لربّما هناك شيء ما غالبا ما يفهمه القارئ الغربي، و الفرنسي على وجه التحديد، بشكل محرّف أو مغلوط كلما انطرح أمر الأدب الصيني خلال المرحلة الكلاسيكية (أي ما قبل ورود نماذج من الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر)، و مصدر هذا الفهم المشوّش هو أن الصين ستعرف، في مدرج تطويرها لتعبيرها الكتابي، وضعية لغوية جدّ خاصة لها ارتباط كبير بعامل التعلق بتعدّدية لغوية متكاملة. فبأثر من أسباب متشابكة مردها إلى وجهات نظر عميقة ستلازم نسقها الكتابي فإن الصين ستقترن، منذ فجر تاريخها، بلغة قابلة للتصريف التدويني ستعفي نفسها من إعادة إنتاج اللغة الطبيعية بفضل تموقعها على مبعدة من مدار الممارسة الشفوية. إن نسقها الكتابي هذا سوف لن ينحو، من زاوية أولى، منحى ذلك الجهاز من العلامات الصوتية، الذي هو جهاز ألفبائي، و من زاوية ثانية فإن التعبير الكتابي سيخلد إلى نوع من التًصامم إزاء ما “ينقال” و الانفتاح، في المقابل، على أيّما خطاب في هيئة طيّعة ل “لل نكتاب” و تدبّرها بعد ذلك بالتنقيح و التعديل.
إن كامل متنها المرجعي المدوّن، بمعنى نصوص الكلاسيكيين أو المؤرخين أو مربّي المدارس، بل و حتى وثائق الإدارة و المراسلات الشخصية، ناهيك عن الشعر، جميع هذه الأشياء سوف تشكل لسانا قوميا متماسكا انتهينا إلى توصيفه اليوم بصفة “لغة كلاسيكية” اقتدرت، مع ذلك، على أجرأة تمديّتها الكتابية و إرساء عامليتها القاعدية، على تسطير إبدالاتها اللفظية و اصطناع تركيبها الخالص، و اتخاذ، بالتالي، هيئة سنن أداتي في غاية الكمال سيلعب دور محرّك للثقافة الوطنية السامية. و إذ نوضح هذا الأمر نرانا مرغمين على تصويب، و من الفور، لما تم الإلماع إليه بصدد تصاممه، أي التعبير الكتابي، إزاء اللغة الطبيعية. فممّا لا جدال فيه أن هذه الأخيرة ستبقى محافظة، تقريبا، على وضعها الثابت و مجاورة، على هذا النحو، لتلك الثقافة الوطنية السامية، لكن بالمحاذاة منها كان يتفتق، رويدا رويدا، سجلّ ثان للكتابة (يستثمر طبعا نفس الحروف) عنه سيتولد وسيط جديد يمكن نعته باللغة “الشعبية”.
و عليه ففي غضون حقبة تاريخية تمتد من عهد أسرة “تانغ” (618 – 907) إلى عهد أسرة “يوان” (1279 – 1368)، و انطلاقا من جذر له صلة ما بالعظات البوذية، التي كانت لها جاذبية إقناعية ملموسة، قريبا جدا من القلوب و الأرواح، بل و من صلب اللغة التي كان يتداولها الناس ستتوافر إمكانية استيداع سرود و محكيات، و نفس الشيء ينطبق على المسرح، و ذلك توسلا بقناة إيصالية لن تتأخر في الإعلان عن نفسها كوجه ثان للتعدّدية اللغوية المتحدث عنها قبل حين. من المحقق أننا عندما نترجم أية لغة أروبية إلى اللغة الصينية تنتفي تلقائيا هذه الثنائية اللغوية بسبب من انعدام هذا الملمح في اللغات الأروبية الخاضعة مقدما لإملاءات الإبدالات الألفبائية في منسقياتها الكتابية، و رغما من هذا الانشطار اللغوي فإنها، أي اللغة الصينية، لعلى درجة من القوة و الاستمكان بحيث ستنجح في إعطاء فن السرد موقعا، يكاد يكون نسيج وحده، في المنظومة الحضارية الصينية. فمن الحقبة، التي ذكرناها، و حتى تقوّض الإمبراطورية لم يصدف أن شقّ أمر تصريف لغة مثنّاة في رحاب التقليد الكتابي الصيني، تلك النبيلة المنتسبة إلى التعبير الكلاسيكي و الأخرى المبخوس شأنها و المزرى بقيمتها، بالنظر إلى طابعها الاختراقي، و التي ستأخذ على عاتقها مهمة تحريك الفعاليتين الروائية و المسرحية. بطبيعة الحال هناك جسور تربط فيما بين السجلّين أو المدونتين لأن المسألة تتعلق، في الجوهر، بلغة واحدة انشطرت إلى مستويين أو مدارين يعادلان مشيئتين متباينتين للذات، متناقضتين بشكل فائق، سوف لن تتوانى عن تشخيصهما بالداخل منها، و هو ما يدعو إلى الإعجاب، لحسابها الخاص لا لصالح اعتبارات أخرى.
و لعله من المهم استيعاب أن الكيفية التي جاءت عليها الولادة المتأخرة في الصين، الشيء الذي يستلفت النظر حقا، للغة كتابية عنها ستتحدّر اللغة الشفوية لا تخرج عن نطاق تجارب معيشة في كامل المناخات اللغوية الأخرى، و بالتحديد تلك التي سعت إلى التجنيح بالشفوية إلى مرتبة الأسطورة. ففي السرود ذات النكهة الأسطورية، كما في الملاحم الحربية، سوف تتمكن اللغة الشعبية من البروز و نيل استحقاق مآثري لا ينكر، كما أنه بفضلها أيضا سيتم الاستحكام في دواليبها بكيفية توحي، و إن بنبرة خافتة للغاية، بنوع من تغريم فكرة الاعتراض على كون الصين لم يفتها أن تنكب على ذاتها، على تاريخها الخاص، داخل هذا النوع الوسائطي، و على ارتهان اللغة الكلاسيكية بوظيفة أشبه ما تكون بتحلية الدواء و التخفيف من حنظليته. و بعيدا عن المثل الأعلى الذي يضع نصب عينيه الالتفات كذلك إلى مجريات العالم و اعتمالاته، العالم الذي يستمسك به الخطاب المتأدب أو المثقفي و يقبس منه، فإن اللغة الشعبية عند التفاتها إلى شيء ما فهي تلتفت، في الحقيقة، إلى العنصر الصراعي أو الصدامي و تغدق عليه منسوبا من الحضور لا يمكن تجاهله أو القفز عليه.
إنها خاصية متأصلة، بدرجة أولى، في السرود الملحمية لا في الروايات، إذا ما نحن احتكمنا إلى المعنى الاصطلاحي للرواية، سيتملّكها النّفسان البطوليان الأولان، “منقبة الممالك الثلاث” و التحفة الخالدة “على ضفاف الماء”، اللذان سيظهران في أواخر حكم أسرة “يوان” و مطالع حكم أسرة “مينغ” (القرن الرابع عشر). و بالنسبة للعمل الثاني على الخصوص ليس في مكنتنا سوى الإشادة بمدى استحكامه في انحباك اللغة الشعبية و محايثة سائر تلاوينها المستدقة ممّا أتاحه، بما يكفي من التسامي، فن بتمامه لرواة بعينهم. كذلك سيتملّكها المسرح، الذي كان لا يزال، وقتها، يخطو خطواته الأولى، فهذا الأخير، و يحسن بنا أن نفضي بها في معرض هذه المقالة، لزمه أن يسير، يدا في يد، مع الرواية باعتبارها نوعا تعبيريا مجاورا. لقد جرى توجيههما، من خلال الموضوعات مثلا، وفقا لمقصد تبادلي يتناوبان جراءه على بذر هذه الموضوعات و تفتيقها، نموذج ذلك، الأوفى إقناعا في هذا الصدد، مسرحية “فسطاط الغرب” (كسيكسيانغ جي / حوالي 1300) التي يا ما أعيد انتساجها في رحاب روايات تعالج تاريخ الحب في الصين.
و كيما نتحقق من المكانة التي ما فتئ يتمتع بها حتى يومنا هذا الأبطال التاريخيون أو المتخيّلون لذينك العملين المبهرين لنستحضر هنا حصيلة ما عقد من مقارنات بينهم و بين أبطال ألكسندر دوما أو فيكتور هيغو لا ترقى، إن أردنا الموضوعية، إلى ما حازوا عليه من سؤدد روائي، و من ثم كان من الأصوب إجراء هذه المقارنات بينهم و بين أبطال هوميروس، هذا توازيا مع استشفاف الصلة الوطيدة التي تربط، و إلى الآن، الصينيين إلى شخوص، إلى وجوه كان أن صمّم لها، بمجرد تلامحها في فضاء هذين العملين، أن تخلد في ذاكرة المتخيّل الوطني.
