ظلت الفنون الجميلة (أو الفنون التشكيلية كما شاع عنها هذا المصطلح منذ السبعينيات من القرن الماضى) منطقة منيرة فى مصر، بتجلياتها الإبداعية وأجيالها المتواصلة على امتداد ذلك القرن وحتى اليوم؛ إنها المنطقة التى تمثل – من ناحية – أقصى درجات الانتماء الوطنى والحضارى للهوية فى مستوياتها التاريخية المتعاقبة، وتمثل – من ناحية أخرى – أقصى درجات الانفتاح على الفنون الغربية فى القرن الحادى والعشرين، وقد واكبت وعبَّرت –خلال مسيرتها الممتدة – عن القضايا والمفاصل المصيرية فى تاريخ مصر الحديث، بدءاً من ثورة 1919 (بعد ثمان سنوات على تخريج الدفعة الأولى لمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1911، حيث لم تكن بمصر آنذاك قاعة عرض واحدة للفنون)، حتى ثورة 2011، بعد أن أصبح بها عشرات الكليات الفنية وعشرات أخرى من قاعات العرض وآلاف الفنانين الأعضاء بنقابة التشكيليين والعديد من الجمعيات الأهلية المختصة بالفن، بل أصبح الفن مادة رئيسية تقام فعالياتها فى ميادين الثورة (التحرير، وطلعت حرب، وعابدين) بما يقدمه الفنانون الدارسون أو الهواة لحشد القوى الثورية.
غير أن الملفت فى الحالة المصرية هو أن أية معوقات واجهت الفنان والفنون التشكيلية لم تمنع فيضان نهر الابداع من التدفق والتواصل على مر الأجيال، وأنها لم تؤد إلى درجة كبيرة من النكوص لدى الفنان عن دوره وواجبه تجاه بلده ورسالته، وهو ما يتضح بشكل خاص فى المواقف المصيرية للوطن حيث يتسابق الفنانون للتعبير عن رؤاهم الوطنية والخروج بأعمالهم إلى شتى مواقع العرض، وإلى التقدم بأفكارهم ومشروعاتهم إلى أصحاب القرار لإقامة جداريات فنية وأعمال نحت ميدانية فى الأماكن العامة والحدائق والمرافق الحيوية للجماهير، وهى المدرسة الحقيقية لإشاعة الفن والذوق الجمالى لملايين الشعب، مرجعين ذلك إلى وجود أولويات أكثر أهمية للمواطنين، والحقيقة أن ذلك كان يعكس فقراً فى الفكر والذوق أكثر منه فى الإمكانات المادية، لان ضعف الإمكانات لم يمنع المسئولين خلال العقود الماضية – قبل ثورة 25 يناير 2011 المجيدة – عن إقامة مئات المهرجانات الدولية باهظة التكاليف التى قد لا تقوم بمثلها دول عظمى، والتى لا يستفيد منها الشعب ويذهب أثرها فور انتهائها، ولا يخرج عائدها عن مظاهر الدعاية الوقتية، أو عن تمجيد أصحاب السلطة والنفوذ أو أن لهم فيها مآرب أخرى، وقد كتبتُ وكتب غيرى مراراً وتكراراً فى نقد هذه الأوضاع قبل عام 2011، بدون أى اكتراث من أجهزة النظام السابق بالإصلاح المطلوب، بل وصل الأمر إلى منع فنان من إقامة جدارية بعرض 16 متراً بحى السيدة عائشة الشعبى على نفقته الخاصة وبمشاركة من أبناء الحى، وكانت حجة أجهزة الشرطة فى المنع هى “الأسباب المرورية”! وكان المقصود فى الحقيقة هو عدم السماح بأية تجمعات جماهيرية حول فكرة أو مبادرة يلتف حولها الشعب، ولو كانت لوحة تعبر عن “سوق الجمعة”!.. (كانت تلك واقعة حقيقية للفنان طه القرنى عام 2010).
فن الجرافيتى وثورة يناير:
لذلك؛ فما أن قامت ثورة يناير حتى انتقلت منطقة الجذب الفنى من قاعات المعارض بأحياء الزمالك والجزيرة وجاردن ستى إلى الشوارع المطلة على ميدان التحرير، من خلال ما يسمى بفن “الجرافيتى”، ذلك الأسلوب التلقائى بأيدى الفنانين المجهولين المعارضين للنظام القديم، والذين لم يكن لهم مكان قبل الثورة فى قاعات العرض التابعة للدولة أو حتى للأفراد، لأنهم ليسوا أسماء مشهورة، ولا يقدمون أعمالاً مناسبة للنخبة الراقية فى المجتمع ولا للاتجاهات الاكاديمية، لأن أعمالهم ترتبط بموضوعات احتجاجية على الأوضاع السياسية القائمة، وبعضها كان يرتبط بجمهور (الألتراس) المنتمى لبعض النوادى الرياضية، ومن ثم فهى غير صالحة للبيع فى القاعات التجارية، شغل هؤلاء الفنانون الهواة مساحات هائلة بلوحاتهم على جدران المبانى العامة والخاصة بمنطقة وسط القاهرة والأحياء المحيطة، بما فى ذلك أسوار النوادى والمدارس والمؤسسات العامة، بحس تعبيرى شديد الحيوية والتأثير، حتى ولو كانت تنقصها خبرة المحترفين وقواعد الأكاديمية، ولم تكن جميعاً تعبيراً –فحسب- عن أحداث المواجهات الدامية وتمجيد الشهداء وشعارات المقاومة للنظام والمطالبة بأهداف الثورة، بل شملت كذلك رموزاً مستمدة من تاريخ مصر الحضارى، كما شملت تعبيرات مستوحاة من قصائد بعض الشعراء القدامى والمحدثين، بأساليب فنية تتسم بالرومانسية والتحليق الخيالى عبر رموز أسطورية، من خيول وطيور وعرائس أحلام تتغنى بالثورة.. وعلى امتداد عام الثورة الأول (2011) بقيت هذه اللوحات فى أماكنها، وكانت تجد من يحميها من التعدى أو الإزالة، لكن مع انصراف الثوار عن الميادين والمليونيات والاعتصامات عند قدوم العام الجديد، وجد فلول النظام القديم وحماة البيروقراطية من أبناء “الدولة العميقة” غير المؤمنين بالثورة، فرصتهم لإزالة الكثير من لوحات الجرافيتى، وسرعان ما عاد الرسامون المجهولون الثوار يرسمون فى مكانها لوحات جديدة تفرض وجودها على المشهد العام كجزء لا يتجزأ من الثورة، ولا نزال نستطيع مشاهدة كثير من هذه الجداريات بشارع محمد محمود وشارع الشيخ ريحان وشارع شمبليون وشارع الفلكى وعلى اسوار بعض المدارس والنوادى وعلى جدران الجامعة الأمريكية بميدان التحرير.
وكان من الأمور المثيرة وقت احتدام المظاهرات فى تلك المنطقة وهى تندد بحكم العسكر وتطالب باستمرار الثورة، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قام بإغلاق مداخل كل تلك الشوارع بمكعبات خرسانية يقارب حجم المكعب الواحد منها حجم حجر من أحجار الهرم الأكبر، فجعل الفنانون منها سطوحاً ممتدة لرسم لوحاتهم، ومنها ما أتخذ شكل وألوان قوس قزح رمزاً لإطلاق الخيال لتجاوز الجدار، ومنها ما اتخذ صورة شارع صفت على جانبيه عمارات وأرصفة وامتلأ بالمارة وفوق الجميع سماء مفتوحة، فحققوا بذلك إزاحة معنوية للحواجز الحجرية، وفتحوا بالخيال الطرق المغلقة تعبيراً عن إرادة الحرية التى لا يستطيع أن يقهرها أو يقف فى طريقها أى عائق.. وقد أزيلت تلك الأحجار فيما بعد، حاملة معها إلى مكان مجهول لوحات الفنانين!
ذلك مظهر واحد من مظاهر فيض الإبداع المصرى، وقد رأينا أمثلة له فى الماضى البعيد أيام مواجهة الشعب للعدوان الثلاثى على مصر عام 1956 (من فرنسان وانجلترا وإسرائيل)، وأيام بناء السد العالى عام 64 – 64 وأيام مواجهة هزيمة يونيو 1967 وأيام الاحتفال بانتصار أكتوبر 1973، لكن هذا المد الإبداعى الثورى قد جفت منابعه على مدار العقود الأربعة الماضية بعد حرب أكتوبر، مع ازدياد القبضة الحديدية للنظام وافتقاد مشروع قومى للنهضة تلتف حوله الأمة، وتحول القيم الاجتماعية الأصيلة التى تميزت بها شخصية الشعب إلى قيم استهلاكية نفعية، ثم أعقبت ذلك حقبة الرئيس السابق مبارك، فشهدت أعلى درجة من الفساد المركب النابع من زواج المال بالسلطة.
أجيال ومحطات الحركة الفنية:
كانت حركات الابداع تتفجر وتتصاعد مع فترات المد الوطنى والثورى مستقلة عن أجهزة الدولة وتوجهاتها، وعلى العكس من ذلك كانت تخمد وتصاب بالجمود والرتابة فى فترات الجزر، وتصبح أسيرة للاجهزة الرسمية والهيئات الأكاديمية فتزداد انعزالاً عن المجتمع. لكنها فى كلا الحالتين استطاعت أن تحافظ على الهوية المصرية والانتماء إلى الأرض والجذور الحضارية، وقد مرت أجيالها المتعاقبة على العديد من المحطات الفنية، بدءاً من جيل الرواد الأوائل منذ تخرجت أول دفعة من مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1911 حتى أوائل العقد الثانى من الألفية الثالثة. وتتنوع محطات الابداع عبر تلك المسيرة بين الاتجاهات الأكاديمية (المدرسية) والكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والتأثيرية والسريالية والتجريدية والتعبيرية والمفاهيمية، وهى نفس محطات ومدارس الفن الغربى الذى ارتبطت به الحركة الفنية المصرية منذ نشأتها.
ولو شئنا – بقدر من التجريد – رصد الرؤية الجمالية والفلسفية العامة لكل جيل، فيمكننا بقدر من التعميم الذى ينطوى على فروق وتمايزات شخصية شديدة بين كل فنان وآخر، أن نعتبر جيل الرواد الأوائل هو جيل البحث عن ملامح الهوية المصرية والعربية فى الفن بعد انقطاع حضارى عن الفنون الجميلة التى شكلت أساس الحضارة المصرية القديمة قرابة ألفى عام، وكان فى بحثه عن تلك الهوية (أقصد تحديداً النحات محمود مختار والرسامون محمد ناجى ومحمود سعيد ويوسف كامل وراغب عياد ومحمد حسن) يبحث عن روح النهضة الوطنية التى فجرتها ثورة 1919، وشارك فى بلورتها فكراً وأدباً وشعراً وموسيقى وغناء كل من الشعراء أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وبيرم التونسى، والكتاب طه حسين والمازنى والعقاد، والمفكرون محمد عبده وأحمد لطفى السيد وسلامة موسى وعبد الرازق السنهورى وقاسم أمين، والموسيقيان سلامة حجازى وسيد درويش.
لذلك كان جيل الرواد من رسامين ونحاتين يتماهى ويتكامل مع كل هؤلاء، بل ويسبقهم أحياناً إلى الانفتاح على أوربا عبر البعثات الأولى إلى فرنسا وإيطاليا فى الربع الأول من القرن العشرين، وقد أخذ أبناؤه من اتجاهات الحداثة ما يناسب المزاج المصرى والمناخ الثقافى المتواصل مع عبق الطبيعة النيلية والتاريخ الممتد، فكانت أساليب الكلاسيكية والواقعية والرومانتيكية والتاثيرية والتعبيرية هى اللبنات الأولى والمؤثرات الأساسية التى لازمت أساليب ذلك الجيل بدرجات متفاوتة؛ نلمح الكلاسيكية / الرومانتيكية فى منحوتات مختار عن الفلاحة المصرية وهى تستنهض أبا الهول رمز الحضارة وعراقة التاريخ، كما نلمحها فى بقية فلاحاته الكادحات تعبيراً عن مسيرة العمل والعطاء والكفاح من أجل الحياة، متماهيات مع نهر النيل واهب الحياة والنماء، فى إيقاعات إنسيابية ناعمة بخطوط الأجسام المنحوتة، ونلمح الواقعية بحس تأثيرى (انطباعى) لدى محمد ناجى ويوسف كامل فى تعبيرهما العفوى الطازج عن الحياة فى الريف والأحياء الشعبية ورحلة الحياة الممتدة عبر آلاف السنين للفلاح والفلاحة، وفى تعبيرهما – كل بطريقته الخاصة – عن الحياة الشعبية بعبق الزمن والتراث المتجذر، ونلمح التعبيرية الحديثة ممزوجة بملامح التصوير المصرى القديم فى لوحات راغب عياد، بخطوطه المتحررة الطليقة التى يعيد بها صياغة الواقع بحس مغاير للمنظور الفيزيائى، ويعمد إلى المبالغة والتحريف لملامح ونسب الأشخاص والكائنات الطبيعية، ممتزجة بالحس الساخر للجماعة الشعبية الفطرية وبالحس الروحانى لرسومها على الجدران فى مناسبات الحج، ولرسومها للسير والملاحم الشعبية التى تطبع وتباع بمليمات فى الأسواق.
