إخوان الصفا وخلان الوفا ………… د . فراج الشيخ الفزاري

إخوان الصفا وخلان الوفا

د . فراج الشيخ الفزاري

كاتب سوداني مقيم في قطر


أصلهم وفلسفتهم وقولهم في المعرفة والوجود والأخلاق:

يعد القرن الرابع للهجرة من أغنى العصور الإسلامية بالمتناقضات ، وأحفلها بالأحداث والمفاجئات ، فيه بلغت الخلافة مبلغًا من الضعف استقله الطامعون فثاروا على الخليفة واستقلوا بمقاطعات عدة . وفيه نشط العلويون على اختلاف فرقهم، فألفوا الأحزاب المتطرفة، وأثاروا الحركات العنيفة، وفاز فريق منهم بإعلان خلافة مستقلة في القاهرة هي خلافة الفاطميين .

وفي هذا العصر نشطت مجددًا الحركة الفكرية التي بعثها أعلام المعتزلة، ذلك بعد أن بطش بهم المتوكل وبرجالها، وقص الأشعري من جوانح تعاليمهم، والتفت في قصور أمرائه مجالس الطرب بحلقات العلم والأدب .

أصل الجماعة :

إخوان الصفا وخلان الوفا هم جماعة من فلاسفة المسلمين العرب من أهل القرن الثالث الهجري والعاشر الميلادي بالبصرة اتحدوا على أن يوفقوا بين العقائد الإسلامية والحقائق الفلسفية المعروفة قي ذلك العهد فكتبوا في ذلك خمسين مقالة سموها ( تحف إخوان الصفا )  وهنالك كتاب آخر ألفه الحكيم الجريطي القرطبي المتوفي سنة 395 هـ وضعه على نمط تحفة إخوان الصفا وسماه ( رسائل إخوان الصفا ) .

ويزعم إخوان الصفا أن (جماعتهم )  ترجع إلى أيام الرسول، وأنهم من نسل المسلمين الأولين، وقد أخفوا أنفسهم في فترة سابقة؛ بسبب ما لاقاه العلماء من مصائب ؛ ولهذا كانت دعوتهم في السر .

ولهذا السبب لم يكن من السهل على المؤرخين أن يعلموا باليقين عن زمان ظهورها وملابسات تكوينها الشيء الكثير .

ويذكر أبو حيان التوحيدي ، على ما ورد في كتاب ( أخبار الحكماء ) للقفطي ، أن المؤسسين هم : زيد بن رفاعة وأبو سليمان المقدسي وأبو حسن الزنجاني وأبو أحمد المهرجاني والعوفي ، ويبدو أن زيد بن رفاعة كان المتقدم بينهم والموجه المرشد .

أما مركز الجماعة فقد كان في مدينة البصرة، ولا ندري بالتحديد متى نشأت هذه الجماعة، إلا أن الجمعية استكملت نظامها عام 387هـ.

والأهداف التي دعت لقيام هذه الجماعة كما جاء في أقوالهم: ( إن الشريعة قد تدنست بالجهالات ، واختلطت بالضلالات ولاسبيل إلى غسلها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، ومتى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية – حصل الكمال ) .

وقد بدا للجماعة أن تعدد الفرق وكثرة البدع واختلاف المفاهيم – قد أدى إلى بلبلة الخواطر وإثارة الشكوك ، فضعف سلطان الدين في النفوس . ورجوع الثقة إلى النفوس مع إحياء الإيمان بالدليل وتأييد الحق بالبرهان ، ولذلك عمدوا إلى العلوم العقلية؛ يستعينون بها لتحقيق الهدف . وفي رسائلهم ما يشهد على أنهم اتخذوا العلوم وسيلة لتهذيب النفس وترسيخ الإيمان .

ولا ريب في أن لإخوان الصفا من وسائل وغايات معينة، ولكنهم لا يصرحون بشيء منها إلا أنهم كثيرًا ما يذكرون أغراضًا نبيلة خالصة مثلى ويطوون غرضهم الحقيقي أو يشيرون إليه من طرف خفي فهم يحثونك مثلًا (على أن تجتهد ..فلعل نفسك تتنبه من نوم الغفلة ورقدة الجهالة وتحيا بروح المعارف العقلية ) ثم يقولون لك: إن صناعتهم معرفة الخير والشر، وإن غرضهم صلاح الدين والدنيا، وإن مذهبهم النظر في جميع العلوم الطبيعية والرياضية والإلهية، وأن لايعادون علمًا من العلوم ولا مذهبًا من المذاهب؛ ولذلك يريدون أن يعرف إخوانهم ( المنضمون إليهم ) جميع العلوم .