فإلى هذه السرود بالذات، و ليس إلى النصوص التاريخية التي تتحدث عن سير أولئك الأبطال و أمجادهم، يعود الفضل في صيانة الذاكرة الجمعية لرمزية جنرالات، صناديد و شطّار، و محاربين و استراتيجيين سيكون جزاؤهم التكريم، إن لم نقل التقديس، إلى ما بعد مرحلة الممالك الثلاث (القرن الثالث) التي عاشوا فيها. أمّا المائة و ثمانية بطل لمناقع مرتفعات ليانغ، في مفخرة “على ضفاف الماء”، فما انفكوا يغذّون متخيّلا ينعم بالحياة و الاستمرارية و يبدو للعيان، عند أول وهلة، كما لو كان يجافي المثل الأعلى المتأدب أو المثقفي، متخيّلا تصنعه الحركية، الائتلاق الفردي، الاقتدار النفسي و البدني الخارق، و أيضا تحدي السلطة القائمة و مطاولتها. أو لم يحصل أن أسدى هؤلاء و أولئك، بلا مهادنة، خدمة معينة للجمهور من خلال التلفاز و السينما، تماما كما الأمر في التلفاز و السينما الهنديين اللذين يستثمران شخوص القصص الملحمية ؟ و لأنهم يظهرون مثلهم مثل مخلوقات مهرّبة إلى معتقل الروح فإن الصيغة السردية المعدّة لأبطال “على ضفاف الماء” لتظهر لنا، بدورها، و لكأنما هي شكل من أشكال تهريب اللغة الكلاسيكية التي ستسهم، منذ وقت مبكر، في انطلاقة الأسطورة بالصين.
قطعا لن تزيح اللغة الشعبية، قبل القرن العشرين و نشوء الحركة المعروفة بحركة رابع ماي 1919، اللغة الكلاسيكية أو تصادر منها دورها الداعم للثقافة النوعية لأن غاية مثل هاته لم تكن واردة في تفكير أيّ أحد، بيد أن هذا سوف لن يحول بين الوسط المتأدب أو المثقفي و بين الإمساك بزمام هذه الأداة الجديدة ثم تغيير موقعها بكيفية من الكيفيات. فمع بداية حكم أسرة “مينغ” (1368 – 1644) سيعي بعض ممثّلي هذا الوسط كون الرواية تجسد المظهر الفعلي لآداب تلك الفترة و ذلك كما شعّ الشعر المعياري في كنف حكم أسرة “تانغ” و شعر المردّدات الغنائية أوان حكم أسرة “سونغ”، معتمدين في هذا على تقسيمات جارية. من هنا إذن استدراج الرواية طوعا أو عسفا، بطريقة غير مباشرة، إلى دائرة سجالات و تناوشات ستستأثر بأهمية حاسمة في ذلك الإبان، و تعتبر نهايات عهد أسرة “مينغ” (من القرن السادس إلى القرن السابع عشر)، الذي سيشهد تساؤلات مقلقة و مؤرقة طالت أكثر من قضية، ميقات إزهار الرواية و إيناعها. فيما يخص رجالات الدين و الكتّاب البارعين سيأخذ الأمر مغزى بزوغ فجر تساؤلات تولد من رحم تضخم الدولة و نزوعها نحو الإمبراطورية، ضعف الأسرة الحاكمة و تراخي قبضتها الحديدية، و إكراهات الولاء أو الرقابة التي كانت تنغّص على المتأدبين / الموظفين و تذبذب، بالتالي، موقفهم المستوجب من ملوك غرقى في يمّ من الطغاة و المخصيّين.
إن الرواية، الواقعة إلى ذلك الحين تحت تأثير بعض المفكرين، ستعكس هذه الأمور و تبسط لها، من باب تذويت الوقائع و التوضّعات، صيغة أخلاقية فردية تقارب المشاكل اللصيقة بالحركية أو الخمول، بالسلوك، بترقية الذات، و في الجملة بتبعات الاختيارات الفردية و عواقبها، أي أن جزاء الاعتناق البوذي و متابته سيجري تحويرهما و ترجمتهما إلى ماهيات تؤشر على أفعال و إسقاطات محتملة، مرغوب فيها أو مرغوب عنها، لأوضاع حقيقية ملموسة. و في هذا النطاق فإن “السفر إلى الغرب” (المكتملة حوالي 1580) و “جين بّينغ ميي” (**) (المحرر في العشرية الموالية) ليعدّان عملين كبيرين بما هما، من جانب، ثمرتان لتلك الحداثة و يستكملان، من جانب آخر، حين نردفهما إلى الروايتين المذكورتين آنفا هذه اللائحة الرباعية العائدة إلى عهد أسرة “مينغ” و التي يصر البعض على اعتبارها أصلية و نافذة المفعول. فمن خلال رمزيتها الطاوية، قبل أيّ شيء آخر، تمثل “السفر إلى الغرب” فضاء ل “خيمياء باطنية” مستجدة ينمسخ في أتونها، حذافيريا، قرد فتصبح له هيئة بوذا. إن موضوع القتال لن تتبقى له، بدءا من الآن، تلك الصولة التي كانت له لمّا كان معبر الطامعين في الإمبراطورية المترهلة أو البلاط الذي ينخره الفساد، مثلما نلفي ذلك في “الممالك الثلاث” أو “على ضفاف الماء”، بقدر ما ستغدو الذات هي بؤرة العمل الروائي و طاقة ديناميته. فسفر القرد، الموتور ضميره على اللامعنى و الخواء، من أجل تأدية فروض الحج برفقة قانت قدّيس مهموم، على نحو أسطوري أخذ، بالتحرّي عن نصوص بوذا المقدسة يتضمن أربعا و ثمانين اختبارا على مدى الطريق الوعرة، القاسية، و المليئة بشتى المطبات التي اجتازاها في سفرتهما الحميمية، في حين أن “جبن بّينغ ميي” برواقها المؤثث بالعديد من البورتريهات، بحبكتها التي لا شأن لها بالحبكة في دلالتها الإطلاقية أو السائبة، بمحفل شخوصها، و طبعا بالعنصر الأكثر مجلبة للغمّ: كسيمين كينغ و رغائبه، زوجاته الست، رذائله التي أزكمت رائحتها الأنوف، فجوره و دعارته و شذوذه، اتخاذه لرفقة السوء و معاشرته لضعاف الأنفس و الخبثاء، أسرته التي تشبه سلة محشوة بعقارب سامّة و التي يتهدد شملها، تقريبا، اعتلاء قيمة الفرد على حساب عقيدة المجموع، فتعبّر بغير قليل من الحنكة، من خلال هذا التلوين الفطن، عن الوعي القلق لتلك الفترة المرتجة من التاريخ الصيني.
و بصفة عامة لنا أن نلاحظ إلى أيّ حدّ سينغوي مؤلفو تلك الفترة بممكنات هذه الأنماط من السرود و المحكيات انغواءهم بذلك المعين الزاخر الذي وفرته اللغة الشعبية. و في القرن السابع عشر، بالخصوص، سيأخذ في الالتئام ضرب من التجريب، التعبوي إن شئنا، يتوخى إعادة صياغة نصوص سالفة، مدونة باللغة الكلاسيكية، باللغة الشعبية لا يفرق في شيء، في جانب فائق منه، عن الخلفية الترويجية الدافعة للاعتناء بما ندعوه اليوم خرافات مروية توسلا باللغة الشعبية، سرود قصيرة تقوم على فصل واحد، و غالبا من الصنف السير – ذاتي، و حيث تتهيأ مجموعات من الإضمامات السردية، التي قد تبلغ قرابة مائتي خرافة، سيصدرها ناشران اثنان بمعية مؤلفين معروفين جدا ينتمون إلى إقليم يانغرى السفلى، و من بين هذه الإضمامات أنطولوجيا تغرف من هذا المتن و تحمل عنوان “مشاهد مثيرة من أيامنا و ممّا مضى” نراها مؤيدة، بما لا يقبل الدحض، لما كان لهذا الجنس الأدبي من أهمية دالة.
لقد كان الرهان الأكبر للفترة، على ما يبدو، هو انتقاء أجود ما يمكن من الطرائف و محكيات التّندر من مظانّ مكتوبة باللغة الكلاسيكية، من تواريخ السلالات الحاكمة، و من مجاميع المفكرات الشخصية للمتأدبين ثم إعدادها ثانية، بعد منحها جرعة من المغالاة، كسرود و مرويات ذات مرجعية لغوية شعبية مهذبة، هذه المرة، و لا تعدم “نبرة حكائية”، و لعل هذا المسلك شبيه، بوجه من الوجوه، بنمط من التعليق أو ما شاكل. و لنسجّل أنه كان من النادر جدا أن يقع الاهتمام بإنتاج أعمال خيالية ما دامت هذه الأجرأة تتغيّا تنويع الموضوعات، بل و تأخذ مذاق لعب أدابي أو مثقفي ستغدو معه، من الآن فصاعدا، مهارة تدبير اللغة الشعبية أو حذاقة جسّ نبضها الأدائي شاغلا مهيمنا يهمّ كافة الأطراف.
