وجم الجميع جزعين كأنهم ثبتوا أمام المشهد , بلا حراك , لما أخرجت جثة الرجل من داخل المنزل , لم يجرؤ أحد على كسر طوق الصمت بل عبروا سنوات فتوتهم صامتين يدسونها على مضض , مالبث الهمس أن دار فيما بينهم يتبعه لغط بدا فى الجوار كانه الأنين , فقد بوغتوا بالذى جرى , كل شئ كان شاخصا أمام أبصارهم . طرحوا أخاهم على أرض الزقاق لائذين بالنظرات الخرساء والكلام المؤجل , تلك لحظة الكشف عن المرتاب , لم تكن المرة الأولى التى يدور فيها الهمس حول المنزل وساكنته الغريبة , المرأة التى ما عرفوا لها منبعا أو مصبا وقيل ., ما معنى بيت وحيد وامرأة لم يرها أحد الا مرة واحدة , فالحلم , أو صورة نصف غائمة فى خيال , حتى أو لعنا بالتصورات العجيبة والغريبة عن هيئتها وحضورها الغائب , وجود لا أساس له , ولكنه قوى فى رسوخه الشديد فى أذهاننا ترى كيف يدوم هذا كله ولا يحدث لنا مالا تحمد عقباه ؟ كان أبى أول من أختفى من حياة الزقاق ولم يعد يراه أحد وما عثرنا له على أثر , كان اختفاؤه أشبه بالطرفة أو الدعابة السمجه الثقيلة وقد حلت على قلوبنا اراعشة وتبعه عمى حمزة فقد مات كمدا عليه , لم يفكر أحد من أهالينا بالسؤال عن اختفاء رجل من سلالتهم , هناك من يتندر على اختفائه سخرية بتجريب الحظ , وأنا أعرف الاحظ فيما يقصدون وكثيرا ما يلقون تبعات هزائمهم على أقدارهم العمياء… كان عمى حمزة أكثر الجميع شغفا بأبى وأشد مدعاه للأفتخار به منذ تربيا وعاشا معا , وهما صنوان لا يفترقان , ومن يراهما يحار فى معرفة من هو أبى حقا , ومن هو عمى حمزة , حتى جاءت ساعة دخل فيها أبى امتحان التقصى, كى يعرف مايجرى وما يدور دون تجاهل منه وقصد لا يليق به , ولم تمض أسابيع على إختفائه حتى أنطرح عمى حمزة على أرض حجرته ممدا جسده كالعصا , قال بضع كلمات همسآ ثم أغمض عينيه وفمه وما صدرت منه أية حركة , عندئذ أدرك الجميع أن بيت المرأة الوحيدة كان سببآ فى ما يحصل لنا فى الزقاق من هذا الحى المترامى الأطراف , هناك من يبوح بسر : ” أتره مسكونآ هذا البيت بالجن والأشباح , ولم يجرؤ أحد على دخول المنزل ولو مرة واحدة من قبل ومن دخله أختفى من الوجود وتلاشى مع الغيوم , قال أحد الرجال : الله وحده يعلم كم قاتلنا من أجل معرفة كنهه ولكننا فشلنا وقد اسميناه بيت اللعنات الأن أولع الرجال بما قثيل عن صاحبة البيت , تلك المرأة التى شاهدها بعضهم مرة وأذهلتهم بسحرها النادر وقامتها الاخّاذة , حتى قيل إن إمراة لها هذا الحضور الطاغى والطلعة البهية , والجمال الآسر لهى جديرة بإفناء محبيها دون تردد أو ندم . تململت كتلة الاجساد فى مكانها الضيق غشيها الحنين الى العناد والتربص , كأن سنابك خيل تجرى وحدها وتترك صداها كالرعد ( فى أذهانهم ) أو الزئير , وصاح أحدنا فجأة : ياطواطم , كلكم طواطم ياحفاة ياعراة , يأولاد ال … تلك ترجيعة مقهورة لأيام الفجيعة الأولى , أيام طغى المغولى واشتط المتمرس ودون حياء راح يقتص من طرائده المزعورة كامهرجان أو الوليمة كان معلم التاريخ يستدرك فى حالات كهذه حين ترد إليه هيئة أخبار أو إشاعات , يقول موضحا , لا محذرآ كلما تأكلت أوصال التاريخ ولا يفكر أحد بترميمها يبدأ بالتراجع , وقد يدافع التاريخ عن نفسه , لكنه لايستطيع الدفاع عن مهمليه أو الساخرين منه . وكنت أعجب من كلامه هذا , لأنه يرسم للتاريخ صورة رجل يعرف ماذا عليه أن يفعل أو يقول , وقد استبدت به حاله من تقصى لمعرفة شئ دون الآخرين … تململت الأجساد وانداح الهمس , قيل إن عراكا حصل فيما مضى بشأن المرأة تقاتل فتيان الحى مسحورين كأن أذرعهم تطاول ببعضها على بعض بغية تفادى اللعنة استبسلوا فى العراك واستنسروا , حتى أتى دور الأباء وتورطوا فى لعبة الشر أيضا , صاح فتى السابعة عشرة من عمره : ” هيا لترحل امرأة , زانية كانت أم قديسة ” . انكسرت زجاجة الخرس وتهشمت أنية الشراب , فاضت قارورة الزيت . ما عاد ثمة تردد فى