أما جيل الأربعينيات – المسمى بجيل الجماعات الفنية (الفن والحرية، والفن المعاصر، والفن الحديث) فكان يشغله أمران أساسيان؛ الأول هو التعبير عن تفجر الحراك الثورى فى شرايين المجتمع المصرى بعد أن فسدت وتعفنت السلطة الحاكمة مع طبقة الاقطاعيين المتواطئة أو المتهادنة مع قوات الاحتلال الانجليزى للبلاد، وعن حالة الفقر والجهل والانسحاق الطبقى والغيبوبة الفكرية فى ظلمات التخلف والخرافة التى يعيشها السواد الأعظم من الشعب، وعن إرهاصات الانفجار الثورى الوشيك الذى يتفاعل فى الأعماق وتتجلى بوادره من حين لآخر، والأمر الثانى هو القيام بثورة تحديثية فى شكل الفن، باستعارة بعض الاتجاهات الفنية الأوربية للتعبير عن هذا العالم وعلى رأسها السريالية (وكانت فى ذلك الوقت تحمل الراية الثورية فى الفن والأدب فى أوربا)، لكن ذلك الجيل نجح فى “تهجين” نوع مصرى خالص من السريالية الشعبية، تنبع من مخزون اللاوعى الجمعى للمصريين، بما يشمله من خرافات واساطير وسحر وقيم ومفاهيم لاصقة بفكر الجماعة الشعبية ولا صلة لها بالمنطق أو بطبيعة العصر، وهذا ما قامت عليه إبداعات الفنانين أعضاء جماعة الفن المعاصر من أمثال عبد الهادى الجزار وحامد ندا وسمير رافع، وكان رائدهم هو الفنان حسين يوسف أمين، أما التعبير عن النبض الثورى المعبر عن ضرورة هدم النظام القديم بكل فساده ووحشيته فكان من نصيب جماعة الفن والحرية بقيادة الشاعر جورج حنين وعلى أيدى فرسانها الثلاثة رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، وجاءت تعبيراتهم مزيجاً من السريالية الأوربية والوحشية والتعبيرية، فبدت منفصلة عن المزاج المصرى وعن منابعه السيكولوجية والثقافية، مما جعل فرسان الجماعة يتفرقون بعد سنوات قليلة إلى اتجاهات تجريدية بحثتة أو إلى هجر الرسم ذاته والتحول إلى الاخراج السينمائى بأسلوب الواقعية الكاشفة عن التناقضات الاجتماعية (كما رأينا كامل التلمسانى الذى تألق ككاتب ومخرج سينمائى مرموق فى الخمسينيات والستينيات).
وهناك من اختار التعبير عن النبض الثورى الكاشف عن حالة من يقظة الوعى السياسى فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من خلال أعضاء جماعة الفن الحديث، ونجد انعكاسات هذه الحالة فى أعمال النحات جمال السجينى وفى لوحات الرسامين محمد حامد عويس وسعد الخادم ويوسف سيده وجاذبية سرى وزينب عبد الحميد، وحسن فؤاد ، وبالقرب منهم – من خارج الجماعة – كانت تتألق لوحات حامد عبد الله وتحية حليم وإنجى أفلاطون، وسيد عبد الرسول، ومنحوتات أنور عبد المولى واحمد عثمان ومحيى الدين طاهر وفى أعمال الخزف لسعيد الصدر وغيرهم. وقد حملت هذه الأعمال مزيجاً من الواقعية والتعبيرية والرمزية، كاشفة عن عمق الجذور الحضارية والروح الشعبية فى آن.
لقد استمر هذا الجيل بتنويعاته المختلفة بعد قيام ثورة يوليو 1952، لكن بدون انتظام أفراده فى جماعات ثورية كما كانوا قبل الثورة، التى منعت قيام أية تنظيمات حتى ولو كانت فنية بحتة، وكان من قوة تأثير هذ الجيل أن ألقى بظلاله على الأجيال التالية، ولم يجد أبناؤه ضيراً فى الذوبان فى المجتمع بغير تمييز أنفسهم فى أطر الجماعات السابقة، إذ وجدوا ذواتهم وأفكارهم متحققة فى أهداف وإنجازات الثورة التى تبنَّت تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية والتحرر الوطنى ومحاربة الاستعمار والفساد وسيطرة رأس المال على الحكم (وما أشبهها بمطالب وشعارات ثورة الشباب فى يناير 2011!)..
وقد ساعدت حكومات نظام الزعيم عبد الناصر كثيراً – والحق يقال – فى اتساع دوائر الفن لتشمل الفئات الاجتماعية المهمشة والمحرومة اقتصادياً وثقافياً فى الريف والأحياء الشعبية، عبر قنوات الاتصال الثقافية، ما يجعل منها الفترة الاستثنائية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر فى هذا الشأن، حيث زالت فيها القطيعة بين الفنان والمجتمع، بوجود جسور للتواصل ولإشاعة الثقافة البصرية بين الجماهير العريضة، لكن فى مقابل ذلك – والحق يقال أيضاً – فقد الفنان استقلاله وحريته فى المعارضة لهيمنة النظام الشمولى، الذى قايض الحرية السياسية والديمقراطية بالعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية واستقلال السيادة الوطنية، فيما تمثل الحرية الفكرية للفنان الهواء الذى يتنفس فيه ولا تغنيه عنه أية مكاسب أخرى!
فى غياب المشروع القومى للنهضة:
ولا شك أن افتفاء الفنان لمشروع قومى للنهضة يفرغ فيه طاقاته، ولدور مؤثر فى الحراك السياسى ينخرط من خلاله فى جبهة المعارضة للنظام، دفعه للانخراط فى التجريب الفنى والمغامرات الجمالية بحثاً عن أساليب مغايرة للأنماط السائدة، وقد كانت تلك سمة الفن فى مرحلة ما بعد هزيمة 1967 التى شهدت حالة من الإحباط والقهر النفسى والعجز التعبيرى لدى كثير من المبدعين فى الأدب والفن، وتجلت خلالها محاولات فى الفن التجريدى والتجريب بمختلف الخامات من منطلقات أوربية بحتة، وكان أول فرسانه الفنانون منير كنعان ورمسيس يونان وفؤاد كامل ومصطفى الأرناؤوطى وأبو خليل لطفى وحمدى خميس وصلاح طاهر وسيف وانلى وعفت ناجى، وسار على طريقهم فى السبعينيات والثمانينيات مصطفى عبد المعطى وأحمد فؤاد سليم وعدلى رزق الله ومصطفى عبد الوهاب ومحمد رزق (الرسام) ومحسن عطية وفاروق حسنى.
واجتهد آخرون فى البحث عن طريق ثالث يربط بين اتجاه الحداثة على الطريقة الغربية واتجاه الحداثة باستلهام التراث الشعبى والحضارى الفرعونى والاسلامى والقبطى والحياة اليومية، من بينهم عمر النجدى وزكريا الزينى ورمزى مصطفى ومحمد طه حسين وعبد الوهاب مرسى ومريم عبد العليم وفاطمة العرارجى ونعيمة الشيشينى وحسن سليمان ومصطفى أحمد وحسين الجبالى ورؤوف عبد المجيد ورفعت أحمد ومحمد حسنين على، وأحمد عبد الوهاب وآدم حنين وصبحى جرجس ومحمد هجرس وجابر حجازى وعبد الهادى الوشاحى ومحمد رزق، وهم جميعاً يمثلون جيل الستينيات.
وعلى طريق يلتحم بجيل الوسط فى الخمسينيات وكامتداد طبيعى لجيل الستينيات لكن من منظور جيل السبعينيات، نشأت واستمرت حتى الآن حركة فنية وِجْهَتُها الكشف عن جذور التراث الشعبى والمعمارى والميثولوجى، وما تتضمنه من رؤى خيالية وميتافيزيقية تحمل عبق التاريخ وملامح الأسطورة وسحر الأسرار الدفينة، إلى جانب دلالات رمزية تناوش الحاضر والمستقبل باساليب فنية مستحدثة تحاول الاستقلال عن المدارس الأوربية، ساعية إلى خلق جماليات مصرية وعربية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن بين هؤلاء – على سبيل المثال – كمال شلتوت، أحمد نوار، عصمت داوستاشى، على دسوقى، جميل شفيق، ثروت البحر، سيد سعد الدين، سيد محمد سيد، زينب السجينى، وفيق المنذر، مصطفى الرزاز، فرغلى عبد الحفيظ، عبد الغفار شديد، صبرى منصور، عبد الفتاح البدرى، محمود بقشيش، حسن عبد الفتاح، عبد السلام عيد، أحمد الرشيدى، محمود عبد العاطى، حسن غنيم، فاروق بسيونى، إيفلين عشم الله، حمدى عبد الله، مجدى عبد العزيز، ثناء عز الدين، على عاشور، فاروق وهبة، فاروق شحاتة، سعيد العدوى، محمود عبد الله، رياض سعيد، على عاشور، عز الدين نجيب، والنحاتون مثل: محمد جاهين، محمود شكرى، على جبيش، وفنانو الخزف مثل نبيل درويش وصالح رضا وجمال حنفى وزينب سالم.. وغيرهم.. وغيرهم.
وفى السياق نفسه لحق بهم جيل جديد بدأ فى الثمانينيات وتبلورت شخصيته فى التسعينيات واستمر حتى الآن على طريق الانفتاح بدرجة أكبر على اتجاهات الفن العالمى، جامعاً بين التعبيرية والسريالية والتجريدية والرمزية والوحشية، منهم على سبيل المثال الرسامون: رضا عبد السلام، عبد الوهاب عبد المحسن، أحمد الجناينى، محمد عبله، ومحمد الطراوى، أحمد رجب صقر، السيد القماش، إبراهيم غزالة، والنحات السيد عبده سليم، ولحق بهم الرسامون: رضا شحاتة، أمل نصر، صلاح المليجى، رضا عبد الرحمن، أحمد عبد الكريم، محمد عرابى، عماد أبو زيد، عادل ثروت، وائل درويش، خالد سرور، والنحاتون: طارق الكومى، شادى النشوقاتى، محمد الفيومى، ناجى فريد، ناثان دوس.. وغيرهم.
وقد ساعد على اكتشاف أغلب هؤلاء وعلى سرعة نضوجهم تأسيس صالون الشباب فى نهاية عقد الثمانينيات بدعم قوى من وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى وساعده الفنان أحمد نوار رئيس المركز القومى للفنون التشكيلية آنذاك.
عصر الانفتاح الاقتصادى والركود الإبداعى:
إن تاريخ الحركة الفنية يبدو انعكاساً للمتغيرات الاجتماعية والسياسية فى الواقع المصرى الحديث والمعاصر، فقد أثَّرت حقبة الانفتاح الاقتصادى أواسط السبعينيات خلال فترة حكم الرئيس أنور السادات حتى أكتوبر 1981 ، والتى استمر أثرها حتى أوائل التسعينيات – على مسار الحركة بإفساح الطريق أمام الفنون الاستهلاكية، سواء المقلدة للاتجاهات الفنية الغربية بشكل ميكانيكى، دون النظر إلى ظروفها وأسبابها فى دول منشئها الأصلية، أو المقلدة للأشكال التراثية بأسلوب سياحى يتناسب مع السائح الأجنبى الذى دخل مصر وراح يبحث عن تذكارات سياحية تذكره بمعالمها التاريخية والفلكلورية، أو يتناسب مع مستوى ثقافة الطبقة الاجتماعية الجديدة التى نشأت مع عصر الانفتاح، بذوقها السطحى الباحث عن المتعة والبهرجة اللونية والمحاكاة المباشرة لمناظر الطبيعة أو باقات الزهور أو مظاهر التراث أو حروف اللغة العربية التى أتخذ منها الفنان وسيلة للتجريد بديلاً عن التجريد الهندسى أو التعبيرى.
كما أثرت حقبة الركود السياسى والاجتماعى والاقتصادى – فترة حكم الرئيس السابق حسنى مبارك قبل أن يسقطه الشعب – على مناخ الحركة التشكيلية، فى تنامى الاتجاهات الشكلانية المجردة والعبثية فى الفن، متخذة مثلها الأعلى الذى تسعى لمحاكاته، من اتجاهات الفن فى زمن الحداثة وما بعد الحداثة بدول أوربا وأمريكا، وكان صالون الشباب السنوى هو المفرخة أو المزرعة المستمرة لهذه الاتجاهات، فلا هى أبدعت رؤيتها الفنية الخالصة كإضافة لتلك الأساليب، ولا هى استطاعت أن تحدث حالة تفاعلية بفنها مع الجماهير مثلما استطاعت الحركات الفنية فى الغرب مثل “المفاهيمية” و”فن الحدث” و”فن الأرض” و”الفن الفقير”.. القائمة على إحداث الصدمة والاندهاش وإثارة التساؤل والمشاركة فى البحث عن الإجابة، بل والمشاركة فى تشكيل العمل الفنى بالحس التلقائى واللحظى لعامة الناس فى الشارع أو على الشاطئ أو وسط أى تجمع بشرى، مستخدمة نفايات الحياة اليومية و “الروبابيكيا” فى هذه التشكيلات التى تبدو عشوائية فى كثير من الأحيان، لكنها تحمل دلالات خاصة فى مجتمعاتها الاجنبية، أما فى معارض صالون الشباب بالقاهرة فقد توقفت الأعمال المعروضة عند مستوى الصدمة الأولى، بإحداث المفارقة والشعور بالغرابة الذى سرعان ما يتحول إلى شعور بالغربة لدى مشاهدى هذه الأعمال، ومن ثم الانصراف عنها بغير رجعة خاصة مع وجود كم هائل من المواد الخام والمخلفات وأكوام التبن والقش وقطع الخيش والجلد ولفائف السلك والخوص المجدول وعلب والصفيح وأكوام المسامير وشرائح الخشب والورق وعجلات الكاوتشوك، وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من مواد يضعها الفنان بشكل يبدو عشوائياً أو عبثياً، ويترك أثراً سلبياً منفرداً للجمهور غير المعتاد على هذه الأعمال وغير الفاهم لما وراءها من أبعاد.