ملحظ آخر حقيق بالذكر و يتعلق بتجذر الخطاب الأدابي أو المثقفي ثانية، في تضاعيف الفترة التي تغطي القرنين السابع عشر و الثامن عشر و حتى بعد انتقال الحكم من أسرة “مينغ” إلى أسرة “كينغ” (1644 – 1911)، و استعادته لعافيته و تحوله، في خاتمة المطاف، إلى ندّ للخطاب الأخلاقي، و لربّما لهذا بالذات سيصاب النوع الروائي، بوصفه نوعا أهليا أو محلّيا، بالإنهاك و الهزال فتصير الرواية الصينية، كنتيجة، مضطرة إلى الاستعانة بالنماذج القادمة من الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر إن هي أرادت موالاة مسيرتها. فمع الانعطاف من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر لم يكن للنوع الروائي، المستغرق في إنتاجية غزيرة لأعمال عاطفية، في معظم الأحايين، من غير فائدة تذكر، بدّ من الاستمساك، و إن على نحو مضطرب أو قلق، بوظيفته النقدية التي لم تكن ميسورة أو هيّنة بأية حال، إذ أمست أنزع إلى الانعتام منها إلى الانفصاح، و من ثم فلا مدعاة للاستغراب إذا ما كانت قد تحولت مقصدية القدح و الاستذمام، في الغالب الأعم، إلى
رتوب و دوران في حلقة مفرغة عوض التجرؤ على البّاروديا كصيغة انتقادية ناجعة و متحررة. كذا سيكون الرّجحان و الغلبة للتمثّلات المتأدبة أو المثقفية التي من نماذجها البارزة “الوقائع الذائعة لسامي موظفي الإدارة الإمبراطورية” بحيث نجده يتوسل بتقنية هجائية في تعريته عن النظام الإقصائي للمباريات الرسمية.
رغما من هذا سيقتدر النوع الروائي، ضمنيا، على فرض تحاشي مقايسته مع السيرة الذاتية أو الرواية التعليمية، و غير خاف ما كان لهذين الصنفين السرديين من أهمية و ثقل في سيرورة الرواية الحديثة بأروبا بسبب من انحيازهما إلى التعبير من خلال الصور و ذلك بطريقة ملتوية بقدر ما هي لاشخصية، فكل شيء يجري، مهما يكن في فضائهما الروائي، على وجه الاحتمال الزمني و المكاني و الحدثي الذي تنذر له تجربة فردية قحّة و مخصوصة. لكن هذا التحاشي لن يصونه من المشارفة على غروبه و التأهب للحظة انحطاطه مكتفيا، و قد احتدت لهجة التعريض به و الغمز من قناته، بشكله الناجز كصنيع أدبي لا يخلو من قيمة ترميزية، كعمل تخييلي مشدود إلى الأساطير الأصلية، و بصيغة موازية كنوع محكوم عليه، على ما بلغه من مستوى متحف، بأن يتوج تقليدا أدبيا رصينا استشرى لقرون مديدة.
إن “حلم المقصورة الحمراء”، التي تتوجب علينا الإشارة إلى قصور الترجمة الفرنسية عن الإيفاء بدلالة عنوانها هذا، و المعروفة أيضا بتسمية أخرى هي “حكاية حجرة” (بنصب الحاء و الجيم) ل كاو كسيكان (1715 – 1763) لتتخذ هيئة قصة تتمركز حول شخصية متفردة لكنها، أي الشخصية ذات المواصفات الهشة، لا تتورع، عند نطقها، باستلاف خطاب ليس خطابها. فالمؤلف ينوه في مفتتح الرواية، بكيفية غير مباشرة، إلى مسوّغات اختياره للغة الشعبية، إلى الشكل الروائي الذي ينشده، لذا أفليس بمقدورنا اعتبار تنويهه هذا، المتوقع منه أن يكون أمينا لا تدليسيا، و في هذا الموقف الروائي لا في غيره، محض كلام مقترض هو الآخر سيثمر ذاتا شخصية زائفة أكثر منها حقيقية ؟
أخيرا إن كان لا يزال في صين اليوم نوع من الإجماع، الفائض الحماس، على “الحلم” الروائي فما من شك في أن هذا يعود إلى كونه يمس، في الصميم، الجمهور الصيني الشديد الولاء لعوالم الذاكرة، الطفولة، النساء، و لكل ما يمكن أن يساهم في إعادة بناء أفق نستطيع اختزاله في كلمة واحدة لا غير: الحنين. قد لا يكون هنا موئل خطابه و لا هذا المكان بذاك الذي قد تحضر فيه الذات عنوة، إذ قد تختار التواجد في مكان مغاير، لكن دعونا نقول إن الانفلاق الغريب الذي آلت إليه الصين العتيقة و أسفر عن مدونة مثنّاة للكتابة، نعنى ذلك التوزع، الموصوف، بين لغة كلاسيكية و أخرى شعبية لا نستبعد أن تكون له يد في هذه الوضعية الملتبسة.
_____________________________
(*) أستاذ محاضر في وحدة التكوين و البحث في لغات و حضارات آسيا الشرقية بجامعة باريس السابعة – دنيس ديدرو.
(**) مثبت هكذا، في متن المقالة، بدون مقابل باللغة الفرنسية بينما يرد هذا المقابل في البيبليوغرافيا الموالية [المترجم].
/ بيبليوغرافيا:
– “على ضفاف الماء”، شي ني آن، ترجمة: جاك دار، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1978، جزءان (طبعة في مائة و تسعة فصول)، طبعة ثانية ضمن سلسلة “فوليو”، 1997، جزءان (مجملة في واحد و سبعين فصلا).
– “منقبة الممالك الثلاث”، لووو غوانزهونغ، ترجمة: جان ليفي/ لويس ريكو، منشورات فلاماريون، 1987 – 1991، سبعة أجزاء.
– “السفر إلى الغرب”، فو شينغ إين، ترجمة: أندري ليفي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1991، جزءان.
– “جين بّينغ ميي” أو “زهرة في قارورة مذهّبة”، ترجمة: أندري ليفي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1985، جزءان، طبعة ثانية ضمن سلسلة “فوليو”، 2004، جزءان.
– “مشاهد مثيرة من أيامنا و ممّا مضى” لمؤلف مجهول، ترجمة: رينيي لانسيي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1996.
– “حلم المقصورة الحمراء”، كاو كسيكان (1715 – 1763)، ترجمة: لي تشي هوا / جاكلين أليزايس، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1981، جزءان. كاو كسيكان / غاو. إ “حكاية حجرة” (بنصب الحاء و الجيم)، ترجمة: دافيد هاوكس / جون مينفورد، بلومينغتون، منشورات بّنغوين، كلاسيكيات بّنغوين، 1973 – 1986، خمسة أجزاء.
الروايات الكبرى في الصين العتيقةرينيي لانسيي (*)
لربّما هناك شيء ما غالبا ما يفهمه القارئ الغربي، و الفرنسي على وجه التحديد، بشكل محرّف أو مغلوط كلما انطرح أمر الأدب الصيني خلال المرحلة الكلاسيكية (أي ما قبل ورود نماذج من الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر)، و مصدر هذا الفهم المشوّش هو أن الصين ستعرف، في مدرج تطويرها لتعبيرها الكتابي، وضعية لغوية جدّ خاصة لها ارتباط كبير بعامل التعلق بتعدّدية لغوية متكاملة. فبأثر من أسباب متشابكة مردها إلى وجهات نظر عميقة ستلازم نسقها الكتابي فإن الصين ستقترن، منذ فجر تاريخها، بلغة قابلة للتصريف التدويني ستعفي نفسها من إعادة إنتاج اللغة الطبيعية بفضل تموقعها على مبعدة من مدار الممارسة الشفوية. إن نسقها الكتابي هذا سوف لن ينحو، من زاوية أولى، منحى ذلك الجهاز من العلامات الصوتية، الذي هو جهاز ألفبائي، و من زاوية ثانية فإن التعبير الكتابي سيخلد إلى نوع من التًصامم إزاء ما “ينقال” و الانفتاح، في المقابل، على أيّما خطاب في هيئة طيّعة ل “لل نكتاب” و تدبّرها بعد ذلك بالتنقيح و التعديل.إن كامل متنها المرجعي المدوّن، بمعنى نصوص الكلاسيكيين أو المؤرخين أو مربّي المدارس، بل و حتى وثائق الإدارة و المراسلات الشخصية، ناهيك عن الشعر، جميع هذه الأشياء سوف تشكل لسانا قوميا متماسكا انتهينا إلى توصيفه اليوم بصفة “لغة كلاسيكية” اقتدرت، مع ذلك، على أجرأة تمديّتها الكتابية و إرساء عامليتها القاعدية، على تسطير إبدالاتها اللفظية و اصطناع تركيبها الخالص، و اتخاذ، بالتالي، هيئة سنن أداتي في غاية الكمال سيلعب دور محرّك للثقافة الوطنية السامية. و إذ نوضح هذا الأمر نرانا مرغمين على تصويب، و من الفور، لما تم الإلماع إليه بصدد تصاممه، أي التعبير الكتابي، إزاء اللغة الطبيعية. فممّا لا جدال فيه أن هذه الأخيرة ستبقى محافظة، تقريبا، على وضعها الثابت و مجاورة، على هذا النحو، لتلك الثقافة الوطنية السامية، لكن بالمحاذاة منها كان يتفتق، رويدا رويدا، سجلّ ثان للكتابة (يستثمر طبعا نفس الحروف) عنه سيتولد وسيط جديد يمكن نعته باللغة “الشعبية”.