يناير 25 2010
الخصومة بين الوعي الشفاهي والوعي الكتابي …محمد بريري
الخصومة بين الوعي الشفاهي والوعي الكتابي ، قـــــــــــــراءة أوليـــــــــة
محمد بريري
تهدف هذه الدراسة إلي تقديم فهم جديد لقضية قديمة شغلت القدماء والمحدثين ، وهي قضية انتحال الشعر الجاهلي يقوم هذا الفهم علي توجيه النظر إلي نوع من اللبس الذي نشأ عن البحث في الشعر الجاهلي أي الأصول الشفاهية بوعي كتابي ورغم حماس طه حسين وخصومه في الجدل حول انتحال الشعر الجاهلي ، فإن الناظر في الحجج التي سيقت من الجانبين يدرك أنهما ، رغم اختلافهما الظاهري انطلقا من منطق ملتبس واحد ، منطق لا يفرق بين الطبيعتين للخطابين الشفاهي والكتابي .
تختلف العقلية الكتابية عن نظيرتها الشفاهية اختلافات جوهرية إلي حد أنه يمكننا الكلام بصددهما عن نوعين مختلفين من الثقافة بالمعني الأنثروبولوجي ، حيث تشير كلمة ثقافة ، ضمن ما تشير ، إلي نمط خاص من الوعي يتجلي في أفعال الجماعة الثقافية وصور تعبيرها المختلفة وطرق إدراكها للوجود (1) .
وعلي هذا فإن التعبير الأدبي المكتوب يختلف اختلافاً جوهرياً عن التعبير الأدبي الشفاهي (2) ، لأن الموقف الإيصالي القائم علي القراءة يختلف عن نظيره القائم علي السماع ، مما يؤدي إلي اختلافات اسلوبية جوهرية وهو ما يؤدي بدوره إلي احتمال أن يسيء الكتابي فهم التعبير الادبي الشفاهي لأنه يغاير ما ألفه في ثقافته الكتابية مغايرة كبيرة ، و العكس أيضاً صحيح ، فإن من اعتاد التلقي الشفاهي سوف يجد ، غالباً صعوبات جمة في فهم الأدب المكتوب وتقديره .
• التوجيه الشفاهي والتوجه الكتابي في رواية الشعر (3) :
إن أول ما نلاحظه علي الشعر الجاهلي في هذا السياق ، أنه ظل ينتقل من جيل إلي آخر عبر الرواية الشفاهية حقبة طويلة قبل ان يدون ، لما بدأت الثقافة العربية في التحول المتدرج من الشفاهية التي كادت أن تكون تامة ، إلي الكتابية وهو تحول مهم نتج في الأساس من كتابة القرآن الكريم بل أن السعي إلي تدوين الشعر نشأ غالباً بسبب علاقته الوثيقة بالقرآن الكريم ، إذ عد القدماء الشعر الجاهلي أعم مظاهر من مظاهر تمثيل كلام العرب الذي تنزل به الوحي (4) .
وقد تحول الشعر الجاهلي من جراء ذلك إلي وثيقة لغوية صحيح أن المتلقي العربي ظل يقدر فن الشعر الجاهلي لكن هذا التراث لم يعد مجرد فن كما كان حالة قبل ذلك وكان من نتائج هذا الموقف الجديد أن انتقلت مسألة تجريح الرواة وتعديلهم من المجال الديني إلي مجال الأدب فاصبح من الأهمية بمكان التثبت من صحة نسبة المادة الشعرية إلي زمنها وإلي قائلها الحقيقيين ولئن كانت السنة النبوية الشريفة هي المصدر التشريعي الديني التالي للقرآن ، فإن الشعر الجاهلي أصبح المصدر التالي للقرآن الكريم من حيث التشريع اللغوي والأدبي والبلاغي .
وقد كان هذا الوضع الجديد غريباً علي الراوي العربي ذلك أن الأداء الشفاهي لصور التعبير المختلفة لا يعرف ما نسميه في مجتمعاتنا الكتابية حقوق المؤلف ، كما لا يعرفما نسميه النص الأصلي الثابت (5) ، تسمح تقاليد الأداء الشفاهي بتعديل صور التعبير بالزيادة أو الحذف أو التقديم أو التأخير حسب ما يستجد من ظروف أو سياقات ( من ذلك مثلاً أن يحل لفظ الجلالة ” الله ” محل أسماء الآلهة المتعددة في النصوص الجاهلية ) في أي تراث شفاهي تؤدي الأغنية وتروي القصة أو القصيدة بطرق أداء مختلفة يفعل ذلك الراوي أو المغني أو الشاعرولاشك أن هذا ما كان يحدث للشعر الجاهلي قبل تدوينه (6) .
بيد أن التقاليد الشافهية اهتزت بشدة حين بدأت الثقافة العربية في التحول إلي الكتابة فظهر بالتالي تقسيم رواة الشعر إلي فئتين فئة الرواة الشقاة من أمثال أبي عمرو بن العلاء والمفضل الضبي والأصمعي ، وفئة الرواة الوضاعين من أمثال خلف الأحمر وحماد الرواية أشهر المتهمين بانتحال الشعر الجاهلي .
إن تقسيم الرواة علي هذا النحو يمكن النظر إليه بوصفه مظهراً لانقسام أو بالأحري صراع بين توجهيت عقليين يترك أحدهما للنص حرية الحركة والتجدد ولا يهمه بله أن يعي فكرة النص الاصلي الثابت ، وذلك هو التوجه الشفاهي أما الآخر فيتشدد في الرواية ، إذ يري في النص الجاهلي وثيقة ينبغي الحرص علي سلامتها من أي تحريف ، وذلك هو التوجيه الكتابي كان التعبير الشعري عند خلف وحماد فناً قبل أي شئ آخر ، أما عند المفضل والأصمعي فهو وثيقة إلي جانب كونه فناً لذلك فإن التعليقات والشروح المنقولة عن الأصمعي تشي بعنايته بالمطابقة بين الشعر والواقع إنه ينتقد علي سبيل المثال ، أباً ذؤيب لأنه حين وصف الحمر الوحشية في عينيته المشهورة ، جعلها تسلك سلوكاً يخالف سلوكها في الواقع ، وأرجع الأصمعي ما رآه خطأ في الوصف إلي أن أبا ذؤيب لم ير الحمر الوحشية فجانبه الصواب في الكلام عنها (7) ، كانت المطابقة بين المعني والواقع تهم الأصمعي لأن الشعر عنده وثيقة أما أصحاب الوعي الشفاهي فلا يحفلون كثيراً بضرورة صدق الشعر في إشارته للواقع وإذا أن اهتم الراوي الشفاهي بمثل هذه الأمور ، فإن ذلك يعد مشراً علي بدء تسرب الوعي الكتابي إلي نفسه .
غير أنه من المهم أن نلاحظ أن التحول من التقاليد إلي التقاليد الكتابية لم يتم دفعة واحدة أن الرواة من أصحاب التوجيه الكتابي الذين ذكروا فيما سبق لم يتخلصوا تخلصاً نهائياً من بعض آثار آليات الوعي الشفاهي . يتجلي ذلك فيما يذكر من أن أبا عمرو بن العلاء وضع بيتاً علي الأعشي كما فعل الأصمعي شيئاً من ذلك (8) ، مع أن الرجلين كانا عند القدماء والمحدثين من أوثق رواة الشعر ، إن مثل هذه الأمثلة تدل علي أن أصحاب التوجه الكتابي كانوا أحياناً يصدرون عن بقايا وعي ( أو لا وعي ) شفاهي .
* نموذج ذي الرمة :
في هذه المناسبة يمكن أن نضرب مثلاً بالشاعر الأموي ذي الرمة الذي تجلي فيما روي عنه منه أخبار وفيما قال من شعر هذا الصراع بين التوجهين الشفاهي والكتابي ، يختلف شعر ذي الرمة عن شعر معاصريه في تعلقه الواضح بالتقاليد الشفاهية الموروثة ، وتظهر شفاهيته ظهوراً واضحاً فيما روي عن إعجاب حماد الرواية بشعره وتفضيله إياه علي معاصريه حتي أنه يقرن بينه وبين امرئ القيس فيقول : ” أحسن الجاهلين تشبيهاً امرؤ القيس وذو الرمة أحسن أهل الإسلام تشبيهاً”(9) ولكن الأرجح أن إعجاب حماد الراوية بذي الرمة لا يعود إلي هذا السبب الفني الجزئي المذكور في هذا الخبرأو الأسباب الأخري المشابهة له إنما حاز ذو الرمة إعجاب هذا الراوي ذي التوجه الشفاهي لسبب أعم من ذلك ، يظهر هذا السبب في قول حماد ” .
ما تمم ذي الرمة قصيدته التي يقول فيها : ( ما بال عينك منها الماء ينسكب ) حتي مات كان يزيد فيها منذ قالها حتي توفي (10) ذو الرمة إذن شاعر شفاهي نموذجي لأن القصيدة عنده لا تكتمل إنها تظل في حالة من الصيرورة الدائمة إنها لا تتقيد فتظل تنمو وتتغير .
ليست القصيدة عند ذي الرمة عملاً أدبياً مكتملاً بل إنها تتشكل تشكلاً مختلفاً في كل مرة يديها الشاعر ولذلك كثرت روايات شعره (11) وحدث فيها اختلاف كبير اجتمع لذي الرمة من تقاليد الشعر الشفاهي ما لم يجتمع لأحد غيره من معاصريه هذا ، علي الأرجح هو الدافع الحقيقي وراء إعجاب حماد به وتفضيله له علي معاصريه من كبار الشعراء مثل الفرزدق وجرير (12) .