الشباب والفن المفاهيمى:
ومع ذلك برزت ولمعت أسماء تميزت فى هذا الاتجاه بين أوساط الحركة الفنية مثل: خالد حافظ، حازم المستكاوى، أحمد العسقلانى، أيمن السمرى، محمود منيس، هشام نوار، محمد صبره، هوايدا السباعى، وائل شوقى، ريم حسن، ممدوح إبراهيم، آمال قناوى، واستطاع بعضهم أن يقدم – من خلال هذه الأساليب المفاهيمية – رؤى ابتكارية مثيرة للفكر والخيال، موحية بمعانى ذات نزعة نقدية لظواهر سياسية واجتماعية، سواء بأسلوب الأعمال التجميعية أو التركيبية من خامات ومجسمات فى الفراغ، أو بأسلوب الـ “مالتى ميديا”، باستخدام الوسائط التكنولوجية الحديثة من كمبيوتر وفيديو ودوائر الكترونية فى حجرات مغلقة ومظلمة تماماً، وكان مجال ظهور هذه الاعمال ولمعانها – بشكل خاص – فى كل من بينالى القاهرة وبينالى الاسكندرية الدوليين بدءاً من أوائل التسعينيات تحت رعاية وزارة الثقافة ودعمها المباشر، وإن كان الأمر لا يخلو من وجود جهات أجنبية تشجع وتموَّل هذه الاعمال بسخاء وتنظم لها المعارض وتستضيف أصحابها فى دول أجنبية وترشحها للفوز بجوائز دولية، ولا شك أن ذلك التشجيع لم يكن بدافع الفن وحده، حيث كانت مصر – فى السنوات السابقة مباشرة لثورة يناير – مستهدفة “لأجندات” أجنبية عدة وفق أغراض سياسية وثقافية لكل جهة مانحة، وقد اتضح تأثير ذلك فى العديد من أعمال الفنانين المصريين الشباب فى البيناليهات الدولية التى فازت بجوائز كبرى على مستوى دول العالم المشاركة، وهى تحمل صوراً سلبية للوجه الحضارى لمصر بشتى الاشكال، وإظهار الإنسان المصرى والعربى والافريقى كذلك بطريقة مهينة لتاريخه وكرامته ونضاله الطويل، وامتلأت صفحات بعض الصحف والمجلات بالنقد اللاذع والكاشف لخطورة هذه الأعمال ولتوجهات من يقفون وراء هذه المهرجانات، ولا شك أن هؤلاء الشباب كانوا حسنى النية، فهم لم يشاركوا بهذه الأعمال من منطلقات غير وطنية، بل ربما كان العكس هو الصحيح، ومن ثم كانوا يجدون فى هذه التعبيرات والمشاركة متنفساً للاحتجاج على أوضاع سياسية لا يقبلونها، حتى لو وصل الأمر إلى نوع من جلد الذات الوطنية!
وأظن أن أغلب الجهات الأجنبية المانحة والراعية لمثل هذه الأنشطة الفنية قد نقلت تمويلها بعد الثورة لدعم الأنشطة السياسية والجماعات الحقوقية بنفس الأجندات السابقة، وهذا ملف كبير وبالغ التعقيد والحساسية، وكانت الأجواء السياسية مهيأة له خلال الفترة الانتقالية التى أعقبت قيام الثورة، وقد أدى تزايد أثر هذا الملف إلى تدخل السلطات المصرية الحاكمة فى الفترة الماضية فأغلقت العديد من مقار تلك الجماعات الحقوقية الممولة من الخارج والتى تعمل بغير تصاريح من الجهات الرسمية، وألقت القبض على العاملين فيها وتفجرت بسبب ذلك أزمة سياسية شهيرة، وذلك قبل أن يستقر الحكم بانتخاب أول رئيس للجمهورية بالانتخاب الحر المباشر لأول مرة فى تاريخ مصر.
وإذا كان من غير المنتظر أن تتوقف مثل هذه المؤسسات الخارجية فى الفترة المقبلة عن اختراق أوساط الشباب والناشطين السياسيين – بل ربما شهدت تزايداً فى نشاطها – فإن المؤكد هو أن مستوى الوعى السياسى والوطنى والثقافى لدى أبناء الشعب – وعلى رأسهم الشباب – قد ارتفع بصورة مدهشة، وصار كل مواطن قادراً على التمييز والاختيار الحر بمطلق ارادته وإيمانه، فلا مجال لخداعه أو استغلاله تحت أى شعار براق أو إغراء مادى أو معنوى، الأمر الذى سوف يُحد إلى درجة كبيرة من نفوذ أية مؤثرات أجنبية على الفنانين الشباب، بالإضافة إلى أن ثقتهم فى أنفسهم بعد الثورة وفى ظل احترام العالم كله لشباب الثورة ولنضال المصريين عامة، سوف تكون هى عنصر المناعة الاول ضد اختراق أفكارهم أو إغرائهم بالتحقق الفنى فى المحافل الدولية، عند قبولهم العمل تحت مظلة تلك المؤسسات الاجنبية الغامضة، ومن ثم.. فلا مجال أمامها للعبث فى منطقة الثقافة والهوية المصرية العميق عمق التاريخ.
إبداعات الثورة والميدان:
لم يستغرق الفنانون وقتاً طويلاً بعد قيام ثورة يناير 2011 حتى ينخرطوا فى التعبير عنها بمشاعرهم الجياشة تجاهها شأن جميع أبناء الشعب، ولم ينتظروا حتى تنضج رؤاهم الفنية وأن تجد الأساليب والأشكال المناسبة بعيداً عن المباشرة والسطحية، واستوى الامر فى ذلك بين فنانين كبار أو صغار، إذ كان الحس الثورى العارم يسبق اعتبارات الصنعة والابداع التقنى، ووجد كثيرون منهم فى الصور الفوتوغرافية للمليونيات بميدان التحرير منبعاً لاختيار نماذج منها وتوليفها بأسلوب “الكولاج” أو القص واللصق على سطوح اللوحات، بأسلوب مغاير للمشهد المعتاد فى الواقع، كما وجد آخرون فى العلم المصرى عنصراً تشكيلياً راحوا يحركونه ويتلاعبون به ويدمجونه مع تكوينات من وحى خيالهم، وهناك من استدعى مشاهد من المواجهات البوليسية مع أجهزة القمع ضد المتظاهرين قبل قيام الثورة وبعدها، موجهاً انتقاداً إلى السلطة الانتقالية بعد الثورة فى ممارسة نفس الانتهاكات القديمة ضد الثوار، والبعض لجأ إلى استعارة رموز من الحضارة المصرية القديمة مثل الهرم وأبى الهول والمسلة والرسوم الجدارية فى وضع جانبى للأشخاص، تعبيراً عن استمرارية المد الحضارى والهوية المصرية التى أشعلتها الثورة فى نفوس المصريين، والبعض الآخر لجأ إلى تصميم صروح ميدانية لتخليد الثورة والشهداء فى ميدان التحرير مستعيناً برموز حضارية، خاصة الهرم والمسلة.
وكثيرون استعاروا شكل كرسى صالون ضخم وأخذوا يتلاعبون بوضعه مقلوباً أو خالياً رمزاً لكرسى العرش بعد خلع الرئيس السابق من فوقه، واستوى فى استعمال هذا الرمز الرسامون والنحاتون، لكن القاسم المشترك الأعظم بين أغلب الأعمال كان رمز الشهداء، الذى تراوح استخدامه فى أعمال الرسم أو النحت بين الصور التشخيصية المباشرة وبين التعبير الرمزى الذى يوحى ولا يصرح.
وأخيراً رأينا من يستعير فى رسومه بعض الرموز الأسطورية لكائنات بشرية أو حيوانية أو طائرة أو زاحفة مستوحاة من طقوس الدفن بمصر الفرعونية موحياً بمسوخ جروتسكية تعبيراً عن مخاوف من انقضاض الثورة المضادة على مستقبل الثورة وأفراغها من مضمونها تمهيداً لعودة النظام القديم… وأكتفى هنا بالإشارة إلى أسماء بعض الفنانين الذين شاركوا فى هذه الحالة الإبداعية العفوية الطازجة حتى ولو لم يكتمل لها النضج، وهو أمر منطقى بالنسبة لهذا الوقت المبكر فى خضم أحداث الثورة.. منهم: عصمت وأوستاشى، ثروت البحر، طه القرنى، محمد عبله، رمزى مصطفى، حلمى التونى، مصطفى الرزاز، ثناء عز الدين، حسام غربيه، رفضى الرزاز، سمير فؤاد.. وهناك عشرات غيرهم، ما يجعل تجاربهم مادة تصلح لدراسة مستقلة.
قرن على المشهد التشكيلى فى مصرنهر الإبداع يتدفق.. من ثورة إلى ثورة!عز الدين نجيب ناقد وفنان تشكيلي ظلت الفنون الجميلة (أو الفنون التشكيلية كما شاع عنها هذا المصطلح منذ السبعينيات من القرن الماضى) منطقة منيرة فى مصر، بتجلياتها الإبداعية وأجيالها المتواصلة على امتداد ذلك القرن وحتى اليوم؛ إنها المنطقة التى تمثل – من ناحية – أقصى درجات الانتماء الوطنى والحضارى للهوية فى مستوياتها التاريخية المتعاقبة، وتمثل – من ناحية أخرى – أقصى درجات الانفتاح على الفنون الغربية فى القرن الحادى والعشرين، وقد واكبت وعبَّرت –خلال مسيرتها الممتدة – عن القضايا والمفاصل المصيرية فى تاريخ مصر الحديث، بدءاً من ثورة 1919 (بعد ثمان سنوات على تخريج الدفعة الأولى لمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1911، حيث لم تكن بمصر آنذاك قاعة عرض واحدة للفنون)، حتى ثورة 2011، بعد أن أصبح بها عشرات الكليات الفنية وعشرات أخرى من قاعات العرض وآلاف الفنانين الأعضاء بنقابة التشكيليين والعديد من الجمعيات الأهلية المختصة بالفن، بل أصبح الفن مادة رئيسية تقام فعالياتها فى ميادين الثورة (التحرير، وطلعت حرب، وعابدين) بما يقدمه الفنانون الدارسون أو الهواة لحشد القوى الثورية. غير أن الملفت فى الحالة المصرية هو أن أية معوقات واجهت الفنان والفنون التشكيلية لم تمنع فيضان نهر الابداع من التدفق والتواصل على مر الأجيال، وأنها لم تؤد إلى درجة كبيرة من النكوص لدى الفنان عن دوره وواجبه تجاه بلده ورسالته، وهو ما يتضح بشكل خاص فى المواقف المصيرية للوطن حيث يتسابق الفنانون للتعبير عن رؤاهم الوطنية والخروج بأعمالهم إلى شتى مواقع العرض، وإلى التقدم بأفكارهم ومشروعاتهم إلى أصحاب القرار لإقامة جداريات فنية وأعمال نحت ميدانية فى الأماكن العامة والحدائق والمرافق الحيوية للجماهير، وهى المدرسة الحقيقية لإشاعة الفن والذوق الجمالى لملايين الشعب، مرجعين ذلك إلى وجود أولويات أكثر أهمية للمواطنين، والحقيقة أن ذلك كان يعكس فقراً فى الفكر والذوق أكثر منه فى الإمكانات المادية، لان ضعف الإمكانات لم يمنع المسئولين خلال العقود الماضية – قبل ثورة 25 يناير 2011 المجيدة – عن إقامة مئات المهرجانات الدولية باهظة التكاليف التى قد لا تقوم بمثلها دول عظمى، والتى لا يستفيد منها الشعب ويذهب أثرها فور انتهائها، ولا يخرج عائدها عن مظاهر الدعاية الوقتية، أو عن تمجيد أصحاب السلطة والنفوذ أو أن لهم فيها مآرب أخرى، وقد كتبتُ وكتب غيرى مراراً وتكراراً فى نقد هذه الأوضاع قبل عام 2011، بدون أى اكتراث من أجهزة النظام السابق بالإصلاح المطلوب، بل وصل الأمر إلى منع فنان من إقامة جدارية بعرض 16 متراً بحى السيدة عائشة الشعبى على نفقته الخاصة وبمشاركة من أبناء الحى، وكانت حجة أجهزة الشرطة فى المنع هى “الأسباب المرورية”! وكان المقصود فى الحقيقة هو عدم السماح بأية تجمعات جماهيرية حول فكرة أو مبادرة يلتف حولها الشعب، ولو كانت لوحة تعبر عن “سوق الجمعة”!.. (كانت تلك واقعة حقيقية للفنان طه القرنى عام 2010). فن الجرافيتى وثورة يناير: لذلك؛ فما أن قامت ثورة يناير حتى انتقلت منطقة الجذب الفنى من قاعات المعارض بأحياء الزمالك والجزيرة وجاردن ستى إلى الشوارع المطلة على ميدان التحرير، من خلال ما يسمى بفن “الجرافيتى”، ذلك الأسلوب التلقائى بأيدى الفنانين المجهولين المعارضين للنظام القديم، والذين لم يكن لهم مكان قبل الثورة فى قاعات العرض التابعة للدولة أو حتى للأفراد، لأنهم ليسوا أسماء مشهورة، ولا يقدمون أعمالاً مناسبة للنخبة الراقية فى المجتمع ولا للاتجاهات الاكاديمية، لأن أعمالهم ترتبط بموضوعات احتجاجية على الأوضاع السياسية القائمة، وبعضها كان يرتبط بجمهور (الألتراس) المنتمى لبعض النوادى الرياضية، ومن ثم فهى غير صالحة للبيع فى القاعات التجارية، شغل هؤلاء الفنانون الهواة مساحات هائلة بلوحاتهم على جدران المبانى العامة والخاصة بمنطقة وسط القاهرة والأحياء المحيطة، بما