و عليه ففي غضون حقبة تاريخية تمتد من عهد أسرة “تانغ” (618 – 907) إلى عهد أسرة “يوان” (1279 – 1368)، و انطلاقا من جذر له صلة ما بالعظات البوذية، التي كانت لها جاذبية إقناعية ملموسة، قريبا جدا من القلوب و الأرواح، بل و من صلب اللغة التي كان يتداولها الناس ستتوافر إمكانية استيداع سرود و محكيات، و نفس الشيء ينطبق على المسرح، و ذلك توسلا بقناة إيصالية لن تتأخر في الإعلان عن نفسها كوجه ثان للتعدّدية اللغوية المتحدث عنها قبل حين. من المحقق أننا عندما نترجم أية لغة أروبية إلى اللغة الصينية تنتفي تلقائيا هذه الثنائية اللغوية بسبب من انعدام هذا الملمح في اللغات الأروبية الخاضعة مقدما لإملاءات الإبدالات الألفبائية في منسقياتها الكتابية، و رغما من هذا الانشطار اللغوي فإنها، أي اللغة الصينية، لعلى درجة من القوة و الاستمكان بحيث ستنجح في إعطاء فن السرد موقعا، يكاد يكون نسيج وحده، في المنظومة الحضارية الصينية. فمن الحقبة، التي ذكرناها، و حتى تقوّض الإمبراطورية لم يصدف أن شقّ أمر تصريف لغة مثنّاة في رحاب التقليد الكتابي الصيني، تلك النبيلة المنتسبة إلى التعبير الكلاسيكي و الأخرى المبخوس شأنها و المزرى بقيمتها، بالنظر إلى طابعها الاختراقي، و التي ستأخذ على عاتقها مهمة تحريك الفعاليتين الروائية و المسرحية. بطبيعة الحال هناك جسور تربط فيما بين السجلّين أو المدونتين لأن المسألة تتعلق، في الجوهر، بلغة واحدة انشطرت إلى مستويين أو مدارين يعادلان مشيئتين متباينتين للذات، متناقضتين بشكل فائق، سوف لن تتوانى عن تشخيصهما بالداخل منها، و هو ما يدعو إلى الإعجاب، لحسابها الخاص لا لصالح اعتبارات أخرى.و لعله من المهم استيعاب أن الكيفية التي جاءت عليها الولادة المتأخرة في الصين، الشيء الذي يستلفت النظر حقا، للغة كتابية عنها ستتحدّر اللغة الشفوية لا تخرج عن نطاق تجارب معيشة في كامل المناخات اللغوية الأخرى، و بالتحديد تلك التي سعت إلى التجنيح بالشفوية إلى مرتبة الأسطورة. ففي السرود ذات النكهة الأسطورية، كما في الملاحم الحربية، سوف تتمكن اللغة الشعبية من البروز و نيل استحقاق مآثري لا ينكر، كما أنه بفضلها أيضا سيتم الاستحكام في دواليبها بكيفية توحي، و إن بنبرة خافتة للغاية، بنوع من تغريم فكرة الاعتراض على كون الصين لم يفتها أن تنكب على ذاتها، على تاريخها الخاص، داخل هذا النوع الوسائطي، و على ارتهان اللغة الكلاسيكية بوظيفة أشبه ما تكون بتحلية الدواء و التخفيف من حنظليته. و بعيدا عن المثل الأعلى الذي يضع نصب عينيه الالتفات كذلك إلى مجريات العالم و اعتمالاته، العالم الذي يستمسك به الخطاب المتأدب أو المثقفي و يقبس منه، فإن اللغة الشعبية عند التفاتها إلى شيء ما فهي تلتفت، في الحقيقة، إلى العنصر الصراعي أو الصدامي و تغدق عليه منسوبا من الحضور لا يمكن تجاهله أو القفز عليه.إنها خاصية متأصلة، بدرجة أولى، في السرود الملحمية لا في الروايات، إذا ما نحن احتكمنا إلى المعنى الاصطلاحي للرواية، سيتملّكها النّفسان البطوليان الأولان، “منقبة الممالك الثلاث” و التحفة الخالدة “على ضفاف الماء”، اللذان سيظهران في أواخر حكم أسرة “يوان” و مطالع حكم أسرة “مينغ” (القرن الرابع عشر). و بالنسبة للعمل الثاني على الخصوص ليس في مكنتنا سوى الإشادة بمدى استحكامه في انحباك اللغة الشعبية و محايثة سائر تلاوينها المستدقة ممّا أتاحه، بما يكفي من التسامي، فن بتمامه لرواة بعينهم. كذلك سيتملّكها المسرح، الذي كان لا يزال، وقتها، يخطو خطواته الأولى، فهذا الأخير، و يحسن بنا أن نفضي بها في معرض هذه المقالة، لزمه أن يسير، يدا في يد، مع الرواية باعتبارها نوعا تعبيريا مجاورا. لقد جرى توجيههما، من خلال الموضوعات مثلا، وفقا لمقصد تبادلي يتناوبان جراءه على بذر هذه الموضوعات و تفتيقها، نموذج ذلك، الأوفى إقناعا في هذا الصدد، مسرحية “فسطاط الغرب” (كسيكسيانغ جي / حوالي 1300) التي يا ما أعيد انتساجها في رحاب روايات تعالج تاريخ الحب في الصين.و كيما نتحقق من المكانة التي ما فتئ يتمتع بها حتى يومنا هذا الأبطال التاريخيون أو المتخيّلون لذينك العملين المبهرين لنستحضر هنا حصيلة ما عقد من مقارنات بينهم و بين أبطال ألكسندر دوما أو فيكتور هيغو لا ترقى، إن أردنا الموضوعية، إلى ما حازوا عليه من سؤدد روائي، و من ثم كان من الأصوب إجراء هذه المقارنات بينهم و بين أبطال هوميروس، هذا توازيا مع استشفاف الصلة الوطيدة التي تربط، و إلى الآن، الصينيين إلى شخوص، إلى وجوه كان أن صمّم لها، بمجرد تلامحها في فضاء هذين العملين، أن تخلد في ذاكرة المتخيّل الوطني.فإلى هذه السرود بالذات، و ليس إلى النصوص التاريخية التي تتحدث عن سير أولئك الأبطال و أمجادهم، يعود الفضل في صيانة الذاكرة الجمعية لرمزية جنرالات، صناديد و شطّار، و محاربين و استراتيجيين سيكون جزاؤهم التكريم، إن لم نقل التقديس، إلى ما بعد مرحلة الممالك الثلاث (القرن الثالث) التي عاشوا فيها. أمّا المائة و ثمانية بطل لمناقع مرتفعات ليانغ، في مفخرة “على ضفاف الماء”، فما انفكوا يغذّون متخيّلا ينعم بالحياة و الاستمرارية و يبدو للعيان، عند أول وهلة، كما لو كان يجافي المثل الأعلى المتأدب أو المثقفي، متخيّلا تصنعه الحركية، الائتلاق الفردي، الاقتدار النفسي و البدني الخارق، و أيضا تحدي السلطة القائمة و مطاولتها. أو لم يحصل أن أسدى هؤلاء و أولئك، بلا مهادنة، خدمة معينة للجمهور من خلال التلفاز و السينما، تماما كما الأمر في التلفاز و السينما الهنديين اللذين يستثمران شخوص القصص الملحمية ؟ و لأنهم يظهرون مثلهم مثل مخلوقات مهرّبة إلى معتقل الروح فإن الصيغة السردية المعدّة لأبطال “على ضفاف الماء” لتظهر لنا، بدورها، و لكأنما هي شكل من أشكال تهريب اللغة الكلاسيكية التي ستسهم، منذ وقت مبكر، في انطلاقة الأسطورة بالصين.قطعا لن تزيح اللغة الشعبية، قبل القرن العشرين و نشوء الحركة المعروفة بحركة رابع ماي 1919، اللغة الكلاسيكية أو تصادر منها دورها الداعم للثقافة النوعية لأن غاية مثل هاته لم تكن واردة في تفكير أيّ أحد، بيد أن هذا سوف لن يحول بين الوسط المتأدب أو المثقفي و بين الإمساك بزمام هذه الأداة الجديدة ثم تغيير موقعها بكيفية من الكيفيات. فمع بداية حكم أسرة “مينغ” (1368 – 1644) سيعي بعض ممثّلي هذا الوسط كون الرواية تجسد المظهر الفعلي لآداب تلك الفترة و ذلك كما شعّ الشعر المعياري في كنف حكم أسرة “تانغ” و شعر المردّدات الغنائية أوان حكم أسرة “سونغ”، معتمدين في هذا على تقسيمات جارية. من هنا إذن استدراج الرواية طوعا أو عسفا، بطريقة غير مباشرة، إلى دائرة سجالات و تناوشات ستستأثر بأهمية حاسمة في ذلك الإبان، و تعتبر نهايات عهد أسرة “مينغ” (من القرن السادس إلى القرن السابع عشر)، الذي سيشهد تساؤلات مقلقة و مؤرقة طالت أكثر من قضية، ميقات إزهار الرواية و إيناعها. فيما يخص رجالات الدين و الكتّاب البارعين سيأخذ الأمر مغزى بزوغ فجر تساؤلات تولد من رحم تضخم الدولة و نزوعها نحو الإمبراطورية، ضعف الأسرة الحاكمة و تراخي قبضتها الحديدية، و إكراهات الولاء أو الرقابة التي كانت تنغّص على المتأدبين / الموظفين و تذبذب، بالتالي، موقفهم المستوجب من ملوك غرقى في يمّ من الطغاة و المخصيّين.إن الرواية، الواقعة إلى ذلك الحين تحت تأثير بعض المفكرين، ستعكس هذه الأمور و تبسط لها، من باب تذويت الوقائع و التوضّعات، صيغة أخلاقية فردية تقارب المشاكل اللصيقة بالحركية أو الخمول، بالسلوك، بترقية الذات، و في الجملة بتبعات الاختيارات الفردية و عواقبها، أي أن جزاء الاعتناق البوذي و متابته سيجري تحويرهما و ترجمتهما إلى ماهيات تؤشر على أفعال و إسقاطات محتملة، مرغوب فيها أو مرغوب عنها، لأوضاع حقيقية ملموسة. و في هذا النطاق فإن “السفر إلى الغرب” (المكتملة حوالي 1580) و “جين بّينغ ميي” (**) (المحرر في العشرية الموالية) ليعدّان عملين كبيرين بما هما، من جانب، ثمرتان لتلك الحداثة و يستكملان، من جانب آخر، حين نردفهما إلى الروايتين المذكورتين آنفا هذه اللائحة الرباعية العائدة إلى عهد أسرة “مينغ” و التي يصر البعض على اعتبارها أصلية و نافذة المفعول. فمن خلال رمزيتها الطاوية، قبل أيّ شيء آخر، تمثل “السفر إلى الغرب” فضاء ل “خيمياء باطنية” مستجدة ينمسخ في أتونها، حذافيريا، قرد فتصبح له هيئة بوذا. إن موضوع القتال لن تتبقى له، بدءا من الآن، تلك الصولة التي كانت له لمّا كان معبر الطامعين في الإمبراطورية المترهلة أو البلاط الذي ينخره الفساد، مثلما نلفي ذلك في “الممالك الثلاث” أو “على ضفاف الماء”، بقدر ما ستغدو الذات هي بؤرة العمل الروائي و طاقة ديناميته. فسفر القرد، الموتور ضميره على اللامعنى و الخواء، من أجل تأدية فروض الحج برفقة قانت قدّيس مهموم، على نحو أسطوري أخذ، بالتحرّي عن نصوص بوذا المقدسة يتضمن أربعا و ثمانين اختبارا على مدى الطريق الوعرة، القاسية، و المليئة بشتى المطبات التي اجتازاها في سفرتهما الحميمية، في حين أن “جبن بّينغ ميي” برواقها المؤثث بالعديد من البورتريهات، بحبكتها التي لا شأن لها بالحبكة في دلالتها الإطلاقية أو السائبة، بمحفل شخوصها، و طبعا بالعنصر الأكثر مجلبة للغمّ: كسيمين كينغ و رغائبه، زوجاته الست، رذائله التي أزكمت رائحتها الأنوف، فجوره و دعارته و شذوذه، اتخاذه لرفقة السوء و معاشرته لضعاف الأنفس و الخبثاء، أسرته التي تشبه سلة محشوة بعقارب سامّة و التي يتهدد شملها، تقريبا، اعتلاء قيمة الفرد على حساب عقيدة المجموع، فتعبّر بغير قليل من الحنكة، من خلال هذا التلوين الفطن، عن الوعي القلق لتلك الفترة المرتجة من التاريخ الصيني.