يناير 25 2010
المرأة وجسور الثقافة الأممية ………….. د. عبدالسلام المسدي
المرأة وجسور الثقافة الأممية
د. عبدالسلام المسدي
التأم منذ ثلاثة أعوام في بيكين ” مؤتمر عالمي للمرأة ” (1) ، نظمته هيئة الأمم المتحدة وتوخت فيه هذا الأسلوب الاستثنائي والذي يتعمد المزاوجية بين مرجعيتين في آليات الاحتكام وإجراءات التنفيذ ، فهو إنجاز مركزي من جهة أولي لأنه يستدعي إسهام حكومات كل الدول الملتئمة داخل منظمة الأمم المتحدة (2) .
ويستنفر في نفس الوقت مشاركة ما أصبح يعرف بالمنظمات غير الحكومية علي اعتبار أنها تركيبات تعمل علي إرساخ قواعد المجتمع المدني دون أن تحشر نفسها مباشرة في سياق التنافس علي الحكم بصفة مطلقة ، ولا في صراعات الوصول إلي السلطة داخل أقطارها ودون أن تتبني أية رؤية إيديولوجية وفي هاتين النقطتين تختلف ” المنظمات غير الحكومية ” (3) عن مفهوم الأحزاب السياسية وتتميز منها .
ومعلوم أن المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة يقوم بتزكية هذه المنظمات عندما يتولي تسجيلها لديه بصفة ” استشارية ” فيكون صنيعه بذلك بمثابة الاعتراف بها (4) .
مؤتمر بيكين حول المراة جاء بامتحان جديد علي الثقافة العربية ، وحشر كثيراً من المثقفين النيرين في زاوية الحرج ، وأقحهمهم في مراكن الإزعاج وقد كان الامتحان أشد قسوة علي المثقف العربي الواعي بظواهر الأمور وغير الغافل عن بواطنها ، وكانت درجة الإحراج أشد وقعاَ مما حصل قبل ذلك حول المسألة الديمغرافية رغم أن بين الإجراحيين الثقافيين جسراً موصولاً لا يعرفه الراصدون لدبيب الأممية بين الأزقة .
وجوهر الامتحان الذي يكبل حرية المفكر ويحد من حماسه في الاضطلاع بمسؤوليته الثقافية إلي درجة التأزم هو نظير ما يحدث في كل حالات الالتباس الذهني عندما يسود خطاب القناع ، وتعلو سطوة الإقصاء .. ويشتد الحماس الجارف وتنصاع اللغة المسيطرة عبر قنوات الإعلام ، فلقد طغت علي مستوي الآليات الفكرية ثنائيات ضدية قاطعة حولت المفاهيم عن مجاريها فأصبحت المحاذير متراصدة بعضها يماحك بعضاً : قد تُشيد بعمل المنظمات الحكومية فيظن البعيدون عنك أنك قد أتخذت موقفاً مناهضاً للنظام السياسي القائم في وطنك وقد تعبر عن احترازك حيال بعض تلك المنظمات فيظن بك الظانون أنك موال للسلطة موالاة عمياء، فإن عبر أحدهم عن أي احتراز من المنظمات غير الحكومية سيئت به الظنون وعد مناهضاً للمجتمع المدني ، وإذا أشاد بذلك التعاون ألقيت عليه تبعات قلة الوفاء الوطني أو أشير إليه بالأنامل كأنما غمرته ظلال الافتقار إلي حمية الانتماء .
ولكن الالتباس الأعظم والثنائية الضدية القاصمة قد جاء وجاءت في ذلك الاختزال الظالم الذي يلغي مسافات النسبية التي يتجول فيها الفكر الناقد فتحول متمر ببكين إلي تلك الحدية القاسية ، إن كنت معه فأنت نصير للمرأة وإن كنت ضداً عليه فأنت من أعداء المرأة وإذا أردت أن تكون مناصراً للمرأة من حيث هي أم أو أخت أو من حيث هي زوجة أوشقيقة في القناعات أو من حيث هي كائن أكرمه الله بالآدمية الكاملة وأعلنت ذلك جهاراً ثم عبرت عن نقدك للآليات المستخدمة في الإعداد لمؤتمر ببكين أو صرحت بمخالفتك الجذرية للانزلاق الحاصل في دواليب العمل الأممي ، أو أعلنت عالياً بأن بعض بنود الوثيقة الاولية المقدمة إلي المؤتمر ليست – في روحها كما في نصها – إلا تكريساً لكونية ممية تريد بعزم وإصرار أن تحقق عولمة الثقافة بمعايير المرجعية الواحدة ، فإن ظلال الشك تُسدل عليك وقد لا تتورع بعض الألسنة عن قذفك بالتقادم الحضاري لأنك كمن يسبح معاكساً أمواج التاريخ وقد يدس خطاب بعض المحتفلين ما به يفهم أنك أناني كأشد ما تكون أنانية الرجال .
وقد لا يضيق المثقف بشئ ضيقه بلحظة يفقد فيها براءة التأويل ولعله لا يتوجع من شئ كما يتوجع من المجتمع حين يصادر حريته في نقد المسائل بحسب مراتبها وفي شرح المواقف بحسب تقلب زوايا النظر إليها ووجهات التقدير فيها ، ولن يتبرم المثقف بأحد كما يتبرم بمن يأتي إليه فيستمع إلي تحليله وهو يشقق الأفكار وينضد المفاهيم ويبوب عليها الأحكام فيلقي إليه بالصورة الساخرة : ” لأنت ماسك بالعصا من وسطها فهلا جنحت إلي إحدي الكفتين ” .
إنه كلما سادت الثنائيات الحدية في مجتمع من المجمعات فاختزلت سلم الألوان فيه إلي الأبيض والأسود تسارع إليه المنطق الإقصائي وتسربت في جسمه محاقين اللغة الزاجرة عندئذ تسطو الأحكام الإجرائية فتتلاشي سلطة العقل الذي كرمه الخالق فبصره بخبايا الأسرار وعلمه أن الأبيض – في قوانين الطبيعة – ليس إلا حضور الألوان السبعة ذات الذبذبات البصرية المتطابقة ، إذ هي واقعة داخل المجال الذبذبي الذي تقوي عليه حاسة العين الآدامية (5) ، وأن الأسود هو غياب تلك الألوان السبعة ولكن بين الطرفين مراتب من الذبذبات اللونية تقوي العين البشرية علي إبصارها .
كذا العقل بوسعه أن ينتصر للشئ ويحترز من بعضه وبوسعه أن يرفض الشئ ثم يستثني بعض أجزائه وكذا تترتب في العقل القضايا والنقائض والتأليفات الجامعة لهذه وتلك وكذا يفتح المطالع كتاب سيميا الثقافة متصفحاً سفر الأسفار إن في الثنائيات الحديثة جوراً علي بصيرة العقل وحكماً عليه حتي لا يري إلا بياضاً أو سواداً ، وكيف لنا أن نحاور الذين انتصروا لمؤتمر ببكين انتصاراً مطلقاً عن كل قيد ومسرحاً من كل ضابط كالذي فعله مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية علي لسان أمينة العام الدكتور سعد الدين إبراهيم (6) ، ما لم نتفق علي الحد الأدني من تشخيص الواقع الدولي ، وما لم نتبصر جميعاً بالانزلاقات الثلاثة التي حصلت علي التدريج : أنزلاق آليات العمل في المنتظم الأممي من سلطة الهياكل إلي سلطة البرامج ومن سلطة القرارت إلي سطوة التوصيات ثم من مرجعية سيادة الدول المجسمة لسيادة شعوبها إلي سلطة المنظمات التي يشيع في نفوس أعضائها الإحساس بأنهم الأوصياء علي انبثاق المجتمع المدني ، ثم الإنزلاق بمفهوم النظام العالمي الجديد من سياقه الدولي التنظيمي – الذي هو في أصله كالبشري قد زفت إلي الإنسانية بانتهاء عصر كل الحروب : النارية والباردة، وبانطلاق عصر السلم الدائمة – إلي سياق تدويل التجارة وعولمة الاقتصاد وكونية الثقافة .
ويأتي الأنزلاق الذي كانت ببكين مسرحاً له : من المرأة كهدف إلي المرأة كمطبة من مؤتمر يتدارس حقوق المرأة وواجبات المجتمع نحوها إلي مؤتمر يتوسل بالمرأة ليتخذها جسراً تساق علي متنه مرجعيات الثقافة المكتسحة ، وتُسوق بعده معايير القيم ذات البعد الواحد وذات الفكر الواحد ، وربما ذات الخطاب الفريد الذي يمعن في تجنيد الإعلام لترويج مقولاته .
إن التحدي الفكري الملقي علي المثقف العربي أنطلاقاً من مؤتمر السكان في القاهرة ومؤتمر المراة في بكين هو أن يجيب : كيف السبيل إلي الدفاع في نفس الوقت عن المرأة وعن المرجعية القيمية للمجتمع ،وهذا ما يعود بنا إلي نقطة البدء: كيف السبيل إلي أن ننتصر للحق وأن نصون الذات الجماعية للحفاظ علي مقومات الهوية الحضارية في ملحمة صراع الثقافات كما يداهمنا بها منطق الكونية الجديدة.
لم يكن مؤتمر ببكين فريداً في طبيعته ولا كان الأول من نوعه ، فقد سبقته ثلاثة مؤتمرات دولية واختير موعد انعقاد ثانيها – وهو عام 1975 – كي يكون السنة العالمية للمرأة ، كما تم الإعلان عن أن العشرية الفاصلة بين الثاني والثالث
( 1975 – 1985) هي ” عقد الأمم المتحدة من أجل المرأة ” وتم خلال المتمر الثالث – في نيروبي سنة 1985 – إقرار خطة تحمل في عنوانها شعاراً هادفاً :
” إستراتيجيات التطلع إلي الأمام من أجل تقدم المرأة وبناء علي كون ما سلف كان المنتظر من المتمر الرابع في بكين أن يحدد مجموعة المبادئ التي تتحول إلي برامج ومشروعات ولكن القارئ المتسلح بسندات البحث في القرائن ودلالاتها الإيحائية يدرك بيسر واضح كيف تصادف موعد مؤتمر المرأة مع بروز آليات النظام العالمي الجديد ، وكيف أتقنت أدوات الربط بين آليات التسخير وآليات التوظيف لتلتقي علي مقصد واحد خلفيات مؤتمر السكان وخلفيات مؤتمر المرأة فتصب جميعاً في تكريس المرجع القيمي الواحد .