فى ذلك أسوار النوادى والمدارس والمؤسسات العامة، بحس تعبيرى شديد الحيوية والتأثير، حتى ولو كانت تنقصها خبرة المحترفين وقواعد الأكاديمية، ولم تكن جميعاً تعبيراً –فحسب- عن أحداث المواجهات الدامية وتمجيد الشهداء وشعارات المقاومة للنظام والمطالبة بأهداف الثورة، بل شملت كذلك رموزاً مستمدة من تاريخ مصر الحضارى، كما شملت تعبيرات مستوحاة من قصائد بعض الشعراء القدامى والمحدثين، بأساليب فنية تتسم بالرومانسية والتحليق الخيالى عبر رموز أسطورية، من خيول وطيور وعرائس أحلام تتغنى بالثورة.. وعلى امتداد عام الثورة الأول (2011) بقيت هذه اللوحات فى أماكنها، وكانت تجد من يحميها من التعدى أو الإزالة، لكن مع انصراف الثوار عن الميادين والمليونيات والاعتصامات عند قدوم العام الجديد، وجد فلول النظام القديم وحماة البيروقراطية من أبناء “الدولة العميقة” غير المؤمنين بالثورة، فرصتهم لإزالة الكثير من لوحات الجرافيتى، وسرعان ما عاد الرسامون المجهولون الثوار يرسمون فى مكانها لوحات جديدة تفرض وجودها على المشهد العام كجزء لا يتجزأ من الثورة، ولا نزال نستطيع مشاهدة كثير من هذه الجداريات بشارع محمد محمود وشارع الشيخ ريحان وشارع شمبليون وشارع الفلكى وعلى اسوار بعض المدارس والنوادى وعلى جدران الجامعة الأمريكية بميدان التحرير. وكان من الأمور المثيرة وقت احتدام المظاهرات فى تلك المنطقة وهى تندد بحكم العسكر وتطالب باستمرار الثورة، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قام بإغلاق مداخل كل تلك الشوارع بمكعبات خرسانية يقارب حجم المكعب الواحد منها حجم حجر من أحجار الهرم الأكبر، فجعل الفنانون منها سطوحاً ممتدة لرسم لوحاتهم، ومنها ما أتخذ شكل وألوان قوس قزح رمزاً لإطلاق الخيال لتجاوز الجدار، ومنها ما اتخذ صورة شارع صفت على جانبيه عمارات وأرصفة وامتلأ بالمارة وفوق الجميع سماء مفتوحة، فحققوا بذلك إزاحة معنوية للحواجز الحجرية، وفتحوا بالخيال الطرق المغلقة تعبيراً عن إرادة الحرية التى لا يستطيع أن يقهرها أو يقف فى طريقها أى عائق.. وقد أزيلت تلك الأحجار فيما بعد، حاملة معها إلى مكان مجهول لوحات الفنانين! ذلك مظهر واحد من مظاهر فيض الإبداع المصرى، وقد رأينا أمثلة له فى الماضى البعيد أيام مواجهة الشعب للعدوان الثلاثى على مصر عام 1956 (من فرنسان وانجلترا وإسرائيل)، وأيام بناء السد العالى عام 64 – 64 وأيام مواجهة هزيمة يونيو 1967 وأيام الاحتفال بانتصار أكتوبر 1973، لكن هذا المد الإبداعى الثورى قد جفت منابعه على مدار العقود الأربعة الماضية بعد حرب أكتوبر، مع ازدياد القبضة الحديدية للنظام وافتقاد مشروع قومى للنهضة تلتف حوله الأمة، وتحول القيم الاجتماعية الأصيلة التى تميزت بها شخصية الشعب إلى قيم استهلاكية نفعية، ثم أعقبت ذلك حقبة الرئيس السابق مبارك، فشهدت أعلى درجة من الفساد المركب النابع من زواج المال بالسلطة. أجيال ومحطات الحركة الفنية: كانت حركات الابداع تتفجر وتتصاعد مع فترات المد الوطنى والثورى مستقلة عن أجهزة الدولة وتوجهاتها، وعلى العكس من ذلك كانت تخمد وتصاب بالجمود والرتابة فى فترات الجزر، وتصبح أسيرة للاجهزة الرسمية والهيئات الأكاديمية فتزداد انعزالاً عن المجتمع. لكنها فى كلا الحالتين استطاعت أن تحافظ على الهوية المصرية والانتماء إلى الأرض والجذور الحضارية، وقد مرت أجيالها المتعاقبة على العديد من المحطات الفنية، بدءاً من جيل الرواد الأوائل منذ تخرجت أول دفعة من مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1911 حتى أوائل العقد الثانى من الألفية الثالثة. وتتنوع محطات الابداع عبر تلك المسيرة بين الاتجاهات الأكاديمية (المدرسية) والكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والتأثيرية والسريالية والتجريدية والتعبيرية والمفاهيمية، وهى نفس محطات ومدارس الفن الغربى الذى ارتبطت به الحركة الفنية المصرية منذ نشأتها. ولو شئنا – بقدر من التجريد – رصد الرؤية الجمالية والفلسفية العامة لكل جيل، فيمكننا بقدر من التعميم الذى ينطوى على فروق وتمايزات شخصية شديدة بين كل فنان وآخر، أن نعتبر جيل الرواد الأوائل هو جيل البحث عن ملامح الهوية المصرية والعربية فى الفن بعد انقطاع حضارى عن الفنون الجميلة التى شكلت أساس الحضارة المصرية القديمة قرابة ألفى عام، وكان فى بحثه عن تلك الهوية (أقصد تحديداً النحات محمود مختار والرسامون محمد ناجى ومحمود سعيد ويوسف كامل وراغب عياد ومحمد حسن) يبحث عن روح النهضة الوطنية التى فجرتها ثورة 1919، وشارك فى بلورتها فكراً وأدباً وشعراً وموسيقى وغناء كل من الشعراء أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وبيرم التونسى، والكتاب طه حسين والمازنى والعقاد، والمفكرون محمد عبده وأحمد لطفى السيد وسلامة موسى وعبد الرازق السنهورى وقاسم أمين، والموسيقيان سلامة حجازى وسيد درويش. لذلك كان جيل الرواد من رسامين ونحاتين يتماهى ويتكامل مع كل هؤلاء، بل ويسبقهم أحياناً إلى الانفتاح على أوربا عبر البعثات الأولى إلى فرنسا وإيطاليا فى الربع الأول من القرن العشرين، وقد أخذ أبناؤه من اتجاهات الحداثة ما يناسب المزاج المصرى والمناخ الثقافى المتواصل مع عبق الطبيعة النيلية والتاريخ الممتد، فكانت أساليب الكلاسيكية والواقعية والرومانتيكية والتاثيرية والتعبيرية هى اللبنات الأولى والمؤثرات الأساسية التى لازمت أساليب ذلك الجيل بدرجات متفاوتة؛ نلمح الكلاسيكية / الرومانتيكية فى منحوتات مختار عن الفلاحة المصرية وهى تستنهض أبا الهول رمز الحضارة وعراقة التاريخ، كما نلمحها فى بقية فلاحاته الكادحات تعبيراً عن مسيرة العمل والعطاء والكفاح من أجل الحياة، متماهيات مع نهر النيل واهب الحياة والنماء، فى إيقاعات إنسيابية ناعمة بخطوط الأجسام المنحوتة، ونلمح الواقعية بحس تأثيرى (انطباعى) لدى محمد ناجى ويوسف كامل فى تعبيرهما العفوى الطازج عن الحياة فى الريف والأحياء الشعبية ورحلة الحياة الممتدة عبر آلاف السنين للفلاح والفلاحة، وفى تعبيرهما – كل بطريقته الخاصة – عن الحياة الشعبية بعبق الزمن والتراث المتجذر، ونلمح التعبيرية الحديثة ممزوجة بملامح التصوير المصرى القديم فى لوحات راغب عياد، بخطوطه المتحررة الطليقة التى يعيد بها صياغة الواقع بحس مغاير للمنظور الفيزيائى، ويعمد إلى المبالغة والتحريف لملامح ونسب الأشخاص والكائنات الطبيعية، ممتزجة بالحس الساخر للجماعة الشعبية الفطرية وبالحس الروحانى لرسومها على الجدران فى مناسبات الحج، ولرسومها للسير والملاحم الشعبية التى تطبع وتباع بمليمات فى الأسواق. أما جيل الأربعينيات – المسمى بجيل الجماعات الفنية (الفن والحرية، والفن المعاصر، والفن الحديث) فكان يشغله أمران أساسيان؛ الأول هو التعبير عن تفجر الحراك الثورى فى شرايين المجتمع المصرى بعد أن فسدت وتعفنت السلطة الحاكمة مع طبقة الاقطاعيين المتواطئة أو المتهادنة مع قوات الاحتلال الانجليزى للبلاد، وعن حالة الفقر والجهل والانسحاق الطبقى والغيبوبة الفكرية فى ظلمات التخلف والخرافة التى يعيشها السواد الأعظم من الشعب، وعن إرهاصات الانفجار الثورى الوشيك الذى يتفاعل فى الأعماق وتتجلى بوادره من حين لآخر، والأمر الثانى هو القيام بثورة تحديثية فى شكل الفن، باستعارة بعض الاتجاهات الفنية الأوربية للتعبير عن هذا العالم وعلى رأسها السريالية (وكانت فى ذلك الوقت تحمل الراية الثورية فى الفن والأدب فى أوربا)، لكن ذلك الجيل نجح فى “تهجين” نوع مصرى خالص من السريالية الشعبية، تنبع من مخزون اللاوعى الجمعى للمصريين، بما يشمله من خرافات واساطير وسحر وقيم ومفاهيم لاصقة بفكر الجماعة الشعبية ولا صلة لها بالمنطق أو بطبيعة العصر، وهذا ما قامت عليه إبداعات الفنانين أعضاء جماعة الفن المعاصر من أمثال عبد الهادى الجزار وحامد ندا وسمير رافع، وكان رائدهم هو الفنان حسين يوسف أمين، أما التعبير عن النبض الثورى المعبر عن ضرورة هدم النظام القديم بكل فساده ووحشيته فكان من نصيب جماعة الفن والحرية بقيادة الشاعر جورج حنين وعلى أيدى فرسانها الثلاثة رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، وجاءت تعبيراتهم مزيجاً من السريالية الأوربية والوحشية والتعبيرية، فبدت منفصلة عن المزاج المصرى وعن منابعه السيكولوجية والثقافية، مما جعل فرسان الجماعة يتفرقون بعد سنوات قليلة إلى اتجاهات تجريدية بحثتة أو إلى هجر الرسم ذاته والتحول إلى الاخراج السينمائى بأسلوب الواقعية الكاشفة عن التناقضات الاجتماعية (كما رأينا كامل التلمسانى الذى تألق ككاتب ومخرج سينمائى مرموق فى الخمسينيات والستينيات). وهناك من اختار التعبير عن النبض الثورى الكاشف عن حالة من يقظة الوعى السياسى فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من خلال أعضاء جماعة الفن الحديث، ونجد انعكاسات هذه الحالة فى أعمال النحات جمال السجينى وفى لوحات الرسامين محمد حامد عويس وسعد الخادم ويوسف سيده وجاذبية سرى وزينب عبد الحميد، وحسن فؤاد ، وبالقرب منهم – من خارج الجماعة – كانت تتألق لوحات حامد عبد الله وتحية حليم وإنجى أفلاطون، وسيد عبد الرسول، ومنحوتات أنور عبد المولى واحمد عثمان ومحيى الدين طاهر وفى أعمال الخزف لسعيد الصدر وغيرهم. وقد حملت هذه الأعمال مزيجاً من الواقعية والتعبيرية والرمزية، كاشفة عن عمق الجذور الحضارية والروح الشعبية فى آن. لقد استمر هذا الجيل بتنويعاته المختلفة بعد قيام ثورة يوليو 1952، لكن بدون انتظام أفراده فى جماعات ثورية كما كانوا قبل الثورة، التى منعت قيام أية تنظيمات حتى ولو كانت فنية بحتة، وكان من قوة تأثير هذ الجيل أن ألقى بظلاله على الأجيال التالية، ولم يجد أبناؤه ضيراً فى الذوبان فى المجتمع بغير تمييز أنفسهم فى أطر الجماعات السابقة، إذ وجدوا ذواتهم وأفكارهم متحققة فى أهداف وإنجازات الثورة التى تبنَّت تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية والتحرر الوطنى ومحاربة الاستعمار والفساد وسيطرة رأس المال على الحكم (وما أشبهها بمطالب وشعارات ثورة الشباب فى يناير 2011!).. وقد ساعدت حكومات نظام الزعيم عبد الناصر كثيراً – والحق يقال – فى اتساع دوائر الفن لتشمل الفئات الاجتماعية المهمشة والمحرومة اقتصادياً وثقافياً فى الريف والأحياء الشعبية، عبر قنوات الاتصال الثقافية، ما يجعل منها الفترة الاستثنائية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر فى هذا الشأن، حيث زالت فيها القطيعة بين الفنان والمجتمع، بوجود جسور للتواصل ولإشاعة الثقافة