إن ما يلفت النظر ، مع هذا كله أن ذا الرمة تأثر بالوعي الكتابي الناشئ ذلك أن شفاهيته التي ظهرت في إنشاده شعره بطرق متباينة في مناسبات الأداء المختلفة يناقضها عنده ما روي من أنه عبر عن ضجره من تغيير الرواة لبعض المواضع في شعره بسبب النسيان يروي أن ذا الرمة كان يستكتب عيسي بن عمر شعره قائلاً له ” اكتب شعري فالكتاب أحب إلي من الحفظ لأن الأعرابي ينسي الكلمة ، وقد سهر في طلبها ليلته ، فيضع في موضعها كلمة في وزنها يم ينشدها الناس ،والكتاب لا ينسي ولا يبدل كلاماً بكلام ” (13) بل قيل إن ذا الرمة كان يعرف الكتابة يقول أحدهم لقيت ذا الرمة فقلت له : اكتبني بعض شعرك ، فجعل يُمل علي ويطلع في الكتاب فيقول : ارفع اللام عن السين ، وشق الصاد ، ولا تعور الكاف ، فقلت : من أين لك الكتاب ؟ قال : قدم علينا رجل من الحيرة فكان يؤدب أولادنا فكتب أخذ بيده فأدخله الرمل فيعلمني الكتاب وأنا أفعل ذلك لئلا تقولوا علي ما لم أقل ” (14) .
ذكرت فيما سبق أن أصحاب التوجه الكتابي التوثيقي من أمثال الأصمعي لم يبرءوا من آثار شفاهية خافتة وتمثل حالة ذي الرمة وضعاً عكسياً فهو رغم توجهه الشفاهي ، ورغم بداوة شعره لم ينج من تسرب شئ من الوعي الكتابي إلي نفسه حين حاول توثيق شعره وصيانته من التخريف .
ومن الأمور الدالة في هذا السياق أيضاً تردد الاصمعي في الحكم علي ذي الرمة فهو عنده ” حجة لأنه بدوي ” (15) لكنه يعود فينتقض رأيه ذاك قائلاً عنه ” قد أكل البقل والمملوح في حوانيت البقالين حتي بشم ” (16) بل إنه يحكم بأن ذا الرمة لم يكن بالمفلق (17) ، إن موقف الأصمعي المتردد يعبر عن تردده بين الحكم له بسبب نقاء لغته لبداوته ،والحكم عليه ، غالباً بسبب التعدد في رواية شعره ، بما يخرج بهذا الشعر عن أن يكون وثيقة ثابتة .
* الشعر الجاهلي جنس أدبي :
أما أصحاب الوعي الشفاهي من أمثال خلف الاحمر وحماد الرواية فلم يرضوا بما رضي به أصحاب التوجه الكتابي حين تحولوا إلي آلات تسجل الشعر الجاهلي وتسعي إلي حفظه وتجميده عند وضع واحد ، لم يرض حماد أ خلف عن هذا الصنيع وأبوا إلا أن يتفاعلوا مع مروياتهم من الشعر ، فأضافوا وحذفوا وعدلوا وابتدعوا متوجهين في ذلك كله عن اقتناع مضمر بأن المادة الشعرية الشفاهية التي يتعاملون معها تعبر عن عقل الجماعة الثقافية ، أكثر مما تعبر عن أفراد الشعراء ، الشعر عند هؤؤلاء الرواة ملك لروايته وجمهوره ، وليس ملكاً لمؤلفه ، إن موت المؤلف الذي يتحدث عنه النقد الأدبي المعاصر كان في الشعر الشفاهي واقعاً عملياً يمارسه الرواة والمبدعون والمتلقون .
غير أن الغلبة في نهاية المطاف للتوجه الكتابي علي حساب التوجه الشفاهي
( علي المستوي الرسمي للثقافة ) وقد تمثل انكسار الوعي الشفاهي فيما دار من حوار بين خلف الأحمر وأهل الكوفة ، كان أهل الكوفة يقصدونه لما مات حماد الرواية لأنه كان أكثر الأخذ عنه وبلغ مبلغاً لم يقاربه حماد ، فلما تقرأ ونسك خرج إلي أهل الكوفة فعرفهم الأشعار التي قد أدخلها في أشعار الناس ، فقالوا له : كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة فبقي ذلك في دواوينهم إلي اليوم (18) .
ملحظ في هذا الجسر أن خلفاً استسلم للوعي الكتابي فأعلن إقلاعه عن شفاهيته السابقة ، لكن العقل الشفاهي الجمعي ممثلاً في أهل الكوفة لم يقبل توبة خلف عن سابق عهده ، بل عدها بالأحري ارتداداً عن مذهبه وأعلن أهل الكوفة الشفاهيون بالتالي استمساكهم وثقتهم بما كان عليه ورفضوا ما هو عليه الآن ، أي رفضوا في حقيقة الأمر استسلامه للتوجه الكتابي أبطل الوعي الشفاهي الجمعي مقولات خلف الجديدة ، لأنه أصبح ممثلاً لوعي أجنبي عنه ، ولم يتخل أهل الكوفة عما سماه الكتابيون وضعاً للشعر لأن مقولة الوضع هذه مقولة كتابية تناقص مخزونهم الشفاهي الذي عز عليهم التخلي عنه لما يمثله لهم من قيمة ، هم أحرص عليها من حرص خلف علي مقولة الرواية الوثائقية ،التي هي لا شك بدعة من وجهة نظرهم (19) .
أغلب الظن أن أصحاب التوجه الشفاهي رواة ومتلقين لم ينظروا للشعر الجاهلي بوصفه نتاجاً أدبياً ينتمي إلي عصر بعينه بقدر ما نظروا إليه بوصفه جنساً أدبياً يقبل النمو ويعلو علي الحدود الزمنية ، ويعلو بالتالي علي فكرة المؤلف التاريخي الأرجح أن الرواة والمتلقين العرب القدامي لم يكن بعينهم كثيراً امرؤ القيس ذلك الشخص المحدود بالمكان والزمان ، إنما كان يعنيهم معلقة امرئ القيس والأرجح أيضاً أن الأخبار التي تنسب إلي امرئ القيس وغيره من الشعراء الجاهليين وضعت لتلقي ضوءاً علي ” المؤلفين الضمنيين ” أو بتعبير لطفي عبدالبديع ” القائلين التخيليين ” (20) ، الذين يتجسدون من خلال الشعر ولهذا فإن أصحاب التوجه الشفاهي كانوا غالباً أصدق فنياً في تمثلهم لكلام العرب ، ثم تمثيله من الرواة الوثائقيين الذين آل التراث الجاهلي عندهم إلي سجل أو أرشيف .
ومما تجدر ملاحظته في هذا السياق أن القدح في الرواة الذين اشتهروا بالوضع لم يمنع أصحاب التوجه الكتابي من التعير عن إعجابهم بل وإكبارهم لبعض هؤلاء الرواة ، من حيث علمهم بالشعر ومن حيث إتقانهم النسج علي منواله ، حتي إنه يستحيل الكشف عما وضعوه لتطابقه مع أساليب الشعر الجاهلي .
وينبغي علينا ألا تصدق ما اتهم به هلاء الرواة من فسق وفجور ، لأنه في الغالب تعبير عما يشبه عقاباً أو انتقاماً أوقعه الوعي الكتابي عليهم وكان هذا الوعي آخذاً في الهيمنة علي الثقافة العربية الإسلامية بشكل عام متحولاً إلي سلطة قاهرة إلي كبت الوعي المضاد أما عن تاريخ ثنائية الشفاهية ومدي نجاح الكتابية المثقفة أو إخفاقها في اقتلاع جذور التفكير الشفاهي ، فموضوع يستحق دراسة منفصلة تتبع التحولات التي حددت مسار هذه الثنائية ومسار الصراع بين طرفيها .
* طه حسين ونفي الوعي الشفاهي :
وأما فيما يخص الشعر الجاهلي فلا شك أن كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي يمثل حلقة مهمة في نمو الوعي الكتابي ومحاولته نفي الوعي الشفاهي نفياً مطلقاً .
ذكر فيما سبق أن من أهم توجهات الوعي الكتابي أنه كان يسعي إلي تحويل الشعر الجاهلي إلي وثيقة ثابتة تعكس أوضاع العرب الجاهلين من حيث اللغة والتاريخ ، وهذا بعينه هو موقف طه حسين ، الذي شغفه الوعي الكتابي وانمحت عنه الآثار الإيجابية للوعي الشفاهي التي كانت ما تزال لها بقية عند أسلافه من أصحاب الوعي الكتابي الناشئ عني رجالاً من مثل ابن سلام أو الأصمعي ومن علي شاكلتهم .
