كل شيء بحسابه …………………. د. نعيم عطية

كل شيء بحسابه

د. نعيم عطية

المحاضر من أساطين الاقتصاد ومن مؤسسي عديد من جمعيات رجال الأعمال اكتسب شهرة طيبة من محاضراته الشيقة التى لا تخلو من توجيه المداعبات بشأن الأوضاع الاجتماعية المتردية وتحميل المسئولية عن تدهور الأحوال للمحتاجين ورقيقي الحال ولا ي حضر هؤلاء بالطبع مثل هذه المحاضرات ومن أحاديثه السهلة الطلية عما يسميه الرخاء الأمثل وأخيراً وليس آخراً مما يقدمه من استشارات للحكومة والأفراد عن أنجح السبل لغسل الأموال وتدوير رؤوس الأموال وكانت القاعة فى تلك الأمسية عامرة بالحاضرين وكثيرون منهم من كبار المشتغلين بالبنوك وشركاء الصرافة والبورصات ممن يحسبون كل شيء ليس بالقرش والمليم بل بالين والدولار والسنت والفلورين ويعملون لتقلبات أسعار الصرف ألف حساب

لمحته لمحت صديقي القديم يفصل بيني وبينه صفان من المقاعد ويضع سنوات من البعاد لانشغال كل منا بأمور ما كانت تهم الآخر وكانت قد انقطعت عنى أخباره إلى أن طالعتنا الصحف عنه مؤخراً بما يحسد عليه من أخبار

كنا فى سالف الأوان صديقين ولا أستطيع أن أقول حميمين فقد كان فصل بيننا فرق السن كما لم يكن ذا جلد على التحصيل ولا وصل فى دراسة أجراها فى معهدنا إلى نتائج مؤكدة وفى الحق لم يكن بصفة عامة سوى متوسط الكفاية إن لم يكن أقل من ذلك  بكثير هذا رأيي فيه وغن لم يكن على أى حال رأيي أنا وحدي بل أيضاً رأى آخرين ولم أكن أعير الأمر التفاتاً كان يخاطبني ربما لفارق السن

باستاذي وأحياناً باستاذنا الكبير وكان هذا الذ يخاطبنى به يملأني برضاء خي أحياناً وبقلق دفين وارتباك أحياناً أخرى.

ولم أكن رغم ثقتي فى كفاءتي أعترض على اختيار غيري ممن هم أدني مني شاناً للإعارات والمناصب العليا وإن كنت لا أفهم لذلك الاختيار فى أغلب الأحيان سبباً وما قلت يوماً إنني أحق من هذا أو ذاك كان يكفيني أن أترك وشأني ازداد يوماً بعد يوم تفوقاً واقتداراً وقد عودت نفسي أن أضع فى فمي قطعة لبان امضغها باطراد فعصمتني من زلات اللسان مراراً كان صاحبى منهمكاً فى الحديث بصوت هامس مع مدير لإحدى هيئات الاقتراض الدولي ويشاركهما بالانصات نائب من نواب البنك المركزى ومسؤول أمني كبير وىخر من صندوق النقد كان من وقت لآخر يتثاءب ويسرح ببصره إلى بعيد

ومضيت أتابع عن بعد حركات شفتي صديقي القديم وشغلني ذلك بعض الشيء عن المحاضرة وكانت عن النقود وما تفعله بعض العملات بالبعض الآخر ولم يلق المحاضر عناء كى يثبت للمستمعين أن العملة الرديئة تطرد من السوق كل عملة جيدة وتسود

صفق الحاضرون طويلاً والتفت كل منهم لجاره ونظراته تقول فى صمت مبين ساطردك فترد نظرات الآخر معك قرش تساوى قرش فما بالك وأنا فى الدولار أتعامل

وعندما فتح المحاضر باب المناقشة مرحباً باستفسارات الحاضرين قام البعض وناقشه فى القشور ولم يصعب على المحاضر المتمرس بهذه الأمور أن يدلي باجابات انتزعت بدورها تصفيق الحاضرين

وهممت أن أسأل ولم اكن قد احضرت قطعة اللبان معى ما الذى يجعل قوانين الاقتصاد  تخفق فى نجاحات تحققها ممارسات أخرى غير هذه القوانين لكننى كعادتي خجلت وتواريت فأنا احجم عن توجيه مثا هذه الأسئلة مما أكسبني فى نظر الآخرين صفة أعتز  بها وهى أنني مستمع مثالي أفكر كثيراً ولا أتكلم إلا فى القليل.

نهضنا من مقاعدنا وتأهبنا للانصراف وسنحت لى الفرصة فملت بجذعي إلى الأمام بسرعة ومددت إلى صاحبي القديم عبر الصفين يدي بالتحية.

تردد ان يصافحني وعندما قلت له أنا الدكتور مجدية خيمت على عينيه غشاوة ولم يبد انه يتذكر مجدية فلما كررت عليه الاسم التفت إلى من حوله مستنجداً بمن يذكره بي.

هنأته على الدور القيادي الذى يتولاه ؤفى الرياسة فغمغم بالشكر ثم ترك يدي واستدار مع رفاقه يسير  فى طابور الخروج البطيء.

وعند باب القاعة الكبيرة تقاربنا فالتفت إلى وكانت نظرته حائرة زائغة ويبدو أن ذاكرته قد ضعفت من فرط الطابور الطويل ممن شاهد وقابل بحكم منصبه فى الرياسة

وعندما التفت إلى مستديراً قبل أن يغيب فى زحام الخارجين إلى صحن المبني المزدان ببعض التماثيل الرخامية التى من فرط تجريديتها أضحت غير مفهومة المعنى وتتوسطه نافورة مضيئة تبعث دفقات مياهها إلى القلب بعض الأمان المفتقد لمحت ابتسامة وكانت تقول أكانت تقول ذلك حقاً؟ لعلك تذكر ما قالته المحاضرة عن العملات والنقود ولعلك الآن يا أستاذى فهمت بل فهمت وتأكدت يا أستاذنا …. الكبير.