و بصفة عامة لنا أن نلاحظ إلى أيّ حدّ سينغوي مؤلفو تلك الفترة بممكنات هذه الأنماط من السرود و المحكيات انغواءهم بذلك المعين الزاخر الذي وفرته اللغة الشعبية. و في القرن السابع عشر، بالخصوص، سيأخذ في الالتئام ضرب من التجريب، التعبوي إن شئنا، يتوخى إعادة صياغة نصوص سالفة، مدونة باللغة الكلاسيكية، باللغة الشعبية لا يفرق في شيء، في جانب فائق منه، عن الخلفية الترويجية الدافعة للاعتناء بما ندعوه اليوم خرافات مروية توسلا باللغة الشعبية، سرود قصيرة تقوم على فصل واحد، و غالبا من الصنف السير – ذاتي، و حيث تتهيأ مجموعات من الإضمامات السردية، التي قد تبلغ قرابة مائتي خرافة، سيصدرها ناشران اثنان بمعية مؤلفين معروفين جدا ينتمون إلى إقليم يانغرى السفلى، و من بين هذه الإضمامات أنطولوجيا تغرف من هذا المتن و تحمل عنوان “مشاهد مثيرة من أيامنا و ممّا مضى” نراها مؤيدة، بما لا يقبل الدحض، لما كان لهذا الجنس الأدبي من أهمية دالة.لقد كان الرهان الأكبر للفترة، على ما يبدو، هو انتقاء أجود ما يمكن من الطرائف و محكيات التّندر من مظانّ مكتوبة باللغة الكلاسيكية، من تواريخ السلالات الحاكمة، و من مجاميع المفكرات الشخصية للمتأدبين ثم إعدادها ثانية، بعد منحها جرعة من المغالاة، كسرود و مرويات ذات مرجعية لغوية شعبية مهذبة، هذه المرة، و لا تعدم “نبرة حكائية”، و لعل هذا المسلك شبيه، بوجه من الوجوه، بنمط من التعليق أو ما شاكل. و لنسجّل أنه كان من النادر جدا أن يقع الاهتمام بإنتاج أعمال خيالية ما دامت هذه الأجرأة تتغيّا تنويع الموضوعات، بل و تأخذ مذاق لعب أدابي أو مثقفي ستغدو معه، من الآن فصاعدا، مهارة تدبير اللغة الشعبية أو حذاقة جسّ نبضها الأدائي شاغلا مهيمنا يهمّ كافة الأطراف.ملحظ آخر حقيق بالذكر و يتعلق بتجذر الخطاب الأدابي أو المثقفي ثانية، في تضاعيف الفترة التي تغطي القرنين السابع عشر و الثامن عشر و حتى بعد انتقال الحكم من أسرة “مينغ” إلى أسرة “كينغ” (1644 – 1911)، و استعادته لعافيته و تحوله، في خاتمة المطاف، إلى ندّ للخطاب الأخلاقي، و لربّما لهذا بالذات سيصاب النوع الروائي، بوصفه نوعا أهليا أو محلّيا، بالإنهاك و الهزال فتصير الرواية الصينية، كنتيجة، مضطرة إلى الاستعانة بالنماذج القادمة من الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر إن هي أرادت موالاة مسيرتها. فمع الانعطاف من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر لم يكن للنوع الروائي، المستغرق في إنتاجية غزيرة لأعمال عاطفية، في معظم الأحايين، من غير فائدة تذكر، بدّ من الاستمساك، و إن على نحو مضطرب أو قلق، بوظيفته النقدية التي لم تكن ميسورة أو هيّنة بأية حال، إذ أمست أنزع إلى الانعتام منها إلى الانفصاح، و من ثم فلا مدعاة للاستغراب إذا ما كانت قد تحولت مقصدية القدح و الاستذمام، في الغالب الأعم، إلى رتوب و دوران في حلقة مفرغة عوض التجرؤ على البّاروديا كصيغة انتقادية ناجعة و متحررة. كذا سيكون الرّجحان و الغلبة للتمثّلات المتأدبة أو المثقفية التي من نماذجها البارزة “الوقائع الذائعة لسامي موظفي الإدارة الإمبراطورية” بحيث نجده يتوسل بتقنية هجائية في تعريته عن النظام الإقصائي للمباريات الرسمية.رغما من هذا سيقتدر النوع الروائي، ضمنيا، على فرض تحاشي مقايسته مع السيرة الذاتية أو الرواية التعليمية، و غير خاف ما كان لهذين الصنفين السرديين من أهمية و ثقل في سيرورة الرواية الحديثة بأروبا بسبب من انحيازهما إلى التعبير من خلال الصور و ذلك بطريقة ملتوية بقدر ما هي لاشخصية، فكل شيء يجري، مهما يكن في فضائهما الروائي، على وجه الاحتمال الزمني و المكاني و الحدثي الذي تنذر له تجربة فردية قحّة و مخصوصة. لكن هذا التحاشي لن يصونه من المشارفة على غروبه و التأهب للحظة انحطاطه مكتفيا، و قد احتدت لهجة التعريض به و الغمز من قناته، بشكله الناجز كصنيع أدبي لا يخلو من قيمة ترميزية، كعمل تخييلي مشدود إلى الأساطير الأصلية، و بصيغة موازية كنوع محكوم عليه، على ما بلغه من مستوى متحف، بأن يتوج تقليدا أدبيا رصينا استشرى لقرون مديدة.إن “حلم المقصورة الحمراء”، التي تتوجب علينا الإشارة إلى قصور الترجمة الفرنسية عن الإيفاء بدلالة عنوانها هذا، و المعروفة أيضا بتسمية أخرى هي “حكاية حجرة” (بنصب الحاء و الجيم) ل كاو كسيكان (1715 – 1763) لتتخذ هيئة قصة تتمركز حول شخصية متفردة لكنها، أي الشخصية ذات المواصفات الهشة، لا تتورع، عند نطقها، باستلاف خطاب ليس خطابها. فالمؤلف ينوه في مفتتح الرواية، بكيفية غير مباشرة، إلى مسوّغات اختياره للغة الشعبية، إلى الشكل الروائي الذي ينشده، لذا أفليس بمقدورنا اعتبار تنويهه هذا، المتوقع منه أن يكون أمينا لا تدليسيا، و في هذا الموقف الروائي لا في غيره، محض كلام مقترض هو الآخر سيثمر ذاتا شخصية زائفة أكثر منها حقيقية ؟أخيرا إن كان لا يزال في صين اليوم نوع من الإجماع، الفائض الحماس، على “الحلم” الروائي فما من شك في أن هذا يعود إلى كونه يمس، في الصميم، الجمهور الصيني الشديد الولاء لعوالم الذاكرة، الطفولة، النساء، و لكل ما يمكن أن يساهم في إعادة بناء أفق نستطيع اختزاله في كلمة واحدة لا غير: الحنين. قد لا يكون هنا موئل خطابه و لا هذا المكان بذاك الذي قد تحضر فيه الذات عنوة، إذ قد تختار التواجد في مكان مغاير، لكن دعونا نقول إن الانفلاق الغريب الذي آلت إليه الصين العتيقة و أسفر عن مدونة مثنّاة للكتابة، نعنى ذلك التوزع، الموصوف، بين لغة كلاسيكية و أخرى شعبية لا نستبعد أن تكون له يد في هذه الوضعية الملتبسة._____________________________(*) أستاذ محاضر في وحدة التكوين و البحث في لغات و حضارات آسيا الشرقية بجامعة باريس السابعة – دنيس ديدرو.(**) مثبت هكذا، في متن المقالة، بدون مقابل باللغة الفرنسية بينما يرد هذا المقابل في البيبليوغرافيا الموالية [المترجم]./ بيبليوغرافيا:- “على ضفاف الماء”، شي ني آن، ترجمة: جاك دار، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1978، جزءان (طبعة في مائة و تسعة فصول)، طبعة ثانية ضمن سلسلة “فوليو”، 1997، جزءان (مجملة في واحد و سبعين فصلا).- “منقبة الممالك الثلاث”، لووو غوانزهونغ، ترجمة: جان ليفي/ لويس ريكو، منشورات فلاماريون، 1987 – 1991، سبعة أجزاء.- “السفر إلى الغرب”، فو شينغ إين، ترجمة: أندري ليفي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1991، جزءان.- “جين بّينغ ميي” أو “زهرة في قارورة مذهّبة”، ترجمة: أندري ليفي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1985، جزءان، طبعة ثانية ضمن سلسلة “فوليو”، 2004، جزءان.- “مشاهد مثيرة من أيامنا و ممّا مضى” لمؤلف مجهول، ترجمة: رينيي لانسيي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1996.- “الوقائع الذائعة لسامي موظفي الإدارة الإمبراطورية”، فوو كينغ تسو (فو جينغزي 1701 – 1754)، ترجمة: تشانغ فو جووي، منشورات غاليمار، سلسلة “معرفة الشرق”، 1976، جزءان.- “حلم المقصورة الحمراء”، كاو كسيكان (1715 – 1763)، ترجمة: لي تشي هوا / جاكلين أليزايس، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1981، جزءان. كاو كسيكان / غاو. إ “حكاية حجرة” (بنصب الحاء و الجيم)، ترجمة: دافيد هاوكس / جون مينفورد، بلومينغتون، منشورات بّنغوين، كلاسيكيات بّنغوين، 1973 – 1986، خمسة أجزاء.