الإعلان عن غيظ النفس . وقد فاض بها الحنين إلى الأيام الخوالى لا أيام التأسى والبكاء , جرى الكلام الطويل حول المرأة ومن جاء بها إلى هذا الزقاق الآمن كالبلد الآمن , فالذين أحبوها أستناتوا فى اللأقتتال من أجلها حتى أدمتهم الساعة بزحفها المتسارع نحوهم كتيار جارف لايصده مانع يدفع عنهم البلوى : كانوا يذوبون معرفة فى الهجران والأسى , انتشروا كلهم فى الجوار منكسرى الخاطر , تبينت بعضا منهم صحبتى وخلانى وقفنا صامتين وجهآ مقابل وجه , يلفنا الخرس ويطوينا الذهول , وقد عطل قدرتنا على احتمال الأذى , رأيتهم يقفون على مقربة منى إلا يونس الحزين , لملم أطرافه وحلق بعيدآ وغاب عنا , بعدما شدنا إلى صحبته مؤنبا أيانا , بالكلام الجارح والمستتر المعنى – كيف حال الخرسان , أعنى أخوتى شهود الزور . وصاح رجل عجوز : – لمحت جثة أخرى داخل المنزل .ما العمل ؟ تراجع عدد من الأشخاص ساخطين ( كان يونس الحزين يقول لى ,لاتقل عن الرجال اشخاصآ انك إن أسميتهم أشخاصآ , محوتهم من الوجود وصيرتهم إلى عدم ) تحرك رجلان وتبعهما ثلاثة آخرون . أندفعوا نحو البيت . أشغل أحد الأولاد سيجارة , ولما أخذ نفسا منها خزرناه عمدا. أطفاء الجمرة بأصابعه واحتف باسيجارة دون اشتعال قلت : ستأخذه نوبه من حنين أو جنون ، ولامجال ، قلت : الويل لوصدقت رؤية العجوز . خرج الرجال يحملون الجثة كانت ثقيلة تفوح منها رائحة نديمة وقد يبست وتلاشت منها تلك الرهبة لأن العينين والفم كانت مطبقة أكثر مما كانت عليه الجثة الأولى ، سرت همهمة بين الجميع ، تحرك المشهد مدفوعاً بالتريث والهدوء، كأن منادياً خفياً يحدو بهم نحو التهلكة أو شاطئ الأمان . أأنت من يهز شجرة وسواسهم ويبعث النملة والضفدع وابن آوى لتقيم عرساً فى الخفاء يالسخرية ما يجرى معنا، علام تنوحين يالأمى بصمن وقد جفت مأقيك ، سمعت أحدهم متقيأ وآخر يجهش بالبكاء خيل إلى أنى اسمع أنينا يأتى عبر السنين ، ليست سنوات عمرى الغضة، بل يمضى النواح الحزين ، صلابة الزمن وعناده . سقطت عبارة مبهمة فى البئر العميق ، بئر الزمان السحيق يوم تعلمنا بعضا من أبجديات القهر فيه أو صفحات من التأسى مطوية عن عمد ، أعنى بئر رعمسيس واشورو يهوذا ، صحت من داخل بئرى : رعمسيس، رعمسيس أين أرام وفينيق؟ ولماذا تركت الجرة سالمة ، لماذا لم تجرؤ على كسرها فى المدفن الملكى ،أتراهم يلملمون حطام الأوانى فى قصورك ومعا بدك الشاهقة ، ويجمعون نثار المزججات واصباغ الأرجوان ، يدفنون بها موتاك من قتلى ومشردين فى كل فج عميق ، خراب إذن ما جاء به اخناتون يابن الكاهنة المزيفة يارعوى، كان ذلك صوت أستاذ التاريخ يرن فى خاطرى بنبرته المتعالية بمعرفة فائضة وبوجه كظيم لاتعوزه الحماسة، أنى أتحدث عن الحضارات المنقرضة لكى تبرزوا منها الدلالة على أن التاريخ يقلد نفسه من أووجه عديدة أما الحضارات الحية فلست أرى متى ستموت ،أما الأحياء فأمرهم شأن القصص والحكايات التى تدور على ألسنة الناس والقصة حوت أفقا على صحية جثمت على قلوبنا كلنا : يحدث هذا بسبب الجوع .
كنت شارد الذهن بينهم ، اسمع الهمس والكلمات تردد فى سمعى وخاطرى ولا أفعل شيئا حتى قيل إن للمرأة حاديها يغريها بملاقاته كلما تراجعت الشمس وأطرق المساء تخرج ملفعة بالبياض ، والوجه بنصاعته يمتزج بلون القماس الرائق لتختفى عن العيون ،وظل يمشى بين الناس ولايلمسوه، شبح خفيف الروح يجرى كالعابث بين حشود الخائفين ذلك الزمان أحتفى ابى لأنه لم يمكن خائفاً من أحد ومات عمى حمزة كمداًعليه ، ولم يجرؤ أحد على اتهام صاحبة البيت ،ولكن أمى تدرى بالذى جرى وتنوح بصمت ولا تفوه بحرف أو عبارة .. فجأة صرخ فتى نط من داخل البيت هناك جثة ثالثة وربما خامسة ، هل المرأة لغز أم كابوس أم ظل ظليل يستاج وقت يشاؤؤن؟ اتراها غزالة الدنة أولعوا بتدليها لأيـنيبها ؟من لايعرف لايفهم ما يدور ،اهتزت شجرة اليقين وتساقطت ثمارها بدفع من الريح.