لقد احتشد في بكين ما يناهز عشرين ألف امراة ، ولئن تعددت الوصفات التي تلتقي حولها بالإجماع كل الحركات النسوية في كافة أرجاء المعمورة فإن جملة من التحاليل المشخصة ومن التوصيات المقررة قد فاجأت العديد من المشاركين وفاجأت العديدات من المشاركات وليس من سبب لذلك إلا الإحساس بأن ثقافة معينة تريد إقصاء الثقافات الأخري وأن الكونية الجديدة الجارفة تُبيت لسلب الآخرين حقهم في الاختلاف وليس هينا أن يبلغ عدد الدول التي سجلت تحفظها علي بعض فقرات وثيقة البرنامج الذي رسمه مؤؤتمر بكين أربعين دولة .
إنك تقرأ الوثائق الأولي ، ثم تقرأ النصوص الختامية وإنك لتتابع ما اندلع حول المؤتمر من جدل وجدل مضاد ،وما أثمره من أدبيات طافحة ثم تمسك بأعنة النفس حفظاً للتوازن واستمساكاً بالعدل والرجحان وبعد ذلك ترسل النذر بأنك الخصيم علي أعداء المرأة ولكنك لا تهادن بمناصرة أعداء ثقافتك وأعداء ثقافات إنسانية أخري غير ثقافتك مما لا أثم له إلا أنه قد خالف ثقافة فرسان النظام العالمي الجديد ، إنك لتأتي ذلك كله فلا يراودك شك في أن المؤتمر العالمي للمرأة كلمة حق لم يكن مهندسو الثقافة الكونية يريدون بها الحق ، بل أنهم كانوا يريدون ببعض حروفها غير الحق تحت أغطية توهم بإرادة الحق وإن شئنا تمام الإنصاف وأنضبطنا بميثاق القرائن السيميائية قلنا إنهم جعلوا بعض الحق في بعض المصرح به وسكنوا عن أشياء يخشون أنها تفضح غير ما هو حق .
وتقرأ وتمعن في القراءة علي السطور وبين السطور وفيما يثوي وراء المعلن كأنك تستكشف المقاصد فإذا بالحقيقة تستبد بك بعد أن تستنبطها : إن الغرب – في معظمه – قد استقر لديه انفصال التشريع الوضعي عن التشريع اللاهوتي ثم استقر لديه أن التشريع الثقافي – والذي هو عصارة تطور المجتمع فيما تنادي إليه المدنية بحسب درجة التحضر في كل حقبة من الزمن فيستحيل علي التدريج أعرافاً – هو الهادي والمنير لسبيل التشريع الوضعي قوده ويطوره وقد يسابقه .
إن بؤرة القنص في مؤتمر بكين وإن جوهر الجواهر وعصارة العصارات أن كبراء النظام العالمي الجديد قد جاوزوا برسالة محكمة وعملوا علي حقن شرايين الأدمغة بها ، ومدارها أن المرأة – من غير نسائهم – هي اليوم ، حيثما كانت ضحية مثلثة : ضحية التشريع السماوي عند من يحتكمون إلي شريعة السماء وضحية التشريع الوضعي عند الذين زاوجوا بين تشريع وتشريع وهي ضحية التشريع الثقافي في كل الأعراف الثقافية التي خالفت أعرافهم وبناء علي هذه المسلمات كان القصد أن تنمط الثقافة الإنسانية في قضية المرأة وأن تتناسخ الأعراف ، وليكن المرهم الملين السابغ لكل مراطب الاختراق هو جملة القضايا التي هي فعلاً مأساوية بالنسبة إلي المرأة في بقاع عديدة علي أرض المعمورة .
ويندلع السال متفجراً : أين وضع المرأة العربية من الأوضاع التي صورها مؤتمر بكين واين منزلة المثقفة العربية من المثاقفة الكونية التي جاءت بما قوافل الأممية الجديدة ؟ ويحتد السال فيجنح بك إلي التأسي حينما تلتفت يمنة وشمالاً فتري هنا وهناك في أرجاء الوطن العربي الأكف تصفق لانتصار المراة في بكين فتضيع بين يديك نجمتك القطبية وتحار جواباً لأنك تفتقد دليلاً هادياً : هل انتصرت المرأة حقاً أم انتصر الذين اتخذوا من المرأة جسراً يعبرون عليك ليسوقوا فكرة المعيار الثقافي الواحد ، وليروجوا صورة النسق المرجعي المتفرد .
إن في قضية المرأة قضايا ثلاثاً : الأولي قضية تشريعية ونعني أنها متصلة بالنصوص المرتبة لحياة الإنسان داخل مجموعته الإنسانية ، وليس يعنينا هذا المصدر الذي تألف به النص ليكون نصباً تشريعياً ، ولا علي أي وجه تقلب .
الثانية قضية سلوكية وتتصل بسوك الآخرين حيال المرأة والآخرون هنا أفراد من أب أو زوج أو أخ أو كفيل أو أم والآخرون هم هنا أيضاً جماعات وتركيبات من مؤسسة القضاء إلي مؤسسة التعليم إلي الأحزاب والمجالس النيابية إلي الهياكل السياسية ، والذي يغفل الناس عنه – ومنهم من يتغافلون – هو الانفصام المطرد في جل شرائح المجتمع بين العلاقة التشريعية والعلاقة السلوكية فيما يخص تموجات العلاقة التي تصل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل بل كثيراً ما يستفحل التصادم بين النص والسلوك إمعاناً في المناقصة تبعاً لردود الفعل النفسية الوافدة من أثقال الأعراف المتوارثة ، وأما القضية الثالثة فهي قضية ثقافية وتدور- في كل مجتمع ويحسب كل ثقافة وطبقاً لنسق التسارع المدني فيه أو تباطئه – علي صورة المرأة في ذهن الرجل كما يختزلها بعد تجاوز النص ، وصورة الرجل في ذهن المرأة كما تعتصرها بعد استيعاب السلوك ثم صورة المرأة عن نفسها خلال ما اقتنعت أنه حاصل عنها في ذهن الرجل ، ثم صورة الرجل عن نفسه من خلال ما يقنع نفسه به أنه هو الحاصل لديها عنه .
عن مؤؤتمر ببكين فاضت أدبيات طافحة لم نقرأ شيئاً منها من خلال منظارنا السيميائي إلا وإزدادنا تسليماً بأن خلطاً جوهرياً قد تسرب إلي الاذهان فخيم ثم ساد وهو خلط شائن مقيت لم تستوعبه المرأة العربية ، ولا أستوعبه الذين انبروا أنصاراً لها علي عجل فنصبوا أنفسها يرافعون بالوكالة : جمع فمزج فخلط بين الظاهرة النسوية كما انبثقت وأينعت ثم انتشرت في العالم الغربي عموماً ، وحركات النضال التي تدافع عن حقوق المرأة في الوطن العربي سواء ضمن الأطر المؤسسة والتنظيمات المستقرة أو ضمن النضال الفكري بالكلمة الناقدة والحرف المناضل ، وموضوع المرأة كقضية تحتل مداراً مركزياً في سياق التنمية الكونية وتهم في المرتبة العليا العمل الدولي المشترك ولا سيما ضمن هيكل الأمم المتحدة .
إنه الخلط الذي لا تجازف حين نؤكد أنه مقصود لذاته ، مخطط له مسخر لتحقيق الهدف العاجل ثم الأهداف الإستراتيجية في نطاق الخطة الثقافية الكونية والعصب الرقيق الذي يتولي نقل الحساسيات الدافقة هو المصادرة علي أن المرأة – ولاسيما في بلدان العالم النامي – ستسارع إلي ترتيب الأولويات بحسب ما يرومه المخططون المهندسون للثقافة الكونية ، لأنها ستعمد إلي إخماد صوت التناقضات الكبري علي المستوي العالمي لتطلق العنان إلي البوح بالتناقضات الصغري داخل المجتمعات القومية .
يقول المختصون والمحللون والمتابعون إن الحركات النسوية في الغرب قد وصلت إلي مآزق حادة ودخلت مرحلة التناقض الذاتي الصارخ (7) .
ويؤكد المحققون بأن الحركة النسوية في الولايات المتحدة علي وجه التخصيص قد انهزمت (8) ،وعرفت المرأة العربية نضالاً علي مدي عقود القرن العشرين متسلحة بالأطروحات الحضارية التي قدمتها حركة تجديد التفكير الديني مع جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، ثم اكتنزت قضاياها كتابات رواد كثيرين كان أشهرهم في المشرق العربي قاسم أمين وكان من أوضحهم اقتداراً وجرأة في المغرب العربي الطاهر الحداد الذي نشر منذ سنة 1929 كتاباً لا يقرأه اليوم قارئ حصيف إلا حكم بأن صاحبه سابق علي زمانه وعلي زمان أمته بما لا يقل عن نصف قرن ، هو كتاب : ” أمرأتنا في الشريعة والمجتمع ” (9) .
وسجل تاريخنا العربي المعاصر أسماء نساء كن بمثابة الرمز إذ واكبن الوعي السياسي الذي كان يحمل الجميع إلي معركة التحرر من الاستعمار ، ثم يواصلن النضال في سبيل تحرير المرأة مما ران علي عقول الناس من صدأ القرون فاستهان المجتمع بكثير من الحقوق التي كانت المرأة العربية الإسلامية تتمتع بملكها وتتصرف بحيازتها عندما كانت الأمة في أوج تمدنها (10) ، ولا ينفك العمل دائباً متحفزاً يحتشد القوي في ممازجة تصل الركن الاجتماعي بالركن السياسي وتصل كليهما بالركن المدني (11) ، وقد يتحقق الالتئام بين كل تلك الأركان والركن التشريعي الذي هو تقييد للحق بالنص (12) .