أغسطس 26 2014
الروايات الكبرى في الصين العتيقة …….. رينيي لانسيي
الروايات الكبرى في الصين العتيقةرينيي لانسيي (*)
لربّما هناك شيء ما غالبا ما يفهمه القارئ الغربي، و الفرنسي على وجه التحديد، بشكل محرّف أو مغلوط كلما انطرح أمر الأدب الصيني خلال المرحلة الكلاسيكية (أي ما قبل ورود نماذج من الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر)، و مصدر هذا الفهم المشوّش هو أن الصين ستعرف، في مدرج تطويرها لتعبيرها الكتابي، وضعية لغوية جدّ خاصة لها ارتباط كبير بعامل التعلق بتعدّدية لغوية متكاملة. فبأثر من أسباب متشابكة مردها إلى وجهات نظر عميقة ستلازم نسقها الكتابي فإن الصين ستقترن، منذ فجر تاريخها، بلغة قابلة للتصريف التدويني ستعفي نفسها من إعادة إنتاج اللغة الطبيعية بفضل تموقعها على مبعدة من مدار الممارسة الشفوية. إن نسقها الكتابي هذا سوف لن ينحو، من زاوية أولى، منحى ذلك الجهاز من العلامات الصوتية، الذي هو جهاز ألفبائي، و من زاوية ثانية فإن التعبير الكتابي سيخلد إلى نوع من التًصامم إزاء ما “ينقال” و الانفتاح، في المقابل، على أيّما خطاب في هيئة طيّعة ل “لل نكتاب” و تدبّرها بعد ذلك بالتنقيح و التعديل.إن كامل متنها المرجعي المدوّن، بمعنى نصوص الكلاسيكيين أو المؤرخين أو مربّي المدارس، بل و حتى وثائق الإدارة و المراسلات الشخصية، ناهيك عن الشعر، جميع هذه الأشياء سوف تشكل لسانا قوميا متماسكا انتهينا إلى توصيفه اليوم بصفة “لغة كلاسيكية” اقتدرت، مع ذلك، على أجرأة تمديّتها الكتابية و إرساء عامليتها القاعدية، على تسطير إبدالاتها اللفظية و اصطناع تركيبها الخالص، و اتخاذ، بالتالي، هيئة سنن أداتي في غاية الكمال سيلعب دور محرّك للثقافة الوطنية السامية. و إذ نوضح هذا الأمر نرانا مرغمين على تصويب، و من الفور، لما تم الإلماع إليه بصدد تصاممه، أي التعبير الكتابي، إزاء اللغة الطبيعية. فممّا لا جدال فيه أن هذه الأخيرة ستبقى محافظة، تقريبا، على وضعها الثابت و مجاورة، على هذا النحو، لتلك الثقافة الوطنية السامية، لكن بالمحاذاة منها كان يتفتق، رويدا رويدا، سجلّ ثان للكتابة (يستثمر طبعا نفس الحروف) عنه سيتولد وسيط جديد يمكن نعته باللغة “الشعبية”.و عليه ففي غضون حقبة تاريخية تمتد من عهد أسرة “تانغ” (618 – 907) إلى عهد أسرة “يوان” (1279 – 1368)، و انطلاقا من جذر له صلة ما بالعظات البوذية، التي كانت لها جاذبية إقناعية ملموسة، قريبا جدا من القلوب و الأرواح، بل و من صلب اللغة التي كان يتداولها الناس ستتوافر إمكانية استيداع سرود و محكيات، و نفس الشيء ينطبق على المسرح، و ذلك توسلا بقناة إيصالية لن تتأخر في الإعلان عن نفسها كوجه ثان للتعدّدية اللغوية المتحدث عنها قبل حين. من المحقق أننا عندما نترجم أية لغة أروبية إلى اللغة الصينية تنتفي تلقائيا هذه الثنائية اللغوية بسبب من انعدام هذا الملمح في اللغات الأروبية الخاضعة مقدما لإملاءات الإبدالات الألفبائية في منسقياتها الكتابية، و رغما من هذا الانشطار اللغوي فإنها، أي اللغة الصينية، لعلى درجة من القوة و الاستمكان بحيث ستنجح في إعطاء فن السرد موقعا، يكاد يكون نسيج وحده، في المنظومة الحضارية الصينية. فمن الحقبة، التي ذكرناها، و حتى تقوّض الإمبراطورية لم يصدف أن شقّ أمر تصريف لغة مثنّاة في رحاب التقليد الكتابي الصيني، تلك النبيلة المنتسبة إلى التعبير الكلاسيكي و الأخرى المبخوس شأنها و المزرى بقيمتها، بالنظر إلى طابعها الاختراقي، و التي ستأخذ على عاتقها مهمة تحريك الفعاليتين الروائية و المسرحية. بطبيعة الحال هناك جسور تربط فيما بين السجلّين أو المدونتين لأن المسألة تتعلق، في الجوهر، بلغة واحدة انشطرت إلى مستويين أو مدارين يعادلان مشيئتين متباينتين للذات، متناقضتين بشكل فائق، سوف لن تتوانى عن تشخيصهما بالداخل منها، و هو ما يدعو إلى الإعجاب، لحسابها الخاص لا لصالح اعتبارات أخرى.و لعله من المهم استيعاب أن الكيفية التي جاءت عليها الولادة المتأخرة في الصين، الشيء الذي يستلفت النظر حقا، للغة كتابية عنها ستتحدّر اللغة الشفوية لا تخرج عن نطاق تجارب معيشة في كامل المناخات اللغوية الأخرى، و بالتحديد تلك التي سعت إلى التجنيح بالشفوية إلى مرتبة الأسطورة. ففي السرود ذات النكهة الأسطورية، كما في الملاحم الحربية، سوف تتمكن اللغة الشعبية من البروز و نيل استحقاق مآثري لا ينكر، كما أنه بفضلها أيضا سيتم الاستحكام في دواليبها بكيفية توحي، و إن بنبرة خافتة للغاية، بنوع من تغريم فكرة الاعتراض على كون الصين لم يفتها أن تنكب على ذاتها، على تاريخها الخاص، داخل هذا النوع الوسائطي، و على ارتهان اللغة الكلاسيكية بوظيفة أشبه ما تكون بتحلية الدواء و التخفيف من حنظليته. و بعيدا عن المثل الأعلى الذي يضع نصب عينيه الالتفات كذلك إلى مجريات العالم و اعتمالاته، العالم الذي يستمسك به الخطاب المتأدب أو المثقفي و يقبس منه، فإن اللغة الشعبية عند التفاتها إلى شيء ما فهي تلتفت، في الحقيقة، إلى العنصر الصراعي أو الصدامي و تغدق عليه منسوبا من الحضور لا يمكن تجاهله أو القفز عليه.إنها خاصية متأصلة، بدرجة أولى، في السرود الملحمية لا في الروايات، إذا ما نحن احتكمنا إلى المعنى الاصطلاحي للرواية، سيتملّكها النّفسان البطوليان الأولان، “منقبة الممالك الثلاث” و التحفة الخالدة “على ضفاف الماء”، اللذان سيظهران في أواخر حكم أسرة “يوان” و مطالع حكم أسرة “مينغ” (القرن الرابع عشر). و بالنسبة للعمل الثاني على الخصوص ليس في مكنتنا سوى الإشادة بمدى استحكامه في انحباك اللغة الشعبية و محايثة سائر تلاوينها المستدقة ممّا أتاحه، بما يكفي من التسامي، فن بتمامه لرواة بعينهم. كذلك سيتملّكها المسرح، الذي كان لا يزال، وقتها، يخطو خطواته الأولى، فهذا الأخير، و يحسن بنا أن نفضي بها في معرض هذه المقالة، لزمه أن يسير، يدا في يد، مع الرواية باعتبارها نوعا تعبيريا مجاورا. لقد جرى توجيههما، من خلال الموضوعات مثلا، وفقا لمقصد تبادلي يتناوبان جراءه على بذر هذه الموضوعات و تفتيقها، نموذج ذلك، الأوفى إقناعا في هذا الصدد، مسرحية “فسطاط الغرب” (كسيكسيانغ جي / حوالي 1300) التي يا ما أعيد انتساجها في رحاب روايات تعالج تاريخ الحب في الصين.