أهمل طه حسين مسألة الفن إهمالاً تاماً واقتصرت قيمة الشعر عنده سلباً أو إيجاباً علي مدي صدقه في تمثيل حياة الجاهلين وعصرهم يقول طه حسين ” إن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ، ليست من الجاهلية في شئ ، وإنما هي منتحلة مختلفة بعد ظهور الإسلام ، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهوائهم أكثر مما تمثل حياة الجاهلين ، وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً ، لا يمثل شيئاً ولا يدل علي شئ ، لا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي (21) ، يلح طه حسين في هذا الاقتباس ، كما يلح في مواضع أخري كثيرة علي مسألة تمثيل الشعرللعصر، يقول في موضع آخر تحت عنوان ” مرأة الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في الشعر الجاهلي ” ، يقول ” فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية فلست أسلك إليها طريق امرئ القيس والنابغة والأعشي وزهير لأني لا أثق مما ينسب إليهم وإنما أسلك إليها طريقاًَ أخري ، وأدرسها في نص لا سبيل إلي الشك في صحته وأدرسها في القرآن فالقرآن اصدق مرآة للعصر الجاهلي (22) ، سوف يكثر طه حسين بعد ذلك من تداول كلمة تمثيل ، فالشعر الجاهلي عنده لا قيمة له إلا بوصفه وثيقة أو مرآة تنعكس عليها صورة العصر الجاهلي ليس لفن الشعرأهمية عند طه حسين في كتابه ” في الشعر الجاهلي ” .
ولا يختلف منطق طه حسين العام في هذا كله عن منطق اسلافه من اصحاب التوجه الكتابي الوليد ، أعني الرواة المتشددين غير أن هؤلاء الرواة كانوا ما زالوا يرون في هذا التراث المثل الأعلي للشعر علي حين أن طه حسين لم ير في هذه النصوص قيمة فنية من اي نوع ، ولقد يبدو أن الخلاف بين طه حسين واسلافه غير جوهري ، لأنه ناتج عن أن القدماء صدقوا نسبة قدر لا بأس به من هذا الشعر إلي العصر الجاهلي ، بينما أنكر طه حسين هذه النسبة إنكاراَ يكاد يكون تاماً ، إنه خلاف في الدرجة ، فلو أن القدماء أنكروا صحة الشعر لربما أنكروا قيمته ، ولو أن طه حسين صدق بعض الشعر فلربما أثبت له قيمة فنية ما .
لكن القدماء .. كما ذكرنا ، كانوا ما يزالون يقدرون الوعي الشفاهي بعض التقدير ظهر هذا في كلامهم الطيب أحياناً عن الرواة الوضاعين رغم إدانتهم لهم ، وقد اختفي هذا الموقف المتسامح إلي حد ما اختفاء تاماً عند طه حسين الذي تبني في كلامه خطاباً أخلاقياً شديداً التزمت ( بل أكاد اقول ضيق الأفق ) حين راح يذكر الرواة بعبارات مثل ” ولعل أهم هذه المثرات التي عبثت بالأدب العربي العربي وجعلت حظه من الهزل عظيماً : مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث وانصرافهم عن اصول الدين وقواعد الأخلاق إلي ما يأباه الدين وتنكره الاخلاق (23) ، ثم يقول عن خلف الأحمر وحماد الرواية ” كان كلا الرجلين مسرفاً علي نفسه ليس له حظ من دين ولا خلق ولا احتشام ولا وقار ، كان كلا الرجلين سكيراً فاسقاً مستهتراً بالخمر والفسق ” (24) ، ثم مضي طه حسين فيما يشبه سباً علنياً .
ولا يعرف المرء لماذا سارع طه حسين إلي تصديق هذه القصص التي حكيت عن هؤلاء الرواة ؟ لماذا نسي فجأة “ديكارت” ومنهج الشك فسلم تسليماً غريباً بتلك الروايات عن خلف وحماد (25) ، رغم ما نصح به قراءة في بداية كتابه بألا يسلموا بالقديم لأنه قديم وبأنه ينبغي علينا أن تقبل علي موضوع بحثنا بعقل ينسي كل ما قبل في الموضوع ، ونبدأ النظر فيه دون تأثر بأي مقولات سابقة ؟
لقد كان المتوقع من طه حسين أن يتشكك لأنه هو نفسه لاحظ ، وتلك عبارته ” أن رواة لم تفسد مروءتهم ولم يعرفوا بفسق ولا مجون ولا شعوبية قد كذبوا أيضاً وانتحلوا ” (26) ، وقد مثل طه حسين لهم بالأصمعي وأبي عمرو واللاحقي .
لم تكن المسألة إذن مسألة فساد أو محون بقدر ما كانت في الغالب ، مسألة صراع بين وعين : وعي كتابي يري في الشعر وثيقة ، ووعي شفاهي يري الشعر الجاهلي جنساً أدبياً وفناً حباً أو ينبغي أن يكون حياً .
حقيقة الأمر أن الأصمعي وأبا عمرو واللاحقي لم ينتحلوا ولم يكذبوا مع سبق الإصرار والترصد ، كما ظن طه حسين ، وكما ظن غيره ، وإنما أنساقوا وراء بقايا من الدوافع الشفاهية التي كانت ما تزال مترسبة في طبقة عميقة من وعيهم رغم ما سعوا إليه من كبت لهذا الوعي أو ” اللاوعي ” الشفاهي كبتا ، لأنهم علي مستوي الوعي آمنوا كما آمن طه حسين بأن الشعر الجاهلي ينبغي أن يكون وثيقة صحيحة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
علي أن القدماء احتفلوا بما ظنوه شعراً جاهلياً صحيحاً ، ولم يملوا شرحه والتعليق عليه والتعليق به ، يصور مختلفة وحسب مناهج متنوعة علي حين أن طه حسين أزور عن هذا الشعر اوزراراً ، لأنه عنده منتحل كله أو معظمه أما حين حاول أن ينظر في هذا الشعر نظرة تحليلية كي يثبت انتحاله ، فإنه لم يعول علي منهج واضح في التحليل ، بل لجأ إلي أحكام جزافية مسرفة في تقليدها وانطباعيتها.
ولا يجوز رغم هذا كله إغفال الإشارة إلي أن إنكار طه حسين للشعر الجاهلي في مجمله ، كان تعبيراً عن الحد الأقصي الذي يمكن أن يصل إليه الوعي الكتابي حيث يبحث في مادة شفاهية تناقض هذا الوعي إلي اللوجة القصوي ، أي أن صنيع طه حسين كان ضرورياً بل حتمياً ، كي تبدأ مرحلة جديدة من النظر في التراث الجاهلي الشفاهي نظرة جديدة تعتد بالطبيعة الخاصة لهذا التراث بعبارة أخري فإنه إن جاز أن نخطي طه حسين في نظريته ، فإن خطأه هذا من نوع الأخطاء النبيلة الحافزة علي إعادة النظر واستشراف آفاق جديدة للبحث .
* الشفاهية والكتابية والتأويل :
يبقي بعد ذلك أن نؤكد أنه لا يصح الربط بشكل مطلق بين الوعي الكتابي وتجميد النصوص من جهة ، والوعي الشفاهي وتحرير النص من ريقة الملابسات التاريخية من جهة أخري ، إنالوعي الكتابي يستعيض عند فهم واحد ، وهو ما يمد النص بحياة لا تنتهي بل لعل عكوف الوعي الكتابي التحليلي علي تآمل النص المكتوب وتأويله بطرق مختلفة من قارئ إلي آخر ومن جيل إلي جيل يحيي النص بقدر أكبر مما يحييه الوعي الشفاهي أحياناً .
كما ينبغي أن نلاحظ أيضاً أن التفرقة بين طبيعة النص الشعري ذي الأصول الشفاهية والنص الشعري الكتابي هي نفسها نظرة تحليلية ، أي كتابية ، إن الدفاع عن الماضي الشفاهي في هذه الدراسة ليس إلا رد فعل لما آل إليه الأمر أحياناً من تسفيه لهذا الماضي وسلبه من أي قيمة نتيجة للقياس الخاطئ علي النص المكتوب إن هذا كله دفاع كتابي ، أي تحليلي عن خطاب شفاهي .
ورغم أن استخدام ثنائية الكتابية والشفاهية أمر حديث نسبياً ، فإن الدفاع عن الشعر الجاهلي من منطلقات شفاهية يعود إلي أوائل الستينيات من هذا القرن حين بدأت كتابات مصطفي ناصف ولطفي عبدالبديع في الظهور .
لم يستخدم هذان العالمان مصطلحي الشفاهية والكتابية ، لكن رفضهما الحاسم للنظر في الادب عموماً والشعر الجاهلي خصوصاً في ضر ” ، فكرة أن الأدب انعكاس للواقع أو انعكاس لظروف الشاعر التاريخية يمثل إدراكاً منهما للطبيعة الشفاهية للشعر العربي القديم يقول ، لطفي عبدالبديع عن الأدب العربي إنه ” أغرقه طوفان التاريخ والجغرافية في متاهات من السهول والجبالوالعصور والأجناس والتوي به علم النفس إلي غير غايته ” (27) في إشارة واضحة إلي ما نادي به طه حسين وتبعه فيه الناس من ضرورة التعويل علي البيئة والعصر والجنس في دراسة الأدب أما مصطفي ناصف فقد أفاض في الكلام عن الطبيعة الطقوسية للشعر الجاهلي بما فيه من تكرار علي مستوي الموضوعات وعلي مستوي التعبيرات وهو تكرار دعا بعض أصحاب النظر الكتابي إلي نبذ هذا الشعر والتهويض من شأنه وتعد مقدمة مصطفي ناصف لكتاب قراءة ثانية لشعرنا القديم (28) ، بما حوته من ملاحظات حول سوء فهم الشعر العربي القديم وما يتضمنه من قياس لهذا الشعر علي أفكار نقدية أجنبية عنه ، تُعد هذه المقدمة كلها نقداً للخلط بين الخطاب الشفاهي والخطاب الكتابي رغم أن مصطفي ناصف لم يستخدم مصطلح الشفاهية كما لم يشر إلي النظرية الشفاهية .
