي سؤال كانت بالضحك .
لنفترض أنني لا أعرف أنها ذات طبيعة عميقة ولعة ملتهبة ، وأن قلبها في هذه اللحظة مشغول إلا أنه لا يمكنها ألا تكون علي علم بأن هناك من أخبرني بذلك ، وباتالي فمن الممكن أن يظهر لدي وسواس بأن كل هذا هو بداية مغامرة عاطفية ، هي أيضاً كانت علي علم بجميع أحوالي العاطفية ، لأنها كما قلت كانت علي علاقة وطيدة بالكونتيسة ، ولذلك قررت في حزم ألا أعلل نفسي بآمال باطلة ، وأن أنتظر تطور الاحداث ، وبعد أن بدلنا الأحصنة راحت تمرق إلي الأمام بسرعة السهم ، هذا بدا لي أن الأمور قد ذهبت بنا إلي حد بعيد ، سألت بشكل أكثر إصراراً هذه المرة إلي أين تقودنا مزحتها .
– إلي مكان رائع ، احزروا إلي أين … ؟ أوه أراهن أنكم لن تحزروا .. إلي زوجي ، هل تعرفونه ؟
– أعرفه إطلاقاُ .
– أعتقد أن ذلك سيسركم : يحاولون مصالحتنا ، أصدقاء الأسرة يجحرون مباحثات طوال نصف عام ، وقريباً سيتم شهر ونحن نراسل بعضنا البعض ، ولذا فقد قررت أنه ، ربما سيكون من اللباقة من ناحيتي أن أقوم بزيارته .
– من ناحيتكم – نعم – ولكن قولوا لي من فضلكم ما شأني أنا هنا ؟ أية فائدة مني؟ .
– سأحكم أنا بنفسي علي ذلك ، إنني أخشي اللقاءات المثيرة للانقباض والألم بمفردي وأنت متحدث لطيف . أنا سعيدة جداً بأنكم ستذهبون معي .
– يدهشني أنكم تنوون تقديمي في نفس يوم مصالحتكم ، أنتم تجعلونني أظن وكأن شخصيتيب لا تستحق إطلاقاً أي اعتبار ، إضافة إلي أن ذلك سيكون ولابد ، أمراً غير لائق في أول لقاء .. لا ، وفي الحقيقة ، فأنا لا أري فيما تفكرون فيه أي شئ سار لأي من ثلاثتنا .
– أوه ، لا حاجة إلي الأخلاقيات ، أتوسل إليكم إنني في الحقيقة لم أخذكم معي لهذا الغرض والأحري بكم أن تسألوني بدلاً من أن تقرأوا علي مواعظ أخلاقية .
كانت في غاية الحزم لدرجة أنني استسلمت وأخذت أسخر من دوري في مزحتها هذه ورحنا نلهو نتسلي .
بدلنا الأحصنة مرة أخري ، أضاء القمر السماء الصافية ، وراوح في غموض وسرية يريق من حولنا غبشته المثيرة ، أخذنا نقترب من المكان اذلي يجب أن تنتهي فيه خلوتنا كانت تدعوني بين الحين والآخر لإبداء إعجابي وافتناني بالمنظر الجميل ، وسكون الليل ، وهدوء الطبيعة الرقيق ، ومن أجل أن نستغرق معاً في النظر والتأمل ، كان من الطبيعي أن نميل نحو نفس النافذة فكانت وجوهنا تتلامس من جراء الركض السريع والاهتزازات . وفجأة اهتزت المركبة واندفعت إلي أعلي ومن أثر المفاجأة أمسكت بيدي ، وإذا بي وبشكل عرضي تماماً أحتضنها ، لم أعد أعرف إلي أي شئ بالضبط كنا نحاول في هذا الوضع أن ننظر . كل ما أعرفه أن كل شئ قد انصهر أمام عيني ، وأصبح غامضاً ومبهماً . في تلك اللحظة شعرت بدفعة حادة في حين ابتعدت رفيقتي إلي عمق المركبة .
– هل كنتم – قيل لي ذلك بعد تفكير طويل – تنون إقناعي بعدم حصافة سلوكي ؟
– أصابني الارتباك .