البصرية بين الجماهير العريضة، لكن فى مقابل ذلك – والحق يقال أيضاً – فقد الفنان استقلاله وحريته فى المعارضة لهيمنة النظام الشمولى، الذى قايض الحرية السياسية والديمقراطية بالعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية واستقلال السيادة الوطنية، فيما تمثل الحرية الفكرية للفنان الهواء الذى يتنفس فيه ولا تغنيه عنه أية مكاسب أخرى! فى غياب المشروع القومى للنهضة: ولا شك أن افتفاء الفنان لمشروع قومى للنهضة يفرغ فيه طاقاته، ولدور مؤثر فى الحراك السياسى ينخرط من خلاله فى جبهة المعارضة للنظام، دفعه للانخراط فى التجريب الفنى والمغامرات الجمالية بحثاً عن أساليب مغايرة للأنماط السائدة، وقد كانت تلك سمة الفن فى مرحلة ما بعد هزيمة 1967 التى شهدت حالة من الإحباط والقهر النفسى والعجز التعبيرى لدى كثير من المبدعين فى الأدب والفن، وتجلت خلالها محاولات فى الفن التجريدى والتجريب بمختلف الخامات من منطلقات أوربية بحتة، وكان أول فرسانه الفنانون منير كنعان ورمسيس يونان وفؤاد كامل ومصطفى الأرناؤوطى وأبو خليل لطفى وحمدى خميس وصلاح طاهر وسيف وانلى وعفت ناجى، وسار على طريقهم فى السبعينيات والثمانينيات مصطفى عبد المعطى وأحمد فؤاد سليم وعدلى رزق الله ومصطفى عبد الوهاب ومحمد رزق (الرسام) ومحسن عطية وفاروق حسنى. واجتهد آخرون فى البحث عن طريق ثالث يربط بين اتجاه الحداثة على الطريقة الغربية واتجاه الحداثة باستلهام التراث الشعبى والحضارى الفرعونى والاسلامى والقبطى والحياة اليومية، من بينهم عمر النجدى وزكريا الزينى ورمزى مصطفى ومحمد طه حسين وعبد الوهاب مرسى ومريم عبد العليم وفاطمة العرارجى ونعيمة الشيشينى وحسن سليمان ومصطفى أحمد وحسين الجبالى ورؤوف عبد المجيد ورفعت أحمد ومحمد حسنين على، وأحمد عبد الوهاب وآدم حنين وصبحى جرجس ومحمد هجرس وجابر حجازى وعبد الهادى الوشاحى ومحمد رزق، وهم جميعاً يمثلون جيل الستينيات. وعلى طريق يلتحم بجيل الوسط فى الخمسينيات وكامتداد طبيعى لجيل الستينيات لكن من منظور جيل السبعينيات، نشأت واستمرت حتى الآن حركة فنية وِجْهَتُها الكشف عن جذور التراث الشعبى والمعمارى والميثولوجى، وما تتضمنه من رؤى خيالية وميتافيزيقية تحمل عبق التاريخ وملامح الأسطورة وسحر الأسرار الدفينة، إلى جانب دلالات رمزية تناوش الحاضر والمستقبل باساليب فنية مستحدثة تحاول الاستقلال عن المدارس الأوربية، ساعية إلى خلق جماليات مصرية وعربية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن بين هؤلاء – على سبيل المثال – كمال شلتوت، أحمد نوار، عصمت داوستاشى، على دسوقى، جميل شفيق، ثروت البحر، سيد سعد الدين، سيد محمد سيد، زينب السجينى، وفيق المنذر، مصطفى الرزاز، فرغلى عبد الحفيظ، عبد الغفار شديد، صبرى منصور، عبد الفتاح البدرى، محمود بقشيش، حسن عبد الفتاح، عبد السلام عيد، أحمد الرشيدى، محمود عبد العاطى، حسن غنيم، فاروق بسيونى، إيفلين عشم الله، حمدى عبد الله، مجدى عبد العزيز، ثناء عز الدين، على عاشور، فاروق وهبة، فاروق شحاتة، سعيد العدوى، محمود عبد الله، رياض سعيد، على عاشور، عز الدين نجيب، والنحاتون مثل: محمد جاهين، محمود شكرى، على جبيش، وفنانو الخزف مثل نبيل درويش وصالح رضا وجمال حنفى وزينب سالم.. وغيرهم.. وغيرهم. وفى السياق نفسه لحق بهم جيل جديد بدأ فى الثمانينيات وتبلورت شخصيته فى التسعينيات واستمر حتى الآن على طريق الانفتاح بدرجة أكبر على اتجاهات الفن العالمى، جامعاً بين التعبيرية والسريالية والتجريدية والرمزية والوحشية، منهم على سبيل المثال الرسامون: رضا عبد السلام، عبد الوهاب عبد المحسن، أحمد الجناينى، محمد عبله، ومحمد الطراوى، أحمد رجب صقر، السيد القماش، إبراهيم غزالة، والنحات السيد عبده سليم، ولحق بهم الرسامون: رضا شحاتة، أمل نصر، صلاح المليجى، رضا عبد الرحمن، أحمد عبد الكريم، محمد عرابى، عماد أبو زيد، عادل ثروت، وائل درويش، خالد سرور، والنحاتون: طارق الكومى، شادى النشوقاتى، محمد الفيومى، ناجى فريد، ناثان دوس.. وغيرهم. وقد ساعد على اكتشاف أغلب هؤلاء وعلى سرعة نضوجهم تأسيس صالون الشباب فى نهاية عقد الثمانينيات بدعم قوى من وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى وساعده الفنان أحمد نوار رئيس المركز القومى للفنون التشكيلية آنذاك. عصر الانفتاح الاقتصادى والركود الإبداعى: إن تاريخ الحركة الفنية يبدو انعكاساً للمتغيرات الاجتماعية والسياسية فى الواقع المصرى الحديث والمعاصر، فقد أثَّرت حقبة الانفتاح الاقتصادى أواسط السبعينيات خلال فترة حكم الرئيس أنور السادات حتى أكتوبر 1981 ، والتى استمر أثرها حتى أوائل التسعينيات – على مسار الحركة بإفساح الطريق أمام الفنون الاستهلاكية، سواء المقلدة للاتجاهات الفنية الغربية بشكل ميكانيكى، دون النظر إلى ظروفها وأسبابها فى دول منشئها الأصلية، أو المقلدة للأشكال التراثية بأسلوب سياحى يتناسب مع السائح الأجنبى الذى دخل مصر وراح يبحث عن تذكارات سياحية تذكره بمعالمها التاريخية والفلكلورية، أو يتناسب مع مستوى ثقافة الطبقة الاجتماعية الجديدة التى نشأت مع عصر الانفتاح، بذوقها السطحى الباحث عن المتعة والبهرجة اللونية والمحاكاة المباشرة لمناظر الطبيعة أو باقات الزهور أو مظاهر التراث أو حروف اللغة العربية التى أتخذ منها الفنان وسيلة للتجريد بديلاً عن التجريد الهندسى أو التعبيرى. كما أثرت حقبة الركود السياسى والاجتماعى والاقتصادى – فترة حكم الرئيس السابق حسنى مبارك قبل أن يسقطه الشعب – على مناخ الحركة التشكيلية، فى تنامى الاتجاهات الشكلانية المجردة والعبثية فى الفن، متخذة مثلها الأعلى الذى تسعى لمحاكاته، من اتجاهات الفن فى زمن الحداثة وما بعد الحداثة بدول أوربا وأمريكا، وكان صالون الشباب السنوى هو المفرخة أو المزرعة المستمرة لهذه الاتجاهات، فلا هى أبدعت رؤيتها الفنية الخالصة كإضافة لتلك الأساليب، ولا هى استطاعت أن تحدث حالة تفاعلية بفنها مع الجماهير مثلما استطاعت الحركات الفنية فى الغرب مثل “المفاهيمية” و”فن الحدث” و”فن الأرض” و”الفن الفقير”.. القائمة على إحداث الصدمة والاندهاش وإثارة التساؤل والمشاركة فى البحث عن الإجابة، بل والمشاركة فى تشكيل العمل الفنى بالحس التلقائى واللحظى لعامة الناس فى الشارع أو على الشاطئ أو وسط أى تجمع بشرى، مستخدمة نفايات الحياة اليومية و “الروبابيكيا” فى هذه التشكيلات التى تبدو عشوائية فى كثير من الأحيان، لكنها تحمل دلالات خاصة فى مجتمعاتها الاجنبية، أما فى معارض صالون الشباب بالقاهرة فقد توقفت الأعمال المعروضة عند مستوى الصدمة الأولى، بإحداث المفارقة والشعور بالغرابة الذى سرعان ما يتحول إلى شعور بالغربة لدى مشاهدى هذه الأعمال، ومن ثم الانصراف عنها بغير رجعة خاصة مع وجود كم هائل من المواد الخام والمخلفات وأكوام التبن والقش وقطع الخيش والجلد ولفائف السلك والخوص المجدول وعلب والصفيح وأكوام المسامير وشرائح الخشب والورق وعجلات الكاوتشوك، وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من مواد يضعها الفنان بشكل يبدو عشوائياً أو عبثياً، ويترك أثراً سلبياً منفرداً للجمهور غير المعتاد على هذه الأعمال وغير الفاهم لما وراءها من أبعاد. الشباب والفن المفاهيمى: ومع ذلك برزت ولمعت أسماء تميزت فى هذا الاتجاه بين أوساط الحركة الفنية مثل: خالد حافظ، حازم المستكاوى، أحمد العسقلانى، أيمن السمرى، محمود منيس، هشام نوار، محمد صبره، هوايدا السباعى، وائل شوقى، ريم حسن، ممدوح إبراهيم، آمال قناوى، واستطاع بعضهم أن يقدم – من خلال هذه الأساليب المفاهيمية – رؤى ابتكارية مثيرة للفكر والخيال، موحية بمعانى ذات نزعة نقدية لظواهر سياسية واجتماعية، سواء بأسلوب الأعمال التجميعية أو التركيبية من خامات ومجسمات فى الفراغ، أو بأسلوب الـ “مالتى ميديا”، باستخدام الوسائط التكنولوجية الحديثة من كمبيوتر وفيديو ودوائر الكترونية فى حجرات مغلقة ومظلمة تماماً، وكان مجال ظهور هذه الاعمال ولمعانها – بشكل خاص – فى كل من بينالى القاهرة وبينالى الاسكندرية الدوليين بدءاً من أوائل التسعينيات تحت رعاية وزارة الثقافة ودعمها المباشر، وإن كان الأمر لا يخلو من وجود جهات أجنبية تشجع وتموَّل هذه الاعمال بسخاء وتنظم لها المعارض وتستضيف أصحابها فى دول أجنبية وترشحها للفوز بجوائز دولية، ولا شك أن ذلك التشجيع لم يكن بدافع الفن وحده، حيث كانت مصر – فى السنوات السابقة مباشرة لثورة يناير – مستهدفة “لأجندات” أجنبية عدة وفق أغراض سياسية وثقافية لكل جهة مانحة، وقد اتضح تأثير ذلك فى العديد من أعمال الفنانين المصريين الشباب فى البيناليهات الدولية التى فازت بجوائز كبرى على مستوى دول العالم المشاركة، وهى تحمل صوراً سلبية للوجه الحضارى لمصر بشتى الاشكال، وإظهار الإنسان المصرى والعربى والافريقى كذلك بطريقة مهينة لتاريخه وكرامته ونضاله الطويل، وامتلأت صفحات بعض الصحف والمجلات بالنقد اللاذع والكاشف لخطورة هذه الأعمال ولتوجهات من يقفون وراء هذه المهرجانات، ولا شك أن هؤلاء الشباب كانوا حسنى النية، فهم لم يشاركوا بهذه الأعمال من منطلقات غير وطنية، بل ربما كان العكس هو الصحيح، ومن ثم كانوا يجدون فى هذه التعبيرات والمشاركة متنفساً للاحتجاج على أوضاع سياسية لا يقبلونها، حتى لو وصل الأمر إلى نوع من جلد الذات الوطنية! وأظن أن أغلب الجهات الأجنبية المانحة والراعية لمثل هذه الأنشطة الفنية قد نقلت تمويلها بعد الثورة لدعم الأنشطة السياسية والجماعات الحقوقية بنفس الأجندات السابقة، وهذا ملف كبير وبالغ التعقيد والحساسية، وكانت الأجواء السياسية مهيأة له خلال الفترة الانتقالية التى أعقبت قيام الثورة، وقد أدى تزايد أثر هذا الملف إلى تدخل السلطات المصرية الحاكمة فى الفترة الماضية فأغلقت العديد من مقار تلك الجماعات الحقوقية الممولة من الخارج والتى تعمل بغير تصاريح من الجهات الرسمية، وألقت القبض على العاملين فيها وتفجرت بسبب ذلك أزمة سياسية شهيرة، وذلك قبل أن يستقر الحكم بانتخاب أول رئيس للجمهورية بالانتخاب الحر المباشر لأول مرة فى تاريخ مصر. وإذا كان من غير المنتظر أن تتوقف مثل هذه المؤسسات الخارجية فى الفترة المقبلة عن اختراق أوساط الشباب والناشطين السياسيين – بل ربما شهدت تزايداً فى نشاطها – فإن المؤكد هو أن مستوى الوعى السياسى والوطنى والثقافى لدى أبناء الشعب – وعلى رأسهم الشباب – قد ارتفع بصورة مدهشة، وصار كل مواطن قادراً على التمييز والاختيار الحر بمطلق ارادته وإيمانه، فلا مجال لخداعه أو استغلاله