وقد تعرضت ” سوزان ستيتكيفيتش ” وحسن البنا عز الدين في مقدمتها لكتاب ” أدب السياسة وسياسة الأدب ” (29) ، لألوان الخلط التي وقع فيها بعض المستشرقين الذين نظروا للشعر الجاهلي نظرة دونية بسبب جهلهم الفادح لطبيعة الشعر الشفاهي ، وهو جهل يشوبه التعصب أحياناً ، كما قام الملفان بعرض نقدي منظم للدراسات الأخري التي استوعبت الطبيعة الشفاهية للشعر العربي القديم ، كما أن دراسات “سوزان ستيتكيفيتش ” المترجمة في هذا الكتاب وتقوم في معظمها وأدائه الطقوسي الشفاهي ، وتثبت الدراسة ضمنياً ، أن الشعر العربي ظل ذا طبيعة شفاهية حتي بعد أن تحول الشعراء إلي قراء كاتبين .
والحق أن الشعر العربي ظل علي مدي القرون المتعاقبة ذا طبيعة شفاهية واضحة (30) ولعل التجديد الذي نقل هذا الشعر من شفاهيته إلي مرحلة كتابية واضحة يتمثل في حركة الشعر الحر وما تلاها من حركات ومدارس وما تزال تجابه في كثير من الحالات بالرفض والتحفظ لأن معظم ما تأتي به هذه الحركات من تجديدات كتابية تناقص الوعي الشعري الشفاهي ، غير أن الاسترسال في هذا الموضوع يخرجنا عن نطاق موضوعنا ، أن دراسة تطور الشعر العربي ف يضوء الأفكار النقدية المتعلقة بالفرق بين خصائص الأدب المكتوب والادب الشفاهي تستحق دراسة مستقلة .
* خلاصـــة :
حين نتحدث عن الشعر الجاهلي يجدر بنا أن نفرق بين المصداقية الفنية والمصداقية التوثيقية لهذا التراث ذي الأصول الشفاهية ، وإذا كان النقد الأدبي لم يعد يعول كثيراً علي فكرة أن الأدب إنعكاس لأمور خارجية سواء تعلقت هذه الأمور بشخص المبدع أو بظروف تاريخية ما ، فإن الادب الشفاهي يوجب علينا أن نعتد بهذا النظر مرتين مرة لأنه أدب يخضع في جانب منه – عند تحليله – للنظريات النقدية العامة ومرة ثانية لأن طبيعته الخاصة تنأي به عن أن يكون إنعكاساً أميناً للتاريخ ، إن الأدب ذا الأصول الشافهية يجمع أحياناً بين أمكنة وأزمنة يستحيل أن تجتمع لو قسناه علي ما يسمي حقئاق التاريخ ، حين ينسب الرواة شعراً عربياً إلي الأمم البائدة التي لم تعرف العربية فعلينا ألا نهمل هذا الشعر بدعوي أنه مخترع ، بل علينا أن ننظر فيه لعلنا نكتشف كيف تصور العقل الجمعي هذا الماضي البعيد شعرياً وعلينا ألا نزور عنه بدعوي عدم مصداقيته من حيث هو وثيقة ” تعكس ” الواقع أن الأدب الشفاهي لا يعكس التفاصيل المادية لما يسمي الواقع بقدر ما يعكس “وعي” الجماعة التي أنشأته وتلقته هذا الأدب هو بالأحري “تأويل” شعري للواقع والتاريخ .
* الهـوامـش :
– هذه الدراسة تطوير لورقة بحث غير منشورة ، كنت قد قدمتها في ندوة عقدها المجلس الاعلي للثقافة في مصر ، بمناسبة مرور سبعين عاماً علي صدور كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي ، وقد كان للملاحظات القيمة التي تلقيتها علي بعض ما قدمته في هذه الندوة أثر كبير في الصياغة الحالة للدراسة وأخص بالذكر ملاحظات محمود أمين العالم وجابر عصفور وابراهيم عبدالرحمن وألفت الروبي ومني طلبة لأن ملاحظاتهم تلك تدخلت بشكل مباشر ، ويطرق مختلفة فيما أقدمه الآن في هذه الدراسة .
(1) انظر في ثنائية ” الشفاهية ” و ” الكتابية ” وما تتضمنه من ثنائية ثقافية : والترج أونج ، الشفاهية والكتابية ، ترجمة حسن البنا عز الدين ، سلسلة عالم المعرفة ، ع 182 الكويت ، فبراير ، 1994م .
(2) استخدام مصطلح الشفاهية بدلاً من مصطلح أمية في الكلام عن العرب قبل الإسلام يعود إلي الإيحاءات السلبية لكلمة أمية في خطابنا المعاصر ، مما يجعل المقارنة بين القارئ الكاتب من جهة والأمي من جهة أخري ، مقارنة بين الأعلي والأدني ، وهو مفهوم وسعي أونج في دراسته إلي تقويضة ، وأولي بدارسي الثقافة العربية الإسلامية أن يعيدوا إلي الثقافة الشفاهية احترامها فقد كان الرسول أمياً وكان العرب الذين تنزل القرآن الكريم بلسانهم أميين ، بل أن النص القرآني الكريم ، رغم كتابته يحمل آثار التعبير الشفاهي متكررة علي مستويات مختلفة وإذا كان الرسول حض الناس علي تعلم القراءة والكتابة وكذلك فعل القرآن الكريم مما أدي إلي تحولات كتابية مهمة في تاريخ الثقافة ، فإن ذلك لا يعني النظر إلي الماضي الشفاهي نظرة دونية كما حدث بقصد أحياناً ، ويغير قصد في معظم الأحيان.
(3) أقصد بالراوي صاحب التوجه الكتابي ذلك الراوي الذي يهتم بتثبيت المروي وتجميده علي وضع واحد حتي وإن لم يكن هذا الراوي قارئاً كاتباً أما صاحب التوجه الشفاهي فإنه ذلك الذي لا يعبأ بثبات المروي علي صورة واحدة حتي وإن كان هذا الراوي قارئاً وكاتباً ومن المعروف علي كل حال أن أبناء الجيل الأول من رواة الشعر اعتدوا بالحفظ والسماع ، ولم يعتدوا بالقراءة من صحف مدونة ، وقد روي بعض القدماء أن ذا الرمة كان يملي شعره علي من يكتبه له ، وأنه حرص علي إخفاء معرفته بالقراءة والكتابة لأنها كانت عندهم عيباً ، قال عيسي بن عمرات : قال لي ذو الرمة : أرفع هذا الحرف ، فقلت له : أتكتب ؟ فقال بيده علي فيه ، أي : اكتم علي : فإنه عندنا عيب : ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، تحقيق أحمد محمد شاكر ، دار المعارف ، القاهرة ، 1967 ، 1 / 525 .
(4) انظر : شوقي ضيف ، العصر الجاهلي ، دار المعارف ، القاهرة ، ط 7 ، ص 148 – 149 .
(5) انظر : ص 130- 132 .
(6) يلاحظ أن الشعر الجاهلي قبل تدوينه كان في مجمله شفاهياً خالصاً ( حتي وإن هدفنا ما زعمه قلة من القدماء والمحدثين من أن بعض الشعراء كانوا يكتبون شعرهم ) أما بعد تدوينه فقد أصبح وضعه مختلفاً ، إن ما بين أيدينا الآن من شعر جاهلي هو شعر مكتوب ذو أصول شفاهية ، إنه في منزلة متوسطة بين الشفاهي والمكتوب ، لقد توقي الاداء الشفاهي للشعر الجاهلي بشكل متدرج بعد تحول الثقافة إلي الكتابة ، أي توقف الإيصال عن طريق الإرسال الشفاهي والتلقي السمعي ، وحل محله موقف إيصالي قائم علي التوصيل الكتابي والتلقي عن طريق القراءة ، ولئن كان ما بين أيدينا من شعرجاهلي مدون تتعدد فيه الروايات فإنه مما لا شك فيه أن مقتضيات التدوين أدت إلي تدوين بعض الروايات دون بعضها الىخر وتحيل القارئ إلي دراستين مهمتين عنيتا بكثير من التفاصيل المتعلقة بشفاهية الشعر الجاهلي هما :
– MONROE JAMES , ORAL COMPOSITION IN PRE-ISLAMIC POETRY ” JOURNAL OF ARABI LITERATURE , VOL. OP. 1 – 53 .
– ZWETTLER , MICHAEL , THE ORAL TRADITION OF CLASSIAL ARABI POETRY . ITS CHARACTER AND IMPLIATIONS COLOMBUS OHIO STATE UNIVERSITY PRESS,1978
(7) انظر : شرح أشعار الهذليين ، تحقيق عبدالستار أحمد فرج ، مكتبة دار العروبة ، القاهرة 1965 1/21 .
(8) نقلاً عن طه حسين في كتابه ” في الشعر الجاهلي ” ( والاحالة إلي كتاب طه حسين رجعت فيها إلي مجلة القاهرة التي أعادت نشر الكتاب في عدد فبراير 1996 ) طه حسين ، في الشعر الجاهلي – مجلة القاهرة – فبراير 1996 ص 59 .