– إن محاولة حتي التفكير في إحاكة أي شئ . بخصوصكم .. أمر في غاية السخافة ! لأنه بإمكانكم كشف كل نواياي .. ولكن ما حدث الآن كان عفوياً مجرد نزوة لا إرادية .. فهل هذا لا يغفر لي أو يصفح عني ؟
– إذن فأنتم تأملون في هذا ، أليس كذلك ؟ خلال هذا الحوار لاحظنا كيف دخلنا إلي ساحة القصر – كان كل شئ مضاء بحدة وسطوع . وكان كل شئ ينطق بالفرحة ما عدا وجه صاحب البيت الذي لم يستطع إطلاقاً التعبير عن إمارات الفرح . واستناداً إلي المظهر الكئيب لهذا السيد ، يتضح أنهم أرغموه علي المصالحة ، وفقط من أجل مصالح العائلة ، بيد أن آداب اللياقة لا أكثر هي التي أرغمته علي الاقتراب من باب المركبة ، وبدأ التعارف ، فمد يده إلي ورداً علي ذلك ، فعلت نفس الشئ ، وأنا أفكر في أي شئ يمكن دوري بالضبط – دوري منذ قليل ، والآن ، وفيما بعد . أخذوا يقودونني عبر الصالات حيث الأناقة والجمال تتباري مع الفخامة والجلال لتشهد كلها علي ذوق صاحب البيت في علاقته بالبهاء والأبهة والأناقة ، أخذ يظهر في تصميم ومثابرة حنافة أنيقة ولبقة ساعياًَ ، علي ما يبدو ، إلي أحياء القوي البدنية الجاثية علي نحو شيق وشهواني وعندما لم أجد ما أقوله ، رحت أنقذ نفسي بعبارات الإعجاب والانبهار ، فالإلهة تعرض في مهابة واحتفالية معبدها ، وتود أن تسمع عبارات الثناء والمديح التي تستحقها .
– أنتم لم تروا شيئاً بعد ، يجب الذهاب بكم إلي أجنحة زوجي الفاخرة .
– سيدتي ، لم تعد موجودة ، لقد أمرت بإزالتها منذ خمس سنوات مضت .
فصاحت بصوت عالٍ :
– آه ، معقول !
وأثناء تناول العشاء أخذت تدعو في اهتمام بأن يضعوا له لحم العجل ، ولكنه قال :
– لقد أصبحت أعيش منذ سنوات طويلة علي منتجات الألبان ، يا سيدتي .
فكررت :
– آه معقول :
سأترك لكم تخيل حديث يدور بين ثلاثة أشخاص في غاية الدهشة والذهول حيث وجدوا أنفسهم يجلسون فجأة وبالصدفة ، حول مائدة واحدة !
وأخيراً تناولنا طعام العشاء ، ظننت أننا سنذهب علي الفور إلي النوم ، ولكن الصواب لم يجانبني فقط بخصوص الزوج الذي قال :
– أنا ممنون لكم بشدة يا سيدتي ، علي بعد نظركم وحصافتكم الشديدة في إحضار ضيفنا إلي هناك لم التفت نحوي ، وأضاف في سخرية : أأمل ، يا سيدي أن تسامحوني وتأخذوا علي عاتقكم التكفير عن ذنبي في حق السيد وانصرف .
تبادلنا النظرات ، ومن أجل التخلص من الانطباع غير المريح ، دعتني مدام ” دي ت .. ” إلي التنزه قليلاً في الحديقة ريثما يتناول الخدم عشاءهم ، كان الليل فإننا شفافاً : لم يخف الأشياء المحيطة عن العين ، وإنما نشر عليها ستارة كي يمنح بعد ذلك فضاء للخيال .
البساتين ، مثل القصر ، تمتد علي تل وتهبط في سلسلة من المنحدرات نحو نهر السين الذي راح يجري من الاسفل مكوناً ثنايا ومنعطفات كثيرة ، وجزراً جدميلة مليئة بالغابات والاحراش الباهرة منحت تلك الزاوية المدهشة منظراً متنوعاً وأضفت عليه روعة وبهاء .
في البداية رحنا نتجول علي أطول منحدر من هذه المنحدرات تحت ظلال الأشجار الكثيفة تمالكنا أنفسنا وهدأنا من روعنا بعد تلك السخرية التي تعرضنا لها منذ قليل ، وأخذت هي تكاشفني بثقة واطمئنان ببعض أسرارها والمصارحة تدعو إلي المصارحة المتبادلة ، ومن ثم فتحت صدري لها ببعض الأشياء .