ابناء البدو الا تشمون رائحة المسك والحناء (لارائحة النوق) والعنبر تضوّع من داخل المنزل , كانت فكرة قد تلبستنى واستولت على خاطرى تصاعد الغضب فى داخلى لما سمعت أحدهم يصرخ : جثة أخرى تركتموها هناك ، زحف اليقين بخطى حثيثة يكنس فى طريقة الظنون , أترانى واحدا منهم اتم أنى خارج اللعبة ؟ أستكين بالصمت وافتعال التروى , حكمة اكتسبتها من أبائى الأولين ؟ إذن لابد أن تكون تلك رائحة المسك , رائحة الطيب والمجد الأنثوى , مبللا بقطرات الندى : إذ يطبق الفم العطشان على الشفتين ويلثم مرة واحدة حتى سكرة الموت والذهول المطبق بحلاوة طعم الحبيب الموله بما يتركه خدر العشق من نعمة مباركة نعمة يفيض بها الكون على عشق الروح وحدهم لأن الجسد يتراجع ساعات المحنة وتهب نعماء الوجد خفيفة سكرى وقطر آذابها الهيام برحاب المحب , أتكون له قدرة التجنى على من يجب ياعباد الله ؟ علام يحصل هذا أذن ؟ علام يفنى الجسد ويذوب سريعآ , يلازمه العطب ويستحيل كتلة هامدة لا روح فيها ولا حراك . أكانت تمتص منه رحيق الحياة حتى آخر الانفاس ويستحيل الجسد إلى هشيم أو هراوة يلبسة , أه يازمن الهروات والعصى المجللة رؤوسها بالحديد والحنين . صاح أحدهم : لنفتش البيت كله .. كانت رغبتهم بالخلاص من الشكوك التى تساور نفوسهم القلقة ,لأن العاصفة ظلت تسوح مع ضربات القلوب الواشية , لايخيفهم الموت مادام ليس موتهم , لكنه يثير حفيظتهم كلما سمعوا خطواتهم ترن فى أذهانهم ليعلن اقترابه … قلت أنا أول السائلين عن معنى السؤال . قال لى يونس الحزين ساعتها : الجسد يذبل والروح باقية , ضحكت أول الأمر , لأنى من يأسى أعدت عليه السؤال :- أين ترى مستقرها ؟ – لماذا تصحك ياأخى .. ياأخرس ؟ – هل أنت حاديهم ؟ ياطوطم ؟ صاح بى : اتعظ … اتعظت , لانى لو تركت حالى على ترحالى لانهزمت فى الساعة والتو , فجأة أمسك بى كهل من الحشد , هيا احمل مع الناس إحدى الجثث ولاتكلم نفسك كالمجنون .. ارتسم أمامى اختفاء أبى وموت عمى … أصابنى خوف ورعشة غير مستترة , خشيت أن يفتضح سرى ويأخذنى نوع من الحنين إلى الهرب مما يجرى أمامى , تلك لحظة تقاس بها النفوس . أصحيح أن القتيل هو القتيل فى كل زمان ومكان ؟ وماذا يكون القاتل أذن ؟ هل هو جنكيزخان , نيرون , وهولاكو , حسن الطويل ؟ ماذا نسمى جيفالزادة العظيم الذى استباح المدينة الثلاثة أيام وأعمل السيف فى رقاب الناس بعد أن أحكم تطويقها وسد المنافذ ومنع الزاد والطعام على طريقة تيمور لنك فى الانتقام من خصومه , حتى هاج الناس وتعاركوا مع الجند بالعصى والهراوات من أجل الحصول على رغيف الخبز وعند ذاك أمر الجنود الراّبضين أمام المدينة باقتسامها عنوة . وأن يعلموا السيف برقاب من يعثروا عليه فى الطريق , بل عليهم مداهمة البيوت والمنازل كلها حتى قيل إن أهل بغداد انقرضوا . كل ماجرى رويته لأمى الصامته , الحزينة ويدها النحيلة تقبض على أسفل الوجه والكتفان نحيلان مستدقان والعنان ذبلتان وقد تضاءل الجسد والتم على بعضه , ظلت تصغى لصدى أصوات أبائها وأجدادها يعيدوا عليها آخر الحكايات. وكلما سمعت طرقا على الباب تنهض لتفتح ولكن دون جدوى تطل برأسها الصغير وتنظر عبر عينين نصف مغمضتين إلى الطريق , لكن لا أحد أبدآ فى كل مرة تفعل هذا دون ملل أو تقاعس , بل كثيرآ ما تأخذها فرحة أثر طرقات تسمعها ويغمرها حنين إلى لقاء المحب الغائب عساه يقف أمام الباب بانتظار أن تفتح له:- فى المرة القادمة سيأتى . كان الانتظار قد أحاط بها حتى غدت صفحة الوجه ساحة للتجاعيد , والتى غزت زوايا الفم وجببهتها وقد غار الخدان نحو الداخل ؟ لماذا لاتردين علىّ ياأمى ؟ ماذا تريد ياحبة قلبى :- لافائدة إذن ! الليل ثقيل فى منتصفه , بحث الخطى بنعاس غير مبال ,لا أحد فى الزقاق , ترى هل انشقت الأرض وابتلعت الجميع ؟ جدران البيوت تميل على بعضها وتتكئ كما يتكئ الظلام على الظلام , فى الجانب الآخر من الزقاق توقفت سيارة مارقة على حين غرة , سمعت صرير عجلاتها تئن تحت ضغط التوقف السريع , فى الحال دوت طلقتان وتبعتهما ثالثة . روعنى الصمت بعدها ياحادى العيسّ عجّل كى أودعهم لها وداع ولافراق لا موت ولا حياة , ترى لمن هذه الشعلة اشتعلت ثم أنطفأت ؟ أين المصباح وأين المدفأة إذن ؟ انقطع الانين واستكان , وأنا فى الزقاق أتحاشى الناس والنوافذ نصف المفتوحة والابواب المغلقة , مررت بالمنازل التى جللها الظلام وغطست شرفاتها بزخرفات أخفاها الليل البهيم وتركها وحيدة فى العراء , كأشباح تنط برؤوسها فى فضاء مسموم , منازل وأبواب ونوافذ اختفى النور منها فى الزقاق نفسه , نط قط أرعن استفزه وجودى المفاجئ فاندفع يجرى ولا يلوى على شئ فى عمق الزقاق … تمالكت نفسى برباطة جأش واحتميت بقدرتى الموهومة على التحمل والعناد . أصبحت فى منتصف الزقاق , البيت هو البيت , مهجور يعمه السكون المتوجس وكلما تقدمت تضاءلت حميتى وتراجع الأصرار منى, تسمرت قدما , أرنو نحو الباب لأطأ أرض المنزل , ثمة صوت غريب كأنه الشدو يطرق سمعى , هل أحمل أصواتآ موهومة فى عبى ؟ تصاعدت حدة الشدو وحملها الصدى مثل ترجيعة أحاطت المكان ,إنه صوت الموسيقى أخذنى نحو الداخل ويستولى على . أكان هذا هوالأغراء بإقتحام المغامرة ؟ أهذا أول أسرار المنزل ؟ ضغطت على الباب قليلآ . انفتح , طوقنى الظلام بحبائله وأغرانى السكوت بالانغماس فى رحابه , اخترقت الموسيقى الشجية روحى وعظامى , كأنها ترنيمة أمى أو مواويلها , كأن أبى فى مثواة ينادينى تعال إلى ولا تخف . هل أولوذ بالفرار ؟ . لا أحد هناك , رأيت ملامح البيت , كانت ساحته الواسعة تتسامى فيها شجرة وارفة , قطرات من صنبورة مياه تتساقط فى حوض أو بركة, سمعت الموسيقى تأتى هادئة رضيه , لينة مطواعة غير عسيرة, لا أظن ثمة أحد يعاف هذا الصوت الرخيم لو تر كأن الموسيقى هذه تنبع من لبه الروح وتأخيها . موسيقى وتر مشدود لنفسه , كأنه من غضبه يكاد ينقطع مرة , مالم يسمعه أحد , موسيقى وتر أسر وحزين , تهبط الموسيقى إلى قاع بعيد لتختفى أو تتلاشى ثم تعود ناعمة , سمحة , تنناعم مع الأصدقاء , جذبتنى الموسيقى بغيضها ونعمائها كأن أحدآ ما يهمس لى أو ينادينى كأن أمى فى طفولتى تناغينى . تقدمت نحو الحجرة والموسيقى غدت روح المنزل وسر أسراره بل تدس ألغازه وعنفوان مرتعه أصغيت بجوارحى .. أصغيت بروحى وأصغت معى الذاكرة وضعت يدى على باب الحجرة وضغطت نحو الداخل . انفرج الباب وكشفعن مكنون السكوت وسره , بصيص من الضوء تلقته عيناى هالنى ما رأيت بالوضوح وبرؤية ناصعة لا غيوم تحجبها . كانت المرأة تقف وسط الحجرة بقامتها الفارعة وتمد ذراعها إلى أمام وأخرى تحتوى بها صدورها من أسفل الثديين تراجع الكلام إلى جحوره وارتفع نبض القلب يسمع وسط السكون ، كان الذراع الممتدة نحو فنحة الباب تشير على القادم وتحذره من فية أفتتاح السر وتخطيت العبتة وأصبحت أمامها لاتبين ملامحها ، وكانت الانحناءة الصغيرة والإشارة البينة تجسد الحنو كله ،كان الحنين تجمع فى اليد الملتمة علىالصدر العارى والجسد المكشوف والبطن المستدير بانكسارة خفيفة كاللمسة أو الأضمامة المتوقعة اللثم الثقيل بلازيف أورياء ، وكنز المحبة مستور بفيض البكيراء والعناد لاتستره خرقة أو قطعة من قماش .. هالنى ما رأيت من شحوب خفيف وموجودات بسيطة تلقى انعكاسها فى ضوء مصنوع من توهج الجسد والتماعة ،يا الجسد والمتسامق بالحنو ، ياحادى العيس عجل كل أعرف ما يدور من حولى أين المفذ وألى أين المسير يانور عينى ؟ بينى وبينها خطوات وتتلامس أكفنا أو تتحد أكفاننا ، لم يمكن ذلك الشعاع والطفيف غير انعكاس الكرستال أوشفافية الزجاج ونصاعة الرخام انعكاسات تترى ، امتدت يدى تلامس الجسد وتحتمى بالذراع ، ولامسته بخفة وحذر . لعلى اسمع صوتا أوهمسا أوعبارة تعيدنى إلى سابق خطواتى أذهلتنى برودة الملامسة. صحيفة من نحاس أملس يارب الابارب هل أكذب خاطرئ؟ والا ماذا يجرى فى بيت الكهنة ، قدس الالقداس ، أفمزعنى ما رأيت هالنى ما صادفت . سيقتنى يدى إلى تكويره البطن باحتماء مجانى غير محتسب ، رن صدى كأنه قهقهة أو قرقرة ، ضحكة غامضة المعنى ، اين المعنى ؟ استدرت والتفت يدى حول القامة العاربة لا أنفاس قط ، كانت الحجرة مشرعة ، اندفعت لا ألوى على شئ تعثرت فى العتبة وتلقيت الأرض بكفى نهضت على عجل ، لكنى ارتطمت فى إطارالباب من الداخل ولما وضعت أولى خطواتى خارج الحجرة جاءنى الصوت واضحاً .إلى اين أيتها الطريدة؟ لاشك تعرفت على الصوت فى الحال كان ذلك يونس الحزين لا محال ، صوته ونبرة السخرية الحزينة فيه ، لم يعد أمامى من فرصة غيرالإصرار على الخلاص من الطقوس ولبرهة خيل إلى أن أحد ما ، لامس أكتافى أو مسنى بذراعه ، فإن انحدار الشلال اجتاحنى وطوانى بفيضة العارم ، تلك اللمسة الخفيفة لمسة من يهب الروح دفعة واحدة لجس يوشك على التلاشى أو الانضمام فى العدم. أسميتها فى مخيلتى لمسة غامضة لأن ما اكتنفها من نعومة سرت فى أوصالى دون رحمة ، ولايمكننى نسيانها ، لمسة الملاك المتعجل دوما ، كان حياة مندثرة قد انبعثت فى تلك الأوصال شبه الميتة، أوصال من يحار ماذا عليه أن يفعل وسط الغموض العسير والظلام المكلل بالحذر الشديد والحيطة من المباغتة ، يارب الأرباب ، كان قد حذرنا من الأوهام أو السقوط فى خديعة المخيلة المريضة اسندت جسدى المرتعش إلى الجدار ، أسترد أنفاسى المتلاحقة … كان يقول لنا : . ما أسقط الأمم إى أوهامها .. ساعتهاركبنا الضحك أمامى من فرصة غير الخلاص من الطوق .انطلقت دون توقف بل ينبغى مواصلة الجرى السريع، السريع ولن يلحق بى الهلاك أبداً ، لما تعثرت سقطت على وجهى ،نهضت فى الحال وبالوتيرة نفسها من الجرى المتلاحق، تمثل لى الزقاق بحراً متلاطم الأمواج، وحدى فى البحر العارم وأنا قارب وحيد تتقاذفه الأمواج ويحيط به التيار من ناحية وصوب .