(9) نقلاً عن : فضل بن عمار العماري ، حماد الراوية بين الوهم والحقيقة ، مكتبة التسوية ، الرياض ، 1996 ، ص 129 .
(10) أبو الفرج الأصفهاني ، الاإاني ، القاهرة ، 1976 ، 18 /11 .
(11) ذكر أنك عبدالقدوس أبوصالح في مقدمة تحقيقه لديوان ذي الرمة : ديوان ذي الرمة ، تحقيق عبدالقدوس أبوصالح ، دمشق ، مطبعة طريبة 1972 م .
(12) نقل أبو الفرج الأصفهاني عن حماد الراوية قوله عن ذي الرمة ” ما أخر القوم ذكره إلا لحداثة سنة ، وأنهم حسدوه ” الاغاني ، 18 / 12 .
(13) ابن رشيق ، العمدة الخانجي ، القاهرة ، ط1 ، 1907 ، 1 / 194 .
(14) نقلاً عن محقق الديوان في مقدمته التي سبقت الإشارة إليها .
(15) نفسه ص 36 .
(16) نفسه ص 35 .
(17) نفسه ص 37 .
(18) نقلاً عن شوقي ضيف ، العصر الجاهلي ص 154 .
(19) لا يختلف موقف الدارسين للشعر الجاهلي في العصر الحديث كثيراً عن موقف أهل الكوفة ، وقد لاحظ محمود الربيعي في ندوة المجلس الأعلي للثقافة التي أشرت إليها سابقاً أن الباحثين استمروا في دراسة الشعر الجاهلي في صحة الشعر الجاهلي بعد صدور كتاب طه حسين ( العهدة علي فيما أنسبه إلي محمود الربيعي ) وكأن دراسي الشعر الجاهلي ، عرباً ومستشرقين ، قد وقفوا من طه حسين موقف الكوفيين من خلف الأحمر .
(20) لطفي عبدالبديع ، التركيب اللغوي للأدب ، مكتبة النهضة ، القاهرة ، 1970 ، ص 112 .
(21) في الشعر الجاهلي ، ص 24 .
(22) نفسه ص 26 .
(23) نفسه ، ص 58 .
(24) نفسه ، ص 59 .
(25) ألف فضل بن عمار العماري كتابين شك فيهما في كثير من الاخبار التي تداولها القدماء والمحدثون عن حماد وخلف وقد أشرنا فيما سبق إلي كتابه عن حماد ، وانظر له : خلف الاحمر الشاعر العالم ، مكتبة التوبة ، الرياض ، 1998 م .
(26) في الشعر الجاهلي ص 58 .
(27) لطفي عبدالبديع التركيب اللغوي للأدب ص ج .
(28) أنظر : مصطفي ناصف ، قراءة ثانية لشعرنا القديم ، ليبيا / د . ت مقدمة الكتاب .,
(29) أدب السياسة وسياسة الأدب ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 1998 م ، والكتاب عبارة عن ترجمة لدراسات قامت بها سوزان ستيكيفيتش يسبقها مقدمة كتبها حسن البنا عز الدين مع المؤلفة .
(30) ويري “أونج” أن الثقافة العربية ، وثقافات أخري من البحر الأبيض المتوسط ما تزال شفاهية لم تستوعب الكتابية بشكل كامل ، ثم يضيف ” وقد أفاد جبران خليل جبران في صنع شهرته من خلال تقديمه المأثورات الشفاهية القائمة علي الصيغ ، مطبوعة للأمريكان الكتابين الذين كانوا يرون في تلك العبارات الشبيهة بالأمثال جدة وغرابة ، في حين أنها طبقاً لما ذكره أحد أصدقائي اللبنانيين شئ عادي في نظر أهل بيروت ” والتر أونج الشفافية والكتابية ،ص 83 .
يناير 25 2010
الخطاب القومي في الشعر المعاصر…………. د. صلاح فضل
الخطاب القومي في الشعر المعاصر
د. صلاح فضل
قد يهدف تحليل الخطاب الشعري إلي الكشف عن إستراتيجية النص في توظيفه لمختلف الإشارات اللغوية لتشكيل منظومة تقنية عالية الكفاءة في توصيل البيانات الجمالية علي وجه التحديد من هنا فهو يبتعد عن التحليل المضموني الذي كان سائداً في النقد القديم والذي كان يرتكز علي النقاط الموضوع ، وإلقاء الضوء علي جوانبه المختلفة بغض النظر عن كيفية تقديمها المتعينة في النص .
أما تحليل الخطاب فهو ينطلق من الخواص النوعية له ويأخذ في اعتباره ارتباط النجاعة الوظيفية للنوع بمستوي إنجازه الخاص ، فتصبح درجة الشعرية هي الحاسمة في قياس كفاءة النص في حالتنا في تحقيق غايته التواصيلة ولا يتحول الموضوع مهما كانت نبالته إلي مجرد ذريعة تبرر قولاً متهافتاً في مكوناته ضعيفاً في فعاليته ، بل تفضح المسافة الفاصلة بين القصد والمنجز ما يقع من قصور في الأداء أو عجز عن الوفاء بمتطلبات متحركة تتسم بطابعها الديناميكي الخلاق لأنها تتجاوز دائماً أفق توقع المتلقي وتدهشه بكشوفها المتميزة .
وإذا كانت اللغة – وهي مادة الخطاب عموماً – أقوي مظهر للملكية الجماعية الشائعة ، كما كان يقول جاكويسون ، فإنها هي التي تحفظ كيان الأمة – وتحقق قوميتها وتكاد ترسم حدودها إنها قد تصبح الوطن الذي نسكنه ، والروح الجماعي الذي نحيا به ، لكننا سرعان ما نجني عليه بالاستهلاك والإرهاق والتجميد والتنميط سرعان ما نحيل اللغة إلي قوالب محفوظة منصلبة وعبارات مكررة لا ينقذها من أيدينا ويرد لها عافيتها وشبابها ونضارتها البكر سوي الشعراء ، هم الذين يعيدون تخليقها وشحنها بالطاقة المتجددة ، هم الذين ينفثون فيها وهج الحج ويحققون بها تاريخ الوجود الإنساني الخلاق .
ولدق كان الشعر العربي في مختلف عصوره المرآة الصافية والمحدبة لخطاب الجماعة في السلم والحرب ، عندما كان يقوم بوظائف عديدة الإعلامية التواصية والفكرية التخيلية والوجدانية الحميمة ، فشيد الشعراء صرح الديوان العربي بأكمله ، وعمروا أروقته وصنعوا قيمه ومثلهوذاكرته ، وصبوا فيه خلاصة قدراتهم الإبداعية في التشكيل واللحن والتصوير والنحت والرقص والنقش ، كان الشعر اختزالاً مكثفاً للفن العربي وتعويضاً مسعفاً عنه ، ثم لم يلبث في المرحلة الحديثة أن تنازل تدريجياً عن إعلاميته وخطابته ، محاولاً أن يخلص إلي جوهر الفن في أصل وجوده وكينونته .
ولعل أهم ما يترتب علي هذا الأنحسار النوعي في وظائف الشعر أن تتحرراللغة نسبياً من طغيان الوظيفة التخيلية عليها في مجالات الحياة العملية ، وتتعدل منظومات القيم كي توازن بين متطلبات الواقع والخيال ، فقد كنا نفرح ونبتهج عندما يحدثونا عن عبقرية العربية باعتبارها لغة شاعرة ، ولا ندرك ما في ذلك من خطورة عل يوعينا بالحياة ومحددات الواقع ، حتي يأتي علينا حين من الزمان يرتكب فيه الإعلام – وريث الشعر – خطيئة التلبيس بين الواقع والخيال فيسمي الهزيمة نصراً ، ويتوهم معارك مضحكة نغير فيها أسماء الوقائع إلي أضدادها ، ونصدق أكاذبينا ونطلب من العالم أن يحاربنا في ذلك فتكون هذه جناية الخلط بين أنواع الخطاب ووظائفه المختلفة ، نفرح بالطابع الشعري الغالب علي لغتنا فتصبح عقليتنا شعرية أسطورية ، تتمسك بسحر الكلمات وتستعيض بها عن العمل والفعل الحقيقي .
إن لغة الشعر- كما تثبت الدراسات التداولية الحديثة – هي التي تعتمد علي أفعال الكلام ، وهي التي تستقطب الطاقة الإنشائية للخيال البشري لكنها تفعل ذلك عن عقد ضمني بين المبدع والمتلقي مثلما يحدث عند شباك المسرح ، حينما أدفع ثمناُ بطاقة الدخول ولسان حالي يقول ” أدفع لكم ثمن استمتاعي الفني بما تقدمونه أمامي من عمل تمثيلي ، تعيدون فيه تجسيد الوقائع بشكل مخالف لما هي عليه في الحياة كي يتضمن دلالة ولذة جمالية ” .
وهكذا فإن وظيفة الشعر اليوم لا يمكن أن تنحصر في انكفاء اللغة علي ذاتها أو تأملها لمفاتنها واحتفائها بألاعيبها التقنية الجميلة ، لا تزال رؤية العالم هي مناط أهمية الشعر وخلاصة وظائفه الجمالية والحيوية بشروطها المعرفية والتخيلية الخاصة .