و كيما نتحقق من المكانة التي ما فتئ يتمتع بها حتى يومنا هذا الأبطال التاريخيون أو المتخيّلون لذينك العملين المبهرين لنستحضر هنا حصيلة ما عقد من مقارنات بينهم و بين أبطال ألكسندر دوما أو فيكتور هيغو لا ترقى، إن أردنا الموضوعية، إلى ما حازوا عليه من سؤدد روائي، و من ثم كان من الأصوب إجراء هذه المقارنات بينهم و بين أبطال هوميروس، هذا توازيا مع استشفاف الصلة الوطيدة التي تربط، و إلى الآن، الصينيين إلى شخوص، إلى وجوه كان أن صمّم لها، بمجرد تلامحها في فضاء هذين العملين، أن تخلد في ذاكرة المتخيّل الوطني.فإلى هذه السرود بالذات، و ليس إلى النصوص التاريخية التي تتحدث عن سير أولئك الأبطال و أمجادهم، يعود الفضل في صيانة الذاكرة الجمعية لرمزية جنرالات، صناديد و شطّار، و محاربين و استراتيجيين سيكون جزاؤهم التكريم، إن لم نقل التقديس، إلى ما بعد مرحلة الممالك الثلاث (القرن الثالث) التي عاشوا فيها. أمّا المائة و ثمانية بطل لمناقع مرتفعات ليانغ، في مفخرة “على ضفاف الماء”، فما انفكوا يغذّون متخيّلا ينعم بالحياة و الاستمرارية و يبدو للعيان، عند أول وهلة، كما لو كان يجافي المثل الأعلى المتأدب أو المثقفي، متخيّلا تصنعه الحركية، الائتلاق الفردي، الاقتدار النفسي و البدني الخارق، و أيضا تحدي السلطة القائمة و مطاولتها. أو لم يحصل أن أسدى هؤلاء و أولئك، بلا مهادنة، خدمة معينة للجمهور من خلال التلفاز و السينما، تماما كما الأمر في التلفاز و السينما الهنديين اللذين يستثمران شخوص القصص الملحمية ؟ و لأنهم يظهرون مثلهم مثل مخلوقات مهرّبة إلى معتقل الروح فإن الصيغة السردية المعدّة لأبطال “على ضفاف الماء” لتظهر لنا، بدورها، و لكأنما هي شكل من أشكال تهريب اللغة الكلاسيكية التي ستسهم، منذ وقت مبكر، في انطلاقة الأسطورة بالصين.قطعا لن تزيح اللغة الشعبية، قبل القرن العشرين و نشوء الحركة المعروفة بحركة رابع ماي 1919، اللغة الكلاسيكية أو تصادر منها دورها الداعم للثقافة النوعية لأن غاية مثل هاته لم تكن واردة في تفكير أيّ أحد، بيد أن هذا سوف لن يحول بين الوسط المتأدب أو المثقفي و بين الإمساك بزمام هذه الأداة الجديدة ثم تغيير موقعها بكيفية من الكيفيات. فمع بداية حكم أسرة “مينغ” (1368 – 1644) سيعي بعض ممثّلي هذا الوسط كون الرواية تجسد المظهر الفعلي لآداب تلك الفترة و ذلك كما شعّ الشعر المعياري في كنف حكم أسرة “تانغ” و شعر المردّدات الغنائية أوان حكم أسرة “سونغ”، معتمدين في هذا على تقسيمات جارية. من هنا إذن استدراج الرواية طوعا أو عسفا، بطريقة غير مباشرة، إلى دائرة سجالات و تناوشات ستستأثر بأهمية حاسمة في ذلك الإبان، و تعتبر نهايات عهد أسرة “مينغ” (من القرن السادس إلى القرن السابع عشر)، الذي سيشهد تساؤلات مقلقة و مؤرقة طالت أكثر من قضية، ميقات إزهار الرواية و إيناعها. فيما يخص رجالات الدين و الكتّاب البارعين سيأخذ الأمر مغزى بزوغ فجر تساؤلات تولد من رحم تضخم الدولة و نزوعها نحو الإمبراطورية، ضعف الأسرة الحاكمة و تراخي قبضتها الحديدية، و إكراهات الولاء أو الرقابة التي كانت تنغّص على المتأدبين / الموظفين و تذبذب، بالتالي، موقفهم المستوجب من ملوك غرقى في يمّ من الطغاة و المخصيّين.إن الرواية، الواقعة إلى ذلك الحين تحت تأثير بعض المفكرين، ستعكس هذه الأمور و تبسط لها، من باب تذويت الوقائع و التوضّعات، صيغة أخلاقية فردية تقارب المشاكل اللصيقة بالحركية أو الخمول، بالسلوك، بترقية الذات، و في الجملة بتبعات الاختيارات الفردية و عواقبها، أي أن جزاء الاعتناق البوذي و متابته سيجري تحويرهما و ترجمتهما إلى ماهيات تؤشر على أفعال و إسقاطات محتملة، مرغوب فيها أو مرغوب عنها، لأوضاع حقيقية ملموسة. و في هذا النطاق فإن “السفر إلى الغرب” (المكتملة حوالي 1580) و “جين بّينغ ميي” (**) (المحرر في العشرية الموالية) ليعدّان عملين كبيرين بما هما، من جانب، ثمرتان لتلك الحداثة و يستكملان، من جانب آخر، حين نردفهما إلى الروايتين المذكورتين آنفا هذه اللائحة الرباعية العائدة إلى عهد أسرة “مينغ” و التي يصر البعض على اعتبارها أصلية و نافذة المفعول. فمن خلال رمزيتها الطاوية، قبل أيّ شيء آخر، تمثل “السفر إلى الغرب” فضاء ل “خيمياء باطنية” مستجدة ينمسخ في أتونها، حذافيريا، قرد فتصبح له هيئة بوذا. إن موضوع القتال لن تتبقى له، بدءا من الآن، تلك الصولة التي كانت له لمّا كان معبر الطامعين في الإمبراطورية المترهلة أو البلاط الذي ينخره الفساد، مثلما نلفي ذلك في “الممالك الثلاث” أو “على ضفاف الماء”، بقدر ما ستغدو الذات هي بؤرة العمل الروائي و طاقة ديناميته. فسفر القرد، الموتور ضميره على اللامعنى و الخواء، من أجل تأدية فروض الحج برفقة قانت قدّيس مهموم، على نحو أسطوري أخذ، بالتحرّي عن نصوص بوذا المقدسة يتضمن أربعا و ثمانين اختبارا على مدى الطريق الوعرة، القاسية، و المليئة بشتى المطبات التي اجتازاها في سفرتهما الحميمية، في حين أن “جبن بّينغ ميي” برواقها المؤثث بالعديد من البورتريهات، بحبكتها التي لا شأن لها بالحبكة في دلالتها الإطلاقية أو السائبة، بمحفل شخوصها، و طبعا بالعنصر الأكثر مجلبة للغمّ: كسيمين كينغ و رغائبه، زوجاته الست، رذائله التي أزكمت رائحتها الأنوف، فجوره و دعارته و شذوذه، اتخاذه لرفقة السوء و معاشرته لضعاف الأنفس و الخبثاء، أسرته التي تشبه سلة محشوة بعقارب سامّة و التي يتهدد شملها، تقريبا، اعتلاء قيمة الفرد على حساب عقيدة المجموع، فتعبّر بغير قليل من الحنكة، من خلال هذا التلوين الفطن، عن الوعي القلق لتلك الفترة المرتجة من التاريخ الصيني.و بصفة عامة لنا أن نلاحظ إلى أيّ حدّ سينغوي مؤلفو تلك الفترة بممكنات هذه الأنماط من السرود و المحكيات انغواءهم بذلك المعين الزاخر الذي وفرته اللغة الشعبية. و في القرن السابع عشر، بالخصوص، سيأخذ في الالتئام ضرب من التجريب، التعبوي إن شئنا، يتوخى إعادة صياغة نصوص سالفة، مدونة باللغة الكلاسيكية، باللغة الشعبية لا يفرق في شيء، في جانب فائق منه، عن الخلفية الترويجية الدافعة للاعتناء بما ندعوه اليوم خرافات مروية توسلا باللغة الشعبية، سرود قصيرة تقوم على فصل واحد، و غالبا من الصنف السير – ذاتي، و حيث تتهيأ مجموعات من الإضمامات السردية، التي قد تبلغ قرابة مائتي خرافة، سيصدرها ناشران اثنان بمعية مؤلفين معروفين جدا ينتمون إلى إقليم يانغرى السفلى، و من بين هذه الإضمامات أنطولوجيا تغرف من هذا المتن و تحمل عنوان “مشاهد مثيرة من أيامنا و ممّا مضى” نراها مؤيدة، بما لا يقبل الدحض، لما كان لهذا الجنس الأدبي من أهمية دالة.