يوليو 9 2010
المشهد اليومى ……………………. أحمد خلف
المشهد اليومى
أحمد خلف
وجم الجميع جزعين كأنهم ثبتوا أمام المشهد , بلا حراك , لما أخرجت جثة الرجل من داخل المنزل , لم يجرؤ أحد على كسر طوق الصمت بل عبروا سنوات فتوتهم صامتين يدسونها على مضض , مالبث الهمس أن دار فيما بينهم يتبعه لغط بدا فى الجوار كانه الأنين , فقد بوغتوا بالذى جرى , كل شئ كان شاخصا أمام أبصارهم . طرحوا أخاهم على أرض الزقاق لائذين بالنظرات الخرساء والكلام المؤجل , تلك لحظة الكشف عن المرتاب , لم تكن المرة الأولى التى يدور فيها الهمس حول المنزل وساكنته الغريبة , المرأة التى ما عرفوا لها منبعا أو مصبا وقيل ., ما معنى بيت وحيد وامرأة لم يرها أحد الا مرة واحدة , فالحلم , أو صورة نصف غائمة فى خيال , حتى أو لعنا بالتصورات العجيبة والغريبة عن هيئتها وحضورها الغائب , وجود لا أساس له , ولكنه قوى فى رسوخه الشديد فى أذهاننا ترى كيف يدوم هذا كله ولا يحدث لنا مالا تحمد عقباه ؟ كان أبى أول من أختفى من حياة الزقاق ولم يعد يراه أحد وما عثرنا له على أثر , كان اختفاؤه أشبه بالطرفة أو الدعابة السمجه الثقيلة وقد حلت على قلوبنا اراعشة وتبعه عمى حمزة فقد مات كمدا عليه , لم يفكر أحد من أهالينا بالسؤال عن اختفاء رجل من سلالتهم , هناك من يتندر على اختفائه سخرية بتجريب الحظ , وأنا أعرف الاحظ فيما يقصدون وكثيرا ما يلقون تبعات هزائمهم على أقدارهم العمياء… كان عمى حمزة أكثر الجميع شغفا بأبى وأشد مدعاه للأفتخار به منذ تربيا وعاشا معا , وهما صنوان لا يفترقان , ومن يراهما يحار فى معرفة من هو أبى حقا , ومن هو عمى حمزة , حتى جاءت ساعة دخل فيها أبى امتحان التقصى, كى يعرف مايجرى وما يدور دون تجاهل منه وقصد لا يليق به , ولم تمض أسابيع على إختفائه حتى أنطرح عمى حمزة على أرض حجرته ممدا جسده كالعصا , قال بضع كلمات همسآ ثم أغمض عينيه وفمه وما صدرت منه أية حركة , عندئذ أدرك الجميع أن بيت المرأة الوحيدة كان سببآ فى ما يحصل لنا فى الزقاق من هذا الحى المترامى الأطراف , هناك من يبوح بسر : ” أتره مسكونآ هذا البيت بالجن والأشباح , ولم يجرؤ أحد على دخول المنزل ولو مرة واحدة من قبل ومن دخله أختفى من الوجود وتلاشى مع الغيوم , قال أحد الرجال : الله وحده يعلم كم قاتلنا من أجل معرفة كنهه ولكننا فشلنا وقد اسميناه بيت اللعنات الأن أولع الرجال بما قثيل عن صاحبة البيت , تلك المرأة التى شاهدها بعضهم مرة وأذهلتهم بسحرها النادر وقامتها الاخّاذة , حتى قيل إن إمراة لها هذا الحضور الطاغى والطلعة البهية , والجمال الآسر لهى جديرة بإفناء محبيها دون تردد أو ندم . تململت كتلة الاجساد فى مكانها الضيق غشيها الحنين الى العناد والتربص , كأن سنابك خيل تجرى وحدها وتترك صداها كالرعد ( فى أذهانهم ) أو الزئير , وصاح أحدنا فجأة : ياطواطم , كلكم طواطم ياحفاة ياعراة , يأولاد ال … تلك ترجيعة مقهورة لأيام الفجيعة الأولى , أيام طغى المغولى واشتط المتمرس ودون حياء راح يقتص من طرائده المزعورة كامهرجان أو الوليمة كان معلم التاريخ يستدرك فى حالات كهذه حين ترد إليه هيئة أخبار أو إشاعات , يقول موضحا , لا محذرآ كلما تأكلت أوصال التاريخ ولا يفكر أحد بترميمها يبدأ بالتراجع , وقد يدافع التاريخ عن نفسه , لكنه لايستطيع الدفاع عن مهمليه أو الساخرين منه . وكنت أعجب من كلامه هذا , لأنه يرسم للتاريخ صورة رجل يعرف ماذا عليه أن يفعل أو يقول , وقد استبدت به حاله من تقصى لمعرفة شئ دون الآخرين … تململت الأجساد وانداح الهمس , قيل إن عراكا حصل فيما مضى بشأن المرأة تقاتل فتيان الحى مسحورين كأن أذرعهم تطاول ببعضها على بعض بغية تفادى اللعنة استبسلوا فى العراك واستنسروا , حتى أتى دور الأباء وتورطوا فى لعبة الشر أيضا , صاح فتى السابعة عشرة من عمره : ” هيا لترحل امرأة , زانية كانت أم قديسة ” . انكسرت زجاجة الخرس وتهشمت أنية الشراب , فاضت