ولقد أسفرت بحوث التداوليين المبنية علي نظرية أفعال الكلام عن أن هناك جملة مقدرة تسبق كل قول شعري لتصنع فرضيته الأساسية يوجزها “ليفين” في إحدي عبارتين طبقاً لمدار كل قصيدة ودرجة سعتها ، وإستراتيجية خطابها :
– أتخيل أني ..
– أدعوك أن تري العالم باعتبار أنه
هذه الجملة هي التي تضمن التماسك الداخلي والانسجام الجمالي لكل ما يحفل به النص الشعري من صور تناقض الواقع الملموس وتتجاوز منطق اللغة المألوف وتستثير أعمق كوامن الذاكرة الإنسانية يصبح الشعر هكذا صورة يرسمها الفنان لنفسه وللعالم من حوله ، خطاباً يجسد فيه ذاته كما يراها وكما يجب أن نراها معه إنه خطاب الوعي وما تحته صورة الواقع كما نتخيله ونتجاوزه الامر الذي يجعلها تحفل بالتوتر الداخلي المبدع بين القدرة والإرادة والمفارقة الواضحة بين الداخل والخارج ، إنها تنشد المستحيل وهي تزعم أنها ترصد ما يثوي أمامنا في رحم الوجود .
* مرايا الخطاب القومي :
ولقد تأملت في دراسات سابقة بعض مرايا الخطاب القومي في الشعر العربي المعاصر بشكل جزئي عند السباب والبياتي وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وبتفصيل أدق عند أحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وأريد أن أسلط الضوء التحليلي علي عدد آخر من الشعراء . يجمعهم أنهم أبناء هذا النصف الثاني من القرن العشرين ، اكتووا بناره اللاهية في المحرقة ، الفلسطينية وانتقلوا كلهم من البؤرة الساخنة إلي الحافة المجاورة لها مباشرة ، حيث عاشوا في الأردن وكتبوا أشعرهم علي ضفته الشرقية الدافئة ، والعلاقة بين الوعي القومي بأشكاله الأيديولوجية والتخيلية والجرح الفلسطيني الغائر علاقة سببية فالاحتكاك بالآخر في وجهه الاستيطاني العنصري القبيح واكتشاف مقومات التماسك للأمة وجهان لموقف واحد تعجل فيه المحنة والصراع أسباب النضج – وربما الاحتراق – لعوامل التماسك القومي في الواقع وما فوقه ، علي أني – من الوجهة الإجراية – أريد توضيح أمرين :
أولهما : إن مفهوم الخطاب القومي كما يتجلي في الشعر لا ينحصر في الموضوع السياسي المباشر ، بل يرتبط برؤية العالم بما يشغله الهم القومي في مساحتها حضوراً وغياباً وبمدي ما تنجح فيه تقنيات التعبير الشعري وغستراتيجيات الخطاب في احتواء مستويات الوعي العربي وتفعيل الإحاطة بها عبر التواصل الجماعي النوعي حتي يصبح الخطاب الشعري قومياً بمقدار ما يشف عن روح الجماعة ويبلور من ضميرها الإنساني مستمداً نسقه من موروثها الحضاري ومنظورها المستقبلي معاً .
والثاني : أن النماذج التي أتوقف عندها ليست حصرية بمعني أن هناك عدداً آخر من شعراء هذه البؤؤرة الساخنة تصلح أعمالهم كي تقدم لنا تجليات باهرة لهذا الخطاب ذاته ، مثل سميح القاسم ، ومحمد القيسي وأحمد دحبور وغيرهم ولكن فروة الشعر وخصوبته تحول دون أستيعاب كل التيارات والتجليات الفائقة وكل عملية اختيار تتضمن انتقاء وترسخاً وتتحمل مسئولية ما تفعل دون أن يكون ذلك حكم قيمة بل هو ضرورة واقع لا مفر من تصغيره حتي تتسع له صفحات يسيرة مفتوحة علي التنامي والاستمرار فيما بعد .. وإذا كانت عوالم الشعراء تتسم بمفردها كلما صنعت خطابها المتميز ، بحيث لا يمثل أحدها غيره فإن تنوع التجارب الشعرية مع وحدة الإستراتيجية القومية هو الذي يكشف لنا عن مناورات الشعر ويبرز أساليبه ويلفتنا إلي ثراء تقنياته وتعدد نبراته الأمر الذي يضعنا في قلب الشعرية العربية وهي تصنع معجزاتها المتجددة وتمارس غوايتها لخطابنا المعاصر .
وربما كانت القرابة الأسلوبية لتيارات الشعر السابقة علي الفترة الراهنة هي التي تجعلني أوثر البداية بالشاعر الراحل عبدالرحيم عمر حيث يمكن أن نعتبره نموذجاً للصوت الغنائي الرائق ، الفائق في عذوبته وهو يقدم بخطوط منتظمة شفيفة صورة وعيه ووعي أبناء جيله في هذه العقود الأربعة الماضية بموقفهم القومي ورؤيتهم لموقعهم التاريخي ، عبر تصوره لنفسه ودعوته للآخرين اي من خلال تخيله لذاته وللعالم من حوله :
سر السحر الشعري لديه هو البساطة العفوية الأسرة ، افتح ديوانه مثلاً علي قصيدة بعنوان ” عيناك حلوتان ” لنجده يقدم فيها أمثولة كونية للمأساة القومية ، بعرض فيها مجازياً قصة الطوفان الصهيوني الذي غرق فيه أبناء هذا الجيل .
عيناك حلوتنا
وكالربيع فيهما تفاؤل حبيب
وخضرة ترعش بالحنان
ودعوة وادعة للحب والطفولة
وفيهما طفاوة اسيانة عليلة
رحيبة كأنها المدي
عميقة كأنها الزمان
وانت كل عالمي في هذه السفينة
فالآخرون واجمون ” استسلموا للموت ، للطوفان .
وكل زوج للفرار صورتان
خائفئتان ترقبان هجمة الري
وانت يا رفيقتي تغالبين الخوف
تزرعين حولك الأمان
عجل بنا يا ايها الربان
عجل بنا ، ها قمة الجبل يا أيها الربان
الخوف والمنون توأمان
هذا النفس الوادع الهادئ النضير يمزج في نبرة واحدة بين قرار اليقين الواثق المفعم بالأمل مع رعشة الاجفال الفزع من المستقبل يرواح بين تحنان من العشق وهول المأساة في اتساق عجيب يتسع ليشمل حالات متناقضة في أغوار الإنسان واقع وجوده ، ربما لم تكن خطوب الحياة القومية قد حطمت بعد هذا التفاؤل الرومانسي الوديع وهو يقترن بصحوة الحب وزهوة التطلع للغد ، لكن ما يعنينا من الوجهة التعبيرية في هذا الشعر ويحدد ملامحه كخطاب نوعي هو بساطة نسيجه وعذوبته وخلوه من تراكمات المجاز ومشاحنات الرمز ، يكفيه هذا الإطار الأمثولي الواضح في قصة الطوفان التي يسهل تلقيها وفهمها علي كل المستويات .
علي أن هذا التيار الموسيقي الذي يسري في خلايا التراكيب ويشكل إيقاعها اللافت ، وأنماط التكرار البارزة في المطلع والختام ” عيناك حلوتان ” يجعل للدلالة الشعرية الموازية غيقاعاً حلواً سرعان ما يتردد في وجدان المتلقي دون عناء . وكما يعتمد الغناء الشجي المؤثر علي الصوت المفرد والنغم المكرور والدلالة الواضحة ذات الأثر القومي علي النفس فإن هذا النموذج يمثل طريقة الإنجاز الشعري للخطاب وهو يتشكل صانعاً ذائقة القراء ومستجيباً في الآن ذاته لأفق انتظارهم ومشبعاً لحاجاتهم الجمالية .
ولقد ظل هذا الولع بالغناء والافتنان بالموسيقي ، والإنشاد للحب يمثل البؤرة التي ينصه فيها الحس القومي برؤية الذات الشعرية حيث يحافظ الشاعر علي مسافة كافية من موضوعه مؤثراً الاقتراب التصويري منه .. وهذه طبيعة الغناء ، عندما يشدو للمحبوب وهو يقصد الوطن ويهذي بعشق الجمال وهو ينفث مواجد التاريخ .