ورويداً رويداً أصبحت مصارحاتنا أكثر حميمية وخصوصية ، وأكثر متعة وجاذبية ، تجولنا أكثر من اللازم ، في البداية سارت معتمدة علي ذراعي ، وبعد ذلك
– لا أدري كيف حدث هذا – التفت ذراعها من حولي ، أما أنا فلم أعد أسندها ، وإنما كنت تقريباً أحملها ، كان ذلك لذيذاً وممتعاً ، ولكنه كان يتطلب توتيراً ما للقوي وكلما تقدمنا زادت الأمور أكثر ، وأصبحنا في حاجة ملحة بعد إلي قول الكثير لبعضنا البعض، وفي الطريق صادفنا مقعداً فجلسنا دون أن نغير الأوضاع ، وعلي هذا النحو أخذنا بأيدينا المتشابكة ، نيجل ونجد بكل ألفه ووئام حلاوة الثقة بين الأصدقاء . وقالت :
– آه ……. من يستطيع أن يستمتع بها بأقل الهواجس والمخاوف غيرنا نحن وأنتم ؟ إنني أعرف جيداً كيف تحرصون علي إرضاء الشخص الذي أعرفه حتي أنكم لا تسمحون لأفكاركم بأقل القليل من عدم الحشمة أو مجانية الحياء .
لعلها كانت ترغب في أن أرفض كلماتها أو أعترض عليها ، ولكنني لم أفعل ذلك ، وأخذنا نؤكد لبعضنا البعض أنه من غير الممكن أن تحدث بيننا علاقة أخري غير تلك الموجودة الآن .
– أما أنا ، واعترف ، فقد خشيت أن يكون عدم التقصد المفاجئ الذي حدث في الطريق قد أفزعكم .
– أوه .. أنا لست إلي هذا الحد خوافة .
– ومع ذلك يقلقني أن أكون قد ضايقتكم أنا نفسي لا أتمني ذلك .
– ماذا يمكنني أن افعل حتي تطمئنوا وتهدأوا .
– ألا تحزرون ؟
– كنت أتمني لو قلت أنتم .
– أود أن أثق تماماً بأنه قد تم الصفح عني .
– وماذا أفعل من أجل ذلك ؟
– يجب أن تهدونني تلك القبلة التي بالصدقة المحصنة …
– أنا علي أتم استعداد . لأنني لو رفضت ستفخرون بأنفسكم وسيصيبكم الرو وستتصرورون أنني خائفة منكم .
ولكي لا أغرق في الغرور حصلت علي قبله .
هناك تلك القبل التي تقرب المكاشفات بين الأصدقاء وتجعلها أليفة وحميمة : إنها تجر وراءها القبل الجوابية المتعجلة ، التي تصبح ملتهبة ومشبوبة ، وفي الحقيقة فبمجرد أن أهديت القبلة الأولي حتي تلتها الثانية ثم الثالثة ، تسارعت واحدة تلو الأخري قاطعة أوصال الحديث ، ومغيرة تماماً حتي أنها كانت تسمح لها بالكاد بالتقاط أنفاسنا ، ساد السكون كنا نسمعه ( لأنه أحياناً يمكن سماع صوت السكون ) ، وقد أثار وجحلنا وبدون أية كلمة نبضنا وسرنا .
قالت مدام ” دي ت .. ” :
– آن أوان العودة ، لا يجوز إساءة استخدام الهواء الليلي .
– فأجبت :
– يبدو لي أنه لا يستطيع أن يسبب لكم أي أذي .
– نعم البرودة ليست مزعجة بالنسبة لي لي هذا الحد ، مثلما هي مزعجة للبعض ومع ذلك سوف نعود .
– أعرف ، أنتم قلقون بشأني وتسعون إلي حمايتي من مخاطر مثل تلك النزهات .. ومن آثارها التي يمكنها أن تسبب لي شيئاً ما .
– إنكم تتمنون أن تعثروا في رغباتي علي رقة وعطف ، ما العمل فليكن الأمر كذلك ومع ذلك فسوف نعود . أنا أريد ذلك .
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : العدد السادس عشر, د. أشرف الصباغ, فيفان دينون