ويرى بعض الدارسين أن إخوان الصفا كانوا (شيعة )، ثم يزيدون فيقولون: كانوا شيعة باطنية أو إسماعيلية. وبعضهم  قال: إنهم أصحاب مذهب فلسفي روماني … وبعضهم قال: إنه لا صلة لهم بالدين … بل قال آخرون: إن إخوان الصفا ليست لهم عقيدة دينية بالمعنى المعروف بيننا؛ ذلك لأنهم يستعملون إشارات ومعاني لا يعرفها أحد سواهم، كما أنهم يعتقدون في كل مذهب، ويرون أن في كل مذهب ديني شيئًا جميلًا يمكن أن يأخذوه ويجعلوه جزءًا من عقيدتهم .

ورغم كل هذه الاختلافات حول إخوان الصفا فإن الرأي السائد لدى العديد من المؤرخين أنهم جماعة من المتفلسفة الأخلاقيين الذين يرون أن الدين الحقيقي إنما هو الصداقة الصحيحة والمعاملة الحسنة والإحاطة بالعلوم وتنزيه النفس واتباع العقل.

الوجود عند إخوان الصفا في رأي إخوان الصفا أن عالم الطبيعة لم يخلق دفعة واحدة ، ولا تحدر من مادة أزلية، بل إن الله أوجده على سبيل التدرج من مادة قديمة أبدعها من لا شيء، وبرأيهم أن خلق الطبيعة قد استغرق ستة آلاف سنة .

أما الجواهر الروحانية فقد نشأت في لحظة واحدة من الله . والأمور الروحانية هي كما في تعاليم الإسكندرانيين : العقل الفعال ، النفس الكلية ، الهيولي ، الصورة . وعالم الطبيعة نشأ من تفاعل الهيولي والصورة .

وفي تعليل النظام الكوني اعتمد الإخوان على مذهبين فلسفيين : مذهب أفلاطون في الانبثاق ومذهب الفيثاغورثيين في طبيعة العدد يعتمدون الأول ويشرحونه بالثاني، فيرون أن الله أوجد الكون على سبيل الانبثاق كما تتحدر الأعداد من الواحد  فيقولون : ( واعلم يا أخي، أن الباري – جل ثناؤه – أول شيء أبدعه من نور وحدانيته جوهر بسيط يقال له: العقل الفعال ، كما أنشا الاثنين من الواحد بالتكرار ، ثم أنشأ النفس الكلية الفلكية من نور العقل كما أنشأ الثلاثة بزيادة الواحدة على الاثنين …

ورغم أن بحوث ( علم مبادئ الوجود ) عندهم قليلة، وأكثرها تعاريف واستعراض لآراء الفلاسفة المتقدمين؛ وسبب ذلك اتجاهاتهم الدينية ، إلا أنهم قد تناولوا العديد من المظاهر الكونية بالقول والتعليل .

فقد قالوا في المكان : كل موضع تمكن فيه المتمكن – هو نهايات الأجسام، والمكان هو السطوح المحيطة بجسم ما. إن (مكان ) الحجر الغارق في الماء سطوح الماء المحيطة به والملامسة له . والمكان عندهم ( جوهر ) أي أنه شيء موجود بذاته قابل لأن يحوي الأجسام .

ويرد إخوان الصفا على من يزعم أن في قلب العالم أو خارجه ( خلاء ) لأن الزاعم يعني أن (الخلاء ) هو المكان الذي لا يمكن أن يوجد فيه جسم ما، وقد نقض إخوان الصفا هذا الزعم عن طريقين : أولهما أن (المكان ) معناه ما يقبل حلول الأجسام فيه ، فإذا اعتبرنا مكانًا لا يقبل حلول الأجسام فقد نقصنا تعريف المكان . وثاني الطريقين أن الخلاء لو كان (موجودًا ) لكان محتاجًا إلى مكان يوجد فيه، ولكان هذا المكان أيضًا محتاجًا إلى مكان آخر وهَلُمَّ جَرًّا …. فالخلاء إذن غير موجود أصلًا، لا في داخل العالم ولا خارجه.

أما الزمان، فعندهم: هو عدد حركات الفلك وتكرار الليل والنهار وجعلوا الزمان صورة تحصل في نفس الذي يتأمل تكرار الليل والنهار على الدوام . والزمان ليس له وجود ذاتي، بل هو صورة ذهنية مطلقة .

وتحدث الإخوان عن الصورة والهيولى . فالهيولى عندهم: جوهر بسيط قابل للصورة، يعنون أنه يقبل الصور المختلفة . فإذا أخذنا ( الحديد ) مثلا على أنه درجة من الهيولى ، فإننا نرى تلك الهيولى الواحدة، التي هي الحديد، تقبل صورًا مختلفة؛ إذ يصنع منها سكين وسيف وفارس وسرير . فالهيولى هنا واحدة ولكن الصور مختلفة، وجميع المصنوعات تتركب من هيولى وصورة .