قارورة الزيت . ما عاد ثمة تردد فى الإعلان عن غيظ النفس . وقد فاض بها الحنين إلى الأيام الخوالى لا أيام التأسى والبكاء , جرى الكلام الطويل حول المرأة ومن جاء بها إلى هذا الزقاق الآمن كالبلد الآمن , فالذين أحبوها أستناتوا فى اللأقتتال من أجلها حتى أدمتهم الساعة بزحفها المتسارع نحوهم كتيار جارف لايصده مانع يدفع عنهم البلوى : كانوا يذوبون معرفة فى الهجران والأسى , انتشروا كلهم فى الجوار منكسرى الخاطر , تبينت بعضا منهم صحبتى وخلانى وقفنا صامتين وجهآ مقابل وجه , يلفنا الخرس ويطوينا الذهول , وقد عطل قدرتنا على احتمال الأذى , رأيتهم يقفون على مقربة منى إلا يونس الحزين , لملم أطرافه وحلق بعيدآ وغاب عنا , بعدما شدنا إلى صحبته مؤنبا أيانا , بالكلام الجارح والمستتر المعنى – كيف حال الخرسان , أعنى أخوتى شهود الزور . وصاح رجل عجوز : – لمحت جثة أخرى داخل المنزل .ما العمل ؟ تراجع عدد من الأشخاص ساخطين ( كان يونس الحزين يقول لى ,لاتقل عن الرجال اشخاصآ انك إن أسميتهم أشخاصآ , محوتهم من الوجود وصيرتهم إلى عدم ) تحرك رجلان وتبعهما ثلاثة آخرون . أندفعوا نحو البيت . أشغل أحد الأولاد سيجارة , ولما أخذ نفسا منها خزرناه عمدا. أطفاء الجمرة بأصابعه واحتف باسيجارة دون اشتعال قلت : ستأخذه نوبه من حنين أو جنون ، ولامجال ، قلت : الويل لوصدقت رؤية العجوز . خرج الرجال يحملون الجثة كانت ثقيلة تفوح منها رائحة نديمة وقد يبست وتلاشت منها تلك الرهبة لأن العينين والفم كانت مطبقة أكثر مما كانت عليه الجثة الأولى ، سرت همهمة بين الجميع ، تحرك المشهد مدفوعاً بالتريث والهدوء، كأن منادياً خفياً يحدو بهم نحو التهلكة أو شاطئ الأمان . أأنت من يهز شجرة وسواسهم ويبعث النملة والضفدع وابن آوى لتقيم عرساً فى الخفاء يالسخرية ما يجرى معنا، علام تنوحين يالأمى بصمن وقد جفت مأقيك ، سمعت أحدهم متقيأ وآخر يجهش بالبكاء خيل إلى أنى اسمع أنينا يأتى عبر السنين ، ليست سنوات عمرى الغضة، بل يمضى النواح الحزين ، صلابة الزمن وعناده . سقطت عبارة مبهمة فى البئر العميق ، بئر الزمان السحيق يوم تعلمنا بعضا من أبجديات القهر فيه أو صفحات من التأسى مطوية عن عمد ، أعنى بئر رعمسيس واشورو يهوذا ، صحت من داخل بئرى : رعمسيس، رعمسيس أين أرام وفينيق؟ ولماذا تركت الجرة سالمة ، لماذا لم تجرؤ على كسرها فى المدفن الملكى ،أتراهم يلملمون حطام الأوانى فى قصورك ومعا بدك الشاهقة ، ويجمعون نثار المزججات واصباغ الأرجوان ، يدفنون بها موتاك من قتلى ومشردين فى كل فج عميق ، خراب إذن ما جاء به اخناتون يابن الكاهنة المزيفة يارعوى، كان ذلك صوت أستاذ التاريخ يرن فى خاطرى بنبرته المتعالية بمعرفة فائضة وبوجه كظيم لاتعوزه الحماسة، أنى أتحدث عن الحضارات المنقرضة لكى تبرزوا منها الدلالة على أن التاريخ يقلد نفسه من أووجه عديدة أما الحضارات الحية فلست أرى متى ستموت ،أما الأحياء فأمرهم شأن القصص والحكايات التى تدور على ألسنة الناس والقصة حوت أفقا على صحية جثمت على قلوبنا كلنا : يحدث هذا بسبب الجوع .
كنت شارد الذهن بينهم ، اسمع الهمس والكلمات تردد فى سمعى وخاطرى ولا أفعل شيئا حتى قيل إن للمرأة حاديها يغريها بملاقاته كلما تراجعت الشمس وأطرق المساء تخرج ملفعة بالبياض ، والوجه بنصاعته يمتزج بلون القماس الرائق لتختفى عن العيون ،وظل يمشى بين الناس ولايلمسوه، شبح خفيف الروح يجرى كالعابث بين حشود الخائفين ذلك الزمان أحتفى ابى لأنه لم يمكن خائفاً من أحد ومات عمى حمزة كمداًعليه ، ولم يجرؤ أحد على اتهام صاحبة البيت ،ولكن أمى تدرى بالذى جرى وتنوح بصمت ولا تفوه بحرف أو عبارة .. فجأة صرخ فتى نط من داخل البيت هناك جثة ثالثة وربما خامسة ، هل المرأة لغز أم كابوس أم ظل ظليل يستاج وقت يشاؤؤن؟ اتراها غزالة الدنة أولعوا بتدليها لأيـنيبها ؟من لايعرف لايفهم ما يدور ،اهتزت شجرة اليقين وتساقطت ثمارها بدفع من الريح.