في هذه المرحلة كان عبدالرحيم عمر يكتب شعره الذي يوازي ويضاهي كبار شعراء جيله في مختلف الأقطار العربية وإن كانت شواغلهم ومصائرهم قد اختلفت بعد ذلك نقرأ له مثلاً قصيدة أخري في ديوانه الأول ” أغنيات للصمت ” بعنوان ” الرحيل ” لنفاجأ بهذا الخطاب الطريف :
صديقتي أميرتي البعيدة
من بلدتي الجديدة
ومن وراء غربتي الشريدة
أطل للشمال في ابتهال
لعلني رغم المدي البعيد
أراك يا حمامتي الأسيرة
تحدقين تنظرين في قلق
وتسألين ف يمشارف الأفق .. إلخ
من الواضح أن خطاب الصديقة الذي كان قد كتبه صلاح عبدالصبور كان يمثل لفتة حميمة في أوضاع اللغة الشعرية تنتقل بها من نجوي الذات الرومانسية إلي البوح المنطوق للحبيبة المثقفة العصرية بهموم النفس والوطن ، حينما أصبحت رفيقة الدرس في الجامعة أو النضال في صفوف الحزب ليس معني ذلك أننا نري ظلاً من المحاكاة في هذا الخطاب ، لكن معناه في تقديري أن كلا من الشاعرين كان قد عثر علي النبرة الملائمة لخطابه الغزلي القومي لكن ما سيحافظ عليه الشاعر الفلسطيني المولد ويختلف به عن رفيقه المصري هو إبقاؤه علي هذا النغم الغنائي المفرد دون مأساوية لاستنفذا أقصي ما يتضمنه من حلاوة تعبيرية غير ممرورة ، تصل به إلي درجة النشوة الغنائية والهذيان في مثل قوله :
كان كالطائر يهوي كل زهرة
فيغني لهواها
ويغني لشذاها
ويغني للندي والروض والنوار شعره
ثم يسرد قصته عندما رآه ” من بني الجن أمير عبقري فدعاه ياصبي ” قائلاً له:
أنا في كشف أمور القلب والغيب نبي ستراها يا بني
غضة كالزهرة الخجلي علي الغصن الطري
ستراها فتصبر يا بني ”
ولا يخفي علينا أن ضمير الأنثي يحتوي الأرض المغمة عن ناصرته الماثلة في بؤبؤ قلبه فالشاعر المغني يتحول إلي راء يتنبأ ، وهو معني بمعشوقته التي لا ينفصم فيها الخاص عن العام ولا الرمز عن المرموز إليه وهو يقدم صورة الذات دون أحباط أو مرارة وأهم ما يتمثل في هذا الخطاب الشعري العفوي هو حيويته الدافقة واتساقه المتناغم وقدرته التواصلية الفائقة عندما يغني في صوت واحد للوطن الجريح ولما في الحياة من تباريح مفعماً بالرغم من ذلك في مستقبل مشرق لا شك في بزوغه القريب .
إذا أنتقلنا بعد ذلك إلي النموذج الثاني ” عز الدين المناصرة ” وجدنا أنفسنا حيال شاعر عارم طويل النفس عميق الثقافة متجذر في قلب الأسطورة التاريخية ممتد إلي الأفق الإنساني الرحيب ، طموح إلي تشكيل شعرية متميزة يناوئ بها كبار مجادليه ، كما ألفينا أن الكثافة هي التي تلعب الدور الرئيسي في قصيدته حيث لا تعتمد علي تداعيات سهلة متوقعة ، بل تعباً بشحنتها الدلالية المتراكبة عبر عدد من التحولات والانتقالات تتعدد فيه الأصوات وتختلف المستويات المجازية ، وتلعب الرموز المصنعة دوراً بارزاً في إثراء الدلالة بسياقاتها المختلفة .
نجد شاعراً يجيد القصيدة المطولة والتوقيعة الموجزة يعرف كيف يسكب رحيق تجربته في كلا الإطارين دون تعسف أو إسرف ممتلكاً زمام الإيقاع وموظفاً لأبعاده في كل الحالين .
لكننا سرعان ما ندرك أن اللقب الذي انتزعه لنفسه حيث كتب علي غلاف أعماله الكاملة تحت اسمه ” شاعر المقاومة الفلسطينية ” كان باهظ الثمن فقد أضطره – فيما يبدو – إلي أن ينفي من شعره كل ما لا يتصل مباشرة بالتاريخ المناضل للمقاومة منذ انبثاقها إلي تفجيراتها وأحداثها وخطويها المعلقة ، ومعني هذا أن المسافة الفاصلة بين السياسة وقول الشاعر عنده ضيقة مأزومة حيث يجد القارئ نفسه محاصراً في مجري الأحداث متقلباً علي نيرانها وحيث يتقلص فضاء المتخيل الشعري خارج هذا الإطار بدرجة كبيرة تقتصر علي حالات العشق والضياع قبل احتدام لمأساة بما يجعل هذا العالم خالياً من المفاجأت الكبري والانحرافات البهيجة .
ومع ان الشاعر يمتلك حساً درامياً عالياً بالوجود وقدرة كبيرة علي صناعة الرموز ، إلا أن القالب النضالي الذي ينحصر فيه بجعل قصائده أناشيد دون بطولات عظمي يصدقها التاريخ ويجعل أشكال المفارقة مع الواقع تغلف الخطاب بدرجة خفيفة ربما غير مرئية من السخرية الشفيفة الفاصلة عن التماهي معه .
ولنتذوق طرفاً من هذا الشعر العارم في إحدي المجموعات الفائزة بعطاء الروح الشابة ” بأجس أبوعطوان يزرع أشجار العنب ” وهو رابع ديوان شعري للمناصرة نشر عام 1974 حيث يقول بضمير المتكلم المباشر :
أعشق بيت المقدس ، سور الحرم وباب الأسباط
وخصوصاً
حين تجئ الشمس علي الباب الغربي
وأعشق قافلة الأنباط
وكذلك علمني الوالد : أن الأمكنة حنين يبقي
فأحفظ يا ولدي
في قلبك بعضاً من ماء العين
تنفعك الذكري حين يحوم علي رأسك طير البين
في لحظة حزن من زمن الإحباط
نلاحظ أولاً أن البداية المباشرة في الظاهر سرعان ما تضمر بعداً تاريخياً في الزمن القديم ، إنه عشق ما قبل الميلاد حينما يتواصل مع قوافل الأنباط وهو عشق ممتد في أصلاب الأجيال يثق في توالده المتوارث من أب لابن لحفيد عشق السلالة لا الفرد .
ومع أنه مختوم بنبرة حزن لاهب تعلن وجعها من زمن الأحباط إلا أنه مزود بدمع المآقي وقد طمره القلب إنه يؤمئ للتاريخ القادم بتفاؤل مكتم انتظاراً لانتصار الحكمة والحب .
ولو طرحنا سؤالاً صريحاً عن الطابع المميز لهذا الخطاب القومي في شعر عز الدين المناصرة لوجدنا إجابة قريبة سريعة تجعله خطاب العصر بكل خطوبه وتقلباته ويتجلي ذلك فيما يلي :
(أ) استقطاب المنظور النضالي المباطن للتجربة التاريخية بكل تعاريجها الزمنية وظلالها المكانية مرحلة مرحلة ، ومنفي منفي ، من القاهرة إلي عمان وبيروت وصوفيا بودابست وبرلين دائماً بلباس الجندية .
(ب) التماهي مع حركات النضال العالمية ورموزها الأساسية مثلما هو منتظر من الشعر الأيديولوجي الملتزم والقرب في أحيان كثيرة من مستوياتهم في التعبير والترميز نركز مثلاً علي مقطع من قصيدة “الحب لونه أخضر ” التي تذكرنا برائعة
” لوركا ” : ” خضراء أريدك خضراء ” بينم اتوجه الحديث لناظم حكمت قائلة :
انكسر شوقاً لما يأتيني صوتك في
كل صباح مسحور
أسمع خطواتك فوق الدرج الحجري المكسور
طقطقة الكعب الأسود ، رجرجة الخاصرة أزيز النار
في قلبي يخضر العشب وتنهمر الأمطار
تتراقص فوق الشجر البري – ارتدي
نحوي ياهذي الجنية
من جاء بوهج الغاب إلي نافذتي السحرية
من جعل الشجر البري يعشش في
زمن البارات السرية
ياعم ناظم
أمس رأيتك في استامبول
تحمل مصباحك والشمس علي القيعان تجول .. إلخ
نحن هنا بإزاء تكوين شعري أيديولوجي مستقطب لكل لحظات الوجود في منظور الثورة العالمية كما كانت في خطاب الستينات في الشرق والغرب يتماهي مع الرجال الأبطال في الأناضول وأمريكا اللاتينية ، يرتكز علي اعتصار الألوان والرموز وينفث قدراً من التوحش في رؤيته للمرأة الوطن الثورة كما استقرت في مخيلة شعراء هذا الخطاب الأممي الجارف في زمنه الأقل الآن .
(ج) لكن شيئاً من اتحاد الألوان يحرم هذا الخطاب من التخالف الضروري من التناقض الذي تحفل به الحياة ، من التمييز بين طبيعة التجارب ، الأمر الذي تترتب عليه نزعة طاغية إلي الإحساس بالغين بالمقارنة مع الغير .
هنا نري كيف يجني التوافق مع موج التاريخ علي الشع يطغي علي إيقاعه يغرقه في أيديولوجيته يحرمه من الحياة المستقلة القادرة علي أن تستنفذ من براثن التآكل عناصره الجوهرية ، يجني علي إمكانات الشاعر في أن ينسلخ من الجماعة يتفرد عنهم بحيث يري ما لا يرون وينشق حتي علي الثوار أنفسهم إن رؤية الشاعر المعاصر تغيم كلما تماهي مع الآخرين وتصفو بمقدار ما يبتعد عنهم ويصدم منظورهم .
ولعل الأمر الجوهري الذي ينجم عن التوحد مع الجماعة هو تحول التجربة الشعرية إلي تنويعات محدودة علي نمط متسق معروف مسبقاً عندئذ لا تحفل بالتناقض الخلاق ، ولا تري الأمور من مواقع متفاوتة ولا تطوف بذاكرتها فكرة الصراع الدرامي المحتدم بين حقين في الوجود .