والصورة بلا ريب أهم – في عالم الموجودات – من الهيولى؛ لأنها هي التي تدل على ماهية الأشياء . أما الهيولى الأولى المجردة من جميع الصور الممكنة فهي صورة بسيطة لا يدركها الحس، ولكن يمكن أن نتخيلها . هذه الهيولى الأولى أو الهيولى الكل هي صورة الوجود فحسب … غير متكيفة بصورة ما .

وهناك نوع من الصور يدعى “الصور المفارقة”، وهي الصورة المدركة بالفعل والتي لايمكن أن تلبس بالمادة كالعقل والنفس . إن صورة السرير صورة غير مفارقة؛ لأنها يمكن أن تكون في الحديد أو الخشب أو النحاس ، وأما صورة العقل فصورة مفارقة لا يمكن أن تتجسد في مادة ما .

والحركة عند الإخوان أنواع ، فالنمو  والتغير والتضاؤل كلها حركات، ولكن يهمنا من كلها نوع واحد هو ( النقلة ) من مكان إلى آخر . ويعتقدون أن الحركة الدورية مستمرة غير متقطعة ولا نهاية لها فحركة الأفلاك السماوية كلها دورية .

وعن العلة والسبب ، فهم يرون أن الجواب عن العلل من أصعب العلل أو هو أصعبها على الإطلاق؛ لذلك فإن العلل كثيرة دقيقة غامضة، فمن كان يتعاطى معرفة حقائق الأشياء والأخبار عن عللها وأسبابها -كان محتاجًا- إلى اطلاع واسع، ولكن يمكن القول بأن العلل عند الإخوان أربعة أنواع : فاعلية وهيولانية وصورية وتمامية . السرير لا يمكن أن يصنع إلا إذا تجمع لصنعه أربع علل : الفاعل ( الذي هو هنا النجار ) والهيولى ( والتي هي هنا الخشب ) والصورة ( وهي الشكل المتعارف للسرير ) والتمام ( الذي هو حصول الفائدة منه ) وغياب علة من هذه العلل تجعل ( كون ) السرير مستحيلًا .

ويخلص إخوان الصفا في أقوالهم بأن الباري ( الله ) جلت أسماؤه هو علة الموجودات كلها .

أما النفس عند إخوان الصفا فهي جوهر روحاني أزلي، وقد كانت قبل هبوطها إلى عالم المادة واتصالها بالجسد راتعة في عالم العقل سعيدة في إطار النفس الكلية، هبطت إلى هذا العالم وحلت في الجسد الإنساني بأمر الله، وهي لاتزال تعاني فيه متاعب الحياة حتى يتوفى عنها بالموت ، فإن كانت خيرة عادت إلى النفس الكلية التي هبطت منها، وهذا ما سموه ( القيامة الصغرى ) ولاتزال سعيدة في النفس الكلية حتى يحل يوم الحساب . فتحشر مع سائر النفوس، وهذا ما دعوه ( القيامة الكبرى )، أما النفس الشريرة فتتقمص في بعض الأحيان الدنيا لتنال قصاصها وتكفر عن آثامها حتى إذا ما ظهرت كانت قيامتها الصغرى ثم الكبرى وقد رتب إخوان الصفا الكائنات في مراتب كبرى من أدنى إلى أعلى : الجماد فالنبات فالحيوان فالإنسان فالأفلاك ، وجعلوا ما يشتمل عليه كل من هذه الأجناس في مراتب ارتقائية كذلك .

المعرفة عند إخوان الصفا

اعتمد إخوان الصفا لعلومهم مصادر متنوعة، منها: بالكتب السماوية والكتب الطبيعية والكتب الإلهية، كما توكئوا على نظرية الفيثاغوريين وفلسفة أرسطو الطبيعية .

ونظام أفلاطون السياسي ومذهب أفلوطين الإشراقي ، وفي فلسفتهم أصول هندية كمبدأ احتقار الجسد وتحبيذ حرق الجثة ، وأصول مسيحية كعامل المحبة، وأما طريقهم إلى معرفة الحق فالبرهان العقلي والاستدلال النظري والشعور الباطني .

ولكن رغم أخذهم بآراء الفلاسفة اليونانيين، بخاصة أرسطو وأفلاطون إلا أنهم يخالفون أفلاطون في قوله: إن النفس تعرف الأشياء بالتذكر ، بل هم يعتقدون أن الإنسان إذا ولد كان لا يعرف شيئا البتة، وهم بذلك متأثرون برأي القرآن الكريم الذي استشهدوا به عند قوله تعالى: ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا) وعلى هذا لا يمكن للنفس أن تعرف إلا بتوسط الجسد .