لقد مل المجتمع الغربي – ولاسيما في الولايات المتحدة بعد شيوع الطرح النسوي المنخرط في خطاب ما بعد الحداثة – المداخل المألوفة لمسألة المرأة ، وقد يكون هذا الملل هو السبب النفسي الجديد كما بشر به كتاب جون جري أستاذ التحليل النفسي وصاحب الخبرة الطويلة في معالجة العلاقة النفسية بين الجنسين الرجال والنساء (13) ، وهو ما يمثل معالجة منظورة تفتح الباب وتيسر الولوج أمام الرصد الثقافي الكاشفللمستور من القرائن وللمحتجب من الدلالات ، ذلك أن الجوانب التشريعية في قضية المرأة ثم الجوانب المجتمعية والتنموية ، وربما أيضاً الجوانب التنظيمية والسياسية ، كلها مسائل علي غابة من الأهمية والخطورة والاستعجال فإن لم نتخذها نحن هنا مقصداً فلأن لها في مجال الدرس والبحث أهلها المختصين بها والقادرين علي الاجتهاد فيها ، والمالكين لأدوات النقد في ما تحقق معها وفي ما لم يتحقق وأن أمسكنا عن الممازجة في الطرح والتناول فلأن معالجتنا منصبة علي المقوم الثقافي استقصا ، لأنه هو الذي- في سياقنا المخصوص هذا – سيكون قديراً علي إقامة الجسر بين الكونية الثقافية المكتسحة وموضوع المرأة في بيئتنا العربية الإسلامية ، وهذا ما تكشفت به ظاهرة المؤتمر العالمي في بكين .
لقد تنامت الرؤية الثقافية للمسألة النسوية في مجالنا العربي وكانت روافدها متعددة المصادر ، كتبت الدكتورة سامية سليمان رزق عن ” صورة المرأة كما تقدمها برامج المرأة في الإذاعة الصوتية (14) ، محللة المستويات الأربعة المتمثلة في علاقة الندبة المتكاشفة ،وعلاقة السند والعون ، وعلاقة الخضوع والعلاقة الجمالية .
وألف د. علي أفرفار كتاباً عن ” صورة المرأة بين المنظور الديني والشعبي والعلماني ” (15) ، في الثقافة العربية الإسلامية أداره علي استنطاق النص الديني قرآناً وحديثاً وإقراراً ، وعلي استنطاق التاريخ من خلال الأمثال الشعبية ، ثم علي استنطاق نماذج من الكتابات العربية المعاصرة ، وقد توسل الباحث بالمفاهيم التي يطرحها التحليل الميداني في مجال علم الاجتماعي مع التعويل علي سير المكون النفسي وانتهي به المطاف إلي الإقرار بالصبغة الصراعية كواقع مغمور وإلي ضرورة الغوص علي مكونات الصراع داخل سياق التنشئة الأولي مفترضاً أن كلاً من الرجل والمرأة يعيش كأنه تصور مجرد داخل ذهن الآخر وداخل عاطفته . ” فالمرأة تتمثل صورة الرجل كما يتمثل هو الآخر صورتها ، ومن ثم فإن الصراع لا يمكن الكشف عن ابعاده العميقة من خلال تحليلنا الخطابات التي تضع الرجل في زاوية والمرأة في أخري بل من خلال تعرية التصورات للكشف عن ميكانيزمات التمثل التي مكنت الطفل – وبخاصة الذكر – من استدماج صورة المرأة عبر احتكاكه بأمه وقريباته داخل الأسرة وبالمرأة عامة داخل المدرسة والشارع والحقل والمعمل وغيرها من المؤسسات الاجتماعية وغير استيطانه لتراكمات ثقافية وعقائدية .. يرجع جانبها الأول إلي التعاليم الإسلامية وجانبها الثاني إلي كل التطورات الثقافية التي عرفتها المجتمعات العربية غير مسارها التاريخي الطويل ، بينما يرتبط جانبها الثالث بالتأثيرات الغربية التي يخضع لها حاضر الدول العربية ومن ثم فإننا نكون علي صواب إذا ما أفترضنا منذ الآن بأن صورة المرأة لدي الطفل ستتكون وتُبني ضمن إطار مرجعي ذي أبعاد ثلاثة هي الدين الإسلامي والثقافة العربية والغرب ” (16) .
وقدم د. عبدالله الغذامي إضافته النوعية بكتابه حول ” المرأة واللغة ” (17) وقد كان البحث من الوجاهة ومن الدقة بحيث سوّغ لصاحبه أن يتخذه جسراً ينتقل علي متنه من مجال النقد الأدبي إلي عالم النقد الثقافي والمتمعن في مفاصل الكتاب بأناة يدرك كما كان للمرأة وللغة وللجمع بينهما في مضجع واحد من فضل علي الدكتور عبدالله الغذامي في إنجاز نقلته النوعية إلي عالم “النظرية ” بهذا اليسر الذي يحققه في هذا الموضوع ناقد أدبي آخر بين النقاد العرب المعاصرين .
لقد أنجز الباحث حفريات عميقة في ذاكرة النص وفي ذاكرة المتلقين للنص والمشافهين به وطوع اللغة إلي عريكة غضة فأزال عن قضية المرأة من خلال البحث في اللغة متراكمات ثقافية رانية خيمت بكلكلها التاريخي فكيلت لسان الرجل عن المرأة ولسان المرأة عن الرجل إذ دخلت بالمباح إلي إنفاق المحظورات دون داعية ودون نداء ، ولعلنا – مع الدكتور عبدالله الغذامي – نستسغ في ثقافتنا العربية لأول مرة خطاباً يكشف المقموع دون تورط في الإدانة ، وهل أكثر إفصاحاً وأوقع إبلاغاً – عند التقاء هاجس النقد الثقافي مع هاجس الرصد السيميائي – من الولوج مقاصد النص عبر خطاب صاحب النص عن النص ذاته .
يقول صاحب النص وقد سئل إن كان كتابه دعوة جديدة إلي تحرير المرأة ومساواتها بالرجل : وإن المساواة التي تتحدث عنها النساء ويتحدث بها بعض الرجال هي مؤامرة كاملة ضد المرأة (..) إنني أعتقد أن أخطر لعبة تمارسها الثقافة هي دعوة المساواة بشكل عام ، والمساواة فيما يتصل بالمرأة علي نحو خاص ، لأن هذه المساواة إذا تحققت بشكل كامل فمعناها إلغاء المرأة ، فالإلغاء يعني الذوبان أي ذوبان الثقافة والتاريخ والفكر معاً( … ) إنني أري أن المرأة كائن ثقافي ، وأنها احتلت موقعاً عريضاً في الثقافة عبر الامثال والحكايات والأساطير ، وعبر وجودها في الشعر والرواية والقصة . إن المرأة محرك عميق داخل أنواع من السباقات في مجالات عريضة جداً وعلينا أن نطرح الأسئلة ونستقرئ هذه الخطابات والسياقات لنستنطق الأنساق الثقافية التي تكمن خلفها ” .
ويفيض الدكتور الغذامي في عقد القران بين الثقافة والمرأة واللغة – فيما قد نزعم أنه نواة لنظرية – قائلاً :
” حين بدأت المرأة تكتب أحست أنها لكي تكون كاتبة فإنها لابد أن تكون رجلاً ، فاللغة هي لغة الرجل ، وبالتالي راحت المرأة تستخدم هذه الآلة الذكورية في التغيير ، فكأنها بذلك تنازلت عن أنوثتها وأسترجلت لكي تعبر عن نفسها نعم .. لقد اكتشفت المرأة أنها لكي تكون مثقفة ومبدعة أنها أصبحت رجلاً ،وهنا حدث التناقض بين أنوثتها كامرأة ورجولتها كأدبية فهل الكاتبة كاتب في الحقيقة وليست كاتبة .. ما موقع تاء التأنيث هنا مع اسم الفاعل ؟ لقد وقع حرج غير قليل حول هذه النقطة ولهذا بدأت المرأة تشعر بشئ من القلق حتي لقد باتت تشعر أنها وقعت في مأزق ، وأن هذا لن يحله إلا أن تحرر اللغة ذاتها من هيمنة الرجل ..
وهنا يبدأ مشروع جديد ،وهو مشروع لا أقول إنه نجح ولكني أقول إنه مشروع مهم ما في ذلك شك وأهميته تعود إلي وعي كثير من الكاتبات العربيات بضرورة تأنيث اللغة وتأنيث المكان والتأنيث الزمان أوالتاريخ ثم تأنيث الذاكرة فلكي يكون للمرأة موقع في هذه الأشياء ، لابد أن يتم تحويلها عن ذكورتها أولاً .
فإن يظل التاريخ رجلاً والفكر رجلاً والقلم رجلاً ، فمعني هذا أنه ليس للمرأة موقع فيها إلا أن تسترجل ، أي تتنازل عن أنوثتها ، وإذا تنازلت المرأة عن هذه الأنوثة فسيكون هذا إمعاناً في إلغاء هذه المرأة وتهميشها وسيكون هذا التهميش وهذا الإلغاء من جانب المرأة نفسها ضد المرأة ، بينما كان التهميش في السابق من جانب الرجل ضد الجنس الآخر ، وتلك مقولة خطيرة معناها أن الجنس نفسه هو الذي سيقوم بممارسة إلغاء الذات .. اللهم إلا إذا دخل في مشروع التأنيث . وهنا أعتقد كما تقول أطروحة الكتاب أن مشروع التأنيث هذا علي مستوي الإبداع يسير بشكل واضح إنني أري أن المرأة قد سعت ، وأنها تسعي يخطي تتصاعد وتحقق الآن نجاحات يتلو بعضها بعضاً ودليلي علي هذا أنها انتهت من تأنيث المكان وتأنيث اللغة وهي تسعي الآن إلي تأنيث الذاكرة ، لأنه لن يتسني تانيث اللغة أو المكان ما لم تؤنث الذاكرة أولاً . فاللغة والمكان ناتجان عن هذه الذاكرة ، فإذا كانت الذاكرة محشوة بالمعني المذكر فسيظل كل ما ينتج عنها مذكراً ، إما إذا جري تأنيث الذاكرة أو جوانب منها فستبدأ هذه الذاكرة في إعطا الجزء المؤثر في العملية الإبداعية بحيث ننتهي حينئذ إلي أن يكون لدينا معادل موضوعي أنثوي مقابل المعادل الموضوعي المسمي بالفحولة في الإبداع ، إن الأنوثة مطلوبة هنا كثقافة ، لأن الفحولة هي قمة الإنتاج الغبداعي ففي الشعر مثلاً نلتقي عند طبقات فحول الشعراء ، كما نقرأ الفحولة عند الأصمعي .