الأمر الذي يجعلها تتحول إلي نشيد ملحمي لا يعثر علي البطولات الكافية المنتصرة كي يتغني بها ، فيقوم بتضخيم وتكرار رموزه الصغيرة ويستعيض عن فقرها باستثارة رموز تاريخية عتيدة كي يسخر منها أو يتلبس بها ، ويتخذ عدداً من الأقنعة التعويضية التي تسعفه ف يغشباع اعتزازه بذاته المتوترة بين الفردية والجماعية كما يفعل عز الدين مثلاً في قناع امرئ القيس الذي يوظفه بمستويات مختلفة في النجاح والإخفاق ، لكن تظل القراءة اللاحقة لهذا الشعر دائماً مشوية بالذكري والتحنان ، تستعيد روائح زمنها وأمكنتها وروح عصرها الذي انخرطت علي مقاسه وأطره الأيديولوجية .
– فإذا ما انتقلنا إلي ثالث هؤلاء الشعراء الذين يجمعهم المكان ويتراوح بينهم الزمان قليلاً ، وهو إبراهيم نصر الله الأكثر شباباً وحداثة ، وجدنا أن أول ما يلفت النظر جذرياً في شعريته هو قدرته علي خلق وقائع شعرية جديدة علي صنع متخيل متميز تتجلي فيه الدعوة التداولية السابقة ! ” أتخيل أني وأعوكم لرؤية العالم باعتباره” حيث يكتسب الخطاب الشعري مذاقاً مخالفاً تماماً للإعلامي يفرد الخيال أجنحته فإذا بالحقائق التي يقولها تنتمي إلي طبيعة مغايرة لما تعودنا ريته .
أنه مثلاً يحقق للعاصمة التي ولد في مخيماتها “عمان” حضوراً شعرياً لم يسبق إليه ، وذلك عبر وعي ” ريما ” فتاة المخيم التي يتحدث عنها وباسمها في ديوانه الأول ” الخيول علي مشارف المدينة ” إذ يقول :
حدثتها السنون طويلاً
وعمان أبعد من حلمها العائلي
وأقرب من وجهها الساحلي
وتضحك في سرها
ليس بين المخيم والعاصمة
غير درب ستعبره ذات يوم
رفوف لقاءاتنا القادمة
…
والتقينا فقالت :
لعمان لون جراحي
ولون حنيني
ولون التي لم تزل ترتديني
تراباً .. وماء
والتقينا فقالت :
لعمان لوني حنين
ولكن ريما بفطرة ريح الشمال
تسافر للبحر كل مساء .
هنا يدخل الصوت الثاني الأنثوي نطاق القول الشعري ، يكسر طابع الغنائية المفردة ، ويتعرج بخطو استفراقاتها المباشرة .
تتعدد ألوان الخطاب وتتارءي شعريته الرهيفة وهي تتشكل في بعدها الإنساني الأول من ماء وتراب ، وتطوف القصيدة بحركة رشيقة موسيقية تصل بين المخيم والمذينة ، وتصبغ عوالمها بقواسم شعورية ووجودية بالرغم من كل الصراعات الدامية والخفية بينهما ، لكن لفتة ريما المفطورة ، بريح الشمال وسفرها للبحر كل مساء يحفظ للتحالف كيانه وللحنين ضرورته وللوطن السلليب ذكراه .
وأهم من ذلك يحفظ للشعر مسافته الجمالية المتباعدة عن الأحداث الآتية والكامنة في تلاقيف الريح وعبق الأمكنة الرامزة ولأن الشاعر المبتكر يعيد دائماً طرح سؤاله الغبداعي عن كنه عملية الخلق لديه ، يعيد وصف حالاته كما يعانيها ويوظفها بطريقته الخاصة فإن إبراهيم نصر الله يصف توقه لوحدة الجذر الجمالي لكل الفنون وهو يتأمل موقفه من القصيدة / العالم بقوله :
كلما أمسكت بقصيدة
أمسكت بجناح يوصلني إلي ذلك الألق الدائم
في قلب العالم
وذلك الدم المتدفق في عروق الكائنات
إنني أعرف الآن أن للفرح أكثر من جناح
ولذا أعبر المدينة الليلة .. بنقودي القلية ..
وأصابعي التي لم تعرف غير القصائد
باحثاً عن قيتار
أعبر المدينة .. باحثاً عن جناح
وفي الصباح
حين تشرق الشمس ويدود العالم أكبر من الكلمات
وأكبر من الاوتار التي تظللها الاإاني وقناديل الندي
أبحث عن الألوان
أبتاع ريشة .. وورقاَ
باحثاً عن جناح آخر ..
ولكن الذي يؤلمني
أن هذا الجسد يتيبس الآن ببطء
وأنني لن أستطيع في يوما ما .. أن أرقص الباليه ..
هذا الفرح المحلق باآلاف الأجنحة
إن هذا الانهمار الجمالي في الكون عبر منظومة الفنون ، للتلبس بفرحة الوجود – بالرغم من كل مآسيه – هو وسيلة الشاعر لتشعيره عندئذ يتخلي الخطاب عن قسريته أحاديثه ، ليكون أكثر تحرراً من اللون الواحد والحركة الموجهة ، ليكون شديد المدينة واسع النبالة ، متنوع المداخل لرؤية متجاوزة للضرورة الضاغطة قادرة علي أقصي درجات الحيوية والنفرة والتجدد .
ولعل أبرز ميزة يتسم بها شعر إبراهيم نصر الله أن يمتلك طاقة تجريبية هائلة فهو من هؤلاء المبدعين القلائل الذين يستطيعون خلق أشكال فنية جديدة ، ولسنا في مجال يسمح بالتطرق لمنجزاته السردية في الرواية ، مع أنها مظهر جلي لفوران هذه الطاقة وحسبنا أن نشير بإيجاز إلي مجموعة قصائده السردية المطولة ، وبعضها يشكل ديواناً بأكمله تتعدد فيه الأصوات والطبقات وتتري فيه المشاهد والانقطاعات ويقيم عوامل موضوعية بطرائق شعرية تتطلب التحليل النقدي الدقيق، لكنني سأكتفي في هذا الصدد بالإشارة السريعة للقصيدة المطولة “حوارية الغريب ” التي يقدم فيها سيرة داخلية للفتي السوداني عازف الجيتار ” علي عيد ” إذ أنها تكفي وحدها كي نستخلص منها صورة الخطاب القومي المهشم والمتوحد لأبناء هذا الجيل ، وهو يغني :
للوطن العربي .
للفرح السري
للأزهار
للأوتار
للأغنية
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغداد
ومن نجد إلي يمن
إلي مصر فتطوان
ثم يتبعها ببيت ساخرمفعم بالمفارقة والمرح الحزين ” هأ هأ هأ !! ” ، ما يعنينا في مثل هذه المطولات هو الاقتدار علي تكوين أشكال شعرية فائقة ، نجد عوامل موضوعية وحيوات خارجية لأصوات متشابكة مفعمة بالرغبة المتضاربة والأمل المقموع ، حيث يمثل – كما يقول :
” مدنا تتعثر
ولد أسمر
تصحو
ما زال القيثار وبعض أغاني الدم علي شفتيك
تصحو ..
في أقصي القلب تماماً
شجر يعدو ..
سحب يعدو ..
لكن الغربة والبوليس وصمت الظل
وكل الكل
عليك ..
تعبر عينيك الشمس ..
حديث لم يبدأ ”
وما أريد أن أبرزه في مثل هذه المغامرة الشكلية هو إن إمكانات تقديم رؤية للعالم في الإبداع الشعري من خلال القصيدة الغنائية المفردة الصوت قد تقلصت إلي درجة كبيرة ، وأن هذه الرؤية تتسع وتعمق بمقدار ما تقوي علي ابتكار واحتضان أشكال شعرية مستحدثة لابد من تنميتها في القصيدة العربية عبر المذكرات والحواريات والسرديات الشعرية إلي جانب الانخطافات الذاهلة للقصيدة الموجزة .
ثم – وهذا هو الأهم في تقديري – عبر تنمية المسرح الدرامي الشعري وأعتقد أن إبراهيم نصر من تلك الوعود الكبري في استئناف مسيرة هذه الدراما بعدما تكلست عقب رحيل صلاح عبدالصبور .
ومع أنه قد مر بتحولات عديدة حيث أصبحت بعض قصائده أكثر اكتنازاً أو كثافة وأحفل بغرائب الدهشة نظراً لارتفاع معدلات انحرافاتها التركيبية وأصبحت بعضها أشد طولاً وأعرض مناورة وأحفل بالحركات المتتالية إلا أن منظوماته الشعرية تجد دائماً خيطاً واصلاً يضمن لها رؤية كلية متبلورة ، إذ تشكل ضفيرة متسقة تألفت من نسيج أيديولوجي متماسك لحمته الموقف الوجودي للإنسان الفلسطيني بكل منحنياته الحادة ، مع التواصل العميق مع إيقاعات الحياة الثقافية العربية والامتصاص الوئيد لعناصرها الإبداعية والفكرية ، وتجاوزها عند الضرورة بالإضافة إلي غلبة التقنية السردية علي أدواته التعبيرية فكأنه يلتقط طرف الخيط عند كل قطعة ليستأنف منظومة متجانسة فيما يليها من قطع ، كل هذا يعزز رصيد ثري من أشكال التجسدي للحقائق الشعرية الجديدة بما يجعل نصوصه مفتوحة علي التجريب بقدر ما هي منسجمة في توافقها الكلي الشامل .
هنا يصبح الخطاب القومي أكثر شعرية وأشف سياسة في خصوبته المتنوعة ومعانقته لفعل الحياة الخلاق المحتضن للواقع والمنفتح علي المستقبل .
بواسطة admin • 01-دراسات • 0 • الوسوم : العدد الاول, صلاح فضل