تحت أى شعار براق أو إغراء مادى أو معنوى، الأمر الذى سوف يُحد إلى درجة كبيرة من نفوذ أية مؤثرات أجنبية على الفنانين الشباب، بالإضافة إلى أن ثقتهم فى أنفسهم بعد الثورة وفى ظل احترام العالم كله لشباب الثورة ولنضال المصريين عامة، سوف تكون هى عنصر المناعة الاول ضد اختراق أفكارهم أو إغرائهم بالتحقق الفنى فى المحافل الدولية، عند قبولهم العمل تحت مظلة تلك المؤسسات الاجنبية الغامضة، ومن ثم.. فلا مجال أمامها للعبث فى منطقة الثقافة والهوية المصرية العميق عمق التاريخ. إبداعات الثورة والميدان: لم يستغرق الفنانون وقتاً طويلاً بعد قيام ثورة يناير 2011 حتى ينخرطوا فى التعبير عنها بمشاعرهم الجياشة تجاهها شأن جميع أبناء الشعب، ولم ينتظروا حتى تنضج رؤاهم الفنية وأن تجد الأساليب والأشكال المناسبة بعيداً عن المباشرة والسطحية، واستوى الامر فى ذلك بين فنانين كبار أو صغار، إذ كان الحس الثورى العارم يسبق اعتبارات الصنعة والابداع التقنى، ووجد كثيرون منهم فى الصور الفوتوغرافية للمليونيات بميدان التحرير منبعاً لاختيار نماذج منها وتوليفها بأسلوب “الكولاج” أو القص واللصق على سطوح اللوحات، بأسلوب مغاير للمشهد المعتاد فى الواقع، كما وجد آخرون فى العلم المصرى عنصراً تشكيلياً راحوا يحركونه ويتلاعبون به ويدمجونه مع تكوينات من وحى خيالهم، وهناك من استدعى مشاهد من المواجهات البوليسية مع أجهزة القمع ضد المتظاهرين قبل قيام الثورة وبعدها، موجهاً انتقاداً إلى السلطة الانتقالية بعد الثورة فى ممارسة نفس الانتهاكات القديمة ضد الثوار، والبعض لجأ إلى استعارة رموز من الحضارة المصرية القديمة مثل الهرم وأبى الهول والمسلة والرسوم الجدارية فى وضع جانبى للأشخاص، تعبيراً عن استمرارية المد الحضارى والهوية المصرية التى أشعلتها الثورة فى نفوس المصريين، والبعض الآخر لجأ إلى تصميم صروح ميدانية لتخليد الثورة والشهداء فى ميدان التحرير مستعيناً برموز حضارية، خاصة الهرم والمسلة. وكثيرون استعاروا شكل كرسى صالون ضخم وأخذوا يتلاعبون بوضعه مقلوباً أو خالياً رمزاً لكرسى العرش بعد خلع الرئيس السابق من فوقه، واستوى فى استعمال هذا الرمز الرسامون والنحاتون، لكن القاسم المشترك الأعظم بين أغلب الأعمال كان رمز الشهداء، الذى تراوح استخدامه فى أعمال الرسم أو النحت بين الصور التشخيصية المباشرة وبين التعبير الرمزى الذى يوحى ولا يصرح. وأخيراً رأينا من يستعير فى رسومه بعض الرموز الأسطورية لكائنات بشرية أو حيوانية أو طائرة أو زاحفة مستوحاة من طقوس الدفن بمصر الفرعونية موحياً بمسوخ جروتسكية تعبيراً عن مخاوف من انقضاض الثورة المضادة على مستقبل الثورة وأفراغها من مضمونها تمهيداً لعودة النظام القديم… وأكتفى هنا بالإشارة إلى أسماء بعض الفنانين الذين شاركوا فى هذه الحالة الإبداعية العفوية الطازجة حتى ولو لم يكتمل لها النضج، وهو أمر منطقى بالنسبة لهذا الوقت المبكر فى خضم أحداث الثورة.. منهم: عصمت وأوستاشى، ثروت البحر، طه القرنى، محمد عبله، رمزى مصطفى، حلمى التونى، مصطفى الرزاز، ثناء عز الدين، حسام غربيه، رفضى الرزاز، سمير فؤاد.. وهناك عشرات غيرهم، ما يجعل تجاربهم مادة تصلح لدراسة مستقلة.
ديسمبر 31 2014
قرن على المشهد التشكيلى فى مصر ……… … عز الدين نجيب
قرن على المشهد التشكيلى فى مصرنهر الإبداع يتدفق.. من ثورة إلى ثورة!عز الدين نجيب ناقد وفنان تشكيلي ظلت الفنون الجميلة (أو الفنون التشكيلية كما شاع عنها هذا المصطلح منذ السبعينيات من القرن الماضى) منطقة منيرة فى مصر، بتجلياتها الإبداعية وأجيالها المتواصلة على امتداد ذلك القرن وحتى اليوم؛ إنها المنطقة التى تمثل – من ناحية – أقصى درجات الانتماء الوطنى والحضارى للهوية فى مستوياتها التاريخية المتعاقبة، وتمثل – من ناحية أخرى – أقصى درجات الانفتاح على الفنون الغربية فى القرن الحادى والعشرين، وقد واكبت وعبَّرت –خلال مسيرتها الممتدة – عن القضايا والمفاصل المصيرية فى تاريخ مصر الحديث، بدءاً من ثورة 1919 (بعد ثمان سنوات على تخريج الدفعة الأولى لمدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1911، حيث لم تكن بمصر آنذاك قاعة عرض واحدة للفنون)، حتى ثورة 2011، بعد أن أصبح بها عشرات الكليات الفنية وعشرات أخرى من قاعات العرض وآلاف الفنانين الأعضاء بنقابة التشكيليين والعديد من الجمعيات الأهلية المختصة بالفن، بل أصبح الفن مادة رئيسية تقام فعالياتها فى ميادين الثورة (التحرير، وطلعت حرب، وعابدين) بما يقدمه الفنانون الدارسون أو الهواة لحشد القوى الثورية. غير أن الملفت فى الحالة المصرية هو أن أية معوقات واجهت الفنان والفنون التشكيلية لم تمنع فيضان نهر الابداع من التدفق والتواصل على مر الأجيال، وأنها لم تؤد إلى درجة كبيرة من النكوص لدى الفنان عن دوره وواجبه تجاه بلده ورسالته، وهو ما يتضح بشكل خاص فى المواقف المصيرية للوطن حيث يتسابق الفنانون للتعبير عن رؤاهم الوطنية والخروج بأعمالهم إلى شتى مواقع العرض، وإلى التقدم بأفكارهم ومشروعاتهم إلى أصحاب القرار لإقامة جداريات فنية وأعمال نحت ميدانية فى الأماكن العامة والحدائق والمرافق الحيوية للجماهير، وهى المدرسة الحقيقية لإشاعة الفن والذوق الجمالى لملايين الشعب، مرجعين ذلك إلى وجود أولويات أكثر أهمية للمواطنين، والحقيقة أن ذلك كان يعكس فقراً فى الفكر والذوق أكثر منه فى الإمكانات المادية، لان ضعف الإمكانات لم يمنع المسئولين خلال العقود الماضية – قبل ثورة 25 يناير 2011 المجيدة – عن إقامة مئات المهرجانات الدولية باهظة التكاليف التى قد لا تقوم بمثلها دول عظمى، والتى لا يستفيد منها الشعب ويذهب أثرها فور انتهائها، ولا يخرج عائدها عن مظاهر الدعاية الوقتية، أو عن تمجيد أصحاب السلطة والنفوذ أو أن لهم فيها مآرب أخرى، وقد كتبتُ وكتب غيرى مراراً وتكراراً فى نقد هذه الأوضاع قبل عام 2011، بدون أى اكتراث من أجهزة النظام السابق بالإصلاح المطلوب، بل وصل الأمر إلى منع فنان من إقامة جدارية بعرض 16 متراً بحى السيدة عائشة الشعبى على نفقته الخاصة وبمشاركة من أبناء الحى، وكانت حجة أجهزة الشرطة فى المنع هى “الأسباب المرورية”! وكان المقصود فى الحقيقة هو عدم السماح بأية تجمعات جماهيرية حول فكرة أو مبادرة يلتف حولها الشعب، ولو كانت لوحة تعبر عن “سوق الجمعة”!.. (كانت تلك واقعة حقيقية للفنان طه القرنى عام 2010). فن الجرافيتى وثورة يناير: لذلك؛ فما أن قامت ثورة يناير حتى انتقلت منطقة الجذب الفنى من قاعات المعارض بأحياء الزمالك والجزيرة وجاردن ستى إلى الشوارع المطلة على ميدان التحرير، من خلال ما يسمى بفن “الجرافيتى”، ذلك الأسلوب التلقائى بأيدى الفنانين المجهولين المعارضين للنظام القديم، والذين لم يكن لهم مكان قبل الثورة فى قاعات العرض التابعة للدولة أو حتى للأفراد، لأنهم ليسوا أسماء مشهورة، ولا يقدمون أعمالاً مناسبة للنخبة الراقية فى المجتمع ولا للاتجاهات الاكاديمية، لأن أعمالهم ترتبط بموضوعات احتجاجية على الأوضاع السياسية القائمة، وبعضها كان يرتبط بجمهور (الألتراس) المنتمى لبعض النوادى الرياضية، ومن ثم فهى غير صالحة للبيع فى القاعات التجارية، شغل هؤلاء الفنانون الهواة مساحات هائلة بلوحاتهم على جدران المبانى العامة والخاصة بمنطقة وسط القاهرة والأحياء المحيطة، بما فى ذلك أسوار النوادى والمدارس والمؤسسات العامة، بحس تعبيرى شديد الحيوية والتأثير، حتى ولو كانت تنقصها خبرة المحترفين وقواعد الأكاديمية، ولم تكن جميعاً تعبيراً –فحسب- عن أحداث المواجهات الدامية وتمجيد الشهداء وشعارات المقاومة للنظام والمطالبة بأهداف الثورة، بل شملت كذلك رموزاً مستمدة من تاريخ مصر الحضارى، كما شملت تعبيرات مستوحاة من قصائد بعض الشعراء القدامى والمحدثين، بأساليب فنية تتسم بالرومانسية والتحليق الخيالى عبر رموز أسطورية، من خيول وطيور وعرائس أحلام تتغنى بالثورة.. وعلى امتداد عام الثورة الأول (2011) بقيت هذه اللوحات فى أماكنها، وكانت تجد من يحميها من التعدى أو الإزالة، لكن مع انصراف الثوار عن الميادين والمليونيات والاعتصامات عند قدوم العام الجديد، وجد فلول النظام القديم وحماة البيروقراطية من أبناء “الدولة العميقة” غير المؤمنين بالثورة، فرصتهم لإزالة الكثير من لوحات الجرافيتى، وسرعان ما عاد الرسامون المجهولون الثوار يرسمون فى مكانها لوحات جديدة تفرض وجودها على المشهد العام كجزء لا يتجزأ من الثورة، ولا نزال نستطيع مشاهدة كثير من هذه الجداريات بشارع محمد محمود وشارع الشيخ ريحان وشارع شمبليون وشارع الفلكى وعلى اسوار بعض المدارس والنوادى وعلى جدران الجامعة الأمريكية بميدان التحرير. وكان من الأمور المثيرة وقت احتدام المظاهرات فى تلك المنطقة وهى تندد بحكم العسكر وتطالب باستمرار الثورة، أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قام بإغلاق مداخل كل تلك الشوارع بمكعبات خرسانية يقارب حجم المكعب الواحد منها حجم حجر من أحجار الهرم الأكبر، فجعل الفنانون منها سطوحاً ممتدة لرسم لوحاتهم، ومنها ما أتخذ شكل وألوان قوس قزح رمزاً لإطلاق الخيال لتجاوز الجدار، ومنها ما اتخذ صورة شارع صفت على جانبيه عمارات وأرصفة وامتلأ بالمارة وفوق الجميع سماء مفتوحة، فحققوا بذلك إزاحة معنوية للحواجز الحجرية، وفتحوا بالخيال الطرق المغلقة تعبيراً عن إرادة الحرية التى لا يستطيع أن يقهرها أو يقف فى طريقها أى عائق.. وقد أزيلت تلك الأحجار فيما بعد، حاملة معها إلى مكان مجهول لوحات الفنانين! ذلك مظهر واحد من مظاهر فيض الإبداع المصرى، وقد رأينا أمثلة له فى الماضى البعيد أيام مواجهة الشعب للعدوان الثلاثى على مصر عام 1956 (من فرنسان وانجلترا وإسرائيل)، وأيام بناء السد العالى عام 64 – 64 وأيام مواجهة هزيمة يونيو 1967 وأيام الاحتفال بانتصار أكتوبر 1973، لكن هذا المد الإبداعى الثورى قد جفت منابعه على مدار العقود الأربعة الماضية بعد حرب أكتوبر، مع ازدياد القبضة الحديدية للنظام وافتقاد مشروع قومى للنهضة تلتف حوله الأمة، وتحول القيم الاجتماعية الأصيلة التى تميزت بها شخصية الشعب إلى قيم استهلاكية نفعية، ثم أعقبت ذلك حقبة الرئيس السابق مبارك، فشهدت أعلى درجة من الفساد المركب النابع من زواج المال بالسلطة. أجيال ومحطات الحركة الفنية: كانت حركات الابداع تتفجر وتتصاعد مع فترات المد الوطنى والثورى مستقلة عن أجهزة الدولة وتوجهاتها، وعلى العكس من ذلك كانت تخمد وتصاب بالجمود والرتابة فى فترات الجزر، وتصبح أسيرة للاجهزة الرسمية والهيئات الأكاديمية فتزداد