فلماذا لا تكون في الإبداع النسوي قيمة إبداعية تسمي الأنوثة في مقابل الفحولة ويصبح لدينا حينئذ صيغتان صيغة الفحولة ،وصيغة الأنوثة كمعادلات إبداعية ، أعتقد أننا ثقافياً نتجه إلي هذا المعني وهو ما حاولت أن أثبته في هذا الكتاب(18) .
لقد تجدد الخطاب النقدي العربي منذ اقتحمه السال النسوي ، وتمرد المنهج علي المسلمات فأعاد تشكيل مقولاته واحدة واحدة ، واستتب الأمن لفكرة الاختلاف وصدحت بها المرأة ذاتها متجزئة علي إلقااء السؤال : ” هل هناك نسوية عربية ” (19) وفوجئت وفود المجتمع الغربي إلي ببكين وعلي رأسهم – نوعاً وعدداً – الوفد الأمريكي بأن المرأة الأخري التي جاؤوا يروجون بين يديها مقولة المساواة كثيراً ما كانت تنظر إلي مقولتهم نظرة استخفاف وتحدق فيهم ملء العين استغراباً جاؤوا يحررونها ولم تنادهم ، ولم تكن التي في أعلي سلم الاستغراب امرأة عربية ولا امرأة مسلمة كانت المرأة الأقصي شرقية وخاصة اليابانية مذهولة لأن كينونتها النفسية والاجتماعية لم تكن نسخة طبق الأصل من المرأة الغربية ، والتشكيل الثقافي التليد في تاريخها لم يهيئها إلي هذه النظرة الصراعية وما كان يبدو في المرأة الصفرا خضوعاً في نظر الغرب كان في وجدان اليابانيات والكوريات والصينيات جوهراً في وجودهن ومدعاة اتزان في مجتمعهن .
وفي بكين ارتفع صوت نساء وافدان من شعوب أخري غير الشعوب العربية ومحملات بقناعة ثقافتهن القومية ، فرفعن شعار الأنصاف بديلاً عن شعار المساواة فخيبن ظن من جاء لنجدتهن علي ما خيل له أنه النجاة بميثاق حقوق المرأة.
ويظل السؤال قائماً : هل للعنصر الثقافي من موقع داخل اللعبة المرأوية في علاقة المرأة والرجل ضمن راهننا العربي ؟ وهل لديهما معاً إذا اجتمعا قدرة علي فصل الثقافي عما سواه من العناصر المقومة : نصاً وسلوكاً بين منظومة الأعراف ومنظومة الأحكام ؟ وهل بمستطاع الانموذج الراقي منهما – ذاك الذي قرأ وحصل فخاطب وحاور ثم كتب وناجي – ان يتخلص لحظة من الأثقال الواجمة تلك التي أشدها إرجافاً معبأت التناقض بين ظن لا يطابق القول ، وقول لا يطابق الفعل ، وفعل يترامي مسافات يكاد لا ينتسب إلي ظن هو والده ؟
هو سؤال الكونية في بعدها الإنساني ، كونية العقل الثقافي معياراً للإنسان ، لا كونية الثقافة الجاهزة كما حطت برحالها في بكين بعد أن تسلمت تأشيرة العبور عن طريق المسألة الديمغرافية هو السؤال الذي يتحدانا ويتحدي كل مثقف عربي ، وكل امرأة عربية مثقفة فكثيراً ما استسهل هو واستسهلت هي معالجة العلاقة بين الطرفين وكثيراً ما استسهلا تناول موضوع صورة الرجل في ذاكرة المرأة وصورة المرأة في مخزونات الرجل ، ولكن أنموذجها المرجعي غائب في صمت الهوية كلاهما يتحدث منتصباً وصياً علي الرجل مطلقاً وعلي المرأة مطلقاً ، بل تراهما يستلذان في غالب الأوقات الحديث عن الأنموذج الذي لا يعي ، وعن الفرد الذي لا يحاورهما بندبة ثقافية فضلاً عن الاقتدار المرعفي ، فإذا بالشواهد والعينات والأمثلة تأتي كأشباح مستلة من فئران المخابر ، ولا يعود المثقف إلي ذاته المثقفة ولا المرأة المثقفة إلي ذاتها الواعية إلا للحسم في قضايا الارتباك والإصداح بالكلمة المهدئة للتغوض والارتجاف .
للمرأة العربية قضية اجتماعية هي وسيلة من قضايا النص وقضايا السلوك ولها كذلك قضية تربوية وسياسية ، ثم لها مسائل أخري تتصل بالصحة وبالإنجاب وتمس تحديد المعيار العرفي الذي علي أساسه تُرسم الخطوط الخضراء والصفراء والحمراء في ما هو حق وما هو واجب حتي تتشكل معالم الحرية التي هي جبلة في مخلوقات الله ، والتي هي عند الخليقة المكرمة بالعقل محكوم عند كل فرد بحرية الآخرين : إذا تضاربت الحريتان تقلصت بالانتقاص الذاتي كلتاهما حتي الوئام .
ولكن الغائب بذاته والمغيب بفعل الفاعلين هو أن للمرأة العربية قضية ثقافية تتجسم ثم تتعين في أنموذج العلاقة بين المثقف العربي والعربية المثقفة ، ولا يدلنك عل يمواطن الوجع في هذا الملتجأ أمر ولا يهدينك إلي مكامن الأذي في هذا الغائب شئ كما يدلك ويهيدك انقلاب الحديث عن علاقة المرأة بالرجل – إذا حضر الرجال وتعددوا وحضرت النساء وتكاثرون – إلي حوار ذي بعد واحد : إما الإرضاء والتراضي ونعيم الرضي ، وإما القذف بالأحكام بتكايلاتها بسخاء ، هذا : لا تعرفينني : وهذه : رهطك لا يعرف النساء ، ما أنت إلا رجل ، كل الرجال سواسية.
في دفاتر السيميا شئ يقال له : كل علامة دالة ،والدلالات إما مفارقة لما تدل عليه وإما محايثة فالمفارقة هي التي تنطق بها اللغة .
والمحايثة هي التي تشهد عليها اللغة دون أن تقولها ، هي مرآة الدلالة قبالة مرايا التأويل ، ألم نقل إن الإدراك فعل لا إرادي إلي الحد الذي قد يمسي معه فعلاً لا واعياً أصلاً !
الحديث عن المستور في صورة المرأة عند الرجل وصورة الرجل عند المرأة – بين فئات المتعلمين والمتعلمات والمثقفين والمثقفات ، والمرتقين في سلم الآداب والمرتقبات – حديث ملغوم لأنه من حيث يريد أن يكشف المستور يتستر بقناع اللغة فإن لذنا بقرائن السيميا ، تنجدنا ببعض الأشعة السينية الغائصة اكتشفنا أن الطرفين كثيراً ما يعجزان – إذا التقيا – عن تجسيم حال ثقافية مستوفية لشروطها ، قد يخلقان لحظة ثقافية يتجردان فيها بعقل عاقل يدبر أمر الكلام ثم يدبر أمر السلوك ، ولكنها لحظة في عمر الديمومة وجيزة ، فتتحول الحال إلي سقط ذهني ما أنيبعث حتي يوأد وما أسرع أن يتخذل العقلفيرتبك في منعطفات الظن واللفظ والقصد حتي الرسالة الفكرية تراها قد اصطبغت بأصباغ اللحظة الوجيزة طبقاً لحسابات الظن واللفظ والقصد ، ليس شقاء المثقف عندئذ بنفسه وبصورة الأخري بأقل من شقاء المثقفة بصورة المثقف في ذاكرتها .
كل الرجال علي علم بأن المرأة تشتاق إلي نفس عالية تنبعث لها من الرجل وإلي روح أبيه بعضدها عقل ضابط يكاد بإحكامه أن يغدو صارماً أو قاسياً ، وإلي مزاج تواق قد يجود بما ينتظره الآخر منه وقد يتعمد ألا يجود ، وبين استجابة وصد يضيع علي الآخر كله حسابات الاحتمال فتتيه مقاييس الرياضيات السلوكية لتحل محلها نشوة النص المفاجئ .
كل الرجال يعلمون ذلك ، أو هكذا قد نفترض لكن اليقين أن الكثيرين منهم لا يعلمون أن المرأة تشتاق إلي نفس عالية وتكره نفساً متعالية ، وتشتاق إلي روح ابيه وتنفر من روح تتأبي ، وتبحث عن عقل حكيم وتستنكف من عقل مستحكم وتطمئن إلي المزاج الجواد ولا ترتاح إلي المزاج المنان .
والذين من الرجال يعرفون ذلك عن المرأة كثيراً ما يعجزون عن تحقيق السلوك الذي يتطابق فيه القصد النبيل مع الخطي الوئيدة ، وفي الأمر حسابات هي أحياناً في مقاسات الشعرة ، وقد شُقت علي أربع ، ولحظة الارتباك – الذهني والنفسي والسلوكي – هي الجرثومة الآكلة لجنين الحال الثقافية ذلك أن الامر مرده إلي تخلخل النسق عند المثقف وعند المثقفة بين ما ننويه وما نرومه ومانشرع في السعي إليه .
تري أيهما أعظم مسولية الرجل حين يخيب فيعجز عن تجسيم اللحظة الثقافية الدائمة التي تحيا وتنشط وتزدهر داخل أسوار العقل الآسرة ؟ أم مسؤولية المرأة حين تتعمد إرباك الرجل منذ أن تشتم منه دخان الأرتباك فتقسو وتمعن ولا ترحمه ثم تتأذي بما صنعت ؟
أيهما أدعي للإشفاق : امرأة تناضل في سبيل تحرير المرأة وتلقي الخطبة العصماء ابتهالاً باستقلال الذات ثم تنزوي إلي لحظة ثقافية فتشكو العزلة وتكاد تلمن استقلال الذات ، أم رجل يحرض الأنثي أن تفوز بذاتها وهو كالداعية إلي حرية الفرد واللواذ بالحضارة ماسكاً بنود المدنية فإذا خانه الحظ فيما بيت عليه تنكب ولا يوشك أن ينتابه الوعي فينفضح أيهما أشد فظاعة وأغرق مرارة : رجل يتناقض بين يوم وليلة فيأتي ما ينادي بالإمساك عنه ويمسك عما ينادي بإتيانه ، أم امرأة لا تنادي بشئ ولا تدعو إلي مهمة وتمعن في الانتظار ثم تلعن الثقافة لأنها جدباء غير ولود؟
بين سلطة العقل وسلطة العرف وسلطة النص تري الرجل حراً علي نفسه وحراً علي غيره يكاد أن يقلب الحرية استهتاراً ، ثم يصر علي أن صورته في ذهن الأخري والأخريات هي الصورة التي حصلها لنفسه عن نفسه وفي برهة خاطفة يتقلب زاجراً بالسلطة ملقباً بالإدانة يرسل الأحكام وعلي غيره إرسالاً .