ابناء البدو الا تشمون رائحة المسك والحناء (لارائحة النوق) والعنبر تضوّع من داخل المنزل , كانت فكرة قد تلبستنى واستولت على خاطرى تصاعد الغضب فى داخلى لما سمعت أحدهم يصرخ : جثة أخرى تركتموها هناك ، زحف اليقين بخطى حثيثة يكنس فى طريقة الظنون , أترانى واحدا منهم اتم أنى خارج اللعبة ؟ أستكين بالصمت وافتعال التروى , حكمة اكتسبتها من أبائى الأولين ؟ إذن لابد أن تكون تلك رائحة المسك , رائحة الطيب والمجد الأنثوى , مبللا بقطرات الندى : إذ يطبق الفم العطشان على الشفتين ويلثم مرة واحدة حتى سكرة الموت والذهول المطبق بحلاوة طعم الحبيب الموله بما يتركه خدر العشق من نعمة مباركة نعمة يفيض بها الكون على عشق الروح وحدهم لأن الجسد يتراجع ساعات المحنة وتهب نعماء الوجد خفيفة سكرى وقطر آذابها الهيام برحاب المحب , أتكون له قدرة التجنى على من يجب ياعباد الله ؟ علام يحصل هذا أذن ؟ علام يفنى الجسد ويذوب سريعآ , يلازمه العطب ويستحيل كتلة هامدة لا روح فيها ولا حراك . أكانت تمتص منه رحيق الحياة حتى آخر الانفاس ويستحيل الجسد إلى هشيم أو هراوة يلبسة , أه يازمن الهروات والعصى المجللة رؤوسها بالحديد والحنين . صاح أحدهم : لنفتش البيت كله .. كانت رغبتهم بالخلاص من الشكوك التى تساور نفوسهم القلقة ,لأن العاصفة ظلت تسوح مع ضربات القلوب الواشية , لايخيفهم الموت مادام ليس موتهم , لكنه يثير حفيظتهم كلما سمعوا خطواتهم ترن فى أذهانهم ليعلن اقترابه … قلت أنا أول السائلين عن معنى السؤال . قال لى يونس الحزين ساعتها : الجسد يذبل والروح باقية , ضحكت أول الأمر , لأنى من يأسى أعدت عليه السؤال :- أين ترى مستقرها ؟ – لماذا تصحك ياأخى .. ياأخرس ؟ – هل أنت حاديهم ؟ ياطوطم ؟ صاح بى : اتعظ … اتعظت , لانى لو تركت حالى على ترحالى لانهزمت فى الساعة والتو , فجأة أمسك بى كهل من الحشد , هيا احمل مع الناس إحدى الجثث ولاتكلم نفسك كالمجنون .. ارتسم أمامى اختفاء أبى وموت عمى … أصابنى خوف ورعشة غير مستترة , خشيت أن يفتضح سرى ويأخذنى نوع من الحنين إلى الهرب مما يجرى أمامى , تلك لحظة تقاس بها النفوس . أصحيح أن القتيل هو القتيل فى كل زمان ومكان ؟ وماذا يكون القاتل أذن ؟ هل هو جنكيزخان , نيرون , وهولاكو , حسن الطويل ؟ ماذا نسمى جيفالزادة العظيم الذى استباح المدينة الثلاثة أيام وأعمل السيف فى رقاب الناس بعد أن أحكم تطويقها وسد المنافذ ومنع الزاد والطعام على طريقة تيمور لنك فى الانتقام من خصومه , حتى هاج الناس وتعاركوا مع الجند بالعصى والهراوات من أجل الحصول على رغيف الخبز وعند ذاك أمر الجنود الراّبضين أمام المدينة باقتسامها عنوة . وأن يعلموا السيف برقاب من يعثروا عليه فى الطريق , بل عليهم مداهمة البيوت والمنازل كلها حتى قيل إن أهل بغداد انقرضوا . كل ماجرى رويته لأمى الصامته , الحزينة ويدها النحيلة تقبض على أسفل الوجه والكتفان نحيلان مستدقان والعنان ذبلتان وقد تضاءل الجسد والتم على بعضه , ظلت تصغى لصدى أصوات أبائها وأجدادها يعيدوا عليها آخر الحكايات. وكلما سمعت طرقا على الباب تنهض لتفتح ولكن دون جدوى تطل برأسها الصغير وتنظر عبر عينين نصف مغمضتين إلى الطريق , لكن لا أحد أبدآ فى كل مرة تفعل هذا دون ملل أو تقاعس , بل كثيرآ ما تأخذها فرحة أثر طرقات تسمعها ويغمرها حنين إلى لقاء المحب الغائب عساه يقف أمام الباب بانتظار أن تفتح له:- فى المرة القادمة سيأتى . كان الانتظار قد أحاط بها حتى غدت صفحة الوجه ساحة للتجاعيد , والتى غزت زوايا الفم وجببهتها وقد غار الخدان نحو الداخل ؟ لماذا لاتردين علىّ ياأمى ؟ ماذا تريد ياحبة قلبى :- لافائدة إذن ! الليل ثقيل فى منتصفه , بحث الخطى بنعاس غير مبال ,لا أحد فى الزقاق , ترى هل انشقت الأرض وابتلعت الجميع ؟ جدران البيوت تميل على بعضها وتتكئ كما يتكئ الظلام على الظلام , فى الجانب الآخر من الزقاق توقفت سيارة مارقة على حين غرة , سمعت صرير عجلاتها تئن تحت ضغط التوقف السريع , فى الحال دوت طلقتان وتبعتهما ثالثة . روعنى الصمت بعدها ياحادى العيسّ عجّل كى أودعهم لها وداع ولافراق لا موت ولا حياة , ترى لمن هذه الشعلة اشتعلت ثم أنطفأت ؟ أين المصباح وأين المدفأة إذن ؟ انقطع الانين واستكان , وأنا فى الزقاق أتحاشى الناس والنوافذ نصف المفتوحة والابواب المغلقة , مررت بالمنازل التى جللها الظلام وغطست شرفاتها بزخرفات أخفاها الليل البهيم وتركها وحيدة فى العراء , كأشباح تنط برؤوسها فى فضاء مسموم , منازل وأبواب ونوافذ اختفى النور منها فى الزقاق نفسه , نط قط أرعن استفزه وجودى المفاجئ فاندفع يجرى ولا يلوى على شئ فى عمق الزقاق … تمالكت نفسى برباطة جأش واحتميت بقدرتى الموهومة على التحمل والعناد . أصبحت فى منتصف الزقاق , البيت هو البيت , مهجور يعمه السكون المتوجس وكلما تقدمت تضاءلت حميتى وتراجع الأصرار منى, تسمرت قدما , أرنو نحو الباب لأطأ أرض المنزل , ثمة صوت غريب كأنه الشدو يطرق سمعى , هل أحمل أصواتآ موهومة فى عبى ؟ تصاعدت حدة الشدو وحملها الصدى مثل ترجيعة أحاطت المكان ,إنه صوت الموسيقى أخذنى نحو الداخل ويستولى على . أكان هذا هوالأغراء بإقتحام المغامرة ؟ أهذا أول أسرار المنزل ؟ ضغطت على الباب قليلآ . انفتح , طوقنى الظلام بحبائله وأغرانى السكوت بالانغماس فى رحابه , اخترقت الموسيقى الشجية روحى وعظامى , كأنها ترنيمة أمى أو مواويلها , كأن أبى فى مثواة ينادينى تعال إلى ولا تخف . هل أولوذ بالفرار ؟ . لا أحد هناك , رأيت ملامح البيت , كانت ساحته الواسعة تتسامى فيها شجرة وارفة , قطرات من صنبورة مياه تتساقط فى حوض أو بركة, سمعت الموسيقى تأتى هادئة رضيه , لينة مطواعة غير عسيرة, لا أظن ثمة أحد يعاف هذا الصوت الرخيم لو تر كأن الموسيقى هذه تنبع من لبه الروح وتأخيها . موسيقى وتر مشدود لنفسه , كأنه من غضبه يكاد ينقطع مرة , مالم يسمعه أحد , موسيقى وتر أسر وحزين , تهبط الموسيقى إلى قاع بعيد لتختفى أو تتلاشى ثم تعود ناعمة , سمحة , تنناعم مع الأصدقاء , جذبتنى الموسيقى بغيضها ونعمائها كأن أحدآ ما يهمس لى أو ينادينى كأن أمى فى طفولتى تناغينى . تقدمت نحو الحجرة والموسيقى غدت روح المنزل وسر أسراره بل تدس ألغازه وعنفوان مرتعه أصغيت بجوارحى .. أصغيت بروحى وأصغت معى الذاكرة وضعت يدى على باب الحجرة وضغطت نحو الداخل . انفرج الباب وكشفعن مكنون السكوت وسره , بصيص من الضوء تلقته عيناى هالنى ما رأيت بالوضوح وبرؤية ناصعة لا غيوم تحجبها . كانت المرأة تقف وسط الحجرة بقامتها الفارعة وتمد ذراعها إلى أمام وأخرى تحتوى بها صدورها من أسفل الثديين تراجع الكلام إلى جحوره وارتفع نبض القلب يسمع وسط السكون ، كان الذراع الممتدة نحو فنحة الباب تشير على القادم وتحذره من فية أفتتاح السر وتخطيت العبتة وأصبحت أمامها لاتبين ملامحها ، وكانت الانحناءة الصغيرة والإشارة البينة تجسد الحنو كله ،كان الحنين تجمع فى اليد الملتمة علىالصدر العارى والجسد المكشوف والبطن المستدير بانكسارة خفيفة كاللمسة أو الأضمامة المتوقعة اللثم الثقيل بلازيف أورياء ، وكنز المحبة مستور بفيض البكيراء والعناد لاتستره خرقة أو قطعة من قماش .. هالنى ما رأيت من شحوب خفيف وموجودات بسيطة تلقى انعكاسها فى ضوء مصنوع من توهج الجسد والتماعة ،يا الجسد والمتسامق بالحنو ، ياحادى العيس عجل كل أعرف ما يدور من حولى أين المفذ وألى أين المسير يانور عينى ؟ بينى وبينها خطوات وتتلامس أكفنا أو تتحد أكفاننا ، لم يمكن ذلك الشعاع والطفيف غير انعكاس الكرستال أوشفافية الزجاج ونصاعة الرخام انعكاسات تترى ، امتدت يدى تلامس الجسد وتحتمى بالذراع ، ولامسته بخفة وحذر . لعلى اسمع صوتا أوهمسا أوعبارة تعيدنى إلى سابق خطواتى أذهلتنى برودة الملامسة. صحيفة من نحاس أملس يارب الابارب هل أكذب خاطرئ؟ والا ماذا يجرى فى بيت الكهنة ، قدس الالقداس ، أفمزعنى ما رأيت هالنى ما صادفت . سيقتنى يدى إلى تكويره البطن باحتماء مجانى غير محتسب ، رن صدى كأنه قهقهة أو قرقرة ، ضحكة غامضة المعنى ، اين المعنى ؟ استدرت والتفت يدى حول القامة العاربة لا أنفاس قط ، كانت الحجرة مشرعة ، اندفعت لا ألوى على شئ تعثرت فى العتبة وتلقيت الأرض بكفى نهضت على عجل ، لكنى ارتطمت فى إطارالباب من الداخل ولما وضعت أولى خطواتى خارج الحجرة جاءنى الصوت واضحاً .إلى اين أيتها الطريدة؟ لاشك تعرفت على الصوت فى الحال كان ذلك يونس الحزين لا محال ، صوته ونبرة السخرية الحزينة فيه ، لم يعد أمامى من فرصة غيرالإصرار على الخلاص من الطقوس ولبرهة خيل إلى أن أحد ما ، لامس أكتافى أو مسنى بذراعه ، فإن انحدار الشلال اجتاحنى وطوانى بفيضة العارم ، تلك اللمسة الخفيفة لمسة من يهب الروح دفعة واحدة لجس يوشك على التلاشى أو الانضمام فى العدم. أسميتها فى مخيلتى لمسة غامضة لأن ما اكتنفها من نعومة سرت فى أوصالى دون رحمة ، ولايمكننى نسيانها ، لمسة الملاك المتعجل دوما ، كان حياة مندثرة قد انبعثت فى تلك الأوصال شبه الميتة، أوصال من يحار ماذا عليه أن يفعل وسط الغموض العسير والظلام المكلل بالحذر الشديد والحيطة من المباغتة ، يارب الأرباب ، كان قد حذرنا من الأوهام أو السقوط فى خديعة المخيلة المريضة اسندت جسدى المرتعش إلى الجدار ، أسترد أنفاسى المتلاحقة … كان يقول لنا : . ما أسقط الأمم إى أوهامها .. ساعتهاركبنا الضحك أمامى من فرصة غير الخلاص من الطوق .انطلقت دون توقف بل ينبغى مواصلة الجرى السريع، السريع ولن يلحق بى الهلاك أبداً ، لما تعثرت سقطت على وجهى ،نهضت فى الحال وبالوتيرة نفسها من الجرى المتلاحق، تمثل لى الزقاق بحراً متلاطم الأمواج، وحدى فى البحر العارم وأنا قارب وحيد تتقاذفه الأمواج ويحيط به التيار من ناحية وصوب .
بواسطة admin • 04-نصوص قصصية • 0 • الوسوم : أحمد خلف, العدد الرابع