لقد كان الرهان الأكبر للفترة، على ما يبدو، هو انتقاء أجود ما يمكن من الطرائف و محكيات التّندر من مظانّ مكتوبة باللغة الكلاسيكية، من تواريخ السلالات الحاكمة، و من مجاميع المفكرات الشخصية للمتأدبين ثم إعدادها ثانية، بعد منحها جرعة من المغالاة، كسرود و مرويات ذات مرجعية لغوية شعبية مهذبة، هذه المرة، و لا تعدم “نبرة حكائية”، و لعل هذا المسلك شبيه، بوجه من الوجوه، بنمط من التعليق أو ما شاكل. و لنسجّل أنه كان من النادر جدا أن يقع الاهتمام بإنتاج أعمال خيالية ما دامت هذه الأجرأة تتغيّا تنويع الموضوعات، بل و تأخذ مذاق لعب أدابي أو مثقفي ستغدو معه، من الآن فصاعدا، مهارة تدبير اللغة الشعبية أو حذاقة جسّ نبضها الأدائي شاغلا مهيمنا يهمّ كافة الأطراف.ملحظ آخر حقيق بالذكر و يتعلق بتجذر الخطاب الأدابي أو المثقفي ثانية، في تضاعيف الفترة التي تغطي القرنين السابع عشر و الثامن عشر و حتى بعد انتقال الحكم من أسرة “مينغ” إلى أسرة “كينغ” (1644 – 1911)، و استعادته لعافيته و تحوله، في خاتمة المطاف، إلى ندّ للخطاب الأخلاقي، و لربّما لهذا بالذات سيصاب النوع الروائي، بوصفه نوعا أهليا أو محلّيا، بالإنهاك و الهزال فتصير الرواية الصينية، كنتيجة، مضطرة إلى الاستعانة بالنماذج القادمة من الغرب عند نهاية القرن التاسع عشر إن هي أرادت موالاة مسيرتها. فمع الانعطاف من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر لم يكن للنوع الروائي، المستغرق في إنتاجية غزيرة لأعمال عاطفية، في معظم الأحايين، من غير فائدة تذكر، بدّ من الاستمساك، و إن على نحو مضطرب أو قلق، بوظيفته النقدية التي لم تكن ميسورة أو هيّنة بأية حال، إذ أمست أنزع إلى الانعتام منها إلى الانفصاح، و من ثم فلا مدعاة للاستغراب إذا ما كانت قد تحولت مقصدية القدح و الاستذمام، في الغالب الأعم، إلى رتوب و دوران في حلقة مفرغة عوض التجرؤ على البّاروديا كصيغة انتقادية ناجعة و متحررة. كذا سيكون الرّجحان و الغلبة للتمثّلات المتأدبة أو المثقفية التي من نماذجها البارزة “الوقائع الذائعة لسامي موظفي الإدارة الإمبراطورية” بحيث نجده يتوسل بتقنية هجائية في تعريته عن النظام الإقصائي للمباريات الرسمية.رغما من هذا سيقتدر النوع الروائي، ضمنيا، على فرض تحاشي مقايسته مع السيرة الذاتية أو الرواية التعليمية، و غير خاف ما كان لهذين الصنفين السرديين من أهمية و ثقل في سيرورة الرواية الحديثة بأروبا بسبب من انحيازهما إلى التعبير من خلال الصور و ذلك بطريقة ملتوية بقدر ما هي لاشخصية، فكل شيء يجري، مهما يكن في فضائهما الروائي، على وجه الاحتمال الزمني و المكاني و الحدثي الذي تنذر له تجربة فردية قحّة و مخصوصة. لكن هذا التحاشي لن يصونه من المشارفة على غروبه و التأهب للحظة انحطاطه مكتفيا، و قد احتدت لهجة التعريض به و الغمز من قناته، بشكله الناجز كصنيع أدبي لا يخلو من قيمة ترميزية، كعمل تخييلي مشدود إلى الأساطير الأصلية، و بصيغة موازية كنوع محكوم عليه، على ما بلغه من مستوى متحف، بأن يتوج تقليدا أدبيا رصينا استشرى لقرون مديدة.إن “حلم المقصورة الحمراء”، التي تتوجب علينا الإشارة إلى قصور الترجمة الفرنسية عن الإيفاء بدلالة عنوانها هذا، و المعروفة أيضا بتسمية أخرى هي “حكاية حجرة” (بنصب الحاء و الجيم) ل كاو كسيكان (1715 – 1763) لتتخذ هيئة قصة تتمركز حول شخصية متفردة لكنها، أي الشخصية ذات المواصفات الهشة، لا تتورع، عند نطقها، باستلاف خطاب ليس خطابها. فالمؤلف ينوه في مفتتح الرواية، بكيفية غير مباشرة، إلى مسوّغات اختياره للغة الشعبية، إلى الشكل الروائي الذي ينشده، لذا أفليس بمقدورنا اعتبار تنويهه هذا، المتوقع منه أن يكون أمينا لا تدليسيا، و في هذا الموقف الروائي لا في غيره، محض كلام مقترض هو الآخر سيثمر ذاتا شخصية زائفة أكثر منها حقيقية ؟أخيرا إن كان لا يزال في صين اليوم نوع من الإجماع، الفائض الحماس، على “الحلم” الروائي فما من شك في أن هذا يعود إلى كونه يمس، في الصميم، الجمهور الصيني الشديد الولاء لعوالم الذاكرة، الطفولة، النساء، و لكل ما يمكن أن يساهم في إعادة بناء أفق نستطيع اختزاله في كلمة واحدة لا غير: الحنين. قد لا يكون هنا موئل خطابه و لا هذا المكان بذاك الذي قد تحضر فيه الذات عنوة، إذ قد تختار التواجد في مكان مغاير، لكن دعونا نقول إن الانفلاق الغريب الذي آلت إليه الصين العتيقة و أسفر عن مدونة مثنّاة للكتابة، نعنى ذلك التوزع، الموصوف، بين لغة كلاسيكية و أخرى شعبية لا نستبعد أن تكون له يد في هذه الوضعية الملتبسة._____________________________(*) أستاذ محاضر في وحدة التكوين و البحث في لغات و حضارات آسيا الشرقية بجامعة باريس السابعة – دنيس ديدرو.(**) مثبت هكذا، في متن المقالة، بدون مقابل باللغة الفرنسية بينما يرد هذا المقابل في البيبليوغرافيا الموالية [المترجم]./ بيبليوغرافيا:- “على ضفاف الماء”، شي ني آن، ترجمة: جاك دار، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1978، جزءان (طبعة في مائة و تسعة فصول)، طبعة ثانية ضمن سلسلة “فوليو”، 1997، جزءان (مجملة في واحد و سبعين فصلا).- “منقبة الممالك الثلاث”، لووو غوانزهونغ، ترجمة: جان ليفي/ لويس ريكو، منشورات فلاماريون، 1987 – 1991، سبعة أجزاء.- “السفر إلى الغرب”، فو شينغ إين، ترجمة: أندري ليفي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1991، جزءان.- “جين بّينغ ميي” أو “زهرة في قارورة مذهّبة”، ترجمة: أندري ليفي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1985، جزءان، طبعة ثانية ضمن سلسلة “فوليو”، 2004، جزءان.- “مشاهد مثيرة من أيامنا و ممّا مضى” لمؤلف مجهول، ترجمة: رينيي لانسيي، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1996.- “الوقائع الذائعة لسامي موظفي الإدارة الإمبراطورية”، فوو كينغ تسو (فو جينغزي 1701 – 1754)، ترجمة: تشانغ فو جووي، منشورات غاليمار، سلسلة “معرفة الشرق”، 1976، جزءان.- “حلم المقصورة الحمراء”، كاو كسيكان (1715 – 1763)، ترجمة: لي تشي هوا / جاكلين أليزايس، منشورات غاليمار، سلسلة “لابّلياد”، 1981، جزءان. كاو كسيكان / غاو. إ “حكاية حجرة” (بنصب الحاء و الجيم)، ترجمة: دافيد هاوكس / جون مينفورد، بلومينغتون، منشورات بّنغوين، كلاسيكيات بّنغوين، 1973 – 1986، خمسة أجزاء.
بواسطة admin • 02-ملف العدد • 0 • الوسوم : العدد الخامس والعشرون, رينيي لانسيي