وبين سلطة العقل وسلطة العرف وسلطة النص تري المرأة حائرة تركن في الدجي إلي هذه ، وتلوذ في الضحي بالأخري ، ولا تمسي إمساء حتي تتوكأ علي التي بينهما .
أيهما اشقي بالآخر من الآخر ؟ هو ذا السؤال الذي لن نجيب عنه إلا إذا حذقنا شطرنج الثقافة ، وتمرسنا بتفكيك لعبة الخطاب واكتسبنا مهارة قرائن السيميا ، ويومها سيكون هيناً علينا أن نسأل وأن نسائل عاكفين متبتلين : أيهما أسعد بالآخر من الآخر ؟ وأيهما أولي بالإكرام ، نرجسي يقدم نفسه قرباناً لمساواة النساء أم حسناء تهب نفسها من دون النساء خالصة لسلطة الرجل فلا تنادي بأكثر من الإنصاف خاشية أن تصيبها لعنة المساواة ؟
إن للمرأة حقوقاً بلا ريب بعضها مكتسب وبعضها مفقود ، وأن بين حقوقها الغائبة حقاً لا يخطر ببالها أنتطالب به ولو علمت سره لما طالبت إلا به في الخفاء وفي العلن إلا وهو أن يبقي الرجل أمامها واقفاً علي قدميه ، لا يمعن في التردد حتي بذل ولا يغالي في الاسترضاء حتي يستكين ، وليس للمرأة من خيار ولا من قدرة ولا من اجتهاد عندئذ إلا الأخذ بناصية الأمور تدبر شريكها كيفما اتفق منذ أرخي العنان وليكن خلا أو صديقاً أو زوجاً أو ما شاء له أن يكون ، لن يتبدل الشأن ولا تشقي المرأة في الكون كما تشقي بالرجل ينصاع حتي يمكنها من ذاته تسلب منه إرادته فيشقي هو بعجزه وتشقي هي أيضاً بعجزه .
فهل تتجرأ الإنسانية يوماً فتكتب سيرتها الذاتية وتروي قصة ابنائها الرجال الذين منهم الفيلسوف والسياسي ، وصاحب الثروة الطائلة ومنهم المثقف والمفكر والأديب والباحث في العلم كيف عرفوا الشقاء تحت سطوة المرأة ستوسلون إليها بما لا تحب ولا يرضيها فيلجؤون إلي الهدية القصوي يقدمون إليها وإرادتهم قرباناً ” فتسلبهم إياها وعينها دامعة تأكلها الحسرة أن الشريك أو القرين أو الخل أو الصديق أو الزوج لم يكن سيداً أبياً يُغدق بالإكرام ، فإذا أحب أو خطب أو اقترن وإذا جالس أو لاطف وإذا آنس فروي خبراً وقال نادرة وصاغ لفظاً بديعاً فعل كل ذلك وهو واقف ولا ينحني لا يركع ولا يعرف إلي السجود سبيلاً .
تلك هي الصورة التي تعكس ما زعمنا أنه “اللحظة الثقافية ” بين الرجل والمرأة ولا تكشفها إلا عدسة السيميا .
في مؤتمر بكين لم يتسع وقت المرأة العربية ولاصدرها ولا لسانها كي تلقي علي نفسها وعلي شقيقاتها وعلي مثيلاتها هذه الأسئلة أفلأنها أسئلة متعسرة ؟ أم لأنها من المؤجل علي الدوام ؟ أن تري لأنها انساقت مع شريط الدمي المتحركة كما أنتجه كبراء الهوليود ؟
الهــوامــش :
1- في الفترة 4 – 5 سبتمر – ايلول 1995 وقد سبقه قبل سنة انعقاد مؤتمر السكان في القاهرة المعروف بالمؤتمر الديمغرافي ، التأم في القاهرة في الفترة 5 – 13 سبتمبر – أيلول 1994 تحت تسمية :
INTERNATIONAL ONFERENCE OF POPULATION AND DEVELOPMENT .
2- وعددها عندئذ 181 دولة .
3- هي التي يرمز إليها في بعض التداولات الشائعة بالرمز O.N.G وهو اختزال للعبارة ORGANISATION NON – GOUVERNEMENTATE .
4- وله الآن حوالي ثلاثين ألف منظمة غير حكومية مسجلة لديه .
5- هو المجال الذبذبي الواقع بين 390 و 760 ناتومتر .
6- مشكلات أعداء المرأة في بكين المجتمع المدني ، القاهرة ، ع 45 ، س 4 سبتمبر – أيلول 1995 ص 4 – 7 .
7- أنظر العرض التحليلي المفصل لهذه التناقضات في هاجر بن إدريس
تهميش المرأة الشرقية في النسوية الغربية ، مجلة سطور ، القاهرة – مايو 1997 ، ص 20 – 21 .
8- د. محمد السيد سعيد : السكان والتنمية ، مجلة العربي ، الكويت ، ع 434 – يناير 1995 ص 96 .
9- الدار التونسية للنشر ، الطبعة السادسة 1992 .
10- نذكر علي سبيل المثال من مصر الصحفية المناضلة أمينة سعيد أراجع ما أوردته تابيناً لها مجلة المجتمع المدني ، القاهرة ع 45 سبتمبر أيلول 1995 ص 22 ، ونذكر من تونس المناضلة راضية حداد التي عاشت تجربة سياسية حادة وأشرفت طيلة عقد ونصف علي حظوظ الاتحاد النسائي التونسي فزاوجت بين الوعي بمعركة التحرير السياسي الوطني والوعي بالنضال الاجتماعي وقد دونت تجربتها في سيرة ذاتية نشرتها باللغة الفرنسية :
11- فيما بين 1994 – 1995 انتظمت في مصر ثلاثة متمرات هي : مؤتمر المرأة المصرية وتحديات القرن الحادي والعشرين ومؤتمر المرأة في الحياة العامة المصرية ومؤتمر المرأة العربية والتحول الديمقراطي في الوطن العربي .
12- هناك إجماع عربي علي أن لتونس – في مجال تجسيم الحق بالنص – ريادة متفردة وذلك منذ صياغة مجلة الاحوال الشخصية 13 أغسطس 1957 إثر تركيز دولة الاستقلال ( 20 مارس آذار 1956 ثم تطور العمل مع دولة التغيير منذ السابع من نوفمبر – تشرين الثاني 1987 تطوراً نوعياً فانتقلت الخيارات من الأحوال الشخصية علي المستوي الفردي غلي الاهتمام بها علي مستوي الخلية الاجتماعية التي هي الأسرة فجاءت تنقيحات النص لتستكمل حقوق التماسك الأسروي وتضمن حقوق الكفالة وحقوق الانتساب بالمواطنة ( أعلن عنها في 1992 ودخلت حيز التنفيذ في 1993 ) .
13- عنوان الكتاب الرجال من كوكب المريخ والنساء من كوكب الزهرة ، خصه د. محمد الرميحي بمقال تحليلي ناقد ( العربي ، الكويت ، ع 462 ، مايو 1997 ، ص 18 – 30 ) منه استقينا المضمون الجملي للكتاب .
14- مكتبة الأنجلو المصرية : القاهرة 1988 ، أنظر عرض الكاتبة المستوحي من الكتاب ” قراة في المنظور الإعلامي ، صورة العلاقة بين الرجل والمرأة ،مجلة سطور ، القاهرة ، مايو 1997 ،
ص 19 .
15- دار الطليعة بيروت 1996 .
16- المرجع ص 126 .
17- المركز الثقافي العربي – بيروت ، الدار البيضاء ، 1996 .
18- مجلة الوطن العربي ، ع 1045 ، بتاريخ 14 مارس 1997 ، ع 1046 بتاريخ 21 منه .
19- وهو الذي كان مدار ملف أعدته مجلة سطور ( القاهرة يوليو – قوز 1997) انظر ضمنه خاصة ، شيرين ابوالنجا : مدخل إلي الخطاب النسوي العربي ( ص 38 – 41 ) فاطمة قنديل الكتابة النسوية والجسد المريض ( ص 42 – 43) .
يناير 25 2010
مخاطر الغموض في المصطلح النقدي ……….. د. أحمد درويش
مخاطر الغموض في المصطلح النقدي
د. أحمد درويش
هنالك طموح عام واكب الدراسات الإنسانية منذ القرن التاسع عشر وتمثل في حلم هذه الدجراسات في أن تلحق في منهجيتها ونتائجها بالعلوم التطبيقية وفي أن ينطبق عليها لفظ ” العلم ” بمفهومه المنهجي الدقيق ، ولم تكن محاولات سانت بيف للكتابة عن ” الفصائل والأنواع ” الأدبية والنفسية إلا صدي وإعجاباً بمحاولات واردة في نظرية ” الفصائل والأنواع ” في مجال العلوم التطبيقية .
وقد خطت الدراسات الإنسانية في سبيل تحقيق هذا الهدف خطوات ملحوظة في بدايات القرن العشرين ، وكان علم اللغة إلي جانب علم النفس من أسبق الدراسات في هذا المجال وكانت محاولات دي سوسير وتلاميذه ، موضع تقدير زملائهم في فروع الدراسات الإنسانية الاخري ، وموضع غيرتهم أحياناً ، ولاشك أن النقد الادبي باقترابه الواضح من مجال الدراسات اللغوية وباصطناعه للوسائل الإحصائية والرياضية في طرح فروضه والوصول إلي نتائجه وفي استعانته بنتائج الدراسات الغنسانية “الدقيقة” في مختلف فروع المعرفة الإنسانية ، لاشك أنه بهذاكله تتقارب خطواته في سبيل تحقيق الحلم ” العلمي ” لهذا الفرع الهام من فروع الدراسات الإنسانية .