انعزالاً عن المجتمع. لكنها فى كلا الحالتين استطاعت أن تحافظ على الهوية المصرية والانتماء إلى الأرض والجذور الحضارية، وقد مرت أجيالها المتعاقبة على العديد من المحطات الفنية، بدءاً من جيل الرواد الأوائل منذ تخرجت أول دفعة من مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1911 حتى أوائل العقد الثانى من الألفية الثالثة. وتتنوع محطات الابداع عبر تلك المسيرة بين الاتجاهات الأكاديمية (المدرسية) والكلاسيكية والرومانتيكية والواقعية والتأثيرية والسريالية والتجريدية والتعبيرية والمفاهيمية، وهى نفس محطات ومدارس الفن الغربى الذى ارتبطت به الحركة الفنية المصرية منذ نشأتها. ولو شئنا – بقدر من التجريد – رصد الرؤية الجمالية والفلسفية العامة لكل جيل، فيمكننا بقدر من التعميم الذى ينطوى على فروق وتمايزات شخصية شديدة بين كل فنان وآخر، أن نعتبر جيل الرواد الأوائل هو جيل البحث عن ملامح الهوية المصرية والعربية فى الفن بعد انقطاع حضارى عن الفنون الجميلة التى شكلت أساس الحضارة المصرية القديمة قرابة ألفى عام، وكان فى بحثه عن تلك الهوية (أقصد تحديداً النحات محمود مختار والرسامون محمد ناجى ومحمود سعيد ويوسف كامل وراغب عياد ومحمد حسن) يبحث عن روح النهضة الوطنية التى فجرتها ثورة 1919، وشارك فى بلورتها فكراً وأدباً وشعراً وموسيقى وغناء كل من الشعراء أحمد شوقى وحافظ إبراهيم وبيرم التونسى، والكتاب طه حسين والمازنى والعقاد، والمفكرون محمد عبده وأحمد لطفى السيد وسلامة موسى وعبد الرازق السنهورى وقاسم أمين، والموسيقيان سلامة حجازى وسيد درويش. لذلك كان جيل الرواد من رسامين ونحاتين يتماهى ويتكامل مع كل هؤلاء، بل ويسبقهم أحياناً إلى الانفتاح على أوربا عبر البعثات الأولى إلى فرنسا وإيطاليا فى الربع الأول من القرن العشرين، وقد أخذ أبناؤه من اتجاهات الحداثة ما يناسب المزاج المصرى والمناخ الثقافى المتواصل مع عبق الطبيعة النيلية والتاريخ الممتد، فكانت أساليب الكلاسيكية والواقعية والرومانتيكية والتاثيرية والتعبيرية هى اللبنات الأولى والمؤثرات الأساسية التى لازمت أساليب ذلك الجيل بدرجات متفاوتة؛ نلمح الكلاسيكية / الرومانتيكية فى منحوتات مختار عن الفلاحة المصرية وهى تستنهض أبا الهول رمز الحضارة وعراقة التاريخ، كما نلمحها فى بقية فلاحاته الكادحات تعبيراً عن مسيرة العمل والعطاء والكفاح من أجل الحياة، متماهيات مع نهر النيل واهب الحياة والنماء، فى إيقاعات إنسيابية ناعمة بخطوط الأجسام المنحوتة، ونلمح الواقعية بحس تأثيرى (انطباعى) لدى محمد ناجى ويوسف كامل فى تعبيرهما العفوى الطازج عن الحياة فى الريف والأحياء الشعبية ورحلة الحياة الممتدة عبر آلاف السنين للفلاح والفلاحة، وفى تعبيرهما – كل بطريقته الخاصة – عن الحياة الشعبية بعبق الزمن والتراث المتجذر، ونلمح التعبيرية الحديثة ممزوجة بملامح التصوير المصرى القديم فى لوحات راغب عياد، بخطوطه المتحررة الطليقة التى يعيد بها صياغة الواقع بحس مغاير للمنظور الفيزيائى، ويعمد إلى المبالغة والتحريف لملامح ونسب الأشخاص والكائنات الطبيعية، ممتزجة بالحس الساخر للجماعة الشعبية الفطرية وبالحس الروحانى لرسومها على الجدران فى مناسبات الحج، ولرسومها للسير والملاحم الشعبية التى تطبع وتباع بمليمات فى الأسواق. أما جيل الأربعينيات – المسمى بجيل الجماعات الفنية (الفن والحرية، والفن المعاصر، والفن الحديث) فكان يشغله أمران أساسيان؛ الأول هو التعبير عن تفجر الحراك الثورى فى شرايين المجتمع المصرى بعد أن فسدت وتعفنت السلطة الحاكمة مع طبقة الاقطاعيين المتواطئة أو المتهادنة مع قوات الاحتلال الانجليزى للبلاد، وعن حالة الفقر والجهل والانسحاق الطبقى والغيبوبة الفكرية فى ظلمات التخلف والخرافة التى يعيشها السواد الأعظم من الشعب، وعن إرهاصات الانفجار الثورى الوشيك الذى يتفاعل فى الأعماق وتتجلى بوادره من حين لآخر، والأمر الثانى هو القيام بثورة تحديثية فى شكل الفن، باستعارة بعض الاتجاهات الفنية الأوربية للتعبير عن هذا العالم وعلى رأسها السريالية (وكانت فى ذلك الوقت تحمل الراية الثورية فى الفن والأدب فى أوربا)، لكن ذلك الجيل نجح فى “تهجين” نوع مصرى خالص من السريالية الشعبية، تنبع من مخزون اللاوعى الجمعى للمصريين، بما يشمله من خرافات واساطير وسحر وقيم ومفاهيم لاصقة بفكر الجماعة الشعبية ولا صلة لها بالمنطق أو بطبيعة العصر، وهذا ما قامت عليه إبداعات الفنانين أعضاء جماعة الفن المعاصر من أمثال عبد الهادى الجزار وحامد ندا وسمير رافع، وكان رائدهم هو الفنان حسين يوسف أمين، أما التعبير عن النبض الثورى المعبر عن ضرورة هدم النظام القديم بكل فساده ووحشيته فكان من نصيب جماعة الفن والحرية بقيادة الشاعر جورج حنين وعلى أيدى فرسانها الثلاثة رمسيس يونان وكامل التلمسانى وفؤاد كامل، وجاءت تعبيراتهم مزيجاً من السريالية الأوربية والوحشية والتعبيرية، فبدت منفصلة عن المزاج المصرى وعن منابعه السيكولوجية والثقافية، مما جعل فرسان الجماعة يتفرقون بعد سنوات قليلة إلى اتجاهات تجريدية بحثتة أو إلى هجر الرسم ذاته والتحول إلى الاخراج السينمائى بأسلوب الواقعية الكاشفة عن التناقضات الاجتماعية (كما رأينا كامل التلمسانى الذى تألق ككاتب ومخرج سينمائى مرموق فى الخمسينيات والستينيات). وهناك من اختار التعبير عن النبض الثورى الكاشف عن حالة من يقظة الوعى السياسى فى أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من خلال أعضاء جماعة الفن الحديث، ونجد انعكاسات هذه الحالة فى أعمال النحات جمال السجينى وفى لوحات الرسامين محمد حامد عويس وسعد الخادم ويوسف سيده وجاذبية سرى وزينب عبد الحميد، وحسن فؤاد ، وبالقرب منهم – من خارج الجماعة – كانت تتألق لوحات حامد عبد الله وتحية حليم وإنجى أفلاطون، وسيد عبد الرسول، ومنحوتات أنور عبد المولى واحمد عثمان ومحيى الدين طاهر وفى أعمال الخزف لسعيد الصدر وغيرهم. وقد حملت هذه الأعمال مزيجاً من الواقعية والتعبيرية والرمزية، كاشفة عن عمق الجذور الحضارية والروح الشعبية فى آن. لقد استمر هذا الجيل بتنويعاته المختلفة بعد قيام ثورة يوليو 1952، لكن بدون انتظام أفراده فى جماعات ثورية كما كانوا قبل الثورة، التى منعت قيام أية تنظيمات حتى ولو كانت فنية بحتة، وكان من قوة تأثير هذ الجيل أن ألقى بظلاله على الأجيال التالية، ولم يجد أبناؤه ضيراً فى الذوبان فى المجتمع بغير تمييز أنفسهم فى أطر الجماعات السابقة، إذ وجدوا ذواتهم وأفكارهم متحققة فى أهداف وإنجازات الثورة التى تبنَّت تحقيق العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية والتحرر الوطنى ومحاربة الاستعمار والفساد وسيطرة رأس المال على الحكم (وما أشبهها بمطالب وشعارات ثورة الشباب فى يناير 2011!).. وقد ساعدت حكومات نظام الزعيم عبد الناصر كثيراً – والحق يقال – فى اتساع دوائر الفن لتشمل الفئات الاجتماعية المهمشة والمحرومة اقتصادياً وثقافياً فى الريف والأحياء الشعبية، عبر قنوات الاتصال الثقافية، ما يجعل منها الفترة الاستثنائية فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر فى هذا الشأن، حيث زالت فيها القطيعة بين الفنان والمجتمع، بوجود جسور للتواصل ولإشاعة الثقافة البصرية بين الجماهير العريضة، لكن فى مقابل ذلك – والحق يقال أيضاً – فقد الفنان استقلاله وحريته فى المعارضة لهيمنة النظام الشمولى، الذى قايض الحرية السياسية والديمقراطية بالعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية واستقلال السيادة الوطنية، فيما تمثل الحرية الفكرية للفنان الهواء الذى يتنفس فيه ولا تغنيه عنه أية مكاسب أخرى! فى غياب المشروع القومى للنهضة: ولا شك أن افتفاء الفنان لمشروع قومى للنهضة يفرغ فيه طاقاته، ولدور مؤثر فى الحراك السياسى ينخرط من خلاله فى جبهة المعارضة للنظام، دفعه للانخراط فى التجريب الفنى والمغامرات الجمالية بحثاً عن أساليب مغايرة للأنماط السائدة، وقد كانت تلك سمة الفن فى مرحلة ما بعد هزيمة 1967 التى شهدت حالة من الإحباط والقهر النفسى والعجز التعبيرى لدى كثير من المبدعين فى الأدب والفن، وتجلت خلالها محاولات فى الفن التجريدى والتجريب بمختلف الخامات من منطلقات أوربية بحتة، وكان أول فرسانه الفنانون منير كنعان ورمسيس يونان وفؤاد كامل ومصطفى الأرناؤوطى وأبو خليل لطفى وحمدى خميس وصلاح طاهر وسيف وانلى وعفت ناجى، وسار على طريقهم فى السبعينيات والثمانينيات مصطفى عبد المعطى وأحمد فؤاد سليم وعدلى رزق الله ومصطفى عبد الوهاب ومحمد رزق (الرسام) ومحسن عطية وفاروق حسنى. واجتهد آخرون فى البحث عن طريق ثالث يربط بين اتجاه الحداثة على الطريقة الغربية واتجاه الحداثة باستلهام التراث الشعبى والحضارى الفرعونى والاسلامى والقبطى والحياة اليومية، من بينهم عمر النجدى وزكريا الزينى ورمزى مصطفى ومحمد طه حسين وعبد الوهاب مرسى ومريم عبد العليم وفاطمة العرارجى ونعيمة الشيشينى وحسن سليمان ومصطفى أحمد وحسين الجبالى ورؤوف عبد المجيد ورفعت أحمد ومحمد حسنين على، وأحمد عبد الوهاب وآدم حنين وصبحى جرجس ومحمد هجرس وجابر حجازى وعبد الهادى الوشاحى ومحمد رزق، وهم جميعاً يمثلون جيل الستينيات. وعلى طريق يلتحم بجيل الوسط فى الخمسينيات وكامتداد طبيعى لجيل الستينيات لكن من منظور جيل السبعينيات، نشأت واستمرت حتى الآن حركة فنية وِجْهَتُها الكشف عن جذور التراث الشعبى والمعمارى والميثولوجى، وما تتضمنه من رؤى خيالية وميتافيزيقية تحمل عبق التاريخ وملامح الأسطورة وسحر الأسرار الدفينة، إلى جانب دلالات رمزية تناوش الحاضر والمستقبل باساليب فنية مستحدثة تحاول الاستقلال عن المدارس الأوربية، ساعية إلى خلق جماليات مصرية وعربية تجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن بين هؤلاء – على سبيل المثال – كمال شلتوت، أحمد نوار، عصمت داوستاشى، على دسوقى، جميل شفيق، ثروت البحر، سيد سعد الدين، سيد محمد سيد، زينب السجينى، وفيق المنذر، مصطفى الرزاز، فرغلى عبد الحفيظ، عبد الغفار شديد، صبرى منصور، عبد الفتاح البدرى، محمود بقشيش، حسن عبد الفتاح، عبد السلام عيد، أحمد الرشيدى، محمود عبد العاطى، حسن غنيم، فاروق بسيونى، إيفلين عشم الله، حمدى عبد الله، مجدى عبد العزيز، ثناء عز الدين، على عاشور، فاروق وهبة، فاروق شحاتة، سعيد العدوى، محمود عبد الله، رياض سعيد، على عاشور، عز الدين نجيب، والنحاتون مثل: محمد جاهين، محمود شكرى، على جبيش، وفنانو الخزف مثل نبيل درويش وصالح رضا وجمال حنفى وزينب