أما طرق المعرفة فقد جاءت في رسائلهم حيث يقولون : واعلم أن علم الإنسان بالمعلومات يكون ثلاثة طرق :

أحدها: عن طريق الحواس الخمس الذي هو أول الطرق .

الثاني: طريق العقل الذي ينفصل به الإنسان دون سائر الحيوانات ومعرفته به تكون بعد الصبا عند البلوغ .

والثالث: طريق البرهان الذي يتفرد به قوم من العلماء دون غيرهم من الناس، وتكون معرفتهم به بعد النظر في الرياضيات والهندسة والعلوم المنطقية .

ويزيد بعض الباحثين طريقين لتصبح الطرق خمسًا وهما الأول : الحدس أو قبول النفس مايفيض عليها من لدن الله من العلوم والمعارف والأخلاق الجميلة.

والثاني: تعليم الله للناس؛ ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم الناس ما لم يكونوا يعلمون .

أما سبب اختلاف طرق المعرفة فراجع إلى اختلاف ماهية المعروفات ، فمعرفة الأشياء المادية المحسوسة تكون عن طريق الحواس الخمس . وأما ما كان أشرف من النفس وأعلى فيعرف عن طريق البرهان .

الأخلاق عند إخوان الصفا

يعطي إخوان الصفا الأخلاق أهمية كبرى فيشيرون في كل مناسبة إلى ضرورة التوجيه الخلقي الفاضل ، ويعتبرون الأخلاق الفاضلة سبيل السعادة إلى الآخرة .

والأخلاق في رأيهم نوعان؛ الأول: ما هو مركوز في الجبلة البشرية ، وما هو مكتسب بالعادة الجارية . والأخلاق مركوزة أو مكتسبة تقع تحت مؤثرات بعضها من قبيل أخلاط الجسم وبعضها من قبل المحيط الطبيعي ومنها ماهو موضوع لتأثير الكواكب ومنها ما يكون ميدانًا لفعل التربية وعامل العشرة .

وللكواكب في رأي الإخوان ، التأثير البالغ في تكوين الأخلاق ، فإليها مرد ما اعتبروه مركوزًا فيها . وقالوا في هذا الصدد ( إن الذين يولدون بالبروج النارية في الأوقات التي يكون المستولي عليها الكواكب النارية كالمريخ وقلب الأسد ، فالغالب على أمزجة أبدانهم الحرارة وقوة الصفراء ) .

والمتأمل في فلسفة إخوان الصفا الأخلاقية يجد أن الاختلاق عندهم عقلية وليست دينية ، فالإنسان عندهم لايفعل ما يفعل لأن ذلك مكتوب عليه منذ الأزل ولا هو أيضا في إتيان ما يريد – بل إن هناك عوامل تدفعه إلى نواح معينه في سلوكه .

على أن أهم ما في فلسفتهم أنهم لا يجعلون أساس الأخلاق ما أمرت به الأديان والشرائع من غير أن يكون للتفكير في ذلك سهم وافر، بل هم يرون أن الأخلاق ليس شيئًا أكثر من الأعمال الطبيعية الصادرة عن المخلوقات .

ومدار الأخلاق عند إخوان الصفا ( السعادة ) في الدنيا والآخرة إلا أن سعادة الآخرة مفضلة عندهم؛ إذ إن سعادة الدنيا نفسها ليست شيئًا أكثر من الاستعداد لبلوغ السعادة الأخروية .

وبنظرة عامة نستطيع أن نخلص بجانب ما سبق بأن الإخوان مثاليون في فلسفتهم الأخلاقية، وهم يجعلون للإدارة والرياضة قسطًا كبيرًا في نيل الفضائل مع أنهم يؤكدون قيمة البيئة الاجتماعية والطبيعية في نشوء أخلاق الفرد . ولكنهم لا ينسون أن يعلنوا أوامر الدين ونواهيه مخالفة لطبيعة البشر ، والعقل عندهم حكم بين الخير والشر .

ويحل إخوان الصفا الوازع الاجتماعي محلا لائقا به فهم يحملون على ( من يعتقد الترخيص في الشبهات ، والإباحة في المحظورات ، فإن صاحب هذا الرأي يكسبه اعتقاده جرأة على الله وتعديا لحدوده وارتكابه لمحارمه ، ويكون صاحبه في السر مخالفا لأبناء جنسه ومنافقا ومرائيا لا يصدق في معاملته ولا يفي بعهده ولا ينصح في أمانته . وفي مثل هذه الخصال فساد الدين والدنيا جميعًا ).

فالأخلاق ليست أمرًا شخصيًّا فحسب، بل هي ذات صلة وثيقة بصلاح المجتمع .

د. فراج الشيخ الفرازي