لكن علينا أن نلاحظ في المقابل أيضاً أن الصياغة العربية لمعطيات النظرية النقدية الحديثة وتطبيقاتها – وهي نظرية ذات روافد أجنبية في معظم الأحايين – هذه الصياغة بسبب اضطراب المصطلح فيها – تكاد تهدد هذا الحلم من جذوره ، وتبتعد بالنقد الأدبي كثيراً عن مجال الطرح العلمي القابل للاستيعاب ، والقائم علي الحوار والبرهان ، بل وتكاد أن تبتعد به عن مجال ” المقروء ” المتداول أو تحصره في طائفة ذات لغة خاصة .
ذلك أن وضوح المصطلح شرط اساسي لدخول مادة ما في إطار العلم ، فالمصطلحات بمعناها العام الذي يشمل الألفاظ والتقنية العلمية أصبحت تعتبر اليوم أساس كل تكوين ، إذ لا تخصص بدون مصطلحات مضبوطة ثابتة والمصطلحات ، إذا تعمقنا التفكير فيها وتأملنا ما يجب عمله لنستطيع حقاً أن ندرك ركب الحضارة لمنطلق بسرعة فائقة ، أصبحت تحتل الدرجة الثانية من الأهمية بعد وسائل الطبع (1) .
إن ” فك ” المصطلح إذا يجئ مباشرة تاليا لفك الخط ، لكي يتدرج القارئ التدرج الطبيعي الذي يقتضي أن يقرأ الإنسان لكي يعلم ، وفي غياب وضوح المصطلح يجد نفسه في أفضل الاحوال مضطراًَ لأن يعكس التدرج الطبيعي أي أن يعلم لكي يقرأ وبذلك ينحصر تداول المادة المطروحة والإفادة منها أو أدعاء ذلك بين جماعة محدودة عالمة سلفاُ بما يقوله أفرادها – أو متواطئة علي إظهار ذلك وعندما يصل فرع من فروع المعرفة الإنسانية إلي هذه الحالة ، فإنه يكون مهدداً بالإنسحاب من دائرة العلم بل ومن دائرة المتداول المقروء إذا لم يتدارك أمره ويناقش قضاياه مناقشة جذرية صريحة .
فما الذي أوصل شريحة كبري من لغة النقد الأدبي في اللغة العربية المعاصرة إلي ما هي عليه اليوم ؟ ما الذي جعلنا تقع عيوننا في معظم الدراسات والمقالات النقدية الحديثة علي جمل وتراكيب ومقولات لا تكاد نخرج منها بطائل مع أن أصحابها دفعوا بها إلينا في ثقة بل وأحياناً في زهو من أمثال هذه الكلمات التي اعتبرها الدكتور محمد عناني بحق نموذجاً لهذا اللون من الكتابة (2) .
” إن الانهيار التركيبي في إطار التجني التداولي علي السطوعية للواقعية لم يعد يبشر بإمكانيات الفعالية المتنامية مهما تكون (هكذا) تأصلاتها الحقيقية أوالزائفة فحسب بل بالتجني علي الأدبية الحداثية أيضاً ” .
أليست هذه الظاهرة ومشتقاتها هي التي دفعت واحداً مثل الدكتور صلاح فضل إلي الإشارة إلي أن : ” المصطلحات تمثل العائق الأساسي في التلقي للنقد الحداثي ” (3) .
وإذا كانت المصطلحات في النموذج الذي نراه هنا والنماذج المماثلة قد كتبت بحروف عربية وبنية حمل فكر معين فما المعوق أو المعوقات التي تحول بينها وبين أداء وظيفتها ؟ وحملها للمعني النقدي المراد ؟
إن قضية “معني ” الكلمة في لغة كالعربية قضية دقيقة تدخل فيها “الظلال ” والترسبات التاريخية التي حملتها الكلمة عبر رحلة تعدد أطول الرحلات في تاريخ اللغات الحية ، إضافة إلي بعض الترسبات المكانية الناتجة من استخدام الكلمة ذاتها في رقعة واسعة متنوعة تمتد من المحبط إلي الخليج وإتصالها في كل بقعة بمؤثرات ثقافية محلية قد تختلف عن البقعة الأخري مما يترك دون شك ظلالاً خاصة علي استخدام كلمة ما في المشرق أو المغرب أو الخليج أو الشام أو العراق ، وهي ظلال من السهل التنبه لها لصاحب الثقافة اللغوية العربية الرفيعة وهي في الوقت ذاته عرضة لأن يقع في شباكها من تختل لديه كفتا التوازن بين ثقافته اللغوية العربية ، وثقافته اللغوية الأجنبية ، ذلك الاختلال الذي قد يجعل مفهوم الثقافة اللغوية العربية عنده يختلط قليلاً أو كثيراً بالمفهوم العامي أو المحلي ، وقد يضاف إلي ذلك المعايير الصرفية والنحوية الدقيقة في العربية والتي تتدخل في صياغة جانب هام من المعني ويؤدي عدم التنبه لها إلي الوقوع في اللبس والغموض .
إن بعض هذه العوامل هو الذي يدفع إلينا بمصطلحات نابعة من اقتراحات فردية في معظم الاحيان وتدي روح عدم النقد والتخصيص السائدة بيننا إلي تركها تترسب وتشيع فإن الاتفاق علي معني محدد لها أحياناً ، أو الاتفاق علي معني ما رغم عدم دقة المصطلح أو عدم كونه الاكثر ملاءمة بين مصطلحات أخري كان يمكن الاختيار منها ويؤدي سكوتنا إلي أن يشيع المصطلح بالتقادم وأن يكتسب صلابة ليست نابعة من قيمة الإيجابية بقدر ما هي نابعة من سكوتنا السلبي وعدم تمحيصه .
ولتأخذ علي ذلك مثلاً المصطلح الذي شاع في ترجمة كلمة ECART أو كلمة DEVIATION وهما مصطلحان يستخدمان في علم الإحصاء ، ويقصد بهما الخروج عن المعدل أو الانحراف عنه وتقاس من خلال ذلك ” الخروج ” أو ” الانحراف ” الظاهرة ومدي كونها عادية أو خاصة وعندما تم اللجوء إلي المعايير الإحصائية في قياس الظواهر اللغوية مثل معرفة الفروق بين لغة الشعر ولغة النثر أو بين وسائل التعبير الحقيقي والتعبير المجازي – تم استخدام هذا المصطلح والتفكير في ترجمة له ومع أن الظاهرة نفسها موجودة عند البلاغيين القدماء فإن الذين صكوا المصطلح الحديث أو أشاعوه لم يعبأوا بالمصطلحات القديمة أو لم يلتفتوا إليها في الوقت الذي سار فيه المصطلح القديم في نفس مسار تفكير البلاغي الحديث ، وهو تحويل الظاهرة من حالتها المعنوية المجردة إلي حالة مكانية مجسدة، فقد تصور الطريقة العادية للتعبير في النثر بطريقة غير مباشرة ، وأطلق علي ذلك الاجتياز اسم”المجاز” أي الطريق غير العادي الذي يجتازه المعني وفي إطار هذا التصور صدر أول كتاب في البلاغة العربية وهو كتاب ” المجاز ” الذي كتبه أوائل القرن الثالث الهجري أبوعبيدة معمر بن المثني ،ولم يكن يريد به معني “المجاز” كما عرف عند البلاغين فيما بعد باعتباره المقابل المعني “الحقيقة ” وإنما أراد به ما يقابل مصطلح ECART أو DEVIATION .
ولكن المصمم الحديث للمصطلح اختار صيغاً أخري بعض النقاد اختار “الانحراف” باعتباره ترجمة حرفية للمصطلح في علم الإحصاء فالشعر عندهم “أنحراف” بالقياس إلي النثر والتعبير المصور ” انحراف ” بالقياس إلي التعبير المجرد والأدب في نهاية المطاف “انحراف” عن اللغة العملية النفعية في الحياة اليومية ولا شك أن هذا الاختيار يسقط تماماً قضية “ظلال” الكلمة وهي جزء منها في لغة كالعربية .
فالأنحراف وصف خلقي لايساغ استعماله في الفن القولي الجميل ولا يكفي أن تكون الكلمة صحيحة أو دقيقة من الناحية المعجمية حتي تستخدم في المصطلحات وهذا هو الذي يمنعنا بالتأكيد من تسمية النافورة بالخرارة مع أن القدماء كانوا يسمونها كذلك لأنها آتية من خرير الماء يقول صاحب لسان العرب : الخرير صوت الماء والريح والخرارة عين الماء الجارية، سميت خرارة لخرير مائها ( جـ2 : 234 ) وهناك واقعة أدبية طريفة تتصل باستخدام هذه الكلمة ، وقد حدثت عندما قدم الأستاذ أحمد أمين كتابه ” فجر الإسلام ” إلي أحد أصدقائه من المستشرقين الذي قرأ الكتاب فأعجب ورأي أنه ” عين ما جارية ” في صحراء المعرفة القاحلة فكتب للأستاذ أحمد أمين ” شكراً لك ” .
لقد قدمت للثقافة العربية الإسلامية خرارة كبيرة ” لكننا أمسكنا عن التسمية لارتباط المصطلح بظلال غير حسنة ، والذين ييدون مصطلح الانحراف في الأدب قد يتوقفون قليلاً إذا امتد المصطلح نحوهم باعتبارهم منتجين للأدب فأصبح يطلق عليهم أنهم من زعماء الانحراف أو أنهم منحرفون باعتبار أن طرائقهم في التفكير والتعبير تختلف عن طرائق الناس العاديين من غير المشتغلين بالأدب يقول الدكتور صلاح فضل في بلاغة الخطاب وعلم النص : وأبرز هذه المصطلحات في تقديرنا هو مصطلح الانحراف الذي تعددت صيغة في اللغة العربية فمرة يبحث له الرفاق عن معادل بلاغي قديم هو العدول فيقلمون أظافره ويثلمون حده ، ومرة أخري يلجأ الباحثون إلي كلمة ذات إيحاء مكاني واضح هو الانزياح تفادياً للإيحا الأخلاقي المقصود والمستثمر في كلمة انحراف (4) .
وإذا كان مصطلح الانزياح الذي يستخدم للتعبير عن نفس المعني قد حاول تفادي الإيجاء الاخلاقي فقد وقع فيما هو اسوأ منه ، لأنه اختار كلمة تقع في إيحاء القبح وهي تتحدث عن علم الجمال ولا أدري عن أي ذهن أدبي تفتقت هذه الكلمة الغريبة ، ففعل الكلمة سواء في صيغته العادية أو صيغته المطاوعة لا يأتي أبداً في اللغة إلا مع الهوية والأمراض والأحزان والقاذوراته وأول ما يطالعك به أي قاموس صغير معاصر عند البحث عن كلمة أزاح أن يقول لك إزاحة إزالة يقال : أزاح الله علته فزاحت ، وانزاح زال ” (5) .