سالم.. وغيرهم.. وغيرهم. وفى السياق نفسه لحق بهم جيل جديد بدأ فى الثمانينيات وتبلورت شخصيته فى التسعينيات واستمر حتى الآن على طريق الانفتاح بدرجة أكبر على اتجاهات الفن العالمى، جامعاً بين التعبيرية والسريالية والتجريدية والرمزية والوحشية، منهم على سبيل المثال الرسامون: رضا عبد السلام، عبد الوهاب عبد المحسن، أحمد الجناينى، محمد عبله، ومحمد الطراوى، أحمد رجب صقر، السيد القماش، إبراهيم غزالة، والنحات السيد عبده سليم، ولحق بهم الرسامون: رضا شحاتة، أمل نصر، صلاح المليجى، رضا عبد الرحمن، أحمد عبد الكريم، محمد عرابى، عماد أبو زيد، عادل ثروت، وائل درويش، خالد سرور، والنحاتون: طارق الكومى، شادى النشوقاتى، محمد الفيومى، ناجى فريد، ناثان دوس.. وغيرهم. وقد ساعد على اكتشاف أغلب هؤلاء وعلى سرعة نضوجهم تأسيس صالون الشباب فى نهاية عقد الثمانينيات بدعم قوى من وزير الثقافة الفنان فاروق حسنى وساعده الفنان أحمد نوار رئيس المركز القومى للفنون التشكيلية آنذاك. عصر الانفتاح الاقتصادى والركود الإبداعى: إن تاريخ الحركة الفنية يبدو انعكاساً للمتغيرات الاجتماعية والسياسية فى الواقع المصرى الحديث والمعاصر، فقد أثَّرت حقبة الانفتاح الاقتصادى أواسط السبعينيات خلال فترة حكم الرئيس أنور السادات حتى أكتوبر 1981 ، والتى استمر أثرها حتى أوائل التسعينيات – على مسار الحركة بإفساح الطريق أمام الفنون الاستهلاكية، سواء المقلدة للاتجاهات الفنية الغربية بشكل ميكانيكى، دون النظر إلى ظروفها وأسبابها فى دول منشئها الأصلية، أو المقلدة للأشكال التراثية بأسلوب سياحى يتناسب مع السائح الأجنبى الذى دخل مصر وراح يبحث عن تذكارات سياحية تذكره بمعالمها التاريخية والفلكلورية، أو يتناسب مع مستوى ثقافة الطبقة الاجتماعية الجديدة التى نشأت مع عصر الانفتاح، بذوقها السطحى الباحث عن المتعة والبهرجة اللونية والمحاكاة المباشرة لمناظر الطبيعة أو باقات الزهور أو مظاهر التراث أو حروف اللغة العربية التى أتخذ منها الفنان وسيلة للتجريد بديلاً عن التجريد الهندسى أو التعبيرى. كما أثرت حقبة الركود السياسى والاجتماعى والاقتصادى – فترة حكم الرئيس السابق حسنى مبارك قبل أن يسقطه الشعب – على مناخ الحركة التشكيلية، فى تنامى الاتجاهات الشكلانية المجردة والعبثية فى الفن، متخذة مثلها الأعلى الذى تسعى لمحاكاته، من اتجاهات الفن فى زمن الحداثة وما بعد الحداثة بدول أوربا وأمريكا، وكان صالون الشباب السنوى هو المفرخة أو المزرعة المستمرة لهذه الاتجاهات، فلا هى أبدعت رؤيتها الفنية الخالصة كإضافة لتلك الأساليب، ولا هى استطاعت أن تحدث حالة تفاعلية بفنها مع الجماهير مثلما استطاعت الحركات الفنية فى الغرب مثل “المفاهيمية” و”فن الحدث” و”فن الأرض” و”الفن الفقير”.. القائمة على إحداث الصدمة والاندهاش وإثارة التساؤل والمشاركة فى البحث عن الإجابة، بل والمشاركة فى تشكيل العمل الفنى بالحس التلقائى واللحظى لعامة الناس فى الشارع أو على الشاطئ أو وسط أى تجمع بشرى، مستخدمة نفايات الحياة اليومية و “الروبابيكيا” فى هذه التشكيلات التى تبدو عشوائية فى كثير من الأحيان، لكنها تحمل دلالات خاصة فى مجتمعاتها الاجنبية، أما فى معارض صالون الشباب بالقاهرة فقد توقفت الأعمال المعروضة عند مستوى الصدمة الأولى، بإحداث المفارقة والشعور بالغرابة الذى سرعان ما يتحول إلى شعور بالغربة لدى مشاهدى هذه الأعمال، ومن ثم الانصراف عنها بغير رجعة خاصة مع وجود كم هائل من المواد الخام والمخلفات وأكوام التبن والقش وقطع الخيش والجلد ولفائف السلك والخوص المجدول وعلب والصفيح وأكوام المسامير وشرائح الخشب والورق وعجلات الكاوتشوك، وكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من مواد يضعها الفنان بشكل يبدو عشوائياً أو عبثياً، ويترك أثراً سلبياً منفرداً للجمهور غير المعتاد على هذه الأعمال وغير الفاهم لما وراءها من أبعاد. الشباب والفن المفاهيمى: ومع ذلك برزت ولمعت أسماء تميزت فى هذا الاتجاه بين أوساط الحركة الفنية مثل: خالد حافظ، حازم المستكاوى، أحمد العسقلانى، أيمن السمرى، محمود منيس، هشام نوار، محمد صبره، هوايدا السباعى، وائل شوقى، ريم حسن، ممدوح إبراهيم، آمال قناوى، واستطاع بعضهم أن يقدم – من خلال هذه الأساليب المفاهيمية – رؤى ابتكارية مثيرة للفكر والخيال، موحية بمعانى ذات نزعة نقدية لظواهر سياسية واجتماعية، سواء بأسلوب الأعمال التجميعية أو التركيبية من خامات ومجسمات فى الفراغ، أو بأسلوب الـ “مالتى ميديا”، باستخدام الوسائط التكنولوجية الحديثة من كمبيوتر وفيديو ودوائر الكترونية فى حجرات مغلقة ومظلمة تماماً، وكان مجال ظهور هذه الاعمال ولمعانها – بشكل خاص – فى كل من بينالى القاهرة وبينالى الاسكندرية الدوليين بدءاً من أوائل التسعينيات تحت رعاية وزارة الثقافة ودعمها المباشر، وإن كان الأمر لا يخلو من وجود جهات أجنبية تشجع وتموَّل هذه الاعمال بسخاء وتنظم لها المعارض وتستضيف أصحابها فى دول أجنبية وترشحها للفوز بجوائز دولية، ولا شك أن ذلك التشجيع لم يكن بدافع الفن وحده، حيث كانت مصر – فى السنوات السابقة مباشرة لثورة يناير – مستهدفة “لأجندات” أجنبية عدة وفق أغراض سياسية وثقافية لكل جهة مانحة، وقد اتضح تأثير ذلك فى العديد من أعمال الفنانين المصريين الشباب فى البيناليهات الدولية التى فازت بجوائز كبرى على مستوى دول العالم المشاركة، وهى تحمل صوراً سلبية للوجه الحضارى لمصر بشتى الاشكال، وإظهار الإنسان المصرى والعربى والافريقى كذلك بطريقة مهينة لتاريخه وكرامته ونضاله الطويل، وامتلأت صفحات بعض الصحف والمجلات بالنقد اللاذع والكاشف لخطورة هذه الأعمال ولتوجهات من يقفون وراء هذه المهرجانات، ولا شك أن هؤلاء الشباب كانوا حسنى النية، فهم لم يشاركوا بهذه الأعمال من منطلقات غير وطنية، بل ربما كان العكس هو الصحيح، ومن ثم كانوا يجدون فى هذه التعبيرات والمشاركة متنفساً للاحتجاج على أوضاع سياسية لا يقبلونها، حتى لو وصل الأمر إلى نوع من جلد الذات الوطنية! وأظن أن أغلب الجهات الأجنبية المانحة والراعية لمثل هذه الأنشطة الفنية قد نقلت تمويلها بعد الثورة لدعم الأنشطة السياسية والجماعات الحقوقية بنفس الأجندات السابقة، وهذا ملف كبير وبالغ التعقيد والحساسية، وكانت الأجواء السياسية مهيأة له خلال الفترة الانتقالية التى أعقبت قيام الثورة، وقد أدى تزايد أثر هذا الملف إلى تدخل السلطات المصرية الحاكمة فى الفترة الماضية فأغلقت العديد من مقار تلك الجماعات الحقوقية الممولة من الخارج والتى تعمل بغير تصاريح من الجهات الرسمية، وألقت القبض على العاملين فيها وتفجرت بسبب ذلك أزمة سياسية شهيرة، وذلك قبل أن يستقر الحكم بانتخاب أول رئيس للجمهورية بالانتخاب الحر المباشر لأول مرة فى تاريخ مصر. وإذا كان من غير المنتظر أن تتوقف مثل هذه المؤسسات الخارجية فى الفترة المقبلة عن اختراق أوساط الشباب والناشطين السياسيين – بل ربما شهدت تزايداً فى نشاطها – فإن المؤكد هو أن مستوى الوعى السياسى والوطنى والثقافى لدى أبناء الشعب – وعلى رأسهم الشباب – قد ارتفع بصورة مدهشة، وصار كل مواطن قادراً على التمييز والاختيار الحر بمطلق ارادته وإيمانه، فلا مجال لخداعه أو استغلاله تحت أى شعار براق أو إغراء مادى أو معنوى، الأمر الذى سوف يُحد إلى درجة كبيرة من نفوذ أية مؤثرات أجنبية على الفنانين الشباب، بالإضافة إلى أن ثقتهم فى أنفسهم بعد الثورة وفى ظل احترام العالم كله لشباب الثورة ولنضال المصريين عامة، سوف تكون هى عنصر المناعة الاول ضد اختراق أفكارهم أو إغرائهم بالتحقق الفنى فى المحافل الدولية، عند قبولهم العمل تحت مظلة تلك المؤسسات الاجنبية الغامضة، ومن ثم.. فلا مجال أمامها للعبث فى منطقة الثقافة والهوية المصرية العميق عمق التاريخ. إبداعات الثورة والميدان: لم يستغرق الفنانون وقتاً طويلاً بعد قيام ثورة يناير 2011 حتى ينخرطوا فى التعبير عنها بمشاعرهم الجياشة تجاهها شأن جميع أبناء الشعب، ولم ينتظروا حتى تنضج رؤاهم الفنية وأن تجد الأساليب والأشكال المناسبة بعيداً عن المباشرة والسطحية، واستوى الامر فى ذلك بين فنانين كبار أو صغار، إذ كان الحس الثورى العارم يسبق اعتبارات الصنعة والابداع التقنى، ووجد كثيرون منهم فى الصور الفوتوغرافية للمليونيات بميدان التحرير منبعاً لاختيار نماذج منها وتوليفها بأسلوب “الكولاج” أو القص واللصق على سطوح اللوحات، بأسلوب مغاير للمشهد المعتاد فى الواقع، كما وجد آخرون فى العلم المصرى عنصراً تشكيلياً راحوا يحركونه ويتلاعبون به ويدمجونه مع تكوينات من وحى خيالهم، وهناك من استدعى مشاهد من المواجهات البوليسية مع أجهزة القمع ضد المتظاهرين قبل قيام الثورة وبعدها، موجهاً انتقاداً إلى السلطة الانتقالية بعد الثورة فى ممارسة نفس الانتهاكات القديمة ضد الثوار، والبعض لجأ إلى استعارة رموز من الحضارة المصرية القديمة مثل الهرم وأبى الهول والمسلة والرسوم الجدارية فى وضع جانبى للأشخاص، تعبيراً عن استمرارية المد الحضارى والهوية المصرية التى أشعلتها الثورة فى نفوس المصريين، والبعض الآخر لجأ إلى تصميم صروح ميدانية لتخليد الثورة والشهداء فى ميدان التحرير مستعيناً برموز حضارية، خاصة الهرم والمسلة. وكثيرون استعاروا شكل كرسى صالون ضخم وأخذوا يتلاعبون بوضعه مقلوباً أو خالياً رمزاً لكرسى العرش بعد خلع الرئيس السابق من فوقه، واستوى فى استعمال هذا الرمز الرسامون والنحاتون، لكن القاسم المشترك الأعظم بين أغلب الأعمال كان رمز الشهداء، الذى تراوح استخدامه فى أعمال الرسم أو النحت بين الصور التشخيصية المباشرة وبين التعبير الرمزى الذى يوحى ولا يصرح. وأخيراً رأينا من يستعير فى رسومه بعض الرموز الأسطورية لكائنات بشرية أو حيوانية أو طائرة أو زاحفة مستوحاة من طقوس الدفن بمصر الفرعونية موحياً بمسوخ جروتسكية تعبيراً عن مخاوف من انقضاض الثورة المضادة على مستقبل الثورة وأفراغها من مضمونها تمهيداً لعودة النظام القديم… وأكتفى هنا بالإشارة إلى أسماء بعض الفنانين الذين شاركوا فى هذه الحالة الإبداعية العفوية الطازجة حتى ولو لم يكتمل لها النضج، وهو أمر منطقى بالنسبة لهذا الوقت المبكر فى خضم أحداث الثورة.. منهم: عصمت وأوستاشى، ثروت البحر، طه القرنى، محمد عبله، رمزى مصطفى، حلمى التونى، مصطفى الرزاز، ثناء عز الدين، حسام غربيه، رفضى الرزاز، سمير فؤاد.. وهناك عشرات غيرهم، ما يجعل تجاربهم مادة تصلح لدراسة مستقلة.
بواسطة admin • 10-فنون تشكيلية • 0 • الوسوم : العدد الثامن والعشرون, عز الدين نجيب