وانطلاقاً من هذا الرصيد اللغوي تردد العبارة المشهورة ” انزاح الهم عن القلب ” أو ” أنزاح البلاء ” أو انزاحت الكارثة ونحن لا نقول أبداً انزاح السرور أو انزاحت لحظة الصفا ” فكيف نقول ” انزاح الشعر أو انزاح الابداع وانزاحت الصورة الجميلة ” ؟!
ولا يختلف الامر في القواميس القديمة وهي تتحدث عن مادة الزيح والانزياح فيصاحب التهذيب يقول الزيح ذهاب الشئ تقول : قد أزحت علته فزاحت وهي تزيح قال الأعشي :
وأرملة تسعي بشعت كأنها
وإياهم ربد احثت رثالها
هنانا فلم تمتن علينا فاصبحت
رخية بال قد أزحنا هزالها
أما صاحب لسان العرب فيضيف بعد أن ينقل عبارة صاحب التهذيب زاح ، وزاخ بالحاء والخاء بمعني واحد إذا تنحي ومنه قول الشاعر :
لو يقوم الفيل أو فياله
زاح عن مثل مقامي ورحل
قال : ومنه زاحت علته ، وأزحتها أنا وانزاح ذهب وتباعد .
إننا لا ينبغي أن نتناسي ونحن ف يمجال أدبي إبداعي أهمية اللمسة الجمالية التي تكمل الدقة ولا تتنافي معها ، وفي هذا الإطار فإن كلا من مصطلح الانحراف والانزياح لا يصلح للتعبير عن هذا التحول الجمالي في مسري اللغة عندما تتحول من لغة نثرية عادية إلي لغة شعرية ويبقي مصطلح العدول الذي أورده القدماء ، أكثر دقة وجمالاً ويبقي كذلك مصطلح المجاوزة أكثر قرباً من روح المصطلح العربي القديم أو أكثر ملاءمة لمناخ الشعر.
وإذا تذوقنا وقع الكلمات علي ألسنتنا وآذاننا – بعيداً عن سطوة المصطلح السائد الذي فرض نفسه بالتكرار وعدم المناقشة – فسوف نجد أن التعبير عن الصورة الأدبية أو التعبير الشعري بأنه عدول أو مجاوزة بالقياس إلي التعبير العملي ، أقرب إلي الدقة إلي ناحية وإلي مراعاة الظلال بين شطرين من ثقافة واحدة من ناحية ثانية بالإضافة إلي كون ذلك عامل تواصل بين شطرين من ثقافة واحدة لا يفيد التقاطع بينهما إلامن حرم من موهبة المعرفة والإبداع فقرر أن يشد إليه الآخرين بدلاً من أن يلحق هو بهم .
إن الغموض يتسرب أحياناً إلي المصطلح من الترجمة الحرفية للمصطلح الأجنبي دون بحث عن العبارة الموازية التي يمكن أن تعكس المعني في اللغة العربية ومن المصطلحات التي شاعت في مجال العمل الروائي من هذه الطائفة ، مصطلح يستخدم في ألوان الرية التي يملكها الروائي بالقياس إلي شخصياته وهل يترك الشخصيات تتنامي بحرية أم يمسك بخيوط حركتها صديه وفي هذا الإطار يشيع عند النقاد الفرنسيين مصطلح VISION ARRIERE ويترجم بمصطلح الرؤية من الخلف وهي ترجمة حرفية لا تقدم في العربية إلا معني غامضاً بل قد تقدم من حيث الظلال ترجمة مسيئة وأعتقد أن روح المصطلح تتحدث عن رؤية الهيمنة وليس الرؤية من الخلف .
إن الغموض الناتج عن الترجمة الحرفية للخلف والأمام والأعلي والأسفل يذكر في تلك الطرفة الحادثة عن ترجمة غير دقيقة تضمنتها لافتة محل لتصفيف شعر النساء في إحدي المدن العربية وقد أراد صاحب المحل أن يعرب اللافتة التي كتبت أساساً بالفرنسية :
LAHAUTE COIFFURE DE FEMME فكتب عليها : الحلاقة العالية للنساء وهو لا شك يريد أن يقول : ” الحلاقة العليا للنساء ” وإذا كان صاحب المحل يشكر علي حسن نيته ولا يلام لأنه رجل مشغول بصناعة غير صناعة الكلمات فإن الذين يصكون المصطلحات الأدبية ويقعون في ليس مماثل عليهم يقع عبء اللوم والمؤاخذة ” .
إن الصياغة الصرفية تلعب دورها أيضاً في غموض المصطلح أو وضوحه فالأوزان العربية تلعب دوراً هاماً في تحديد المعني فالكلمات التي تأتي علي وزن فعلال مثل ضرغام وتمساح غير الكلمات التي ترد علي وزن فعلل مثل هدههد أو فعلول مثل عصفور وذلك جانب من طبيعة اللغة ينبغي المحافظة عليه ومن مظاهر عدم الدقة التي ترتبت علي عدم مراعاة هذا المبدأ خارجمجال المصطلح النقدي وذلك لا يبعد المخالفة عن دائرة مخاطر الغموض علي ذلك المصطلح لأن عدوي المخالفة أكثر سرياناً في العادة من عدوي الموافقة من هذه المظاهر في مجال ترجمة المصطلح الاقتصادي اختيار كلمة ” خصخصة ” أو خوصصة ترجمة للمصطلح الإنجليزي PRIVAZISATION الذي يعني تحويل القطاع العام إلي قطاع خاصومظهر عدم الدقة يأتي من عدم التنبيه إلي خصائص صيغة فعللة الصرفية في العربية وهي ” تدل دائماً علي الحركة العنيفة في كلمات مثل دمدمة ، حمحمة زلزلة ، زغزغة قلقلة ، ولو كان المترجم علي علم بأصول الاشتقاق في اللغة العربية لفطن إلي أن الحرف المضعف أو المشدد في كلمة “خص” هو الصاد وليس الخاء التي تتكرر في الخصخصة (6) .
وكثيراً ما تجنح ترجمة المصطلح إلي ترك الكلمة في صيغتها القديمة المألوفة واللجوء إلي صيغة أخري قد يكون معناها مغايراً لما يود المتكلم أن يقوله ومن هذا القبيل يأتي شيوع كلمة ” إشكالية ” بدلاً من مشكلة خلطاً بين مصطلحين أجنبيين هما PROBLEMATIQUE , PROBLEME التي تحمل غالباً معني الشئ المريب أو المتناقض وقد أسرف النقاد في استخدام هذا المصطلح في الدلالة علي المشكلة التي تعني طرح قضية ما طرحاً محايداً من خلال البحث عن حلول لها وترتب علي هذا أن أصبحت كل ظاهرة يراد طرحها علي بساط البحث ، أو حتي مجرد الحديث عنها إشكالية وأصبحنا نتحدث عن إشكالية المعني وإشكالية الأجناس الأدبية وإشكالية المصطلح مع أنه في الإمكان التحدث عن مشكلة أو حتي عن مجرد ظاهرة حتي لا تتداخل الفروق الدقيقة بين الكلمات والمصطلحات.
ومن هذا القبيل يأتي شيوع ظاهرة فعللة الأشياء التي أشار لها الدكتور عبدالقادر القط(7) ، مثل ” الأسلبة ” و ” النمذجة ” و ” السمقطة ” و ” السميأة ” أو شيوع النسبة إلي المصادر الصناعية أو إلي جميع المؤنث السالم مثل النقد الموضوعاتي أو الظاهراتي مع ما في هذه الظاهرة حتي مع افتراض حسن النية ومحاولة التعبير الدقيق عن المعني من خروج علي لون من الموسيقي الكامنة في الصيغة العربية لا شك أن فرعاً كالنقد الأدبي في حاجة إلي إكتسابها دون تفريط في الدقة التي يسعي إليها .
إن جانباً هاماً من الأسباب التي أو إلي ظهور هذا الضعف في صياغة المصطلح النقدي والعبارة النقدية والمقال النقدي يعود إلي عدم الاهتمام بالتكوين اللغوي للناقد وأحياناً للمبدع وإلي عدم إحساس من تنقصهم بعض قدرات النحو والصرف وفقه اللغة والبلاغة من المنتسبين إلي طائفة النقاد والمبدعين بأن شيئاً جوهرياً فاتهم وينبغي أن يحاولوا استكماله لكي يكونوا أهلاً للمهمة التي يتصدون لها وتلك ظاهرة لافتة للنظر ، وقد شاعت لدرجة كادت أن تصبح مألوفة ولم يعد من المستغرب أن تجد ناقداً لا يستطيع أن يقرأ قراءة صحيحة نصاً أدبياً يريد أن يتصدي لتحليله ، دون أن يخجل من هذا أو تجد أدبياً لا تستقيم معه اللغة حتي في النص الذي كتبه وإذا ما حوصر بعضهم بشيوع الأخطاء ، أدعي أنه يتعمدها للخروج علي المألوف أأو لتكسير اللغة أو لتفجيرها وما إلي ذلك من المصطلحات الغامضة والواقع أنه في أي أدب عالمي قديم أو معاصر يبدأ تصدي الناقد للنص وتحليله الجمالي بعد سيطرة الناقد نفسه علي أدوات الصحة اللغوية من نحو وصرف وعروض وفقه لغة لكي يتاح له أن يدرك إيجابيات النص أو يناقش محاولات الخروج بين الابتكار أو الضعف .
وإذا لم يكن من الضروري أن يكون المبدع دارساً لعلوم الصحة اللغوية فإنه يكون قادراً علي إدارك مواطن الصحة والخطأ ربما دون تعليل أحياناً ويحرص علي أن تطير موهبته علي أجنحة من المعرفة تمكنها من التحكم في سار الحركة لكيلا يصبح طيرانها مثل طيران الهوام العشوائي بل مثل تحليق الطيور الراقية صغيرها وكبيرها تعرفمتي ترتفع ومتي تقترب ومتي تتشكل في أسراب وجماعات ومتي تتحرك فرادي لكي تحقق منعة الفن وتسمر بالموهبة التي منحها الله إياها .
وفي الوقت الذي يعتز فيه كبار المبدعين العالميين بأنهم ” نحويون ” كما كان يقول ما لا رميه ، ويقيم فيع كبار النقاد المحدثين نظرياتهم انطلاقاً من تعمقهم الشديد في نحو اللغة التي يمارسون الكتابة بها كما هو الشأن في كل المدارس النقدية التي انطلقت من ( دي سير ) حتي الآن نجد كثيراً من المشتغلين بحقلي الإبداع والنقد عندما تنقصهم كثير من أدوات المعرفة اللغوية للعربية وأسرارها ونتج عن هذا النقصان بعض الظواهر المطروحة أمامنا في هذه الدراسة .
إن طبيعة الجهد الفردي في مجال اقتراح مصطلحات جديدة في فرع كالنقد الأدبي من شأنها أن تؤدي إلي طرح بعض الكلمات القابلة للمناقشة وإعادة النظر فيها بين المهتمين مع تغيير الجهد الذي بذل ، ولاشك أن مهمة صك المصطلح مهمة عسيرة وينبغي أن تتضافر فيها المبادرة الفردية والحوار الجماعي سعياً إلي الاتفاق في نهاية المطاف ، لأن الجماعة لا يمكنها الإفادة من جهد أفرادها دون الاتفاق علي مفاتيح لغة الحوار ومن هذا المنطلق فإن السعي إلي إنشاء ، بنوك المصطلحات والمعاجم الموحدة ضرورة حضارية وعلمية تعرفها كل اللغات بما في ذلك اللغة العربية المعاصرة وخاصة في الجانب العلمي حيث تسعي المجامع اللغوية والمؤتمرات العلمية إلي توحيد كثير من المصطلحا ومنذ عقد في الجزائر سنة 1953 منذ نحو نصف قرن المؤتمر توحيد المصطلحات العلمية ، تعددت الخطوات في هذا الاتجاه ، فعقت ست مؤاتمرات علمية متوالية في عقدي الخمسينيات والستينيات في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق وتم الاتفاق خلال هذه المؤؤتمرات علي توحيد نحو أربعين ألف مصطلح ، وجاء بعد ذلك إنشاء مكتب تنسيق التعريب وإنشاء مجلة “اللسان العربي ” التي خطت بدورها خطوات بارزة في اتجاه تعريب المصطلح .
ثم كانت مرحلة الاتفاق علي بعض المعاجم الموحدة خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من خلال مؤتمرات التعريب التي عقدت بالجزائر وطرابلس وطنجة وعمان والرباط والقاهرة ، حيث تم الاتفاق علي نحو اربعين معجماً للتعليم العام والتعليم التقني والفني ، وتم طرح بعض المبادئ الأساسية في اختيار المصطلحات العلمية ووضعها (8) ، وهي مبادئ صالحة لأن يسترشد بها في معالجة أزمة المصطلح النقدي لأنها تمس جوهراً لمشكلة الكامن في كيفية التعامل مع اللغة أثناء محاولة صك مصطلح جديد أو إعادة استخدام مصطلح قديم أو ترجمة مصطلح من لغة أجنبية وأهم هذه المبادئ التي تم الاتفاق عليها في مجال المصطلح العلمي تكمن في النقاط التالية :
1- ضرورة وجود مناسبة أو مشاركة أو مشابهة بين مدلول المصطلح اللغوي ومدلوله الإصطلاحي ولا يشترط في المصطلح أنه يستوعب كل معناه العلمي .
2- وضع مصطلح واحد للمفهوم العلمي الواحد ذي المضمون الواحد في الحقل الواحد .
3- تجنب تعدد الدلالات للمصطلح الواحد في الحقل الواحد ، وتفضيل اللفظ المختص علي اللفظ المشترك .
4- استقراء التراث العربي وإحياؤه وخاصة ما استعمل منه أو أستقر منه من مصطلحات علمية عربية صالحة للاستعمال الحديث وما ورد فيه من ألفاظ معربة .
5- مسايرة المنهج الدولي في اختيار المصطلحات العلمية :
(أ) مراعاة التقريب بين المصطلحات العربية والعالمية لتسهيل المقابلة بينهما للمشتغلين بالعلم والدارسين .
(ب) اعتماد التصنيف العشري الدولي لتصنيف المصطلحات حسب حقولها وفروعها.
(ج) تقسيم المفاهيم واستكمالها وتحديدها وتعريفها وترتيبها حسب كل حقل .
(د) إشتراك المختصين والمستهلكين في وضع المصطلحات .
(هـ) مواصلة البحوث والدراسات لتيسير الاتصال الدائم بين واضعي المصطلحات ومستعمليها .
6- استخدام الوسائل اللغوية في توليد المصطلحات العلمية الجديدة بالأفضلية طبقاً للترتيب التالي : التراث ، فالتوليد ( لما فيه من مجاز واشتقاق وتعريب ونحت ) .
7- تفضيل الكلمات العربية الفصيحة المتواترة علي الكلمات المعربة .
8- تجنب الكلمات العامية إلا عند الاقتضاء بشرط أن تكون مشتركة بين لهجات عربية عديدة وأن يشار إلي عاميتها بأن توضع بين قوسين مثلاً .
9- تفضيل اللفظة الجزلة الواضحة وتجنب النافر والمحظور من الألفاظ .
10- تفضيل الكلمة التي تسمح بالاشتقاق علي الكلمة التي لا تسمح به .
11- تفضيل الكلمة المفردة لأنها تساعد علي تسهيل الاشتقاق والنسبة بالإضافة والتثنية والجمع .
12- تفضيل الكلمة الدقيقة علي الكلمة العامة أو المبهمة ومراعاة اتفاق المصطلح العربي مع المدلول العلمي للمصطلح الأجنبي دون تقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأجنبي .
13- في حالة المترادفات أو القريبة من المترادف تفضل اللفظة التي يوحي جذرها بالمفهوم الأصلي بصفة أوضح .
14- تفضيل الكلمة الشائعة علي الكلمة النادرة أو الغريبة إلا إذا التبس معني المصطلح العلمي بالمعني الشائع المتداول لتلك الكلمة .
15- عند وجود ألفاظ مرادفة أو متقاربة في مدلولها ، ينبغي تحديد الدلالة العلمية الدقيقة لكل واحد منها ، وانتقاء اللفظ العلمي الذي يقابلها ويحسن ععند انتقاء مصطلحات من هذا النوع أن تجمع كل الألفاظ ذات المعاني القريبة أو المتشابهة الدلالة وتعالج كلها مجموعة واحدة .
16- مراعاة ما أتفق المختصون علي استعماله من مصطلحات ودلالات علمية خاصة بهم معربة كانت أو مترجمة .
17- التعريب عند الحاجة وخاصة المصطلحات ذات الصيغة العالمية كالألفاظ ذات الأصل اليوناني أو اللاتيني أو اسماء العلماء المستعملة مصطلحات أو العناصر والمركبات الكيماوية .
18- عند تعريب الألفاظ الأجنبية يراعي ما يأتي :
(أ) ترجع ما سهل نطقه في رسم الألفاظ المعربة عند اختلاف نطقها في اللغات الأجنبية .
(ب) التغيير في شكله حتي يصبح موافقاً للصيغة العربية ومستساغاً .
(ج) اعتبار المصطلح المعرب عربياً يخضع لقواعد اللغة ويجوز فيه الاشتقاق والنحت وتستخدم فيه أداوت البدء والإلحاق مع موافقته للصيغة العربية .
(د) تصويب الكلمات العربية التي حرفتها اللغات الأجنبية واستعمالها باعتماد أصلها الفصيح .
(هـ) ضبط المصطلحات عامة والمعرب منها خاصة بالشكل حرصاً علي صحة نطقه ودقة أدائه .
وإذا كان كثير من هذا الجهد يصب في مجري المصطلحات العلمية فإن المنهجية وتنظيم الجهد المبذول يمكن أن تساعد في إثراء الجهد الموازي في المصطلحات الأدبية مع التسليم بوجود فوارق بين الحقلين وجنوح المصطلح في المجال النقدي أحياناً إلي الأفق الاستعاري الذي يتسم بسمات فردية متنوعة ومع وجود كثير من الأفكار المطروحة حل عقد مؤتمرات أو لجان لتعريب المصطلحات أو توحيدها ، فإنه يمكن البدء بفكرة بسيطة متواضعة تترك أثرها علي المدي المنظور في سبيل تحقيق هذا الهدف ، ونعني بهذه الخطوة اتفاق المجلات الادبية في العالم العربي علي نشر قائمة موحدة كل سنة أو نصف سنة بالمصطلحات الموحدة والالتزام بها في المقالات التي تنشرها هذه المجلات ولأن هذه المجلات محدودة العدد في نهاية المطاف ، فإن إمكانية الاتفاق بينها واردة ، ولأنها أيضاً تصل غالباً إلي معظم المهتمين بالمجال – علي عكس الكتب التي قد تجد بعض الصعوبة في حركتها – فإن تأثيرها يمكن أن يصل إلي أكبر عدد من القراء ويساعد في نهاية المطاف علي تقليل المخاطر المتمثلة من غموض المصطلح النقدي ويشكل خطوة في بداية الطريق .
الهــوامـتش :
1- أحمد الأخضر غزال : توفير المصطلحات وضبطها وتوحيدها وتعميقها مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية ، قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب – الرباط – نوفمبر 1993م .
2- د. محمد عناني : المصطلحات الأدبية الحديثة ، ص 30 .
3- د. صلاح فضل : مناهج النقد المعاصر ، ص 6 ، دار الآفاق العربية – القاهرة 1997م .
4- د. صلاح فضل : بلاغة الخطاب وعلم النص ، عالم المعرفة – الكويت سنة 1992م .
5- المعجم الوسيط جـ 1 ، ص 423 .
6- عبدالقادر القط قضية المصطلح في مناهج النقد الأدبي الحديث ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، الكويت ، سنة 1994م .
7- د. عبدالقادر القط : المرجع السابق .
8- أنظر : شاكر الفحام ، إشكالية المصطلح وضعاً وتوحيداً ودور مكتب تنسيق التعريب في خدمة المجتمع ، ضمن كتاب قضايا استعمال اللغة العربية في المغرب ، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية – الرباط 1993م .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : أحمد درويش, العدد الاول